حديث النهايات ووهم الإسناد العالي إلى الحقيقة


فئة :  مقالات

حديث النهايات ووهم الإسناد العالي إلى الحقيقة

على قصر المقال، إلا أه رما إلى تحقيق غاية نظرية مهمة، وهو تحليل خطاب النهايات، وبيان تهافته، وتعجل استنتاجاته، لذا من اللازم التمييز بين منطق البناء والتأسيس يصور البدايات، وآخر يقف عند شكل الحدود الأخيرة بما المنتهى.

إنه فعلا زمن اليقينيات وانقلاب النسبية إلى وثوقية صارمة، لا تقبل بأنصاف الحلول ولا بظنية المواقف واحتمالية الرأي للرأي الآخر، لقد غدا الاختلاف جنحة تتعرض للاعتقال الاحتياطي والقمع الشرس، بحسبان كونها تهدد العقيدة والمذهب والجماعة والحزب والمصلحة العليا والنظام العام....

والعيش في فضاءات كهاته مفض لا محالة إلى اندحار قيمة الإنسان كغاية في الوجود، فلابد من تحويل النهايات المنغلقة إلى نهايات مفتوحة بأفق إنساني رحب، تراعي تعدد الأفكار وقابليتها للنقد والتطوير، فضلا عن إمكانية تلاقحها مع مثيلاتها رغم الاختلاف الموجود بينها، عندها في الاستطاعة أن تنتقل النهايات إلى بدايات جديدة مولدة، بدل أن تنسحق في أنساق مغلقة تمنع عنها شعاع الخارج وانفتاح المحيط.

"علي حرب" كعادته يكتب بأسلوب ساخر وناقد، فهو في عناوين كتبه يختصر الكلام والمواقف التي يحويها مؤلف من مؤلفاته، ففي سنة 2000 أصدر كتابا تحت عنوان: "حديث النهايات، فتوحات العولمة ومأزق الهوية"، حيث ينقد مغالق الهوية المصدومة بزحف العولمة، ويدرس الوسائط العولمية الجديدة ومستقبلها النوعي، لينتهي إلى نقد الإنسان الهوياتي الموسوم بالعلامة.

وعلى ذكر هذا العنوان الساخر، فحتى التأليف في ثقافتنا العربية الإسلامية فيه نوع من القول الوثوقي الموشي بمعنى من الرفض للنسبية من قبيل: إرداف عبارة "النهاية" إلى عناوين المؤلفات في ميادين الفكر والأدب والدين والسياسة والاجتماع، فتصادف مثلا عبارات من مثل: "نهاية المحتاج" و"نهاية الأرب" و"نهاية المقتصد" و"نهاية المطلب" و"نهاية الرتبة" و"نهاية الاغتباط" و"نهاية السول" و"نهاية الوصول" و"نهاية الإقدام"... للدلالة على إرادة بلوغ الغاية من العلم المراد التنظير له وتحقيق أقصى درجات النظر فيه.

فرغم الوجه البلاغي في هذه العناوين، فإنها مع ذلك تحمل نفسا وثوقيا لا يخفى على متأمل، بل تعكس نوعا من الكمال الزائد الذي لا يراعي قاعدة النسبية، فهي لربما تحمل رسالة خاصة إلى القارئ، لجلبه من خلال العنوان عن طريق المخاتلة والخدعة، كي يطمئن إلى الكتاب ويبغي فيه المطلق الذي يغنيه عن استكمال البحث والتقصي في مضان أخرى، وكأن الحقيقة في كل تجلياتها قد حواها هذا المصنف في بابه على الأقل.

وهناك نوع آخر من العناوين التي لا ترمي إلى بلوغ أقصى الغايات في المادة المبحوثة، بل تحمل إضافة إلى التعبير بالنهاية مفاهيما ملحقة عليها وذات طبيعة خاصة، من مثل: "نهاية الإيمان" و"نهاية المجتمعات" و"نهاية العولمة" و"نهاية التاريخ" و"نهاية الإنسان" وهلم جرا.... وهي بلا شك تسوق لشطط فكري ورعونة استدلالية تنم عن الاستعجال والتعميم والتسطيح.

وحتى إذا تجاوزنا عقبة العنوان، فإن ما يوجد في مضامين المصنفات التي تقع في يد القارئ، فإنها تنزع إلى صياغة لغوية حاسمة، بحمولات تعطي ولا تأخذ وتَنتقد ولا تُنتقد وتعلو ولا يعلى عليها، مما يوقع أحيانا في رعب الكلمة التي تؤدي حتما إلى الطاعة والتسليم والانقياد.

وهي إشكالية عويصة تتعلق بالغاية من المعرفة وسؤال التثقيف، هل هو إفادة التنوير أم إرادة التنويم؟ أو بالأحرى استشكال العلاقة بين الثقافة والسلطة، بما يؤدي إلى تمييز الحدود بين البرهنة والهيمنة، وهي العلاقة التي لا تستبان عادة في الفكر الحسمي والإنتاج ذي الطبيعة اليقينية والخطابات السامية.

ومن هذه الزاوية احتلت خطابات الأصولية الدينية مساحات واسعة في التداول الفكري والسياسي والإعلامي اليوم، لما أنتجته من رعب فكري واجتماعي يفيض من الممارسة الإيديولوجية والحركية لتنطيماتها، والتي تتخذ العنف وسيلة لحسم اختياراتها وترويض خصومها، فإذا كانت "الدواعش" قد ختمت ثالوث مشكل الحضارة المعاصر مضافة إلى الأزمة الاقتصادية والكوارث البيئية، فإنها بذلك قد وضعت ظاهرة النهايات وزمن الوثوقيات في ثلاث صيغ ضمن إشكالية مركبة، يندرج فيها إشكال الإنسان مع إشكال العمران ثم إشكال الطبيعة.

وفي خطابات الفواعل السياسية والاجتماعية، ثمة نداءات مستعصية على الاقتناع بأهمية مراجعة نبوءاتها ومبشراتها الفكرية والنضالية، وتستوي التيارات الإيديولوجية جميعا في هذا المأزق دينية كانت أو لائكية، فهي إما "أختام أصولية وإما شعائر تقدمية" بتعبير علي حرب، فمن داع إلى بلورة نظام اجتماعي على مقاس الاشتراكية والماركسية الرؤوفة بالفقراء والعمال، إلى دعوات حماسية تهلل بأن الإسلام هو الحل من مدخل الدعوة إلى تطبيق الشريعة، إلى أنظمة تمني بفتوحات الليبرالية وفتح الأسواق.

فكلها تنظيمات دوغمائية حدية تقف على أحد جانبي الحل ولا تقبل بالجانب الآخر، وترى طموحاتها فقط في أطروحاتها، وما دون ذلك مضيعة للوقت وتعطيل لمفاتيح التغيير، وتعتبر أي فشل للمشروع المخالف نوعا من النجاح للمشروع الذاتي، أما إذا أصاب خلل مشروعها الخاص، فذلك فلأن وجود مشروع الآخر مؤذن بخراب العمران، وهكذا تذوب القوى الفاعلة في نقاش فارغ يقفز على أسئلة الناس، ويستغرق في مدح الهياكل الإدارية والتنظيمية، ولا ينصرف إلى بناء الأفكار الجدية ومعانقة الإشكالات التي يفرزها الواقع.

مع العلم أن أي فكرة إصلاحية لا تأخذ بعامل الزمن في تطورها ولا تراعي إمكانات التغيير في ميكانيزماتها الداخلية، فهي حتما فكرة سرطانية تميت أجهزة الحياة في المجتمع، فالأفكار المجتمعية كلها روافد إن تلاقحت وتمازجت تفضي إلى تقوية مجرى الحياة، وإلى تدفق المعنى في السلوك البشري وتحفيزه في الإنتاج، في كافة الأنشطة الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

وشرط هذا النجاح رهين بمدى تشغيل مبدأ التعددية بين الأفكار والأشخاص والأشياء، بعيدا عن المصادرة والأبوية والإملاء في نسج العلاقات، لأن التعددية ليست اضطرارا انتقاليا ألجأت إليه قوة الحاجة، بل هي انخراط قديم في حالة "شرعية الاختلاف" كما يوظفه علي أومليل، وليست عاملا في التفتيت والبلقنة ونزع الشقاق بين المؤتلفين، بقدرما هي بديل فعال عن كل اختزال يخفي كل أشكال التطرف تحت عناوين الوحدة والاجتماع، ويؤول إلى الانفراد بالسلطة وقمع المعارض.

وفوق ذلك فالاختلاف ليس مطلوبا من أجل الاختلاف لذاته، فالصورية ليست مقصدا فيه حتى يشحد بكل الأدلة، إنما يستدعيه أمر هام يرتبط بالقدرة على تقبل الآخر مهما كان، ثم بالاعتراف بالحق في الخطأ كتمرين في الإبداع والتنوع، لتكريس تقاليد إيجابية في الحوار والجوار، تعمل على استطابة العيش المشترك وكسر الحواجز النفسية والمادية التي تمنع الانفتاح والتواصل.

فالممارسات الدينية والسياسية والفكرية كلها تجارب إنسانية تصاحب تفاعل الإنسان مع معطيات الحياة، ومن هنا تكمن فرادة انتقاء الأجود دائما في هذه الممارسة وتطويعها لمتغيرات الوجود، والبقاء دوما على النموذج سبيل إلى تكلس التجربة ودفعها إلى الانتحار.

ثم إن كل تجربة حتى ولو كانت غاياتها نبيلة فلابد من تجريد المنطلق من الذاتوية، فكم من فكرة كبيرة كانت سببا في الفشل لكونها توسلت طرائق غير سالكة، وكم من مشاريع حماسية مندفعة تحت يافطة مطالب الحرية، ثم انتهت إلى تهويمات إيديولوجية ماكرة جراء معالجاتها الطوباوية والافتراضية.

لقد جربت الأنظمة العربية قبل وبعد الثورة عدة أشكال من الحكم ومن التدبير، دون أن تهتدي إلى مقاربة تنم عن القلق الذي ينبثق من تحديات الوجود الحالي، لقد غدت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية كلها مغلفة بكثافة ديماغوجية تسحب الإنسان من عمقها، وتحولت من جديد إلى آليات للتعذيب والاستهلاك السياسي، وغدت الثورة بنفسها حديثا ضمن خطاب النهايات تروم تغيير كل شيء إلا أخطائها المثقلة بجراح ودماء الضحايا، سقطت أنظمة الحكم ولم تسقط أقنعة الوجوه الماكرة، التي تظهر في الشاشة والشارع ومسرح الحياة العامة، وتنسب كل إحسان لذاتها العلية.

وحينما نكون بصدد تنظير سياسي وفكري من حجم أطروحتي منظري السياسة الخارجية الأمريكية، فرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ" وصامويل هينتنغتون في "صدام الحضارات"، فإن التبشير بزمن النهايات يكون "بمفهوم المخالفة"، أي يكون بالسلب والعكس لما يروج له أصحاب الحماسة الوثوقية في السياسة والفكر.

إن الترويج للمركزية الغربية هي صورة من صور القول الوثوقي، ونوع من التحوير في مسار العولمة في اتجاه القولبة في قوالب جاهزة ومنمطة، فبدل أن يتجه الخطاب العولمي اتجاها أفقيا صار ينحدر إلى حوار عمودي خادع، يجتث صيغ الخصوصية الأخرى بزعم مناقضتها وعدم ملائمتها لنموذج العولمة الفريد.

ولقد تنبه فوكوياما بعد طول تأمل إلى أن ما كان يزعمه من نهاية للتاريخ ليس إلا وهما توهمه، وتحديدا ليس سوى نهاية للغرب بالمفهوم الأمريكي الضيق المتوحش والأناني، فالعولمة الموعودة ليست صيغة نظام سياسي أو اختيار إيديولوجي، بقدرما هي تدويل فكري واجتماعي لفكرة الحقوق والعدالة والديمقراطية، التي تعلي من قيمة الإنسان وتحفظ كرامته بمعزل عن منطق الهويات أو الأقاليم والانتماءات الأخرى.

وحينما خاطب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش العالم بقوله: "من معنا ومن ضدنا" للفصل بين محور الخير ومحور الشر، فإن زعيم القاعدة المقتول أسامة بن لادن قد اختط نفس المسار ونفس التقسيم المستنبط من فقه تقسيم المعمورة، الذي يفرق العالم القديم إلى عالم الإسلام وعالم الكفر أو دار السلم ودار الحرب، حين تحدث عن "نظام الفسطاطين" كتعبير عن تشطير الوجود البشري إلى شطرين متناقضين ومتنافرين.

وبهذا يكاد التشابه يطْبق على سلوك الداعية وسلوك السياسي على حد سواء، على الرغم من اختلاف المواقع وتباين المشارب، فحين يكون النفي حدا فاصلا في تدبير الجوار والاختلاف، فإن الاجتماع والاشتراك يكون محالا في وضع كهذا، مما يعزز قيمة النضال لأجل إقصاء المخالف وتقديمه كوجود مفارق لنسقية الذات وتلازماتها الحدية.

بهذا استطاع التاريخ أن يفعل أفاعيله فينا، في إطار العلاقات المأزومة في جدليات الأنا والآخر، وبين جدليات الأنا الأعلى والأنا الأدنى (الصراع الطائفي داخل نفس المنظومة)، فبدل أن يمنحنا الحاضر أفقا جميلا للتلاقي والتعاون عل كافة الأصعدة، وأن ينتظمنا الشعور بالمسؤولية في صيغ من التفاهم والشراكة، وبدل أن ننخرط في عهد البدايات لدشين المحبة والسلام والإخاء، استقطبنا زمن النهايات الوثوقية واستدمجنا في نطاق الحرب الكلامية والكيماوية، وانتهينا إلى تجديد الثقة في الماضي الرهيب الذي حاسبنا على ميثاقه الغليظ، دون أن نحاسبه نحن جميعا على ميراثه الفظيع.

لقد غدا النسق المغلق فحلا جموحا يعربد في كياناتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، يزيف الخطاب ويصنع الطاغية، أمام تحولات القيم العالمية وانفتاح المنظومات التكنولوجية، وبتنا نُساق إلى نوع جديد من العبودية المختارة والمقننة، نستعذب فيها فنون الإيذاء القولي والعملي، دون أن ننتبه إلى مخاطر الأسر الحديث.

وصار الانعتاق من لون استبدادي انتقالا عفويا إلى شكل آخر من الاستبداد، وتستمر حلقات العنف تشتد وطأتها وتماسكها على مفاصل الحياة، ويرتهن الإنسان إلى حديث مشبع بمتون النهايات، ومسنود بإسناد عال إلى الحقيقة المغشوشة، تارة باسم الحديث وتارة أخرى باسم الحداثة، وينتهي المروي له في هذه الأحاديث إلى هامش عريض يستنسخ بحبر الرواة المدلسين، الذين أحكموا النقل في أسانيدهم حتى ألزموا الناس بمبادئ العيش الجديد، في كنف الرواية الحصرية عن الحقيقة المطلقة.