خديجة زتيلي: الكتابة، في نهاية المطاف، هي هويّتي وسرّ كينونتي


فئة :  حوارات

خديجة زتيلي: الكتابة، في نهاية المطاف، هي هويّتي وسرّ كينونتي

نصّ الحوار مع البروفيسورة خديجة زتيلي

فرش معرفي:

ليس الحوار مع الباحثين والمفكرين من باب النوافل في القول، أو من جهة البحث عن مسار معرفي نعبّر فيه عن آرائنا ومواقفنا بعيداً عن مبدأ المسؤولية والالتزام بالمعنى العام للوجود وهو احترام الناس في فهمهم للحياة، إنّ الحوار هو بمثابة تعبيد درب جديد وطريف لكي يقول الباحث فيه ما لم يقله في كتبه ومقالاته المتعددة، فالحوار هو سلوك استفزازي نمارسه مع المحاور، ومن صلب هذا الحديث كان لنا هذا الحوار الاستفزازي مع الباحثة الجادّة البروفيسورة خديجة زتيلي.

إنّ المسار العام للباحثة، ظهر للوجود المعرفي بصورة أكاديمية التزمت بها أثناء أدائها لمهامها داخل الجامعة تدريساً وتأليفاً ومشاركة في النشاطات العلمية المختلفة، وهي في نظرنا علامة صحية تمكن الباحث من اكتساب صفات الجد والحرص والإخلاص في العمل، والانخراط في الفضاء الجامعي بعزم قوي، والاجتهاد في الاقتراب من أهل العلم، ولم يكن هذا الالتزام عائقاً أمام ولوجها عالم التأليف الفلسفي، ومشاركتها الهمّ الفلسفي الجزائري عبر الحضور الدائم في نشاطات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، وهي بذلك غدت أحد الوجوه البارزة في المشهد الفكري الجزائري. حيث بدأت تشتغل على بعض القضايا الفكرية الشائكة والشائقة، مثل التنوير، والحرية، والمرأة، والتاريخ...، وعلى هذا الأساس كان لنا معها هذا الحوار.

مرحباً بكِ على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود

ربوح البشير: من الأجدى أن نبحث عن ذلك الخيط السرّي الذي يتنزل بين حياة الباحث في صورتها الحياتية ومساره العلمي، فكيف يستطيع الباحث في مجتمعاتنا أن يحقّق تلك المعادلة الكيميائية الصعبة، ويلج عالم الكتابة والبحث بكلّ عزم وإصرار؟

د. خديجة زتيلي: في البدء يطيب لي أن أتوّجه بجزيل الشكر إلى سيادتكم على دعوتكم الكريمة لي لهذا الحوار، كما أنّ الشكر موصول فضلاً عن ذلك إلى مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" التي تَسهر على تفعيل الفكر وخلق مناخ ثقافي جديد للتبادل الإنساني البنّاء والحضاري، متمنيّة لها دوام التوفيق والتألّق في مسعاها.

من الصعوبة بمكان أن يُجيب المرء عن هذا السؤال ببعض العبارات المقتضبة، كما أنّ الجواب سيختلفُ مضمونه، بلا شكّ، من شخص إلى آخر، لأنّه مرتبط بشكل أساسي بأحلام الكاتب وثقافته ومساره العلمي وبأهدافه أيضاً. ولكن سأحاول قدر الإمكان أن أحيلكم إلى تصوّري للموضوع ببعض الكلمات التي بإمكانها أن تُفصح عنه، وأتمنّى أن أوفّق وأن تسعفني اللّغة في ذلك. أنْ تَختار الكتابة وسط ضغط الحياة اليوميّة ومتطلباتها وفي مجتمعاتنا التي ما تزال تعاني من التخلّف والاستبداد وتراجع التعليم والتفاوت الاجتماعي والفساد السياسي والأخلاقي هي مجازفة لا تُحمد عُقباها، وهي كالإمساك بقطعة من الجمر الحارق، ولكنّ الكتابة هي أيضاً فعل حريّة وتأكيد للحضور الواعي، وهي انعتاق من اليومي والنمطيّ ومن إيقاع الحياة العصريّة المملّة التي اتّجهت إلى تشييء الإنسان وعولمته. وهذا هو الجزء الذي يعنيني ويمنح معنى لوجودي، فأنا أكتب لكي أقوى على مواجهة عالمنا المتوحّش لعلّي أستطيع صياغة نصّ إنساني بإمكانه أن يُخلخل بعض المفاهيم أو يتصدّى لمقولات الهيْمنة والإقصاء والإبعاد والمركزيّات المزعومة، فَيُطهّر التاريخ من الأكاذيب والخرافات السائدة والقراءة الأبويّة له، ويسجّل موقفاً تجاه قضايا بعينها. الكتابة، في نهاية المطاف، هي هويّتي وسرّ كينونتي التي أوضّح من خلالها أنّ المرأة في مجتمعاتنا العربيّة والإسلامية على وجه الخصوص لم تعد موضوعاً للخطاب وحسب، بل أصبحت صانعة له أيضاً، وأنّه حان الوقت للانتقال من الكتابة عن المرأة إلى كتابة المرأة عن نفسها وعن عالمنا. الكتابة قضيّة كبيرة بالنسبة إليّ والتزام أخلاقي تجاه الذات والآخر، وموقف من العالم، وأنا أستأنس بها كثيراً في حياتي، وأحاول من خلالها إحداث التغيير الممكن والمأمول، ولا أجد غضاضة في التصريح بهذا الشوق الدائم إليها الذي يبدأ بحروف تركض على الورق وينتهي إلى نصّ يكتمل بطرح مسألة ما، ومنه إلى نصّ آخر يواصل الحكاية. وتجدني أتعارك بين عالم اليومي وعالم الكتابة لتحقيق نوع من التوازن، ولكنّني أعود في كلّ مرّة مُنحازة إليها مُستسلمة لأقْداري ولهذا الحبّ الفائض أملاً في بلوغ نصٍّ مُستقبليٍّ يَكْتبني.

ربوح البشير: تنوّعت الدراسات التي أنجزتها بين الكتابة الفلسفية الصارمة والكتابة النسوية التي تحتاج إلى أسلوب مغاير ومختلف، فمن أين يمكن أن نلج عالم التفكر الفلسفي عند باحثتنا؟

د. خديجة زتيلي: أعتقد أنّ كلّ النصوص التي أنجزْتُها، وبغض النظر عن مسألة التصنيف وأساليب المعالجة، كانت تحمل هموم الإنسان بشكل عام وهموم الإنسان العربي بشكل خاصّ، وتطرح قضايا أخلاقيّة وسياسيّة واجتماعيّة وتاريخيّة وإنسانيّة. لا شكّ أنّ خلفياتي المعرفيّة وتكويني الفلسفي والأكاديمي يتجلّى بوضوح في نصوصي، ولكنّ الذي كان يعنيني دائماً هي الأهداف والغايات، كلّما أنجزتُ دراسة أو مقالاً أو كتاباً، فالكتابة ليست ترفيهاً وإنّما مهمّتها إثارة قضايا جوهريّة ومقاومة الجهل والمسكوت عنه، قد تكون مُنجزاتي الأولى، مقارنة بنصوصي اللاحقة، تلفّها الكتابة الفلسفيّة الصارمة، كما جاء في سؤالك، ولكنّ ذلك لم يكن مقصوداً، وربّما كان مرّده إلى التقاليد الأكاديمية وإلى طبيعة التكوين الذي تطلّبته مرحلة التحصيل العلمي، ويتعلّق الأمر بكتابي الأوّل "كروتشه والنزعة التاريخيّة المطلقة" الذي صدر في عام (2007) بالقاهرة، وقد صدرتْ هذه الأيام طبعة جديدة له مزيدة ومنقّحة عن منشورات الاختلاف بالجزائر، وضفاف بلبنان، ودار الأمان بالمغرب، وكلمة للنشر والتوزيع بتونس، وسيكون حاضراً هذا العام في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر.

يُعالج هذا الكتاب ''مسألة التاريخ''، ويركّز على الأهميّة البالغة التي أضفاها الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه (1866-1952) على حقل المعرفة التاريخيّة عندما جعلها المعرفة الوحيدة الممكنة التي تفوز بالبقاء في نسقه المعرفي، ويعرض فيه جملة المسوّغات التي دفعته إلى توصيف مذهبه الفلسفي بالنزعة التاريخيّة المطلقة، كما يحاول الرجل في السياق ذاته إقناع القارئ بطرحه المتعلّق بمفهوم الإنسان المبدع الخلاّق فنّان هذا العالم وصانع مصيره، وبكون كلّ المعارف الإنسانيّة تُعدّ مدخلاً أساسيّاً للمعرفة التاريخيّة. فالتاريخ الحقيقي عند كروتشه هو تاريخ الفكر الإنساني الذي يتجلّى من خلال نشاط الأفراد في المجتمع، ولذلك لا يمكنه أن يكون إلا واقعّياً، كما أنّ الفلسفة، وتحديداً فلسفة الروح، تتعامل بشكل مباشر مع الواقع عبر الأحكام التي تصدرها عليه، وهي ليست مُفارقة له أو مُتعالية عليه. ويعتني الكتاب في بعض فصوله بالمصطلحات التي منحها كروتشه دلالات ومضامين جديدة غير مسبوقة، تتنكّر لتلك التي كانت سائدة قبله، وتنسجم بشكل كبير مع أطروحاته الفكريّة المقترحة.

ويبدو أنّ تطوّري الروحي والفكري وتراكم المعارف والقراءات الكثيرة والمتنوّعة لديّ قد ساهم مساهمة فعّالة في موضوع الكتاب الثاني الموسوم بـ"أفلاطون، السياسة، المعرفة، المرأة" (2011)، الذي يطرح قضيّة البناء المعرفي للسياسة عند أفلاطون ومكانة المرأة فيه، ويطرح السؤال: هل ثمّة علاقة بين النظريّة المعرفيّة لأفلاطون والنظريّة السياسيّة له؟ وهل يمكن مجاراة الرأي القائل إنّ آراء أفلاطون في السياسة تجد تبريراتها وتكتسب مشروعيتها من البناء المنطقي للأطروحات المعرفيّة؟ وكيف تنسحب نتائج هذا الموقف النظري على الممارسة السياسيّة وعلى مكانة المرأة في المدينة الأفلاطونية المأمولة؟ ولم يكن الغرض من هذا الكتاب محاكمة أفلاطون، بل كان الهدف منه تقديم دراسة علميّة تعتمد على استدعاء النص وتحليله، وقد خَلصتْ هذه الدراسة من بين ما خلصتْ إليه أنّ الفلسفة الأفلاطونيّة أفرزت ثنائيات هَرميّة مُتنافرة تنتهي إلى ترسيخ مفاهيم مُنمّطة عن ''الأعلى'' و''الأدنى''، فكلّ ما كان يتعلّق بالأعلى كان يمثّل الرجل، وكلّ ما يتعلّق بالأدنى كان يمثل المرأة، وهو تصنيف عنصري ومثير للجدل من فيلسوف كأفلاطون.

ثم توالت أعمالي بالإشراف على بعض الأعمال الجماعيّة وتأطيرها وتنسيقها، وتتمحور حول سؤال الحداثة والتنوير بين الفكر الغربي والفكر العربي (2013) الذي يناقش إجمالاً موضوع التنوير الذي وصل في بلاد الغرب إلى مقاصده منذ زمن بعيد، ولكنّه في البلاد العربيّة ما يزال يعاني من التعثّر و''الانسداد التاريخي''، وبات الحفر في واقعه المعاصر أكثر من ملحّ لخلخلة المفاهيم السائدة وطرح التحديّات التي تواجه العقل العربي، ويتساءل الكتاب في مقدّمته: هل يستجيب العقل العربي لتلك التحديّات ولسؤال التنوير الحائر إلى غاية هذه اللحظة التاريخيّة؟ أمّا كتاب "الفلسفة السياسيّة المعاصرة" (2014) فيتناول نماذج من المشاريع الفلسفيّة الغربيّة المعاصرة في نقدها للمنظومة السياسيّة في بلدانها وللمؤسّسات الاجتماعيّة التي يعتريها الفساد فتُشَوّه سُمعتها جرّاء ذلك، ويتمّ التركيز في هذا العمل على جملة من الفلاسفة والمفكّرين الذائعي الصيت في القرن العشرين الذين راحوا يستنفرون أدواتهم المعرفيّة لاستئناف الخطاب الغربي بمسارات جديدة وخلع المشروعيّة عن الكثير من التنظيرات وشجب الحماقات التي يمارسها ساسة الغرب ومنظّريه بتفكيك اللحظة الراهنة واقتراح سياسات رشيدة كبدائل ممكنة.

ويلتفت كتاب "الأخلاقيات التطبيقيّة: جدل القيّم والسياقات الراهنة للعلم" (2015) إلى المشكلات الجديدة التي أفرزها تقدّم العلوم واكتساح التقنيّة لجميع حقول المعرفة والتطوّر المهول في مجال المعلوماتيّة، فضمن هذا السياق تجادل المقالات التي يضمّها هذا الكتاب وتطرح قضايا "الأخلاقيات التطبيقيّة" التي تَعاظم الاهتمام بها في أوّل الأمر في الولايات المتّحدة الأميركية لتنتقل إلى العالم الغربي ومنه إلى العالم بأسره، وتُسمّى أيضاً ''الفكر الأخلاقي الجديد''. فالأخلاقيات التطبيقيّة في نهاية الأمر تبتغي البحث عن صيغ أخلاقيّة جديدة بديلة لتغوّل عصر العلوم والتقنيّة وربط المعالجة تلك بمنظومة القيّم الإنسانية والأخلاقيّة، ما يعني تخليق الممارسة الإنسانيّة داخل أيّ حقل من حقول المعرفة والانحياز إلى كرامة الإنسان وآدميّته. وهناك مشاريع أخرى أعكف حالياً على إنجازها تتوزّع بين كتابة المقال والكتاب وسترى النور في المدى المنظور، فالنصّ بصورة عامّة يبدأ لديّ بفكرة قبل أن يصبح مُنجزاً حقيقيّاً، وهو الذي يختار قوالبه فيما بعد.

ربوح البشير: هل نستطيع أن نقول عن الكتابة النسوية في الجزائر وفي العالم العربي إنّها انتقلت من مستوى النضال الحقوقي إلى أفق صناعة وعي نسوي فلسفي، نعتمد عليه في تأسيس رؤية فلسفية عربية؟

د. خديجة زتيلي: سؤال الكتابة النسويّة والكتابة بشكل عام في الجزائر وفي العالم العربي شائك وعويص، وربّما لا أكون مؤهّلة للإجابة عنه بشكل جيّد ودقيق، فهو يحتاج إلى أهل الاختصاص في حقول معرفيّة متعدّدة للإحاطة به، ويمكنني أن أضيف أنّ توفير الإجابة العلميّة والدقيقة تحتاج إلى مشروع جادّ واضح المعالم تُشرف عليه مؤسّسة علميّة وثقافيّة ما، تستند فيه على الإحصائيّات والدراسات والمؤتمرات والندوات لتصل إلى الإجابة المعقولة والمنطقيّة في سبيل القيام بعمل مُتكامل يمكن أن يعود إليه، من الناحية ''التأريخيّة''، النشء الجديد والجيل القادم كما تفعل الدول المتقدّمة التي تعتني بتاريخها وتصون مُنجزاتها، والأهمّ في الأمر ضرورة أن يُشرف على هذه العمليّة أناس من جميع التخصّصات العلميّة والمعرفيّة، يكونون أكفاء وشغوفين بالبحث النزيه. هذا بالنسبة إلى الكتابة النسويّة بشكل عام، أمّا عن الكتابة الفلسفيّة النسويّة في الجزائر وفي العالم العربي بصورة عامّة فيمكن أن أدلو بدلوي في الموضوع مع التنبيه إلى أنّ كلامي يظلّ وجهة نظر فيه ليس إلا.

كانت الكتابات النسائيّة/النسويّة في أوّل الأمر مطلبيّة ترتكز أساساً على مسألة الحقوق والواجبات وقد طرحت الكاتبات من خلالها قضيّة تعليم الفتيات وقوانين الأحوال الشخصيّة والمساواة الاجتماعيّة بين الجنسين ومشاركة النساء في العمل والبناء الاقتصادي للأسرة والدولة، وألّا تقتصر أدوارهنّ على الوظائف التقليديّة المتعلّقة بأشغال البيت وإنجاب الأطفال وحسب. ولكنّنا نلاحظ أنّه بفضل التحصيل العلمي الذي يتقدّم يوماً بعد يوم، تمرّ الكتابة النسويّة اليوم نحو صناعة وعي نسوي فكري وفلسفي، وإنْ كان ذلك بخطى بطيئة، ما يجعل صورة هذا الوعي غير مكتملة وتوصيفه بكونه ما يزال في حداثة عهده، قياساً إلى ما كُتِب وما تمّ إنجازه وما تمخّض عنه الوعي إلى حدّ الساعة. ويجب الاعتراف، في هذه العجالة، إلى فارق بين منسوب هذا الوعي المحلّي، إن جاز لنا هذا التعبير، وبين نظيره في البلدان العربيّة التي سبقتنا ببعض الخطوات فيه، كما هو الحال في مصر ولبنان على سبيل المثال لا الحصر، ويعود هذا لأسباب تاريخيّة مُتعلقّة على صعيد أوّل بالثورات وتواريخ الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي، وتفاصيل أخرى يضيق المقام عن الخوض فيها. إنّ رحلة ألف ميل ''نحو الوعي الفلسفي'' تبدأ بخطوة واحدة، ونحن ما نزال في الخطوات الأولى بلا شكّ، ولكنّ الأكيد أنّ الانطلاقة قد تمّتْ، والنتيجة تُقاس بالعمل الدؤوب والنوعي والمتواصل في المدى المنظور والبعيد، ولا مفرّ من الصبر والاجتهاد، وأن تبقى عيوننا على المستقبل أملاً في المشاركة في بناء الإنسان والحضارة.

ربوح البشير: إذا كانت الفلسفة في الوطن تشهد نوعاً من الحركيّة، خاصّة على مستوى الجمعيات والمؤسسات العلمية كمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، والكتابات الفكرية ذات الطابع الجماعي التي تنهمر علينا في كلّ لحظة، فكيف تقرأ باحثتنا هذه الظاهرة؟

د. خديجة زتيلي: لقد اسْتبشرنا خيراً بميلاد الجمعيّة الجزائريّة للدراسة الفلسفية في صائفة عام (25 جوان 2012)، واغْتبطنا بعد أن تحوّل هذا الحلم، الذي راود الكثير قبلنا، إلى حقيقة فعليّة. وطيلة السنوات الأربع الماضيّة من عمر هذه الجمعيّة الفتيّة تمّ تحقيق الكثير من المنجزات والمشاريع بين ندوات علميّة وملتقيات فكريّة ومؤتمرات وطنيّة ودوليّة، في كامل ربوع الوطن، كما تمّ إنجاز مجلّة فكريّة تصدرها الجمعيّة الجزائريّة للدراسات الفلسفيّة بانتظام كلّ سداسي، تستكتبُ فيها المهتمّين بالفكر بشكل عام وبالشأن الفلسفي بشكل خاصّ من داخل الوطن وخارجه، وقد صدر منها إلى حدّ كتابة هذه السطور ستة أعداد، كما أنّ الجمعيّة حملتْ على عاتقها مهمّة إصدار ونشر بعض الكتب لزملاء كتّاب وباحثين، وطبع أعمال الملتقيات العلميّة التي أشرفتْ عليها، وقد بلغتْ مجمل إصداراتها ثمانية أعمال، وهناك أعمال أخرى ما تزال قيد الطبع، ومن الأهميّة بمكان أن نذكّر هنا بالأصداء الطيّبة لكلّ هذا الزخم الفكري لدى المثقّفين عامّة، وحتى عند جيراننا خارج حدود الوطن وفي بعض البلدان العربيّة الأخرى.

وفي تصوّري قد تُسوّغ هذه النتيجة تَثْمين هذه الجهود والإشادة بها وتشجيعها، مع الاعتراف، في الوقت نفسه، أنّ ثمّة بعض النقائص في تلك المجهودات لا يمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها، ولا غرابة في ذلك لأنّ أيّ مجهود بشري لا يمكنه أن يكون مكتملاً بشكل مطلق ودفعة واحدة، ولعلّ المرحلة القادمة تستدعي استدراك بعض الهفوات والتعلّم من بعض الأخطاء الماضية وتجويد الأعمال. أمّا فيما يتعلّق بسؤالك عن ظاهرة ''الكتابات الفكريّة التي تنهمر علينا في كلّ لحظة'' على حدّ توصيفك، فنحتاج بشأنها إلى قراءة مُتأنيّة مُستبصره آخذة بعين الاعتبار التاريخ وعهدنا الحديث بالاستقلال الوطني وقلّة الإنتاج الفكري فيما سبق، وطبيعة هذا النتاج، وحداثة الجامعة الجزائريّة قبل أن نُصدر أيّ أحكام تعسفيّة ومُقتطعة من سياقاتها التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، يجب أن يحدث التراكم المعرفي أوّلاً حتى يتسنّى لنا التوصيف والتصنيف، فالتاريخ لا يرحم بهذا الشأن وهو الذي سيتولّى أمر ذلك. إنّ تشجيع الباحثين الشباب على الإنجاز والنشر هو ظاهرة صحيّة، في نظري، لتواصل الجهود بين الأجيال بعد غياب الجيل المؤسّس، صحيح أنّه ''ليس كلّ ما يلمع ذهباً'' كما يقول المثل، ولكنّ المسيرة يجب أن تستمرّ ويستمرّ معها الإنجاز الذي لا شكّ أنّه سيستفيد، في كلّ مرّة، من التراكمات الماضيّة ويحاول تجاوزها.

ربوح البشير: هل من الممكن أن نتحدث عن مصير الفلسفة في الجزائر خاصة، وفي الوطن العربي عموماً، هل امتلكت الفلسفة موقع قدم في الفضاء الثقافي العربي أم أنّها ما زالت تراوح مكانها وتعيش داخل أسوار المؤسسات المختلفة؟

د. خديجة زتيلي: سواء أكان ذلك في الجزائر أو في الوطن العربي فالفلسفة تُواجهها تحديات كبرى، فابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين خطتْ الفلسفة خطوات كبيرة ومهمّة في التعاطي مع قضايا علميّة وإنسانيّة وأخلاقيّة شائكة، وأقبلتْ على مواضيع أفرزتها الثورة التقنيّة الجديدة والتقدّم الكبير للوسائط المعلوماتيّة الجديدة، ومن الواضح جدّاً ضمن هذا السياق أنّه تمّ تراجع الفلسفة النظريّة وانحسار الفلسفات النسقية الكبرى، التي كانت باسطة نفوذها في الماضي، وخاصّة في القرنين الماضيين، لصالح قضايا فكريّة جديدة تكتسح العالم بأسره في ظلّ عولمة شاملة له. وقد أدركتْ المؤّسّسات التعليميّة والجامعات أهميّة وضرورة الانخراط في هذا التغيير فراحت تُعدّل من برامجها التعليميّة ومن المواد التي يتمّ تدريسها للطلاب. والجزائر والعالم العربي عليهما مجاراة ما يجري في الكون وإيجاد موطئ قدم لهما فيه من أجل المساهمة في حوار إنساني وعالمي شامل. ولكن هل يمكن أن يتمّ ذلك بسهولة من الناحيّة الفعليّة في ظلّ الأوضاع العربيّة المزرية وتمزّق الأوطان وتشتّت الإنسان وضعف التعليم وانعدامه أحياناً؟ هل يمكن ذلك ومعظم الجغرافيّات العربيّة تتعرّض إلى انتهاك صارخ يستبيح الأعراض والمؤسّسات والمدارس والجامعات بشكل بشع وغير مسبوق في التاريخ الإنساني؟ فقد بات الإنسان العربي اليوم المتعلّمّ منه وغير المتعلّم على حدّ سواء، في ظلّ هذا الخراب المحيط به من كلّ جانب، لا يحلم إلا بالغذاء والبقاء على قيد الحياة والأمل، وانتظار غدٍ أفضل خالٍ من الكوابيس والفظاعات، وعود على بدء فإنّ الفلسفة في البلدان العربيّة تواجهها في الوقت الراهن تحديّات كبرى أكثر من أيّ وقت مضى، وربّما رهانها الأساسي، في ظلّ كلّ ما قيل، أن تصمد ولا تغادر أسوار ما هو موجود من المؤسّسات والجامعات، على الأقلّ، لعلّها تجد نفحة حياة جديدة في ظلّها.

ربوح البشير: كيف لنا أن نجعل الفلسفة قادرة على مواكبه المتغيرات التي تحدث في ربوعنا ومن حولنا؟

د. خديجة زتيلي: يقول الفيلسوف الألماني هيجل في ختام تصديره لكتابه أصول فلسفة الحقّ: «يبدو أنّ الفلسفة تصلُ متأخرة أكثر ممّا ينبغي بالنسبة إلى هذه المهمّة. فهي بوصفها ''فكرة'' العالم لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عمليّة تطوّره»، إشارة منه إلى أنّ الفلسفة تأتي عقب أحداث التاريخ وتحوّلاته الجذريّة والعميقة، وأنّها تقوم في هذه الأثناء بتحليلها. مُضيفاً عطفاً على ما سبق «إنّ بومة مِنيرفا Minerva - [الإلهة منيرفا هي إلهة الحكمة عند الرومان] - لا تبدأ الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سُدوله»، فالفلسفة تتحرّك بعد أن تنتهي الأحداث التاريخيّة، وعندها تتولّى تحليل تلك الأحداث وتفسيرها وفهمها في ظلّ الواقع الشامل.

فعلى مدار عقود طويلة من التاريخ تَعَلَمْنا أنّ الفكر الإنساني لا يظلّ كلّ الوقت صامتاً إزاء مصائره، ما يستدعي القول إنّ الفلسفة في ربوعنا ستتفاعل مع الأحداث، ومع الثورات والحروب وكلّ أشكال المقاومة، ولن تصمت في ظلّ هيمنة الأنظمة الإمبرياليّة والاستبداد في شتىّ صوره، ستتحدثُ الفلسفة مع قرع طبول الحرب وانهيار الإنسانيّة وتغوّل العلوم والتقنية. ولذلك يجب ألّا نفاوض على استمرارها وبقائها من عدمه، لأنّ الجدال في هذا الأمر عقيم وغير مستساغ، بل أن نبحث عن سبل الخلاص إليها وأن نطلقها من وثاقها ونشجّع الطاقات الحريصة على ديمومتها، أن نفعّل الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا ونشجّع على الإقبال عليها، وأن نخصّص ميزانيات وجوائز سنويّة للمبدعين فيها، وأن نشجّع كثيراً فئة الشباب الموهوب الذي يرومها، وأن نؤسّس مراكز بحوث فيها مستقّلة عن الجامعة إذا أمكن ذلك، فلا تتطوّر الشعوب إلا بتقدّم الفكر فيها، وتربّع الفلسفة على مركز الصدارة.