حرّية الإبداع و"المسّ بالمقدسات": الإشكالات المفهومية


فئة :  مقالات

حرّية الإبداع و"المسّ بالمقدسات": الإشكالات المفهومية

حرّية الإبداع و"المسّ بالمقدسات":

الإشكالات المفهومية[1]

د. مديحة عتيق

الإطار الإشكالي:

شكّلت مفاهيم "الحرّية"، و"الإبداع"، و"المقدّس" ثالوثا إشكاليا في الخطاب المعاصر بأشكاله السياسية والأدبية والإعلامية، ويزداد الجدل حول هذا الثالوث مع كلّ حدث ثقافي مثير على غرار صدور رواية تناقش المسكوت عنه، أو ظهور فيلم يصوّر الأنبياء، أو رسوم تتعلّق بنبيّ، ...إلخ، ولعلّ موطن الإشكال في هذا الموضوع هو غموض تلك المفاهيم وضبابية التخوم التي تمايزها، ممّا فتح مساحة تأويلية واسعة أمام أطراف النزاع، ففصّل كل طرف هذه المفاهيم بما يخدم مصلحته، ويلائم أجندته، ولذلك نروم في هذه الورقة إلى الوقوف عند هذه الإشكالات المفهومية، وتوضيح تخومها الاصطلاحية. وسؤالنا الأساسي، هو أين تبدأ حدود كلّ مصطلح وأين تنتهي؟ وهذا ما يقتضي منّا القيام بحفريات إبستمولوجية في تاريخ كلّ مفهوم، وتقصّي أبعاده في مختلف الحقول المعرفية، وسنبدأ بمفهوم "المقدّس" ثمّ "الإبداع" و"حرّية الإبداع".

المقدّس (Sacred): حدود المصطلح

مصطلح حديث في علم الأديان الغربي، يغلب وروده بعطفه على نقيضه (مدنس) ضمن سلسلة من الثنائيات الضدّية المتجاورة على غرار (الروح/ الجسد)، (الأصل/ الفرع)، (الثواب/ العقاب)..إلخ، وهو مشتقّ لغويا من المفردة اللاتينية (sacer)، وتعني المنزّه (holy)، وجاء في قاموس (Shorter Oxford English Dictionary) أنّ المقدّس هو (المكرّس للمعبود، وما عدّ عزيزا على نحو خاص ومقبول لديه، .. ما جُعِل مميّزا، وخصِّص لغرض ديني، ما جُعِل منزّها لارتباطه بالله أو أيّ شيء يُعبَد..".[2]

يقارب هذا التعريف اللغوي بين مفهوم (المقدّس) و(المنزّه)، ويجعل القداسة ذات تأسيس ديني بالدرجة الأولى، إذ يرتبط مباشرة بالإلهي، وقد يكون المقدّس شخصا أو مكانا أو شيئا، والمفهوم قديم قدم الدين نفسه، وقد التقط علماء الاجتماع – وخاصة علم الاجتماع الديني- والأنثربولوجيون، والإنسانيون، والمحللون النفسانيون هذا المصطلح وتباحثوه طويلا، ومن هؤلاء سيغموند فرويد، وإيميل دوركهايم، ومرسيا إلياد، وسنقف الآن عند بعض مفاهيم هذا المصطلح الإشكالي:

الطوطم... والمقدس:

يراد بالطوطم "كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحشة، ويعتقد كلّ فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يسمّيه طوطمه. وقد يكون الطوطم حيوانا أو نباتا أو غير ذلك، وهو يحمي صاحبه، وصاحبه يحترمه ويقدّسه أو يعبده، وإذا كان حيوانا لا يقدم على قتله أو نباتا لا يأكله أو يقطعه".[3]

وإذا أخذنا برأي بعض العلماء الذين يعتقدون أنّ الطوطمية هي أقدم ديانة عرفها البشر، فعليه يكون الطوطم أقدم أشكال المقدّس في العرف البشري، ويتميّز هذا المقدّس البدائي بصبغته الاجتماعية، فهو شعار القبيلة وعنوان اتحادها، وبسمته الفردية، إذ لكلّ فرد طوطمه الخاصّ، وبصورته المادّية إذ يتمثّل في شكل حيوان أو نبات. وبطبيعته الدينية التي تضفي عليه القداسة، إذ يحتفى بموته ويؤبّن، يحرّم الاعتداء عليه، وإلا تعرّض المذنب إلى عقاب شديد، "ويعتقدون[الشعوب البدائية] أنّ من يأكل طوطمه تصبح نساء قبيلته عاقرات، وغيرهم يعتقدون أنّهم يصابون بالنكبات والأمراض أو نحو ذلك، ويتوهّم آخرون أنّ آكل طوطمه يجازى بالموت بأن يقيم الطوطم في بدنه ولايزال يأكل منه حتّى الموت''[4] ولقد ذهب العالم الاجتماعي ريناخ (Reinach) إلى وضع ما أسماه التعاليم الاثني عشر لتقديس الطوطم، والتي تتضمّن تحريم قتله، وتأبينه إذا مات، والامتناع عن أكله، ...إلخ.

كما تتجلّى قداسة الطوطم في بعض المجتمعات بعدم لمسه أو التقرّب منه أو حتّى مشاهدته، وقد يشمل الأمر كلّ أفراد القبيلة أو بعض أفرادها كالنساء والأطفال..

المقدّس... مفهوم سوسيو ديني:

يرى إيميل دوركهايم أنّ المقدّس هو مفهوم سويو ديني؛ فالجماعة هي التي تحدّد في نشاطاتها الدينية بشقيها العقائدي والشعائري ما هو مقدّس وما هو مدنّس وهذا التحديد أو التمييز هو جوهر الدّين معتقدا وممارسة. لذلك يعرّف دوركهايم الدّين بأنّه "نسق موحد من المعتقدات والممارسات تجاه الأشياء المقدسة - أي الأشياء التي تعتبر محرّمة – المعتقدات والممارسات التي تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد يعرف بالكنيسة، وكلّ الذين يلتزمون بذلك"[5] ويعني هذا الكلام أنّ الفرد يضفي على المقدّس قداسته بما يمارسه نحوه من طقوس دينية (كالصلاة، والتبرّك، وتقديم القرابين، ...إلخ) ليستشعر نحو المقدّس ما يفترض من مشاعر الرهبة والفزع والاحترام والتقديس. فالمقدّس هو شيء محسوس ومادّي خلعت عليه هالة روحانية وطاقة رمزية، جعلته مثار خوف ورهبة، حبّ وتوجّس، افتتان وارتياب، ..

المقدّس... والعادي:

يقول مرسيا إلياد (Mercia Eliad): "إن نعي العالم على أنّه عالم حقيقي وذو مغزى هو أمر يرتبط ارتباطا حميما باكتشاف المقدّس، كان على الذهن البشري أن يدرك الفرق بين ما يكشف عن نفسه بوصفه حقيقيا وقويّا وغنيا وذا معنى، وبين ما هو ليس كذلك"[6]؛ فالمقدّس هو الحقيقة في مطلقها والقوّة في سطوتها، والغنى في أقصى ثرائه، بعبارة أخرى: "إنّ المقدّس مشبع بالكينونة، وقوّة مقدّسة تعني في آن واحد حقيقة وخلود وفعالية، والتعارض مقدّس- مدنّس يترجم كتعارض بين حقيقي ولا حقيقي، أو الحقيقي والمزيّف".[7]

من كلّ هذه التعريفات، نخلص إلى أنّ "المقدّس" مفهوم زئبقي ذو سمة تطوّرية وديناميكية، أنتجته الجماعة في إطار ديني، منطلقة من أدوات عادية (بشر، صخرة، حيوان، نبات...إلخ) وبسبب "حدث" ما انتقل هذا "الدنيوي/العادي" إلى مرتبة المقدّس يجرّم انتهاكه راهنا ومستقبلا، سواء كان انتهاكه بلمسه أو مشاهدته أو الاقتراب منه أو حتّى مساءلته والتشكيك في قداسته؛ ولعلّ هذا الأمر الأخير هو أسوأ أنواع الانتهاكات التي يمكن أن تطال المقدّس، والتي تسبّب غضبا عارما ينتاب الجماعة لهذا الفعل المشين.

وعلى الرغم من "قداسة" المقدّس والتحذير المستمرّ من انتهاكه، فقد تعرّض على امتداد التاريخ لسلسة من الانتهاكات والتدنيس باسم الحرّية حينا والإبداع حينا آخر و"حرّية الإبداع حينا ثالثا، فما المقصود بهذه المفاهيم التي تجرّأت على انتهاك المقدّس في أخطر أشكال الانتهاكات ونعني مساءلة المقدّس عن حقيقة قداسته؟

الإبداع ... والحرية:

هما مفهومان إشكاليان ولا يقلّان زئبقية عن مفهوم "المقدّس، ويتداخلان مع مفاهيم كثيرة مقاربة لهما؛ فكثيراً ما يرتبط مفهوم "الإبداع" بالخلق والعبقرية والنبوغ والابتكار، والذكاء، والموهبة، وقد كثر الحديث عنه في مجال الأدب وعلم النفس وعلوم التربية، ووضعت له مئات التعريفات، ومنها:

1/ "الإبداع": هو "العملية الخاصّة بتوليد منتج فريد وجديد بإحداث تحوّل من منتج قائم، هذا المنتج يجب أن يكون فريدا بالنسبة إلى المبدع، كما يجب أن يحقق محك القيمة والفائدة والهدف الذي وضعه المبدع"[8] ويغلب على هذا التعريف بعده النفعي والتربوي، ولا يبعد عنه التعريف الذي وضعه علماء النفس، فهو:

2/ "القدرة على إنتاج أفكار تكون في آن واحد أصيلة ومتوائمة (adaptive)"[9] وبمعنى آخر الإبداع هو الإتيان على غير مثال سابق انطلاقا من مثال سابق؛ أي الانتقال من المعروف إلى اللامعروف، من المتعارف عليه إلى المختلف فيه، ومن العادي إلى الشاذ، ومن المشترك إلى المبتكر، الإبداع شكل من أشكال الخلق، وإن كان الوسط الثقافي العربي يتحرّج من مصطلح "الخلق" لدلالاته الدينية، وارتباطه بالذات الإلهية، وهذه بوادر التصادم بين "المقدّس" و"الإبداع" الذي يحمل نزوعات بشرية لاشعورية لمنافسة الخالق في خلقه؛ فالمبدع أو الفنّان هو كائن بشري متعال لا يرضى بدروه الحيوي العادي وبحجمه الفاني، بل يسعى لمراودة الخلود ومناوشة المقدّس، ونعني أن يجرّب حظّه في تملّك مؤهلين استأثرت بهما الذات الإلهية العليا، واكتسبت بهما هالة القداسة، يتعلّق الأمر بـ "الخلق" و"الخلود"، فقد سلّم الإنسان منذ جلجامش باستحالة خلوده الفيزيقي، وأنّ هذا الأمر محتكر على الآلهة، لكنّ الإنسان لا تعوزه الحيلة، ولا تفرغ جعبته، فاستعاض عن الخلود الفيزيقي بالخلود المعنوي، وذلك من خلال الإبداع، الذي يمكّنه هو الفاني من خلق ما يخلد، ويتحدّى الزمن، وأقنع نفسه بقدرته على منافسة الآلهة والتغلّب عليها، فهو فان لكنّه يستطيع أن يخلق الخلود، ولكنّ الآلهة الخالدة لا تخلق سوى الفانين، وفي هذا السياق نتذكّر طبعا مسرحية (بجماليون) لتوفيق الحكيم، حين يجعل الإبداع في حدّ ذاته تطاول على المقدّس، ولعلّ هذا ما فطّن الخطاب الديني لخطورة الإبداع، ومنافسته للمقدّس، لذلك حرّمت التشريعات الدينية الكلاسيكية التمثيل والتصوير والرسم والنحت؛ لأنّها منافسة للذات الإلهية في صلاحياتها المقدّسة، ونعني "الخلق".

فالعداء مستحكم إذن بين "الإبداع" و"المقدّس" منذ البداية؛ فالإبداع –كما أسلفنا- يناوئ المقدّس في جوهر صلاحياته، و"المقدّس" يناوئ الإبداع في جوهر حدوده، وأحد قواعده ومتطلباته الأساسية، ونعني "الحرّية" التي يقتضيها الإبداع كي يحقّق إبداعيّته، فالحرية تفسح المجال للإبداع كي يشاكس، ويناوش، ويناوئ، ويستنطق المسكوت عنه، ويستحضر الغائب، ويغيّب الحاضر، وكي يسأل، ويفترض، ويخمّن، ويرجّح، ويشكّك، ويظنّ، بل ويسيء الظّنّ، ولكنّ "المقدّس" لا يحتمل صداع الإبداع، ولا يطيق الأسئلة والتخمينات والظنون، حسنها وسيّئها، ولا يرتاح للشكوك والافتراضات والترجيحات وعلامات الاستفهام، لأنّها ببساطة تهدّد قداسته، وتنال من جوهره، فهو لا يكتسب قداسته استنادا على أدلّة منطقية أو حجج عقلية أو براهين حسّية، بل يستمدّ قداسته من الغموض الذي يلفّه، والطلاسم التي تحيط به، والمسكوت عنه الذي يحفظ كيانه في أفئدة المؤمنين هو قابع في بطمأنينة في ظلال الغيب والمجهول، لذلك لا يتحمّل الكشف والتعرية والخلخلة، فهو رديف الغامض والمحتجب الثابت، والبديهي، والمتعارف عنه، والقناعة والطمأنينة، ولذلك يرفع أوصياء المقدّس أمام أوصياء الإبداع الحديث الشريف "كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار"، أو "من سنّ سنّة سيّئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدّين" متناسين الشطر الأوّل من الحديث "من سنّ سنّة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدّين".

وعلى الرغم من هذه التحذيرات، إلا أنّ المناوشة بين المقدّس والإبداع لا تزال مستمرة إلى الآن، بل أنّها تشهد الآن حدّة وضراوة أكثر من أيّ وقت مضى، إذ لم تعد حكرا على المناقشات الدينية، بل تعدّتها إلى ساحات القضاء ومكاتب صنع القرار ووضع الدساتير، وذلك حين شرعن الإبداع باسم حرّية التعبير، هذا المصطلح الذي يلقى رواجا كبيرا في الأوساط الإعلامية والقانونية والحقوقية، والذي عرّفه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادّته (19) كما يلي:

"حرية التعبير" هي حرّية اعتناق الآراء دون أيّ تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأيّة وسيلة دون تقيد بالحدود الجغرافية" فيما أشار المعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 أنّ "لكلّ فرد الحقّ في حرّية التعبير، وهذا الحقّ يشمل حرّية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أيّ نوع، واستلامها، ونقلها بغضّ النظر عن الحدود، وذلك إمّا شفاهة أو كتابة أو طباعة سواء كان ذلك في قالب فنّي أو بأيّة وسيلة أخرى يختارها".[10]

وقد تبنّى هذا الطرح أرقى المؤسسات الحقوقية الدولية على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (Universal Declaration of Human Rights UDHR) والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (European Convention of Human Rights ECHR) وميثاق الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان الأساسية (European Union’s Charter of Fundamental Human Rights)، ونكاد نتعجّب بعض الشيء حين نجد بعض المؤسسات الدينية تحتفي بهذا الطرح وتروّج له وتتبنّاه، ومن ذلك الأزهر الشريف الذي أصدر (وثيقة الحريات الأساسية)، وجاء فيها:

"حرية الرأي هي أمّ الحريات كلّها، وتتجلّى في التعبير عن الرّأي تعبيرا حرّا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فنّي وتواصل رقمي، (...) ولا بدّ أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير، وقد استقرّت المحكمة الدستورية العليا على توسيع مفهوم حرّية التعبير ليشمل النقد البنّاء، ولوكان حادّ العبارة، ونصّت على أنّه لا يجوز أن تكون حرّية التعبير في القضايا العامة مقيّدة بعدم التجاوز بل يتعيّن التسامح فيها، ..".[11]

ولا تغرّنا هذه الأريحية التي جادت بها المنظمات حقوقية في دفاعها عن حرية التعبير التي تتضمّن بالضرورة حرّية الإبداع، فسرعان ما تستدرك بكلمة "لكن" هذه الكلمة المحبطة التي عادة ما تستبق عبارات التحفّظ والمراجعة والتمهّل والتروّي لتنسف مقولات المطلق والجزم والحسم التي سبقتها؛ فالنصوص القانونية لا تمنح البشر حرّية مطلقة –هذا إن كان هناك حرّية مطلقة-، إذ تضع في حسبانها إمكانية تصادم "الإبداع" الذي أدرجته ضمن بند حرّية التعبير بـ "المقدّس" التي تلمّح إليه ضمن ما يسمّى "الحريّة الدينية"، والتي تحوّلت بدورها إلى حقّ دستوري مكفول للجميع دون استثناء، فكيف حلّت هذا التصادم بين هاتين الحرّيتين؟

تؤكّد الاتفاقية الأوروبية أنّ حقوق البشر في حرّية التعبير:

"قد تكون خاضعة لشكليات أو ظروف أو قيود أو عقوبات ينص عليها القانون، والتي تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي لمصلحة الأمن القومي والسلامة الإقليمية أو السلامة العامة، لمنع الفوضى والجريمة، لحماية الصحة والأخلاق، لحماية سمعة أو حقوق الآخرين، ...".[12]

ولعلّ سلطة المقدّس التي ستحدّ من جموح الإبداع تتجلّى في عبارة "سمعة أو حقوق الآخرين"؛ أي حقّ الآخرين في صيانة مقدّساتهم والذود عنها، أهذا هو المقصود؟ هل تعني الحرّية الدينية التي كفلتها القوانين الدولية حقّ البشر في ممارسة دياناتهم فحسب، أم تستوجب من الآخرين احترام مقدّسات غيرهم؟ بمعنى إذا كانت القوانين الدولية تسمح للهنود بتقديس البقر، فهل توجب على غيرهم أن يعبّروا عن هذه المقدّسات باحترام وتقديس، وإن من باب احترام مشاعر الهنود؟ وإذا كانت الدساتير تضمن للمسلمين حقّ ممارسة طقوس صوم رمضان؛ فهل على غير المسلمين أن يتحدّثوا ويعبّروا ويبدعوا عن هذا الطقس المقدّس بنفس نظرة الإجلال والرهبة التي ينظر بها المسلمون إلى هذه الشعيرة المقدّسة لديهم؟

أوضحت الحقوقية أجانس كالامارد هذا الأمر كما يلي: "فالحرية الدينية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان لا تتعلّق على سبيل المثال باحترام الدّين بقدر ما تتعلق باحترام حقّ الناس في ممارسة الدين الذي يختارونه، فهل تقلّص المقولات المسيئة من قدرة متتبعي الأديان على ممارسة معتقداتهم، والتعبير عنها؟ فالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على سبيل المثال واضحة في قرارها الخاص بأنّ الحقّ في الحرية الدينية لا يوجب على الدول سنّ قوانين تحمي المتدينين من الإهانة أو التهجّم".[13]

تبدو القضية واضحة ومتماسكة، على الأقلّ نظريا وشكليا، وفي هذا السياق يستحضر الذهن قضية الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية التي عدّتها الصحيفة جزءا من حرّية الإبداع وممارسة حقّ التعبير، وعدّها المسلمون مساسا بمقدّساتهم. وكانت حجّة الصحيفة أنّها لم تمنع المسلمين برسوماتها من حقّهم في ممارسة تديّنهم وتقديس نبيّهم، وأنّها ليست مطالبة بأن تنظر إلى النبي محمد بنفس نظرة الإجلال والتقديس التي يكنّها له المسلمون، وكانت حجّة المسلمين أنّ ممارسة حرّية الإبداع انتهاك لمقدّساتهم، ومساس لمشاعرهم الدينية، كما أنّ هذا "الخطاب الإبداعي" الذي جادت به قريحة الرّسام لا يخلو من رسائل إيديولوجية مبطّنة، كالترويج لإرهابية النبي محمد والإسلام والمسلمين، وبالتالي ترسيخ مشاعر الكراهية والعنصرية تجاه المسلمين ممّا يجعل حياتهم في خطر.

إذن، فالمسالة ليست دينية بحتة ولا إبداعية خالصة، ففي عمق "المقدّس" و"الإبداع" يتبطّن الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، وتصبح المسألة مسألة حياة أو موت، وهذا ما حذا بالمفكرين إلى وضع نظريتين متعارضتين:

"النظرية الأولى تشير إلى أنّ قيمة التعبير الحرّ تعدّ اكثر أهمّية من قيم التسامح والتضامن، والمساواة وغيرها التي غالبا ما يضحّى بقيمة حرية التعبير من أجلها، يقول المؤرخ ودوارد: "إذا منعنا التعبير أو فرضنا عليه الرقابة، أو عاقبناه بسبب محتواه، أو بسبب الدوافع المنسوبة إلى هؤلاء الذين يروّجون هذا التعبير، فإن التعبير لا يصبح بعد ذلك حرّا، إذ سوف يكون تابعا لقيم أخرى، نعتقد ان لا أولوية لها أمام قيمة التعبير الحرّ".

في المقابل، تستند النظرية الأخرى على أنّ أهداف الجماعة في التسامح والمساواة لا يمكن توفّرهما إلا في نطاق حرّية التعبير، إلا أنّ تعابير الكراهية تهدّد هذه القيم مما يهدّد بفقد حرية التعبير ذاتها التي لا يمكن أن توجد إلا في إطار من الودّ والتسامح يسيطر على الجميع".[14]

تعلي النظرية الأولى من شأن الإبداع على حساب المقدّس، حين تجعل قيمة حرّية التعبير على رأس كلّ القيم، ولا يخلو هذا الرأي من وجاهة، إذ يمكن لأنصار "المقدّس" أن يستعملوا هذه القيمة "حرّية التعبير/ الإبداع" للدفاع عن مقدّساتهم، وتوطيدها، وبالتالي التعامل معها بديناميكية من خلال استكناه أغوارها ومساءلتها وتجديدها ومراجعتها بالأسئلة والاستفزازات بدل الوقوف حيالها وقوفا استاتيكيا وإغراقها في برك آسنة تحوم حولها طحالب فكرية متجمدة وقناعات بالية ومتكلّسة والأسوأ من ذلك تكميم أفواه الآخرين ومحاولة إجبارهم على مجاراتهم في موقفهم المتكلّس ووضعهم الهامد.

هذا الكلام هو موقف شخصي أستوحيه من تجاربي الشخصية ومن قراءاتي المتواضعة، وفي هذا المقام أتذكّر ما قاله العقاد حين شنّت المنظومة الدينية حربا شعواء على طه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي"، حيث اتّهم بالمساس بالمقدّس، وعليه كُفِّر وأخرج من ملّة الإسلام، فقال العقاد قولته الشهيرة: من أراد أن يردّ على طه حسين فليردّ عليه بكتاب"، بمعنى من حقّ طه حسين أن يكتب ما يشاء، وإن كان في ذلك مساسا بالمقدّس، فليكن الرّد بنفس السلاح. فـمن أهمّ المبادئ التي ترتكز عليها حرّية الرأي أو التعبير أو ما يسمّى "مرتكز مبدأ الصخرة" يقوم على أنّ مجرّد معارضة فكرة لا يكفي إطلاقا -وحدها- لتبرير التقليل من التعبير"، بل إنّ العكس هو الصحيح دائما".[15]

لجأت إلى موقفي الشخصي لأختم به هذا الموضوع؛ لأنّه لا يمكن الحزم بشكل أكاديمي وعلمي في هذا الموضوع الإشكالي الذي لا يستطيع أحد أن يفتي فيه ويقطع فيه برأي؛ فالمسألة ترجيحية، وغالبا ما يلجأ صنّاع القرار حين يجدون أنفسهم بين مدّ المقدّس وجزر الإبداع إلى النظر في المصلحة العامة، وإن كانت هذه الأخيرة تشكّل بدورها قضية إشكالية جديدة، ففي أيّ صدام أو تضارب بين الرأي الحرّ وبين القيم الاجتماعية والدينية، فإنّ "المصلحة العامة" تكون عبارة عن موازنة بين الاثنين، والصراع التاريخي بين هذه القوى، إنّما يدور حول مفهوم "المصلحة العامة" وفق حسابات التكلفة والفائدة العائدة من التنازع بينهما".[16]

[1] - مجلة ذوات العدد 37

[2] Geoffrey SIMMINS: Sacred Spaces and Sacred Places, University of Calgary Digital Repository, 2008, p07

[3] يوسف شلحت: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، دار الفارابي اللبنانية، 2003، ص 112

[4] يوسف شلحت: نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، ص115

[5] Durkheim, Emile, Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie, 1912, éd P.U.F. « Quadrige », 1979, p. 50

[6] مرسيا إلياد: البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة سعود المولى، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2007، ص – ص 39--40

[7] مرسيا إلياد: المقدّس والمدنّس، ترجمة: عبد الهادي عبّاس، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، سوريا، 1988، ص18

[8] صفاء الأعسر: الإبداع في حل المشكلات، دار قباء للنشر والتوزيع، ط1، مصر2000، ص14

[9] Dean Keith Simonton, The Psychology of Creativity: A Historical Perspective, University of British Colombia, 2001, p02

[10] د/ رضوان زيادة: حدود حرية التعبير في أزمة الرسوم الدانماركية، من كتاب الأديان وحرّية التعبير: إشكالية الحرّية في مجتمعات مختلفة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مصر، 2007، ص22

[11] نص وثيقة الأزهر عن "منظومة الحريات الأساسية" 08/01/2012

http://www.tajaddod.org/pdf/azhar-wathika.pdf

[12] وليم. د. هارتن وآخرون: حرّية الاتصال- حرية التعبير، تغيير البيئة القانونية والتنظيمية الداعمة للأنترنت، تقرير معد لقسم حرية التعبير، الديمقراطية والسلام بمنظمة اليونسكو، منشورات اليونسكو، فرنسا، 2013، ص20

[13] اجانس كالامارد: حرية التعبير والازدراء الديني: لماذا لا يعدّ التجديف ردّا مناسبا؟ من كتاب الاديان وحرّية التعبير: إشكالية الحرّية في مجتمعات مختلفة، ص- ص 44-45

[14] د/ رضوان زيادة: حدود حرية التعبير في أزمة الرسوم الدانماركية، من كتاب الاديان وحرّية التعبير: إشكالية الحرّية في مجتمعات مختلفة، ص30

[15] رضوان زيادة: حدود حرية التعبير في أزمة الرسوم الدانماركية، من كتاب الأديان وحرّية التعبير: إشكالية الحرّية في مجتمعات مختلفة، ص21

[16] المرجع نفسه، ص22