حوار مع الباحث التونسي حمّادي المسعودي: لقد سعينا إلى أن يكون مشروعنا الفكري ناهضا على "الحفريات في النصوص" الدينية بصفة عامّة….


فئة :  حوارات

حوار مع الباحث التونسي حمّادي المسعودي: لقد سعينا إلى أن يكون مشروعنا الفكري ناهضا على "الحفريات في النصوص" الدينية بصفة عامّة….

ذ. ساسي ضيفاوي: حمّادي المسعودي أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، مهتمّ بالدراسات المقارنة في الأديان والحضارات، وبمعالجة النصوص القديمة بصفة عامّة، والنصوص المقدسة بصفة خاصة، همّه الإنسان وحرّيته، بدءًا من كتابه "هيكل الليلة ومدلوله الفكري والحضاري في كتاب الإمتاع والمؤانسة"، وانتهاءً بكتابه "إشكالية النهضة في الفكر العربي الحديث"، حاول أن يقدّم من درايته الشخصية وتجربته الخصبة في البحث بكثير من الحنكة والصرامة المخيفة أحيانا، حفرًا في العديد من الأصول والمرجعيات الموصولة بثنائية النقل والعقل، وبالعديد من المباحث الحضارية على غرار المقدّس والدنيوي والأسطوري والمتخيل والمدوّن والشفاهي والمضمر والمسكوت عنه، ونحو ذلك من القضايا التي تشغل فكر الإنسان، باعتباره كائنا وجوديا قلقا.

إنّنا لن نفهم أهمية ما دعا إليه الدكتور حمّادي المسعودي من إقبال على مثل هذه المباحث، ما لم نكن متفطّنين إلى نوعية كتاباته التي تُحيل على ما ذهبنا إليه من هذه المقاربات الحضارية، على غرار:

التدريب على الترجمة المدرسية من خلال النصوص (بالاشتراك) ط1، مؤسسة سعيدان للنشر والتوزيع، تونس، 1980

هيكل الليلة ومدلوله الفكري والحضاري في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي، ط1، مؤسسة سعيدان للنشر والتوزيع، تونس، 1988

الحكاية العجيبة في رحلة ابن بطّوطة، ط1، نشر كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، تونس، 2001

الوحي من التنزيل إلى التدوين، ط1، دار سحر للنشر والتوزيع، تونس، 2005

متخيّل النصوص المقدّسة في التراث العربي الإسلامي، ط1، دار المعرفة للنشر، تونس، 2007

فنّيات قصص الأنبياء في التراث العربي، ط1، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، 2007

إشكالية النهضة في الفكر العربي الحديث، ط1، دار نهى للطباعة والنشر والتوزيع، تونس، 2011

وإلى جانب التأليف والنشر والبحث، فإنّ الأستاذ حمّادي المسعودي يشرف بجدّية وتفان على مدرسة الدكتوراه: الآفاق الجديدة في اللغات والآداب والفنون والإنسانيات، وعلى إدارة مخبر بحث: تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات.

ذ. ساسي ضيفاوي: نودّ في البداية أن تعطينا لمحة ولو بسيطة عن بداياتكم ومشواركم الفكري ومشروعكم الحضاري الذي تصبون إلى تحقيقه؟

د. حمّادي المسعودي: لا مناص من أن يكون لكلّ مثقّف واع بمسؤوليته، وصاحب إرادة وفعل في البيئة التي يعيش فيها، أن يكون له مشروعه الفكري، وينبغي أن يكون هذا المشروع دقيقا واضحا، محدود المراحل والأهداف، وعليه تدور جميع أوجه أعماله الفكرية والعلمية، وذلك باختيار حقل معرفيّ مخصوص محدّد بدقّة وتأنّ. هذا الاختيار الواعي للحقل المعرفي، وهذا التدقيق، مهمّان، إذ من شأنهما أن يحولا دون تشتيت الفكر وتوزيع المجهود الذهني إلى "جُزر معرفية" معزول بعضها عن بعض، فلا الباحث مقيم في هذه، ولا هو في أمن في أخرى، ويظلّ يذرع هذه وتلك، فلا هو قائس للأولى، ولا هو محدّد جغرافية الثانية. فإذا تبيّن له "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" من الحقل المعرفي، شرع في تحديد البنية الشكلية التي سيؤسس عليها المشروع الفكري، فأقام أركانه الرئيسة على جملة من المحاور المتفرّعة عن النواة الأصلية. بيد أنّ ما ينبغي أن ننبّه إليه، هو أنّ كلّ محور من تلك المحاور، يمكن أن يصبح موضوع بحث فرعي موصول بالنواة الأصلية.

ومن الملاحظ، بدءًا من بداية القرن العشرين، أنّ المشاريع الفكرية صارت تفيض على أصحابها؛ أي هي تتخطى مقدرتهم وإمكاناتهم وطاقاتهم المادية خاصة. لذلك تمّ التفكير، منذ أمد غير قصير، في أن يقع التوسيع في الأطراف المسهمة في إنجاز هذه المشاريع البحثية والعلمية، فعهد بالأمر إلى الشركات وإلى هياكل البحث (فرق، وحدات، مخابر ...)، وصارت مؤلفات كثيرة تصدر باسم "مجموعة من المؤلفين"، أو هي ممهورة باسم وحدات البحث و مخابره ... ذلك ما سعى إليه الغرب منذ زمن بعيد: شجّع على البحث الجماعي، وسنّ له القوانين، وأسس له الهياكل، فتفتقت ملكات الإبداع وكثر الإنتاج العلمي الرّصين، وتعدّدت الاكتشافات والاختراعات، وتقدّمت العلوم المختلفة، وسادت الصناعة المجتمعات فترقّت، وعاشت البشريّة الرّفاه.

لقد سعينا إلى أن يكون مشروعنا الفكري ناهضا على "الحفريات في النصوص" الدينية بصفة عامّة، والنصوص المقدّسة بصفة خاصّة. ديدنُنا الغوص في البنية العميقة لهذه النصوص، وتجاوز البنية السطحية، لكي نكشف عن المستور طَيّها ونستنطق الأبكم فيها، ونتخطّى المنطوق به لنسبر أغوار المسكوت عنه، ونفكّ أقفال طلاسمها، ونفضّ أختام ألغازها، لا إمام لنا في هذا المشروع سوى العقل، ولا نبراس ينير لنا السّبل البكر سوى المنهاج الحديث الذي يحيي النصوص، وهي رميم.

ذ. ساسي ضيفاوي: هذا المشروع الفكري لا بدّ له من آليات تحقيق وهياكل بحث، فما هي أبرز النشاطات البحثية والإضافات العلمية لمدرسة الدكتوراه ومخبر البحث؟

د.حمّادي المسعودي: إسهام هياكل البحث في تحقيق هذا المشروع في مؤسستنا ثلاثة هياكل بحث تشتغل بانتظام ودأب متواصل:

- وحدة: لغة، خطاب، مجتمع.

- مخبر بحث: تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات.

- مدرسة الدكتوراه: الآفاق الجديدة في اللغات والآداب والفنون والإنسانيات.

ترسم هذه الهياكل جدول أعمال سنويا، يقع الإعلان عنه في بداية كلّ سنة جامعية. ويحتوي هذا البرنامج أوجه نشاط مختلفة: اجتماعات إعلامية دورية، أيّام دراسية، ندوات علمية دوليّة، محاضرات، دروس بيداغوجية (علوم التربية) ... وتسهر جميع هذه الهياكل البحثية على نشر الأعمال العلمية، ومن أهمّ المنشورات:

- الدّين والجسد (الجزء الأوّل)

- الدّين والجسد (الجزء الثاني)

- إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية (الجزء الأوّل)

- إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية (الجزء الثاني)

- الشرّ: القيمة والخطاب (الجزء الأوّل)

ومن الملاحظ، أنّ جميع الأعمال التي تنظّم في فضاء هذه الهياكل العلمية، تستمدّ مضامينها من المشروع العلمي السابق الذكر. وكذا الشأن بالنسبة إلى رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه؛ فالكثير من المواضيع يوجّه أصحابها إلى إنجاز بحوثهم في مسألة مخصوصة من المسائل التي يدور فيها المشروع الجوهر، وقد نوقشت أعمال كثيرة في مستوى الماجستير ومستوى الدكتوراه، نُشر بعضها، وبعضها قيد النشر.

ذ. ساسي ضيفاوي: إنّ من أبرز الأطروحات التي أثرتموها في كتابكم "متخيّل النصوص المقدّسة في التراث العربي" هي: هل يمكن للنصّ الديني بصفة عامة، وللنص المقدّس بصفة خاصة، أن ينهض دون أن يؤسس على بُنى المتخيّل؟ ما هي إذن، أبرز النتائج التي توصلتم إليها من خلال هذا الطرح؟ وهل من علاقة بين الأسطوري والمتخيّل والديني؟

د. حمّادي المسعودي: ليس من نوافل القول، أن نذكّر بأنّ مفهوم الأسطورة مازال عند الكثير من المفكّرين العرب المسلمين ملتصقا بدلالة تهجينية، لأنّه يرتبط عند هؤلاء بالأباطيل والافتراء "أساطير الأوّلين". أمّا عند المفكّرين الغربيين، فدلّت الأسطورة على لون راق من التعبير ينبغي على الدارس أن يتجاوز فيه البنية السطحية، لكي يبلغ البنية العميقة. والقارئ لمؤلفات مرسيا إلياد (M. Eliade) يمكنه أن يتبيّن كيف نظر عالم الأديان إلى الأسطورة؛ فقد ربط هذا العالم الأسطورة بالمقدّس عندما ذكر أنّ الأسطورة تروي قصّة مقدّسة حول نشأة الكائنات في الزمن البدئي. ولمّا كانت الكتب المقدّسة تتحدّث عن قصص البدايات ونشأة العوالم، جاءت نصوصها حافلة بالأساطير. وليس من باب المبالغة، أن نقول إنّ الأسطورة تحتلّ حيّزا متّسعا في الكتب المقدّسة، بل إنّ هذه النصوص قد تفقد الكثير من قيمتها إن أسقطت منها المقاطع الأسطورية. يجب ألا ننسى أنّ هذه النصوص نشأت في الأصل في محيط ثقافي شفوي، وفي مرحلة سابقة من مراحل تاريخ البشرية، كان من أهمّ خصائصها اعتبار عالم الغيب مصدرا رئيسا للمعرفة. وهذه النصوص وجهت في الأصل إلى شرائح اجتماعية مخصوصة.

ذ. ساسي ضيفاوي: في خاتمة هذا الحوار، ما هي رؤيتكم لمستقبل الدراسات الحضارية في الجامعات التونسية؟

د. حمّادي المسعودي: قد يكون من نوافل القول، أن نشير إلى أنّ اختصاص الحضارة مسألة فكرية لا تدرّس في الجامعات العربية رغم أهميتها، لكنّها تدرّس بالجامعات التونسية في الكلّيات، وفي مؤسسات التعليم العالي المتخصّصة في تدريس الآداب والعلوم الإنسانية، وهذه المسألة–أي المسألة الحضارية- تمثّل أحد أضلاع المثلث ذي الزوايا المتساوية: اللغة + الأدب + الحضارة بالنسبة إلى الطلبة الموجهين إلى شعبة الآداب بعد النجاح في الباكالوريا، ثمّ تضحي تخصصا مستقلاّ في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.

والمتتبّع للبرامج التي تدرّس، والموصولة بهذا الاختصاص، يتبيّن بكلّ سهولة أنّ الدراسات الحضارية حققت تقدّما ملحوظا في نوعية المسائل التي تدرّس، وفي المنهج المتوسّل به في التدريس، وفي المواضيع التي تعالج في رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه. ينبغي ألاّ ننسى أنّ هذا الحقل المعرفي منفتح دائما على معرفة كونية تسعى إلى أن تكون شمولية، كما تسعى إلى تجديد مناهجها، مستفيدة من النتائج التي تحققت في مجال العلوم الإنسانية.

ذ. ساسي ضيفاوي: ما السبيل في نظركم إلى تحقيق هذا المستقبل المنشود؟

د. حمادي مسعودي: إسهام الدراسات الحضارية في الوقوف ضدّ التحدّيات: لعلّه من الأصوب هنا، ألا نتكلّم عن الدراسات الحضارية في مفهومها الضيق، باعتبارها اختصاصا يدرّس إلى جانب اختصاصات أخرى في الجامعات التونسية، بل نتكلّم على الفكر أو التفكير؛ فهذا الفكر يجب أن يكون عقلانيا مستنيرا، منفتحا على المعرفة والإنجازات العلمية العالمية، غير منغلق على الذات ماضيا وحاضرا ومستقبلا. فالعقلانية المستنيرة تسعى إلى الوقوف ضدّ الإيمان بكلّ تفكير خرافي غيبي بال، يفصل الإنسان عن واقعه المادّي، ويعمّق غربة كيانه، ويشدّه بقوّة إلى الماضي عوض السير به قُدما نحو المستقبل، في سبيل تحقيق مقوّمات الذات الحديثة التي تقف مزهوّة بإنجازاتها العلمية والصناعية والتكنولوجية؛ أي الذات التي لا تقف منكسرة أو خجلة أمام الذواتات العالمية الأخرى. وانفتاح هذا الفكر العقلاني المستنير من شأنه أن يحقق ثقافة شمولية، ويستفيد من "ثقافات الآخرين" دون كراهية أو إقصاء أو تكفير أو تفجير[1]. ومن شأن هذا التفكير أن يؤسس قيما إنسانية كونية: الحرية والعدل والكرامة والخير والمساواة وحقوق الإنسان واحترام القانون ونبذ العنف وحبّ الوطن... ونرى أنّ من يجدّف ضدّ هذا التيّار سيجرفه السيل أنّى انهمر.


[1]- فجّر الرجل غيره: نسب إليه الفجور.