حوار مع الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح : سوف تحصل في الإسلام ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربية


فئة :  حوارات

حوار مع الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح : سوف تحصل في الإسلام ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربية

هاشم صالح مفكر وكاتب ومترجم سوري متخصص في قضايا التجديد الديني ونقد الأصولية ونقاش قضايا الحداثة وما بعدها. حاصل على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من جامعة السوربون 1982. وعلى دبلوم الدراسات العليا من جامعة دمشق 1975. يكتب بأهم الصحف والمجلات الدولية، نقل هاشم صالح العديد من مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية. ومن بين مؤلفاته كتاب "مدخل إلى التنوير الأوروبي" وكتاب "معضلة الأصولية الإسلامية" وكتاب "الانسداد التاريخي "وبهذا فهاشم صالح يعد من أبرز دعات التنوير والإصلاح الديني في الوطن العربي والإسلامي، وقد ارتأينا أن نجري معه هذا الحوار.

مولاي أحمد صابر: الدكتور هاشم صالح، لا شك أنك رجل غني عن التعريف، لكن كيف تقدم نفسك للقارئ؟

هاشم صالح: سوف أدهشك إذا ما قلت بأني لا أعرف من أنا بالضبط! عندما كنت في الثانوي بمدينة جبلة الساحلية السورية، كان أستاذ الفلسفة يتحدث عن سقراط وعبارته الشهيرة: اعرف من أنت. أو اعرف نفسك بنفسك، وهو نقش مكتوب على واجهة معبد ديلف اليوناني. وكنت أستغرب ذلك كل الاستغراب وأقول بيني وبين نفسي: فعلا هذا الأستاذ حمار! هل يوجد شخص على وجه الأرض لا يعرف من هو؟ ما هذا السؤال الغبي؟ ثم بعد أن كبرت وعاركت الحياة أو قل عركتني الحياة، فهمت معنى السؤال ومشروعيته التي لا تناقش. وعرفت عندئذ أن أصعب شيء هو سبر أغوار الذات، دهاليز الذات، أعماق الذات. أدركت عندئذ أن سؤال الأستاذ الذي نسيت اسمه كان وجيها جدا. وأعتذر له الآن بعد أربعين سنة مضت. أدركت، بأننا لا نعرف من نحن بالضبط، وأنه لكي نعرف من نحن ينبغي أن ننخرط في مغامرة خطرة هي: استكشاف مجاهيل الذات، كيف تشكلت شخصيتنا في مرحلة الطفولة الأولى؟ ما هي العوامل التي أثرت علينا عندما كنا صغارا بعمر الورد؟.هل كانت طفولتنا سعيدة أم شقية، طبيعية أم غير طبيعية؟ إلخ...كل واحد منا ولد في بيئة معينة، في دين معين، أو حتى مذهب معين داخل هذا الدين. كل واحد ولد في طبقة اجتماعية معينة فقيرة أو غنية إلخ...والأمر يختلف من حالة إلى أخرى. كل واحد تلقى في طفولته الأولى مجموعة من الأفكار واليقينيات المطلقة التي تشربها وكأنها حقائق معصومة لا تقبل النقاش. وبهذا الصدد تعجبني عبارة ديكارت الهائلة: ولذا قررت أن أدمر كل أفكاري السابقة! بمعنى أن ما تلقاه في طفولته عن طريق التربية المنزلية والمدرسة اليسوعية والكنيسة والمجتمع ككل كان يعتقد بأنه صحيح مائة بالمائة ما دام طفلا. ولكنه بعد أن كبر ونضج فهمه وازدادت معارفه وتفتحت عبقريته اكتشف أن الكثير من هذه الأفكار واليقينيات كان خاطئا. وبالتالي راح يراجع نفسه ويفكك يقينياته لكي يحل محلها يقينيات جديدة أكثر صحة ومتانة. ولكن هذه عملية صعبة جدا وشاقة على النفس؛ فليس من السهل أن تتخلص من يقينيات مغروسة في أعماق أعماقك منذ نعومة أظفارك. ولكن ديكارت وضعها على محك الشك وغربلها غربلة صارمة، فما نجح في الامتحان أبقى عليه وما فشل تخلى عنه. وكان يقصد بذلك أساسا أفكار الفلسفة السكولائية: أي الفلسفة المسيحية التي سادت العصور الوسطى. ولكن ليس كل الناس ديكارت! يصعب على معظم الناس أن يراجعوا أنفسهم وكل الأفكار الدينية أو الطائفية أو القومية التي تربو عليها. مثلا ديكارت تربى في مدارس اليسوعيين؛ أي في أحضان المذهب الكاثوليكي المعادي للمذهب البروتستانتي. ولكنه بعد أن كبر اكتشف أن المذهب المضاد قد لا يكون سيئا إلى الحد الذي صوروه له في طفولته. صحيح أنه لم يتجرأ على البوح بذلك صراحة. ولكن إدانته من قبل الكاثوليكيين ووضع كتبه على قائمة الكتب المحرمة من قبل الفاتيكان دليل على أنه "خان" مبادئ طائفته، وتخلى عنها أو عن قسم كبير منها. ولولا ذلك لما حاربوه. أعود إلى سؤال: من أنا بالضبط؟ أنا شخص يبحث عن الحقيقة في مجال التراث الإسلامي. ولولا ذلك لما أمضيت جل عمري في ترجمة أعمال أركون أو في نقل نظريات فلاسفة الأنوار إلى لغتنا العربية. أريد أن أفهم فيما إذا كانت هناك إمكانية لانبثاق تفسير آخر للدين الإسلام ي غير التفسير الشائع الموروث لدى كل الطوائف والمذاهب أقلية كانت أم أكثرية. أريد التوصل إلى الحقيقة الإسلام ية الجوهرية الأولية في نصاعتها الأولى، في طزاجتها الأولى. وقد ساعدني أركون كثيرا على هذا. ولذلك، فأنا مدين له، أريد التوصل إلى التفسير التاريخي الواقعي للدين فيما وراء التفسير التبجيلي التقليدي اللا تاريخي المرسخ في عقليتنا الجماعية منذ مئات السنين، والذي تشربناه في طفولتنا الأولى. أريد التوصل إلى المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة مثلما فعل فلاسفة أوروبا مع المسيحية. وقسم كبير منهم كانوا مؤمنين حقيقيين. أريد التوصل إلى هذا الإيمان الجديد مع المحافظة على جوهر الدين الإسلامي: أي قيمه الروحية التنزيهية والأخلاقية العليا. كنت أريد أن أعرف من أنا وكيف تشكلت عقليتي بالضبط منذ نعومة أظفاري فرحت أغطس في أعماق القرون وبطون الكتب وأقوم بتعريجة طويلة عريضة لكي أعرف من أنا. ولا أزال غاطسا حتى الساعة. وأعتقد أن هذه هي المهمة الأساسية المطروحة على المثقفين العرب اليوم. ينبغي أن نغربل التراث كله فنبقي على الصالح ونطرح الطالح، نبقي على الجوهر ونطرح القشور. وفي نهاية المطاف، فأنا نتاج أعمالي من ترجمات ومؤلفات ومقالات ومحاضرات: هي وحدها تقول من أنا، ماذا فعلت وماذا لم أفعل.

مولاي أحمد صابر: ما هي أهم الكتب والمشاريع الفكرية التي أثرت في مشوار حياتك العلمية؟

هاشم صالح:كثيرون هم المفكرون الذين أثروا علي. لا أستطيع أن أعدهم جميعا. أنا قارئ نهم للكتب. أحيانا أقرأ في اليوم الواحد نصف كتاب أو ربعه على الأقل.لا ريب في أن جان جاك روسو أثر علي كثيرا بسبب نزعته الإنسان ية والأخلاقية العالية. لقد أفهمني أنه لا علم بدون أخلاق أو بدون ضمير. قبل ذلك كنت مشدوها بالأضواء والبهرجات والشهرات الفارغة. الآن لم يعد يهمني أشهر مثقف في العالم العربي إذا كان ضعيف الضمير والأخلاق. امرأة فقيرة في الشارع أفضل منه. إنسان أمي بسيط ولكن طيب القلب وأخلاقي أفضل منه. هذا الشيء علمني إياه جان جاك روسو، ثم كانط من بعده. من المعلوم أن كانط لم يكن يحلف إلا بشخصين: إسحاق نيوتن وجان جاك روسو، بل وكان يعتبر روسو "نيوتن العالم الأخلاقي". فكما أن نيوتن اكتشف القوانين الفيزيائية – الفلكية التي تمسك الكون، فإن روسو اكتشف القوانين الأخلاقية والضميرية التي لا معنى للوجود البشري من دونها. روسو قال لنا ما معناه: لا يهمني هل هذا الشخص من طائفتي أم لا؟ هل هو متدين أم لا؟ ما يهمني هو الشيء التالي: هل هو أخلاقي وعنده ضمير يحاسبه أم لا؟ هل هو حسن التعامل، مستقيم السلوك أم لا؟ هل يحب الخير للآخرين ويؤلمه جوع الجائعين وحاجة المحتاجين أم لا؟ إذ حتى لو كان متدينا ويصلي ألف ركعة في اليوم، ولكنه غشاش أو غدار فإن إيمانه أو تدينه لا يساوي قشرة بصلة. يضاف إلى ذلك أني أحب المفكرين الذين تعذبوا، اضطهدوا، ضحوا بطمأنينتهم الشخصية من أجل الحقيقة. وفي طليعة هؤلاء يقف سقراط وجان جاك روسو. بالطبع، هناك آخرون لحسن الحظ. ولكن عددهم لا يملأ الشوارع! أغلبية المثقفين يركضون وراء المال والجاه والشهرة والأضواء ولا تهمهم الحقيقة كثيرا أو قليلا. إنهم يضحكون عليك إذا ما تحدثت أمامهم عنها، بل وقد يعتبرونك ساذجا أو مغفلا أو مجنونا. هؤلاء المثقفون المزيفون أو أشباه المثقفين لا يهمونني كثيرا، بل لا يهمونني على الإطلاق. لقد أمضيت وقتا طويلا في قراءة اعترافات جان جاك روسو وعلمتني من الدروس الكثير واستمتعت بقراءتها كل الاستمتاع. روسو ليس فقط مفكرا، وإنما كاتب أديب من الطراز الأول. إنه أديب الفلاسفة أو فيلسوف الأدباء، كما قالوا عن التوحيدي أو المعري.

أما فولتير، فقد أحببته لسبب آخر هو أنه يضحكني كثيرا ويعجبني، لأنه وقف في وجه الأصولية المسيحية وقفة حازمة كانت خطيرة عليه. ولكن وقوفه ضد الأصولية لم يدفعه إلى رمي نفسه في أحضان الإلحاد كما حصل لكثير من المثقفين. فولتير لم يكن ملحدا، وإنما مؤمن بالله المهندس الأعظم للكون. لا "مصنوع بدون صانع، ولا ساعة بدون ساعاتي" كما كان يقول. ولكنه من الناحية الأخلاقية لا يصل إلى مستوى جان جاك روسو أو كانط. في الوقت الحالي، يعجبني الفيلسوف الفرنسي لوك فيري. إنه يتميز بالوضوح والمعرفة الحقيقية بكل تاريخ الفلسفة. وهذه ميزة لا تقدر بثمن. فبعض الفلاسفة غامضون ويعتقدون أنه كلما زاد غموضهم زادت أهميتهم. وهذا غير صحيح. إنهم غشاشون. أعتقد أن جاك دريدا كان من بين هؤلاء. ولذلك وعلى الرغم من شهرته الكبيرة لا أعتقد أنه سيبقى منه الكثير. في المقابل يعجبني جدا الفيلسوف المؤمن بول ريكور. إنه يجمع بين الفلسفة والدين ولا يخلط بينهما، لأنهما يتموضعان على مستويين مختلفين.إنهما متكاملان لا متناقضان إذا ما عرفنا كيف نفهم الدين بشكل صحيح والفلسفة بشكل صحيح أيضا. أحب الفلاسفة والعلماء الكبار الذين لم يدفعهم علمهم الغزير إلى الإلحاد، وإنما إلى المزيد من الإيمان والتعلق بقيم الحق والخير والجمال...يعجبني أيضا عالم اللاهوت السويسري هانز كونغ، هو أيضا يجمع بين العمق الفلسفي والروحانية الدينية على حد سواء.عموما يعجبني الفلاسفة الذين يعمقون إشكالية العلاقة بين العلم والإيمان أو الفلسفة والدين. أعتقد أننا في العالم العربي والإسلامي ككل لسنا بحاجة إلى الفلسفة الإلحادية المادية. فنواقصها تتبدى للعيان حاليا وكذلك انحرافاتها وشططها. انظر إلى تزويج الشواذ مثلا في الغرب، أو إلى استئجار بطن المرأة بالفلوس!.شيء مرعب ولا يكاد يصدق. لذلك أقول نعم، لأخذ المناهج الحديثة من الغرب، بل وأخذ الكثير من الأفكار والنظريات ولكن حذار من خلط الصالح بالطالح أو أخذ كل شيء دون أي تفحص أو تمييز. حذار من التضحية بالقيم الأخلاقية العليا من أجل تحقيق الربح وتكديس الأموال بأي شكل ممكن. أعود إلى لوك فيري، وأقول بأن استعراضه لتاريخ الفكر الغربي بدءا من اليونان وحتى يومنا هذا مشروع رائع، لأنه يوضح لك كل المراحل الأساسية التي مر بها الفكر البشري. أكتب هذه الكلمات من مدينة "رانس" الفرنسية، حيث أول شيء فعلته هو شراء كتابه الجديد: "أجمل قصة لتاريخ الفلسفة".من المفيد جدا ترجمة هذا النوع من الكتب، لأنه يقدم لطلاب الجامعات، بل والثانويات العربية كل تاريخ الفلسفة بشكل واضح ودقيق. ومعلوم أن طلابنا في المغرب والمشرق بحاجة إلى تربية فلسفية إضافة إلى تربيتهم الدينية، بل وأكاد أقول بأن عظمة الدين لا تتجلى لك إلا بعد الاطلاع على الفلسفة. لا يمكن أن تفهم جوهر الدين من خلال الكتب الدينية فقط، وإنما من خلال النظريات العلمية والكتب الفلسفية.عموما ما ينقص ثقافتنا العربية وبرامج تعليمنا هو البعد الفلسفي. ولكن لا أقصد الفلسفة هنا بالمعنى التجريدي الغامض للكلمة، وهو للأسف مهيمن على مدارسنا الثانوية وجامعاتنا. وإنما أقصد الفلسفة بالمعنى المحسوس الواضح القريب من اهتمامات البشر وتساؤلاتهم. وهذا ما يبرع فيه لوك فيري كل البراعة.

مولاي أحمد صابر: يحسب لكم أنكم حولتم إلى اللغة العربية مشروع الباحث والمفكر الراحل محمد أركون، ماذا عن هذا المشروع؟

هاشم صالح: مشروع الأستاذ أركون لم ينته ترجمة بعد على عكس ما يظن الناس، هناك أجزاء كثيرة لم تترجم بعد. ولكني فعلت استطاعتي في هذا المجال. على الآخرين أن يكملوا الطريق. فكر أركون ليس ملكا لي وحدي. إنه ملك لكل المثقفين المسلمين والعرب مشارقة كانوا أم مغاربة، بل ومغاربة قبل المشارقة. هذا لا يعني أني لن أعود إلى ترجمته مجددا عندما تسنح الظروف. ولكن أصبحت أفضل الكتابة عنه أو استلهام أفكاره والتعليق عليها مطولا كما فعلت في الكتابين الأخيرين اللذين صدرا بعد موته، وهما: "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية". منشورات دار الساقي، بيروت، 2010. والثاني هو: "تحرير الوعي الإسلام ي. نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة". دار الطليعة، بيروت، 2011. صحيح، أنهما له ولكني كتبت لهما مقدمتين مطولتين جدا، لتسهيل فهم فكره في العالم العربي.لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك.

مولاي أحمد صابر: ماذا يمكن أن تقوله عن محمد أركون كإنسان ومفكر في الوقت ذاته؟

هاشم صالح:سوف أدهش القارئ كثيرا إذا ما قلت له بأني لا أعرف محمد أركون الإنسان كثيرا، وإنما فقط محمد أركون المفكر. بمعنى آخر لم نكن نلتقي في الحياة اليومية إلا نادرا، وإنما كنا نحل مشكلة المصطلحات بالتلفون أو بالإيميل.البعض يعتقد أني كنت أتعشى معه أو أتغذى كل يوم أو يومين! ولكن الصورة معاكسة لذلك تماما. كانت تمر شهور وأحيانا سنوات دون أن نلتقي. والسبب هو أن علاقتنا كانت علاقة الأستاذ بالطالب لا علاقة الصديق بالصديق أو الند بالند. صداقاتك تكون مع أناس من مستواك لا مع أناس أعلى منك بكثير. محمد أركون كان شخصية عالمية. وكان ينتقل شهريا وربما أسبوعيا من طائرة إلى طائرة، ومن بلد إلى بلد، بل ومن قارة إلى قارة عدة مرات. لم يكن يهدأ رحمه الله. وهناك دعوات كثيرة كان يرفضها نظرا لضيق الوقت. لم تبق جامعة عالمية تقريبا إلا وحاضر فيها عن الإسلام والفكر الإسلام ي بدءا من اليابان إلى الولايات المتحدة وكندا والهند والصين وأوروبا والعالم العربي الإسلام ي بطبيعة الحال. وكان خطيبا مصقعا يجذب الجمهور إليه جذبا. كان ذا شخصية قوية جدا ومهابة من قبلنا نحن طلابه. حضور درسه الأسبوعي كان متعة ما بعدها متعة. محمد أركون كان شخصية متوازنة جدا من الناحية النفسية وذو عقل راجح. لم يكن من نوعية المفكرين القلقين المعذبين نفسيا، مثل كيركيغارد أو نيتشه مثلا. أركون لم يكن إنسانا تراجيديا على عكسي أنا. وربما لهذا السبب تعلقت به. فالأضداد تتلاقى. ولكن بالطبع أشعر بقرابة روحية أكبر مع روسو أو كيركيغارد أو أبي حيان التوحيدي أو المعري أو حتى الغزالي. في "المنقذ من الضلال" يتحدث الإمام الغزالي عن أزمته النفسية بشكل رائع وشبه حديث، بل وحديث جدا. ولكن الله فتح على قلبه وساعده على تجاوزها. لقد وصل إلى "برد اليقين" كما يقول هو حرفيا إذا لم تخني الذاكرة. فالعيش في مناخ القلق والشك جحيم لا يطاق. التوحيدي عاش هذه التجربة النفسية القلقة ونتجت عن ذلك مؤلفاته الرائعة. أما أركون، فقد كان ذا تركيبة نفسية طبيعية وسليمة تماما. كان حكيما رصينا بالمعنى الحقيقي للكلمة: أي لا يلقي الكلام على عواهنه ولا يتخذ القرار قبل تفكير عميق وتأمل في الوضع من كل جوانبه. ولكن كانت له "نواقص ميزاته" كما يقول المثل الفرنسي. لا يوجد شخص كامل على وجه الأرض. الكمال لله وحده.. بالطبع أحب التركيز على إيجابياته تاركا المهمة الثانية للآخرين. ما يهمني في المفكرين الذين أقدمهم للقراء هو نقطة قوتهم لا نقطة ضعفهم، إيجابياتهم لا سلبياتهم. ما يهمني بالدرجة الأولى هو ما قدموه لنا في مجال اختصاصهم بالذات. أما حياتهم الذاتية الحميمية، فلا تعنيني كثيرا ولا أعرفها أصلا. وميزات أركون رحمه الله كانت كثيرة. يقف في طليعتها حرصه الشديد على استنارة الإسلام والمسلمين ولحاقهم بركب الأمم المتقدمة. كان يعتبر نفسه مسؤولا عن الإسلام كله. وكان يشعر بالألم لأن الشعوب الأخرى تقدمت وتطورت وبقينا نحن نتخبط في غياهب الجهل والظلمات. كان يشعر بالألم لأن المسيحية في أوروبا حظيت بالدراسات العلمية والمنهجية وتجددت وتصالحت مع الحداثة في حين أن هذا الإنجاز الكبير لم يحظ به الإسلام حتى الآن. ولذلك كان يريد أن يسد هذا النقص المريع. من هذه الناحية كان يعتبر نفسه مسؤولا عن التراث الإسلام ي كله. كان يعتقد أن أكبر خدمة يمكن أن نقدمها للتراث هي أن نجدده لا أن نقلده: أي نغرق في التكرار والاجترار. فالمخلصون الحقيقيون للتراث ليسوا المقلدين على عكس ما نظن وإنما المجددون. هنا تكمن أكبر ميزة لأركون في رأيي. ومن جهة أخرى كان ينزعج جدا إذا ما هوجم الإسلام في الغرب بدون حق. وكان يرد على ذلك بقوة ويفرض هيبته نظرا لشهرته العلمية والعالمية الواسعة. وقد دفع ثمن ذلك أكثر من مرة. كان يقول للغربيين ما معناه: إذا كنتم تشككون في صحة الوحي القرآني أو الإسلام ي فاشرحوا لي لماذا نتجت عنه نفس الآثار الكبرى التي نتجت عن الوحي المسيحي أو الإنجيلي.ألم يتحول الإسلام إلى دين عالمي تؤمن به مئات الملايين، مثل المسيحية؟ فلماذا تكون المسيحية وحيا صحيحا وليس الإسلام أو القرآن؟ وبالتالي كفوا عن هذه النظرة القديمة المعادية للإسلام بشكل مسبق. كفوا عن هذه الهجمات البذيئة والصور الكاريكاتورية المشوهة وساعدوا على الدراسة العلمية لتراث الإسلام بدلا من الانهماك بكل هذه السخافات التي لا تليق بكم ولا بحضارتكم الكبيرة.

مولاي أحمد صابر: في نظرك ما هي الإضافات المنهجية والأثر العلمي الذي أحدثته أطروحات وأفكار محمد أركون على الساحة الفكرية والثقافية في الوطن العربي؟

هاشم صالح:هذا السؤال ينبغي أن يوجه إلى المثقفين العرب في المشرق أو المغرب. أنا غادرت المشرق منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ولا أعرف كيف استقبله المثقفون السوريون مثلا. سمعت بأن فكره انتشر في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن إلخ...هذا دون أن ننسى الخليج العربي من السعودية إلى الإمارات والبحرين وقطر وعمان.هذا دون أن ننسى مصر وليبيا وموريتانيا والسودان وكل بلدان العرب. بالطبع، لم أذكر المغرب والجزائر وتونس، لأنه كان يعتبر نفسه مغربيا أو مغاربيا بالمعنى الواسع للكلمة. وعندما كان يفكر في الإسلام وقضاياه وهمومه، فإنه كان ينطلق من هذه البلدان الثلاثة بالدرجة الأولى. وهذا شيء طبيعي، لأن الإنسان مشروط بولادته ومسقط رأسه حتى ولو تحول إلى مفكر عالمي كبير. المفكر لا يمكن أن ينسى جذوره الأولى. وربما كان المغرب الأقصى هو الأحب إلى قلبه بعد الجزائر أو حتى قبل الجزائر. كانت للمغرب مكانة خاصة في قلبه. ليس غريبا أن يكون قد دفن فيه على بعد خطوات من الجابري رحمه الله. ولكن لا أعرف إلى أي مدى أثرت أطروحاته على الناس. لا ريب في أن كتبه انتشرت، لأن أفكاره تلبي حاجة تاريخية. في كل الأحوال لن نستطيع نحن المثقفين العرب تجاهل أركون حتى لو أردنا. لماذا؟ لأنه الوحيد الذي كان قادرا على تشخيص مشاكل التراث الإسلام بشكل علمي ومنهجي دقيق. من هذه الناحية فإنه يشكل الأفق الفكري الذي لا يمكن تجاهله أو حتى تجاوزه في المدى المنظور.إنه يشرح لنا كيف يمكن أن نقرأ القرآن الكريم وكل نصوص التراث بشكل منهجي، تاريخي، عقلاني، حديث. وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم. كل دراساته مشغولة بالسؤال التالي: كيف نقرأ القرآن اليوم؟ أو: كيف نفهم الإسلام اليوم بالمعنى العميق لكلمة فهم؟ كيف ندرس التراث بشكل صحيح وعلى ضوء أحدث المناهج التاريخية والاجتماعية والأنثربولوجية والفلسفية؟

هاشم صالح:نحن بحاجة إلى فهم تراثنا بعيون جديدة، فنطرح منه الزوائد والقشور ولا نبقي إلا على الجوهر والكنوز. وأقصد بالجوهر هنا القيم الأخلاقية والروحانية العليا للتراث العربي الإسلامي العظيم. أكرر ذلك مرة أخرى. ولكن الذي يحصل حاليا هو العكس.فنحن لا نتعلق إلا بالشكليات والحشويات وأكاد أقول السخافات التي تعرقل نهضتنا وانطلاقتنا التي طال انتظارها.

مولاي أحمد صابر: ما الذي تنتقده في مشروع محمد أركون؟

هاشم صالح:أولا قبل أن ننتقد النواقص والسلبيات، ينبغي أن نعرف الإنجازات والإيجابيات! وحتى الآن لا أعتقد أن ذلك قد حصل في العالم العربي. فكر أركون عن الإسلام لا يزال مجهولا أو غير معروف بشكل دقيق وكاف. ينبغي الاعتراف بأن فكره صعب ومعقد، حتى بالفرنسية فما بالك بالترجمات. ولذلك أكثرت من الشروحات والتعليقات. وكنت أقول له: كل كتاب مترجم بحاجة إلى كتاب مؤلف لشرحه وربما عدة كتب! وذلك لأنه كان يطبق كل المناهج والمصطلحات الحديثة على تراثنا الإسلامي دفعة واحدة بدءا من المنهج الألسني والتاريخي والاجتماعي والأنثربولوجي وانتهاء بالتقييم الفلسفي، وهو ما فعله بول ريكور أو سواه من علماء أوروبا بالنسبة للتراث المسيحي. وبالتالي فلكي نفهم أركون ينبغي أن نكون مطلعين على الطفرة المعرفية أو الابيستمولوجية التي حصلت في فرنسا إبان الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. وعموما، ينبغي أن نكون مطلعين على الحداثة الفكرية منذ عصر التنوير وحتى اليوم لكي نستطيع فهمه وتقييمه. ربما كان الشيء الذي يزعجني فيه هو نقده اللاذع للعلمانية الفرنسية ولعقل الأنوار. لاريب في أنه كان يعترف بإيجابيات العلمانية وعصر التنوير. ولكنه كان ينتقدهما أيضا بشكل حاد جدا ومتكرر. وهذا ما أثار عليه حفيظة المثقفين الفرنسيين كما سيرد لاحقا.

مولاي أحمد صابر: ألف محمد أركون كتبا عديدة عالج من خلالها الكثير من القضايا ودعا إلى فتح البحث في الكثير من المواضيع التي تعتني بقضايا الإنسان ككل. نريد أن تتحدث لنا عن المغيب وغير المفكر فيه في فكر محمد أركون؟

هاشم صالح:لا ريب في أن هناك أشياء لم يستطع الاهتمام بها أو التفرغ لها. فالمفكر مهما كان كبيرا ومطلعا لا يستطيع الإلمام بكل شيء. ولولا ذلك لما جاء أرسطو بعد أفلاطون، أو ابن رشد بعد الفارابي، أو كانط بعد ديكارت، أو هيغل بعد كانط، إلخ...العلم لا ينتهي والفكر لا ينتهي ما دامت هناك عصور جديدة وحاجيات جديدة واكتشافات جديدة. وبالتالي، فالأجيال القادمة من الباحثين العرب والمسلمين سيكملون إضاءاته ويستدركون النواقص والإهمالات حتما. ولكننا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد. نحن لم نهضم إنجازاته بعد لكي نستطيع تجاوزه. لنحاول أولا مناقشة أطروحاته الأساسية عن مفهوم الوحي مثلا، أو عن الطبري والأشعري، وابن تيمية، وابن رشد، وابن سينا، والغزالي...إلخ. وبعدئذ يمكن أن نستدرك ما أهمله أو نسيه.

مولاي أحمد صابر: عاش محمد أركون وقتا طويلا في الغرب، وقد ألف كتبه بلغة غير اللغة العربية كيف ينظر الغرب لهذا الرجل ولأمثاله؟

هاشم صالح:محمد أركون لم يولد في اللغة العربية، وإنما في الأمازيغية. وأعتقد أنه لم يبتدئ بتعلم العربية جديا إلا في سن السابعة عشرة. ولكنه بذل جهودا مضنية لتعلمها وإتقانها بعدئذ. وقد استطاع التوصل إلى ذلك بشكل مدهش لاحقا بفضل صبره ومثابرته وجديته. صدقني إذا ما قلت لك بأنه كان يعرف لغة التراث أكثر مني ومنك بسبب معاشرته الطويلة لنصوص الطبري ومسكويه والتوحيدي وابن رشد والغزالي إلخ. يضاف إلى ذلك أن اللغة الفرنسية كانت هي المهيمنة على الجزائر في وقته وبالتالي فإتقانها كان ضروريا لمن يريد أن ينال الشهادات ويرتفع في سلم العلم والمراتب. وبما أنه أصبح أستاذا جامعيا في السوربون، فمن المنطقي أن تكون الفرنسية هي لغته الأكاديمية الأولى. يضاف إلى ذلك أن المصطلحات الحديثة موجودة في الفرنسية أكثر من العربية بكثير. وبالتالي فكتابة البحوث العلمية فيها أسهل. وهذه مشكلة كبيرة مطروحة علينا نحن المثقفين العرب حاليا. متى سنهتم بلغتنا جديا فننقل إليها كل الكنوز المعرفة الحديثة وتاليا آلاف أو عشرات الآلاف من المصطلحات والأفكار الحديثة؟ هذا هو السؤال الأساسي. ينبغي العلم بأن أركون كان يشتكي كثيرا من انعدام وجود قاموس تاريخي للغة العربية. فهذا يشل البحث العلمي في لغة الضاد. نحن، نعتقد أن كلمات القرآن الكريم مثلا لها نفس المعنى الشائع حاليا. وهذا خطأ كبير.كل مفردات اللغة العربية تغيرت معانيها بتعاقب العصور. وبالتالي، فلكي نفهم القرآن جيدا ينبغي أن نعود إلى العصر الذي ظهر فيه والبيئة التي ظهر فيها لأول مرة: أي القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية. ينبغي أن نتموضع في لحظته لكي نفهم معاني كلماته على حقيقتها وإلا فسوف نسقط المعاني الحالية على المعاني السابقة، ونرتكب المغالطات التاريخية الشنيعة. أو قل ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الفترة الممتدة من القرن السابع إلى القرن العاشر، لأن تثبيت نص القرآن استغرق وقتا طويلا. وقل الأمر ذاته عن لغة التراث. نحن، نعتقد أن معاني الكلمات في نصوص الجاحظ أو الغزالي بقيت هي هي في عصر طه حسين أو نجيب محفوظ! لا أبدا. كلمات اللغة العربية تغيرت معانيها على مر العصور بشكل قليل أو كثير.هناك قاموس تاريخي للغة الفرنسية يعطيك معنى الكلمة الواحدة في القرن السادس عشر مثلا وكيف أصبح معناها في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ناهيك عن العشرين، وما هي التحولات التي طرأت على معناها. الكلمة ذاتها لم تتغير ولكن معناها تغير وتحول بتغير العصور والأزمان. وهناك قاموس تاريخي للغة الإنكليزية والألمانية. ولكن لا يوجد قاموس تاريخي للغة العربية حتى الآن.

أما كيف ينظر الغرب إليه، فالواقع أنه كان يسبب مشكلة حقيقية للغرب. والسبب هو أن فكره كان نقديا تجاه العلمانية المتطرفة أو ما ندعوه بالعلمانوية. كان يعتقد أن مسألة الدين والروحانيات ستبقى مطروحة حتى بعد انتصار التنوير والعلمانية. وهذا ما أهمله الغرب أو قل التيار الإلحادي السائد في الغرب، وهو تيار مادي بشكل كامل. وأذكر أنه بعد اندلاع قضية سلمان رشدي، فإن مفكري الغرب حقدوا على أركون، لأنه لم يصفق لسلمان رشدي! وكان ذلك بعد أن أدلى بمقابلة شهيرة لجريدة لوموند بتاريخ 15 مارس 1989. وقد أثارت هذه المقابلة عليه عاصفة من الانتقادات الحادة. لماذا؟ لأنه قال حرفيا ما يلي: "إن سلمان رشدي ارتكب في تلك الرواية أكثر من هفوة بسيطة. فشخص النبي مقدس بالنسبة للمسلمين، وينبغي أن يحترم بصفته تلك حتى في الروايات أو الكتابات الخيالية الأبدية". ولكنه قال أيضا وهذا ما هيج عليه مثقفو فرنسا بأن التصور الغربي لحقوق الإنسان يقوي سوء التفاهم مع الإسلام. لماذا؟ لأنه مقطوع عن التصور العام لحقوق الله. إنه مادي محض. واتهم عقل الأنوار والعلمانية الناتجة عنه بأنهما سبب هذه القطيعة المعنوية والروحية الكبرى. وهنا زادها أستاذنا أركون "شوية" كما يقال. فقد طعن في صميم القيم الغربية. وعندئذ وصل الأمر بأندريه ميكل إلى حد دعوته إلى مغادرة فرنسا والعودة إلى قريته في الجزائر.نقول ذلك على الرغم من أن أندريه ميكل من أفضل المستشرقين أو المستعربين وليس حاقدا على العرب أو المسلمين كسواه. على العكس لقد أمضى عمره في دراسة تراثنا الجغرافي والأدبي، وله فضل كبير على الدراسات العربية الإسلامية. ولكن هاجت الهوائج بسبب قصة رشدي السيئة الذكر، بل واتهم البعض أركون بالأصولية، لأنه لم يدافع عن سلمان رشدي! نقول ذلك على الرغم من أن أركون دعا في تلك المقابلة إلى تطبيق المناهج النقدية الحديثة على التراث الإسلامي، مثلما طبقت على التراث المسيحي في أوروبا..فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ هل يريدون أن يصفق لكتاب سخيف يدعى الآيات الشيطانية؟ إنه سخيف حتى بالمعيار الأدبي لكلمة رواية.إنه كتاب خال من أية مرجعية موثوقة وميال إلى الاستفزاز الرخيص والنقد المزيف ويبحث عن الشهرة بواسطة الفضيحة. ولولا الفتوى الهمجية للخميني لربما ما كان قد نال كل هذه الشهرة. لولاها لكان كتابه قد مات في أرضه ونسيه الناس واحتقروه وأهملوه. وهذا ليس رأيي فقط أو رأي أركون، وإنما رأي المستعرب الإسباني ميغيل كروز هرنانديز.انظروا بالفرنسية كتابه الضخم: تاريخ الفكر في أرض الإسلام. الصفحة 831....Miguel Cruz Hernandez: histoire de la pensee en terre d’Islam.Editions desjonqueres. Paris. 2005. P.831

لكن للحق والتاريخ، فإن موقف ميكل لم يكن خاطئا كليا.فأستاذنا أركون رحمه الله بالغ في نقد العلمانية كما ذكرت إلى حد أن الناس اعتقدوا بأنه ضد الحداثة أو ضد التنوير! ولا أعرف حتى الآن لماذا كان يحمل على العلمانية الفرنسية إلى مثل هذا الحد في الوقت الذي كان يطبق فيه أحدث المناهج النقدية على تراثنا الإسلامي ويحرره من دوغمائيته المتحجرة وانغلاقاته المزمنة! لا ريب في أن العلمانوية المتطرفة بحاجة إلى نقد وتصحيح، ولكن ليس الفكر العلماني التنويري في المطلق. فلولاه لما استطاع أركون تطبيق المناهج النقدية الحديثة على تراثنا الإسلامي. هنا يوجد تناقض عجيب لا أفهمه. وعلى أي حال، فهذه النقطة بحاجة إلى شروحات ضخمة لإيضاحها، لأنها حسمت علاقة أركون بفرنسا والغرب كله.أركون لم يكن إنسانا سهلا ولا شخصية ضعيفة. على العكس تماما، لقد كان شخصية قوية جدا وضخمة. وكان يفرض هيبته حتى على كبار أساتذة الجامعات الفرنسية الذين كانوا يهابونه ويعرفون إمكانياته الفكرية. ولا أعتقد أن أي مثقف مسلم أو عربي وصل إلى هذه الذروة التي وصل إليها محمد أركون في الغرب.

مولاي أحمد صابر: فقد العالم العربي والإسلامي في الآونة الأخيرة مجموعة من أصحاب المشاريع التي كرست جهدها ووقتها في بسط رسالة التجديد والعودة إلى العقل، مثل محمد عابد الجابري، أبو القاسم حاج حمد، محمد أركون... ما هو تقييمك المنهجي للفكر العربي بعد رحيل هؤلاء وغيرهم؟ وما هو الجيد والجميل في هذه المشاريع لتتشبث به أجيال الحاضر وتبني عليه؟

هاشم صالح:هذا سؤال ضخم، لا أستطيع الإجابة عليه في مقابلة واحدة، بل ولست قادرا عليه لأني لست مطلعا بشكل جيد إلا على مشروع أركون وإلى حد ما الجابري رحمه الله. ولكن أعتقد أن الشيء المهم الذي خلفه لنا كل التنويريين العرب هو التجديد لا التقليد، وكذلك ضرورة الانخراط في الفهم العقلاني للتراث. صحيح، أن الفهم القديم؛ أي السلفي – الإخواني، مسيطر على الجماهير، بل وعلى الكثير من المثقفين بحكم العطالة الذاتية والتاريخية ولكنه لن يستمر إلى الأبد. عاجلا أو آجلا، سوف تحصل في الإسلام ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربية. كل الأديان الكبرى مدعوة إلى الانخراط في هذه الثورة المعرفية والإبيستمولوجية الكبرى. وهذا الكلام لا ينطبق على الإسلام فقط، وإنما على المسيحية العربية أو الشرقية أيضا. وحدها المسيحية الغربية تعرضت لامتحان التنوير العسير واضطرت إلى تجديد عقائدها لكي تستطيع التأقلم مع العصر الديمقراطي، عصر حقوق الإنسان والمواطن...ولكن الإسلام سائر على الطريق. هو أيضا سيتعرض لتجديد هائل في السنوات القادمة.صحيح أن شعوبنا العربية والاسلامية لم تدخل التاريخ بعد ولكنها تدق على أبوابه. وأعتقد أن الإصلاح الديني، سيكون فاتحة الطريق. العرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد، بل ولا حتى الأولى! العرب لم يجيئوا بعد. عندما يحصل تجديد الإسلام والفكر الإسلامي، سوف يطل العصر الذهبي على العرب من جديد. الإسلام كان دين العلم والعقل والإشعاع الحضاري طيلة ستة قرون؛ أي حتى موت ابن رشد في مراكش عام 1198. فلماذا لا يعود مرة أخرى لكي يقدم للعالم شعلة الحضارة ومكارم الأخلاق من جديد؟ مستقبل العرب أمامهم لا خلفهم على عكس الشعوب الأوروبية التي شبعت من دخول التاريخ وأعطت كل ما يمكن أن تعطيه، بل وهرمت وشاخت أيضا.

مولاي أحمد صابر: كيف تفسر أن الجزء الكبير من المشاريع الفكرية في العالم العربي قد اشتغل أصحابها على التراث، إلى درجة أن محور الاختلاف بين هؤلاء كان بسبب موقفهم المنهجي من التراث؟

هاشم صالح:السبب واضح وضوح الشمس، وهو أننا لن نستطيع الانطلاق حضاريا قبل أن نصفي حساباتنا مع الرواسب التراثية التي تمنعنا من الانطلاق والنهوض. إنها كالسلاسل الثقيلة التي تقيد أيدينا وأقدامنا. أكاد أصرخ مثل أم كلثوم: أعطني حريتي أطلق يديا! نريد دين اليسر لا العسر.

نحن نريد أن ننهض ولكننا لا نستطيع. في كل مرة تعيدنا القوى التراثية أو الارتكاسية إلى الوراء. ما لم ينتصر التفسير التنويري للإسلام على التفسير الظلامي القديم، فلن تنجح انطلاقتنا الحضارية. سوف تجهض أو تنتكس كما حصل ذلك أكثر من مرة في تاريخنا الحديث. اطلعت مؤخرا بالصدفة المحضة على يوتيوب للرئيس جمال عبد الناصر، وفيه يتحدث عن نقاشه مع مرشد الإخوان المسلمين حول وضع المرأة؛ يقول الرئيس بأنه ذهب لمقابلته لكي يستمزج آراءه وأفكاره فإذا به يطالب بشيء واحد فقط: تحجيب المرأة. فقال له الرئيس عبد الناصر بعد جدال: ولكن أنت عاجز عن تحجيب ابنتك التي تدرس في كلية الطب، فكيف يمكن أن تطالبني بتحجيب عشرة ملايين امرأة مصرية! ثم انفجر الرئيس بالضحك، وهو يروي الحادثة. لأول مرة أرى زعيم القومية العربية بمثل هذا الشكل العفوي المؤثر والإنساني جدا. إنه يوتيوب ولا أروع. أتمنى أن يراه جميع المثقفين العرب. وأعتقد أن الكثيرين رأوه. أعتقد شخصيا أن الشيء الذي كسر ظهر عبد الناصر ليس فقط اسرائيل وخمسة حزيران، وإنما الاخوان المسلمون أيضا، وربما بالدرجة الأولى. لقد أنهكوه من كثرة المناوشات والمؤامرات. لقد شغلوه عن القضايا الأساسية بمحاربتهم لخط التقدم والتنوير الذي انتهجه. هذا لا يعني أني أدافع عن كل ما فعله عبد الناصر. فالنظام البوليسي الذي رسخه والقضاء على الفكر الليبرالي وتعددية الأحزاب والمعارضة الحرة كان خطأ كبيرا. ولكنه كان صادقا كل الصدق في رغبته بتحقيق وحدة العرب وكرامة العرب ونهضة العرب. أضيف بأني لست ضد الحجاب، وإنما ضد النقاب فقط. فالحجاب الذي يغطي الشعر لا يزعجني على الإطلاق. بالعكس، فإنه يزيد المرأة أحيانا رونقا وجمالا. ولكن الشيء الذي أرفضه هو أن تضغط المرأة المحجبة على المرأة غير المحجبة وتتهمها صراحة أو ضمنا في شرفها أو دينها. هذا غير مقبول، لحسن الحظ فإن التسامح الرائع السائد في المغرب يتيح للمرأة المحجبة والمرأة غير المحجبة أن تتعايشا جنبا إلى جنب دون أية مشكلة. يكفي أن تمشي في شوارع المغرب نصف ساعة لكي ترى ذلك بأم عينيك. هذا شيء يعجبني: التعددية والتسامح. أما النقاب الذي يغطي المرأة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، فشيء غير مقبول على الإطلاق إلا بالنسبة للسيدات العجائز ربما. وعلى كل حال، فهو ليس قرآنيا ولا إسلاميا على عكس ما يظن بعض الناس.

مولاي أحمد صابر: سبق أن تطرقتم في بعض من كتاباتكم لمعضلة الأصولية في العالم الإسلامي. هل هذه المعضلة تخص العالم الإسلامي لوحده؟ أم هي ظاهرة يمكن تعميمها على جميع الثقافات والشعوب؟ وكيف يمكن التخلص منها؟

هاشم صالح: مشكلة الأصولية ضخمة جدا، ولن تحل في جيل أو جيلين. سوف تستغرق عدة أجيال. سوف تستغرق وقتا طويلا، لأن الفهم التقليدي الأصولي للدين راسخ في عقليتنا الجماعية منذ مئات السنين. وهذا الشيء ينطبق على الجهة السنية كما على الجهة الشيعية والإباضية وكل الفرق والمذاهب أيا تكن. هناك تحجر تاريخي صلب يصعب تفكيكه في المدى المنظور. وحده أركون استطاع تفكيكه بكل تمكن واقتدار. ولكن أنا شخصيا لم أهتم فقط بالأصولية الإسلامية، وإنما بالأصولية المسيحية أيضا، بل وكرست للثانية عدة كتب من بينها:" مدخل إلى التنوير الأوروبي"، أو "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"...إلخ. لقد أمضيت حياتي في هذه القصة ولا أزال...وقد تحدثت أكثر من مرة عن ضرورة تشكيل علم "الأصوليات المقارنة"، أو "علم التنوير المقارن"،لا فرق. وأقصد بذلك أنك لن تفهم أصوليتك بالذات قبل أن تفهم أصولية الآخرين. هناك، مثل صيني يقول: "من لا يقارن لا يفهم". وهذا صحيح، إذا لم تخرج من نفسك وانغلاقاتك التراثية وتدرس عقائد الآخرين وتنفتح عليها، فإنك لن تستطيع فهم ذاتك بالشكل المطلوب.

مولاي أحمد صابر: عرفت المنطقة العربية تحولا كبيرا بفعل أحداث الربيع العربي وما صاحبه من أحداث أهمها مجيء الإسلاميين إلى السلطة في بعض من البلدان، وتعنت العسكر في بعض من البلدان الأخرى... كيف تقيم هذا الوضع؟ وهل طبيعة هذه التحولات التي يعرفها العالم العربي تتجه به نحو الانفتاح ونحو ما هو عقلاني أم تتجه به نحو الأصولية والانغلاق وتغييب العقل ونحو الانسداد الفكري؟

هاشم صالح:هذا الموضوع كنت قد كرست له كتابا كاملا بعنوان: "الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ". منشورات دار الساقي، بيروت، 2013. ولا أعتقد أني سأضيف شيئا جديدا إلى ما قلته هناك مطولا وبالتفصيل. أريد فقط أن أقول بأننا تداوينا منها بها. أقصد بأنه لولا المرور بمرحلة الأصولية وحكم الإخوان لفترة قصيرة لما زالت الهالة والهيبة القدسية عنهم. كان ينبغي أن يحكموا لكي يرى الناس أنهم بشر مثل سواهم ولا يستطيعون حل كل المشاكل بضربة عصا سحرية. ثم اكتشفنا شيئا آخر، وهو أن تصوراتهم القديمة عن الدين تصطدم بالعالم الحديث وتسبب لنا مشاكل عديدة وتعيدنا إلى الوراء. وهذا غير ممكن بعد مائتي سنة من عصر النهضة. لا ريب في أن شعار "الإسلام هو الحل" صحيح إلى حد كبير ولكن ليس إسلام الإخوان المسلمين ولا السلفيين ولا الخمينيين، وإنما إسلام الأنوار، إسلام العصر الذهبي، إسلام بغداد وقرطبة والإشعاع الحضاري الذي فقدناه منذ الدخول في عصر الانحطاط. لن نخرج من المأزق الذي نتخبط فيه إلا بانبثاق تفسير آخر للدين الحنيف. وأعتقد أن محمد أركون ساهم في هذا الانبثاق إلى حد كبير. فكر أركون يمثل ضوءا، شعاع نور، في هذا الظلام الدامس للمسلمين.

مولاي أحمد صابر: طبعا، عرفت أوروبا معضلة الأصولية ولكن تجاوزت هذا الداء الحضاري بعد حركة الإصلاح الديني. الكثير من الدارسين لما جرى ويجري في العالم الإسلامي بعد التراجع عن أفكار وطروحات رواد النهضة، مثل الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم يدعون للإصلاح الديني كمفتاح لا بد منه لعملية البناء والنهوض الحضاري. في نظرك ووفقا لمقتضيات الوضع الراهن من أين ينبغي للإصلاح الديني في العالم الإسلامي أن يبدأ وفقا للخصوصية الثقافية والحضارية التي تميزه عن غيره؟

هاشم صالح:الإصلاح يبدأ من إعادة قراءة التراث على ضوء أحدث المناهج العلمية والتاريخية. وهذا ما فعله أركون طيلة حياته كلها.الخصوصية لا تعني أن المنهجية التاريخية – النقدية التي طبقت على التراث المسيحي لا تنطبق على التراث الإسلامي. كل التراثات الدينية الكبرى ينبغي أن تتعرض للغربلة النقدية وإلا فلا يمكن أن نخرج من جحيم التعصب والأصولية واحتكار الحقيقة المطلقة وتكفير الآخرين، كل الآخرين. هذا شيء أصبح واضحا للكثيرين بعد كل ما حصل من تفجيرات عشوائية باسم الدين. العالم يطالبنا بأن نتحرك قليلا، بأن نتحلحل، بأن ننقد التيار المتطرف والانغلاقي فينا. وهذا من حقه بعد كل تلك التفجيرات العنفية التي حصلت باسم الإسلام أو باسم فهم خاطيء للإسلام. نحن في قفص الاتهام الآن بسبب ليس فقط 11 سبتمبر، وإنما أيضا بسبب كل ما تلاها وسبقها. ولكي ندافع عن أنفسنا ينبغي أن نقدم تفسيرا آخر لديننا الحنيف غير التفسير الإخواني – السلفي الشائع والراسخ منذ مئات السنين.هذه هي المهمة الكبرى المطروحة على المثقفين العرب منذ الآن وحتى خمسين سنة قادمة. ولا أرى مهمة أخرى أكثر إلحاحا واستعجالا. إصلاح الإسلام أو تنوير الإسلام يعني فهمه على ضوء علم تاريخ الأديان المقارنة، وعلم الاجتماع الديني، والأنثربولوجيا الدينية، وفلسفة الدين...إلخ، إذا ما طبقت كل هذه المناهج على النصوص التأسيسية للتراث، فسوف ينبثق نور وهاج من الداخل، وهو الذي سيحررنا، سينقذنا من أنفسنا، أقصد من انغلاقاتنا اللاهوتية على مدار القرون. هذا الانغلاقي اللاهوتي التكفيري أصبح مشكلة ليس فقط لنا، وإنما للعالم كله

مولاي أحمد صابر: يعد النص القرآني هو النص المرجعي والمؤسس للثقافة الإسلامية بدون منازع؛ ففي إطار الحديث عن موضوع الإصلاح الديني، كيف نتعامل مع هذا النص العظيم وفقا لمقتضيات الزمن الذي نحن فيه؟

هاشم صالح: القرآن الكريم هو نقطة الانطلاقة الأولى لأي إصلاح أو نهضة عربية. إعادة قراءته أو تفسيره على ضوء العلم الحديث يشكل أكبر مهمة للمثقفين العرب في السنوات القادمة. أتمنى لو كنت أمتلك الوقت الكافي لكي أشرح نظرية أركون عن القرآن. إنها جديدة كليا وغير مسبوقة. ولكن ذلك يتطلب تأليف كتاب كامل، لأنه كرس للموضوع صفحات وصفحات لا تنسى. لا أملك هنا إلا أن أحيل إلى كل ما كتبه عن الموضوع في اللغة الفرنسية. ولكن ينبغي أن نضيف إلى كتاباته مؤلفات كبار المستشرقين الألمان والإنكليز والفرنسيين حول الموضوع. ففيها إضاءات ضخمة. انظروا "الموسوعة القرآنية" بالإنكليزية،أو "قاموس القرآن" بالفرنسية أو مراجع أخرى عديدة. لا يمكن أن يتحقق الإصلاح الديني في العالم العربي اذا لم تطبق المنهجية التاريخية – النقدية على القرآن مثلما طبقت على التوراة والإنجيل. نحن في أمس الحاجة إلى تفسير تاريخي للقرآن الكريم.

مولاي أحمد صابر: جاءت الحداثة الغربية نتيجة جهود مفكرين كبار، أمثال كانط وهيغل وروسو وغيرهم ما تنتقده على الحداثة الغربية في الوقت الراهن؟ بمعنى ألا تعرف الحداثة الغربية الكثير من المنزلقات التي تفترض العمل على ترشيدها وتقويمها؟

هاشم صالح: هذا موضوع طويل وشائك ومعقد. نقد سلبيات الحداثة الغربية شيء ضروري ومهم جدا، لأنها تسيطر على العالم. وبالتالي فشططها أو انحرافاتها، تنعكس على العالم كله...في البداية كانت الحداثة بريئة وتحريرية ثم أصبحت قمعية توسعية لاحقا كما يحصل لكل الحركات الكبرى. موضوع نقد الحداثة أصبح الشغل الشاغل ليس فقط للمثقفين العرب، وإنما للمثقفين الفرنسيين أيضا، بل وبالدرجة الأولى. أحيل في هذا الصدد إلى كتاب آلان تورين: "نقد الحداثة". كما أحيل إلى كتابات جان كلود غيبو عن "خيانة التنوير". وكذلك أحيل إلى كتابات فريدريك لونوار عن "مرض العالم" أو "شفاء العالم"...إلخ، ينبغي أن تترجم هذه الكتب إلى العربية لكي يعرف القارئ، كيف ينقد مثقفو الغرب حضارة الغرب وحداثة الغرب التي انحرفت عن مسارها الصحيح.

مولاي أحمد صابر: كلمة أخيرة.

هاشم صالح: أعتقد أن هذه المؤسسة الجديدة مؤسسة مؤمنون بلا حدود جاءت في وقتها، ويخيل إلي أنها مؤمنة برسالتها وراغبة في تقديم شيء جديد للعرب والمسلمين.هناك نية طيبة وصادقة تقف خلفها... إنها غيورة على مستقبل الإسلام والمسلمين. والدليل على ذلك كثرة الندوات والمؤتمرات والورشات البحثية التي تعقدها في مختلف أرجاء العالم العربي. هذا بالإضافة إلى المجلات والمنشورات المختلفة. وسوف تنجح في مهمتها إذا ما أعطت هامشا كبيرا من الحرية للباحثين والمثقفين الذين يتعاونون معها. فإنقاذ الوضع العربي الإسلامي لن يكون عن طريق تكرار الماضي واجتراره وإنما عن طريق فكر ديني جديد لم ير النور بعد؛ لأجل ذلك فليعمل العاملون.