حوار مع الدكتورة محجوبة قاوقو


فئة :  حوارات

حوار مع الدكتورة محجوبة قاوقو

حوار مع الدكتورة محجوبة قاوقو:

الهوية الدينية الرقمية

حاورها د. عبد السلام شرماط

"رقمنة الهوية أماطت اللثام عن مختلف أشكال الهويات الدينية، وبمختلف مستوياتها، من أكثرها اعتدالا وتسامحا إلى أكثرها راديكالية وعنفا وتعصّبا"

محجوبة قاوقو تعرف بنفسها

أستاذة بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بجهة الرباط- القنيطرة؛ حاصلة على شهادة التَّبريز في الفلسفة من المدرسة العليا للأساتذة بمكناس- جامعة مولاي إسماعيل، وحاصلة على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس في موضوع "الهوية الدينية الرقمية: دراسة في التمثلات الدينية لمغاربة الفايسبوك". باحثة في سوسيولوجيا الأديان وسوسيولوجيا الفضاءات الرقمية ومناهج البحث الرقمية، لها عدد من الدراسات المنشورة في هذا المجال في عدد من المجلات العلمية المحكمة؛ نذكر منها: "الهوية اللادينية الرقمية ومفهوم العائلة الإلكترونية: دراسة نتنوغرافية في الرابط اللاديني الإلكتروني" (مجلة هسبيريس-تمودا)، المجتمع الافتراضي وإشكالية تجديد منهج البحث السوسيولوجي: نحو بناء نموذج لدراسة التفاعلات الإلكترونية بواسطة الحاسوب (مجلة عمران)، براديغم الشبكة الاجتماعية: نحو إعادة ترسيم حقل السوسيولوجيا (مجلة باحثون)، و"اليهود المغاربة في المخْيال المُوَثَّق رقميا: دراسة سوسيو-نتْنُوغرافية في التمثلات الدينية لمغاربة الفايسبوك"، والذي صدر مؤخرا ضمن منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

عبد السلام شرماط: الأستاذة محجوبة أنت متخصصة في سوسيولوجيا الفضاءات الرقمية وسوسيولوجيا التعبيرات الدينية الرقمية، وتحديدا الهوية الدينية الرقمية التي ناقشت فيها موضوع أطروحة الدكتوراه، كيف تحددين الهوية الدينية الرقمية؟ وما تجلياتها في الزمن المعولم؟

محجوبة قاوقو: لا بد من الإشارة في البداية، إلى أن مفهوم الهوية في تصوره العام، يتموقع في مفترق طريق معرفي تلتقي عنده حقول مختلفة كالقانون والأنثروبولوجيا والسيكولوجيا والسوسيولوجيا. لذلك، فهو ينطوي على دلالات متعددة، وتتدخل في صياغة حمولته الدلالية محددات عدة يتداخل فيها الفردي والجماعي، ويختلط فيها الفيزيولوجي بالثقافي، والسوسيولوجي بالسيكولوجي، والديني بالسياسي . وبناء على ذلك، تختلف تعريفاتها تبعا للحقل المعرفي المرجعي الذي ينطلق منه الباحث، وتبعا لطبيعة المقاربة التي يود التركيز عليها، والبراديغم الذي يتحرك من داخله لمعالجة إشكالات الهوية.

فإذا ما حصرنا حديثنا عن الهوية في بعدها الديني، يمكن القول إنها تحيل إلى منظومة المعتقدات والأفكار والقيم والتمثلات التي يحملها الفرد، وينهل مقوماتها من مرجعية دينية محددة، ويترجمها فعليا من خلال منظومة الطقوس والمواقف والسلوكيات التي تعكس قناعاته واتجاهاته بهذا الخصوص. وتشكل الهوية الدينية بذلك، سيرورة تراكمية تُبنى بشكل تدريجي من خلال التربية ومجموع التجارب الحياتية التي يمرّ بها الفرد.

وإذا ما نقلنا الحديث إلى مستوى الهوية الدينية الرقمية، فإن ذلك معناه تحولا في البراديغم المعتمد في مقاربة المفهوم، ما دامت المقاربة تقتضي في هذه الحالة الانتقال من الفضاء المادي إلى الفضاء الرقمي، مع ما يفترضه ذلك من تغير في العدة المفاهيمية والنظرية والمنهجية. لذلك، فحتى وإن كانت العناصر التعريفية المشار إليها آنفا في تحديد الهوية الدينية في تصورها العام تشكل المنطلق في تعريف الهوية الدينية الرقمية، فإن الاختلاف الأساسي يكمن في الصيغة التي تتمظهر بها تلك العناصر والفضاء الذي تظهر أو تتشكل داخله؛ أي طبيعة الشكل التعبيري، وطبيعة الحامل الذي يحتويه.

ونود أن نشير في هذا الإطار، إلى أنه بالرغم من كون التعبيرات الدينية الرقمية، في مختلف أشكالها وتمظهراتها، قد شكلت موضوعا لعدد من الدراسات الأنكلوساكسونسة والفرنكفونية على حد سواء، فإن ما وقفنا عليه بهذا الخصوص، هو أن بعض تلك الدراسات، وإنْ كانت قد جعلت من الهوية داخل الفضاء الرقمي موضوعا للدراسة، فإنها لم تُولِ اهتماما لتحديد المفهوم عبر بناء صورته التعريفية بالاعتماد على المحددات الجديدة التي يفترضها ذلك الفضاء. لذلك، فإن منطلقنا في البحث الذي سبق وقمنا به حول هذا الموضوع توجَّه في البداية نحو بناء مفهوم الهوية الدينية الرقمية كمفهوم مستجد داخل سوسيولوجيا الأديان، حيث عرَّفناه في هذا السياق، باعتباره: مجموع الآثار الرقمية ذات المحتوى الديني التي يتركها الأفراد وراءهم داخل الفضاءات الإلكترونية، سواء كانت مندرجة في إطار البعد التصريحي أو البعد الإحصائي أو البعد الفاعل للهوية الرقمية في مفهومها العام، والتي تعكس في مجموعها الآراء والتمثلات والمواقف الدينية لأصحابها من المبحرين، وتسمح بتحديد انتماءاتهم العقدية. وإننا لَنَسْتحضر بذلك مفهوم الأثر الرقمي، والأبعاد الثلاثة للهوية الرقمية (البعد التصريحي، والبعد الفاعل، والبعد الإحصائي) كمحددات مركزية في بناء تلك الدلالة على نحو يراعي الخصوصيات التي تتمظهر فيه التعبيرات الدينية الرقمية.

عبد السلام شرماط: تنهض العملية الاتصالية في العالم الافتراضي على ثلاثة عناصر رئيسة، هي العالم الشبكي، والحوار، والتعبيرات الهوياتية، في مختلف تمظهراتها، كيف تسهم هذه العملية في تشكّل الهوية الدينية؟ وما آثارها في حياة الفرد والمجتمع؟

محجوبة قاوقو: إن الهوية بشكل عام في تعريفها الموسع هي مفهوم علائقي، والحديث هنا عن المُكوّن العلائقي يفترض بالضرورة العناصر الثلاثة التي أشرت إليها؛ أي وجود حوار تفاعلي يقوم بين ذاتيْن أو أكثر، ثم بيئة حاضنة لذلك الحوار الذي مهما اختلفت مضامينه أو أبعاده ومستوياته، فإنه لا يخرج عن كونه تعبيرا هوياتيا؛ إذ إن الذوات المتحاورة داخل عملية الاتصال تنتج المعنى وتصنع الدلالة عبر سيرورة تفاعلية تعبر من خلالها عن ذاتها، وتُعرَّف عن نفسها من خلال جملةِ الأفكار والتصورات والمعتقدات والآراء التي تُضمَّنُها في الرسائل التواصلية التي تنقلها للآخر.

إن هذه الصورة التي ننقلها هنا بخصوص العملية الاتصالية تصدق داخل المجتمع الفيزيقي كما المجتمع الرقمي، باعتباره عالمًا موازيًا للأول ومكملا له، أو مستوى من مستويات تمظهره. إن العالم الشبكي يقدم نفسه بهذا المعنى، كفضاء حامل لتفاعلات سيوسيو-إلكترونية تنخرط فيها كائنات رقمية، معلومة أو مجهولة الهوية، تفاعلات تعكس أنماطا متعددة من الحوار تغطي مختلف المجالات، مُشكِّلَةً بذلك نوعا من التعبير الهوياتي.

وبما أن الهوية مفهوم علائقي؛ فذلك يعني أنها دينامية بطبيعتها وتخضع لمنطق التغير باستمرار؛ أي إنها ليست معطى يوجد في حالة مكتملة ونهائية. وهذا هو ما يبرر الحديث في المقاربة المعاصرة لمفهوم الهوية عن "سيرورات هوياتية" تعكس الرؤية الدينامية الديالكتيكية للمفهوم، عوض الحديث عنها بوصفها كيانا يتسم بالديمومة والثبات. لذلك، فداخل عملية الاتصال الرقمي، وداخل عملية التفاعل الإلكتروني التي تقوم على الجدل المستمر حول قضايا متعددة تهم الدين والفن والمجتمع والسياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات، فإن المنصات الرقمية تتحول إما إلى فضاءات لتأكيد الهوية ودعم مقوماتها، أو فضاءات لإعادة تشكيلها وإعادة النظر في بعض محدداتها. ويصدق الأمر هنا على الهويات الدينية، كما الهويات السياسية أو الاجتماعية.

إن ما نود التأكيد عليه بهذا الخصوص، بناء على عملنا الميداني داخل الفضاء الإلكتروني لما يقارب العشر سنوات استنادا إلى ملاحظاتنا النتنوغرافية لما يجري داخله، هو أن الفضاءات العمومية الرقمية مغربية كانت أو مغاربية أو مشارقية، هي فضاءات للتعبير الديني الهوياتي بامتياز، فمهما اختلفت طبيعة القضايا التي تطرح للنقاش داخل شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع الإلكترونية، سواء كانت فنية أو سياسية أو اقتصادية أو تاريخية غيرها، فإن الدين يحضر بطريقة أو أخرى؛ فكل القضايا تناقش بالضرورة من زاوية الدين ومن داخل براديغم "المحظور والمباح دينيا"، حيث يشكل المنظور الديني، لدى غالبية المبحرين (المسلمين)، عدسة ضخمة تُضفي بلونها على موضوعات العالم بأكمله، التي لا تُرى إلا من خلاله، في إطار عمليةٍ من الرَّشْح المستمرة، التي على ضوئها تُحدَّدُ الموضوعات القابلة للاستيعاب والتبنّي، بالمعنى البْيَاجَوي، ونقائضها التي ينبغي أن تنتهي عملية الرشح الديني إلى لفظها واستبعادها من دائرة الاستيعاب والقبول الفردي أو المجتمعي على حد سواء.

ويعني ذلك أن الفضاء الرقمي يقدِّم نفسه كفضاء أيديولوجي لتأكيد رؤية محددة للقيم الدينية الإسلامية أو القيم المختلفة عنها دينيا أو لا دينيا، ورؤية محددة للوجود تبنى على قاعدةٍ دينية؛ وهو يقدَّم نفسه بذلك كفضاء استيعابي، ينزع أفراده نحو الاستقطاب المستمر للأغيار، سواء بشكل مباشر وقصدي أو غير مباشر؛ وذلك في اتجاه تحقيق نسبة أكبر من التوافق والمصادقة الدينية على المعتقدات بما يتماشى والمنظور الشخصي لمعتنقها. لذلك، فإن الأثر الناجم سواء عن صناعة المحتوى الرقمي بحمولته الأيديولوجية أو الأثر الناجم عن استهلاكه، يُمارَسُ على مستويين: مستوى الفرد في مرحلة أولى، ثم مستوى المجتمع في شموليته في مرحلة ثانية، خاصة عندما تكون عملية الاستهلاك تلك تهم، وبشكل مُوسَّع، محتويات رقمية مشحونة بالخطابات العنيفة والاقصائية.

عبد السلام شرماط: يرتبط الحديث عن الهوية الدينية بالحديث عن التدين بكل أشكاله، كيف ساهمت الرقمنة في إبراز هذه الأشكال؟ وهل ساعدت على تقريب المسافة في ما بينها أم تسببت في التنافر؟

محجوبة قاوقو: سؤالك في محله، والإجابة يمكن أن أستقيها منه عبر نزع الصيغة الاستفهامية عنه، والإقرار بأن رقمنة الهوية أماطت اللثام عن مختلف أشكال الهويات الدينية، وبمختلف مستوياتها، من أكثرها اعتدالا وتسامحا إلى أكثرها راديكالية وعنفا وتعصّبا، هذا فضلا عن كون الفضاء الرقمي في بداية ظهوره، في نهاية القرن العشرين على وجه الخصوص، وبداية القرن الواحد والعشرين شكل ملجأ لهويات الشتات؛ أي الهويات الدينية التي تشكل أقليات في بلدان متعددة موزعة عبر العالم، والتي وجد حاملوها في الفضاء الرقمي فضاء بديلا لِلَمَّ شتاتهم، وهو الموضوع الذي اهتمت به عدد من الدراسات الأنكلوساكسونية.

كما أن هامش الحرية الكبير الذي سمحت به شبكات التواصل الاجتماعي للمبحرين، والإمكانية التي منحتها لهم لممارسة "ألعاب الهوية" جراء خاصية المجهولية التي تسمح لهم بتقديم هوياتهم بأشكال وصيغ مختلفة، سواء عبر هويات منقوصة، أو هويات مستعارة ومُخْتَلَقَة، ومختلف استراتيجيات التمويه والتخفي الهوياتي؛ كل ذلك فسح المجال أمام عددٍ من الهويات الدينية الخَبِيئة أو المقموعة إلى الظهور علنا في الفضاءات العمومية الرقمية، كما هو الحال مع الأقليات الدينية بالمجتمع المغربي مُمَثَّلَةً في الشيعة المغاربة (الذين تركوا المالكية نحو التشيع) والمسيحيين المغاربة (الذين غيروا معتقدهم من الإسلام نحو المسيحية)، كما أن اليهود المغاربة أصبحت هويتهم في العقد الأخير أكثر بروزا بفضل شبكات التواصل الاجتماعية، التي تحولت في هذا الإطار بالنسبة إليهم إلى فضاء بديل للتعبير عن أنفسهم، وتَعريفِ غيرهم من المغاربة المسلمين بالموروث الثقافي والتاريخ المشترك.

كما لا ننسى أن نشير هنا إلى أن الهويات اللادينية، التي لطالما كانت موضوعا محاطا بالسرية والكتمان في المجتمعات الإسلامية، والتي كان حاملوها لا يتجرَّؤُون على كشف حقيقة معتقدهم اللاديني، قد وجدوا هم أيضا في السنوات الأخيرة متنفسا للقيام بذلك في الفضاء الرقمي، وأصبحوا بارزين للعيان أكثر من أي وقت مضى، كما هو الحال مع فضاءات اللادينيَّين المغاربة على الفايسبوك، أو على اليوتيوب.

إن جرد هذه الأشكال من الهويات في هذا السياق، قد يَفهم منه المرء أن الفضاء الرقمي يُقدّم نفسه كفضاء للتعددية والعيش الافتراضي المشترك، وكفضاء للتسامح والقبول المتبادل، لكن هذا الاستنتاج لا يلبث أن يكشف عن تهافته حالما يقرر الملاحظ أن ينخرط في معاينة ممتدة ودقيقة لذلك الفضاء، لأجل تتبع سيرورة النشر والتفاعل على المنصات الرقمية؛ إذْ سيعاين وقتها حجم الإقصاء المتبادل الذي يمارسه الأفراد على بعضهم البعض، والذي يصل في أحيان كثيرة إلى مستوى العنف الرقمي الجذري؛ وذلك في استغلالٍ سلبي لهامش الحرية الذي توفره الشبكة العنكبوتية، وفي ظل استراتيجيات التخفي وخاصية المجهولية اللتين تسمح بهما.

صحيح أن رقمنة الهوية سمحت بالتقارب بين الأفراد والجماعات الموزعة عبر العالم، أو حتى داخل المجتمع الواحد، كما هو الحال مع هويات الشتات، ومع الهويات الدينية، أو اللادينية التي لطالما كانت خبيئة داخل المجتمعات التي تقرُّ ضرورةَ التوافق الديني كمبدأ للدولة والمجتمع؛ لكن البروز الكبير لتلك الهويات التي كانت غير مرئية، لكونها كانت تشكل موضوع حظر أو قمع أو تضييق داخل مجتمعات الأغلبية الدينية؛ ذلك البروز جعل مجتمعات الأغلبية في مواجهة أقلياتها التي لطالما أقصتها من فضاءاتها المادية. وكان من نتاج ذلك ارتفاع منسوب الصراع والإقصاء، أمام محاولة الأقليات، الدينية أو اللادينية، إثبات ذاتها وانتزاع الاعتراف من رافضيها، ومحاولتها توسيع حدودها عبر عملية الاستقطاب الإلكتروني؛ وذلك في مقابل محاولة خصومها نزع الشرعية عنها، دينيا وأخلاقيا وسياسيا، وفي محاولةٍ للحد من وجودها داخل الفضاءات الرقمية. ذلك الوجود الذي أصبح يُنظَرُ إليه كتهديدٍ للتماسك الاجتماعي ولوحدة الأمة الدينية، سواء في حدودها الوطنية، عندما يكون المذهب الديني هو موضوع التهديد، أو في حدودها المرنة والممتدة عالميا، عندما يصبح النسق الديني برمته هو ما يشكل موضوعا لذلك التهديد.

عبد السلام شرماط: ما دور رقمنة الهوية الدينية في تحقيق وعي ديني مناسب ينهض على التسامح والإيمان بالاختلاف؟ وما الطرائق المناسبة لتحقيق هذا الوعي؟

محجوبة قاوقو: حتى وإنْ كنتُ قد أشرت آنفا إلى الجانب السلبي لمسألة رقمنة الهوية عموما، والهوية الدينية على وجه الخصوص، بالنظر إلى كون الوجود على نحوٍ مشترك داخل الفضاء الرقمي عمَّق أوجه الخلاف في وجهات النظر، وأفضى إلى ظهور شكل جديد من خطاب العنف الراديكالي بصيغة رقمية، يتراوح بين اللغة العامية في الغالب الأعم، واللغة المُنَمَّقة أحيانا؛ فإني أعتقد مع ذلك أن هذا النوع من الصدام قد يكون صحيا، بالمعنى الذي يحيل إليه جورج زيمل في حديْثه عن الوظيفة الإيجابية للصراع؛ إذ من شأنه مستقبلا أن يسهم في تطوير الوعي الديني بشكل أفضل لدى المبحرين على شبكات التواصل الاجتماعي. فلربما المواجهة المستعرة التي نعاينها اليوم في التفاعلات الإلكترونية لمستعملي الشبكة العنكبوتية، قد تكون عَرضًا من أعراض مرحلة الصدمة، صدمة التعرف على الغير المختلف دينيا، أو اللاديني، بكل صوره وبكل ما يحمله من أفكار وتمثلات وقناعات مغايرة؛ أي ذلك المختلف الذي دَرَجَت الأغلبية فيما مضى على نفي وإنكار وجوده، كما هو الحال مع المجتمع المغربي في تعاطيه مع مسألة تغيير المعتقد؛ أي واقعة وجود بعض المغاربة الشيعة أو المسيحيين، أو اللادينيّين داخل النسيج المجتمعي، وهي الواقعة التي كان جُلُّ المغاربة، إن لم أقُلُ كلُّهم، ينزعون نحو نفيها نفيا قاطعا في ما مضى؛ أي في مرحلة ما قبل ظهور الشبكات؛ وذلك قبل أنْ يلفوا أنفسهم أمامها اليوم وجها لوجه، داخل فضاءات الفايسبوك وغيرها من المواقع الإلكترونية.

لذلك، فإن مرحلة الصدمة، قد تنتهي، ومن المحتمل أن يتم تجاوز أعراضها وآثارها ولو نسبيا؛ وذلك حين يتعلم كل فرد من مستعملي شبكة الإنترنيت أن يقبل حق الغير في الاختلاف، ويقبل التعايش معه بالرغم من اختلافه، وأنْ يتوقف عن تصوره كخطرٍ يهدد الهوية الدينية المشتركة المنسجمةِ البنية، وأن يكفّ عن النظر إليه كمتآمرٍ يكيد في الخفاء لمجتمعه، وكعدو ينازِعُه الحق في الوجود؛ وأنْ يتعلم أن الاختلاف هو مبدأ كوني، قام عليها الوجود منذ الأزل، ومن المستحيل أن تكون المطابقةُ قاعدةً تقوم عليها المجتمعات، أو الحياة بشكل عام. لذلك، فقدر الإنسان هو أن يعيش داخل الاختلاف، وأن يتعلم كيف يقبله عبر تعلم ثقافة التسامح وقبول التعايش مع الآخر، مهما بلغ حجم اختلافه، وأينما كان موضع ذلك الاختلاف، سواء أكان في شؤون الدين أو في شؤون السياسية، في العرق أو في الإثنية.

عبد السلام شرماط: كلمة أخيرة:

محجوبة قاوقو: ختاما، أعتقد أنه في ظل دمقرطة وسائل التواصل الرقمية الجماهيرية واستدماجها على نحوٍ غير مسبوق من طرف الأفراد والمجتمعات، فإن النخبة المثقفة مطالبة اليوم بأن تقوم بمجهودٍ أكبر لأجل الانخراط داخل عالم الشبكات الرقمية، وأن تقوم بالدور المنوط بها في الرفع من منسوب الوعي لدى الأفراد، لكن عبر خطابٍ قريب للعامة، متاحِ الفهم والإدراك؛ لأنه إنْ كانت الأصوات تتعالي اليوم في محاولة للتنبيه إلى خطر هيمنة خطاب العنف والتفاهة والابتذال داخل الفضاءات الرقمية، فإن هذه الخطابات ستستمر في التناسل والشيوع على نحو أوسع في غياب خطابات بديلة، وفي غياب جمهور عريض من النخبة المثقفة التي لا زالت تتموضع اليوم في الغالب الأعم في مواقع ثلاثة؛ إما أنها تستهلك وتنتقد من دون أن تقدم البديل، وإما أنها تستهلك وتمتعض لكنها تكابد امتعاضها في صمت، وإما لازالت منعزلة كليا في البرج العاجي التقليدي للمثقف غير العضوي المفصولِ كليا عن الانشغالات اليومية لمجتمعه.