خريف العصور الوسطى: كيف عالج مارتن لوثر مرض العصر؟


فئة :  مقالات

خريف العصور الوسطى: كيف عالج مارتن لوثر مرض العصر؟

خريف العصور الوسطى[0]:

كيف عالج مارتن لوثر مرض العصر؟


في أواخر العصور الوسطى كان هناك موضوع كبير يرعب الناس، هو: موضوع الموت. فقد كان حاضراً في كل مكان، ويخيّم على عتبة البيت باستمرار، بل إن الإنسان كان يعيش فقط لكي يموت. كانوا ما إن يقبروا شخصاً ويعودوا إلى البيت، حتى يجدوا أباه أو أخاه أو أمه قد مات أيضاً. فيعودون مرة أخرى للحفر والقبر، وهكذا دواليك. وقد حصل ذلك بشكل خاص أثناء الطاعون الأسود الذي اكتسح أوروبا بين عامي 1346-1353. ويقال بأنه حصد ما لا يقل عن 25 مليون شخص؛ أي حوالي نصف سكان أوروبا في ذلك الزمان. وما كانوا يملكون الوقت الكافي لكي يقبروا كل الناس. فقد كانوا يتساقطون زرافات ووحداناً، إلى درجة أنه لم يعد هناك أحدٌ عائشاً في القرية لكي يقبر أحداً! هكذا كان الخوف من الموت يلاحق الناس ولا يجعلهم يستمتعون بالحياة، على فرض أنه كان عندهم شيء لكي يستمتعوا به. كانت هناك طبقة الأقلية المترفة من الإقطاعيين الأرستقراطيين وكبار رجال الدين، وأما معظم الناس فكانوا يتخبطون في فقر أسود. وفي نهاية القرن الثالث عشر، شاع في إيطاليا موضوع "الموتى الثلاثة والأحياء الثلاثة". وملخص القصة، أن ثلاثة من شباب النبلاء الإقطاعيين التقوا في طريقهم، وهم يسرحون ويمرحون ثلاثة من الموتى الذين عضّهم الدود ونخر أجسادهم. وراح الموتى يقصون على الأحياء قصة حياتهم وكيف كانوا هم أيضاً من أعيان الطبقة الغنية المترفة وكيف انقلبت أحوالهم، وماذا حلَّ بهم بعد الموت. وقالوا لهم: لا تفرحوا كثيراً بهذه الحياة الدنيا ولا تغتروا؛ فمتاعها سريع الزوال وسوف تلحقون بنا عما قريب. ويقال بأن هذه القصة كانت تعجب الفقراء كثيراً، لأنها تدل على أن الأغنياء أيضاً يموتون وأن جميع الناس يتساوون أمام الموت. ويقال إنه في الفترة التي سبقت ظهور لوثر مباشرة، فإن الرسامين والنحاتين كانوا يلحون كثيراً على موضوع صلب المسيح وعذابه أكثر مما يلحون على أي شيء آخر في الوجود. ويبدو أن فترة الخوف الكبير التي أحاقت بالغرب هي تلك الفترة التي تموضعت بين عامي 1348-1660؛ أي من منتصف القرن الرابع عشر وحتى منتصف القرن القرن السادس عشر؛ فقد انهالت الكوارث والويلات على البشرية الأوروبية من كل حدب وصوب. نذكر من بينها الطاعون الأسود كما قلنا، هذا بالإضافة إلى البرص والأوبئة الأخرى. وهناك الانتفاضات والثورات المتكررة من بلد إلى آخر...ولا ينبغي أن ننسى قطاع الطرق واللصوص. وهناك حرب المائة عام بين الإنكليز والفرنسيين، وهي أطول حرب شهدتها أوروبا في كل تاريخها. وهناك الزحف التركي الذي أخاف الأوروبيين كثيراً في تلك الفترة، حتى وصلت جحافلهم إلى أبواب فيينا. وهناك الفتنة الكبرى بين المسيحيين، فضيحة الفضائح. فقد انقسموا إلى قسمين وأصبح لهم بابوان لا بابا واحد! وهناك أخيراً لا آخراً الانحطاط الأخلاقي والروحي للبابوية وعموم رجال الدين الذين لا يبحثون إلا عن إشباع شهواتهم في الوقت الذي ينهون فيه الناس عن اتباع الشهوات!

  إن الرسامين والنحاتين كانوا يلحون كثيراً على موضوع صلب المسيح وعذابه أكثر مما يلحون على أي شيء آخر في الوجود

في مثل هذه الفترات العصيبة، يفقد الناس صوابهم عادة، ويشعرون بالحاجة للاستعصام بأي شيء لكي يحميهم ليس فقط من عذاب هذه الدنيا ونوائبها، وإنما أيضاً من عذاب الآخرة. ولذلك كانوا يلتجئون إلى العذراء والقديسين والأولياء الصالحين لكي يتشفَّعوا لهم يوم القيامة. وكانوا يلوذون بهم أيضاً لكي يحلوا مشاكلهم في هذه الحياة الدنيا. كانوا يتوسلون إليهم لكي يشفوا لهم أطفالهم من المرض، أو لكي يسرعوا بزواج بناتهم العانسات، أو لكي يحسِّنوا لهم مواسم القمح والذرة، إلخ... وفي تلك الفترة نشر أحد كبار الكتَّاب المسيحيين كتاباً بعنوان: "معجزات سيدتنا العذراء" ولقي نجاحاً منقطع النظير لدى الجمهور المتدين البسيط. والناس كانوا كلهم متدينين آنذاك. فقد صورها، وهي تحمي بمعطفها الواسع كل الفقراء والمصابين والمحتاجين. وتبجيل العذراء قاد الناس إلى تبجيل أمها حنَّة التي أصبحت بدورها قديسة مبجَّلة في البلدان الألمانية خصوصاَ. ومن المعلوم، أن إيراسم ولوثر كانا في شبابهما الأول من الأتباع المتحمسين للقديسة حنَّة. ويبدو أن تبجيل القديسين والقديسات لم ينتشر في المسيحية الأوروبية، مثلما انتشر في أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر. فقد كان الناس يتسابقون على رفات القديسين (أضرحتهم) أو بقاياهم أو ثيابهم أو أي شيء يخصهم. فلمس هذه الأشياء أو التبرك بها يؤدي إلى منافع عظيمة لا تعد ولا تحصى. كان الناس يعتقدون أنه يكفي أن ينظر المرء في حياته مرة واحدة إلى صورة القديس "كريستوف" أو أحد تماثيله لكي ينجو كلياً من الموت المفاجئ عن طريق حادث. وأما القديس "روك"، فكان قادراً على أن يحميك من مرض الطاعون إذا ما تشفعت به وأخلصت له الولاء. وأما القديسة "بولين"، فكانت تشفي من مرض الأسنان!... هكذا نجد أن لكل قديس اختصاص معين، وقد توزعت الاختصاصات على مختلف أنواع القديسين.

  تبجيل القديسين والقديسات لم ينتشر في المسيحية الأوروبية، مثلما انتشر في أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر

ويرى المؤرخ المختص جان ديلومو أن القديسين لم يكونوا يحمون الناس فقط في هذه الدنيا من الحوادث والأمراض، وإنما كانوا يقدمون لهم أيضاً الضمانات في الدار الآخرة. كانوا بمثابة "شركات التأمين" التي توفر لك الحماية حتى فيما بعد الموت. وبالتالي، فإن تعظيم آثارهم، وبخاصة آثار يسوع والعذراء (وهما أعلى شيء في المسيحية) يتيح للناس أن يكسبوا صكوك الغفران. وقد لقيت هذه الصكوك في أواخر القرون الوسطى نجاحاً منقطع النظير. فقد أصبح المذنب يستطيع أن ينجو بجلده (أو بالأحرى بروحه) عن طريق شراء هذه الصكوك التي تبيعها الكنيسة للمؤمنين. بمعنى آخر، أصبحت تستطيع أن تشتري مكانك في الجنة أو حتى مكان أبيك أو جدك (الذي مات منذ زمن طويل) عن طريق دفع مبلغ معين من المال. ويحكى أن كريستوف كولومبوس، مكتشف أمريكا، قال يوماً: "إن الذهب هو الذخيرة والثروة التي لا ثروة بعدها. فمن يمتلكه يستطيع أن يشتري كل ما يشتهيه في هذا العالم، كما ويستطيع أن يشتري أماكن له ولأهله في الجنة". هكذا أصبح الإيمان يشترى ويباع بالفلوس. ومن المعلوم أن هذه المسألة الحساسة كانت هي الشرارة الأولى التي أشعلت الثورة اللوثرية كما سنرى فيما بعد.

  الشعور العام السائد في تلك الفترة هو أن دمار الأرض ومن عليها قد أصبح وشيكاً. وعندما حصلت الفتنة الكبرى وانقسمت المسيحية الأوروبية إلى قسمين

في مثل هذه الظروف العصيبة والمرعبة راح الناس يتوقعون نهاية العالم قريباً. ويجمع المؤرخون على القول بأن الخوف من يوم القيامة أصبح يتزايد أكثر فأكثر، بدءاً من القرن الرابع عشر. فقد شاع جو من التشاؤم الأسود ولفَّ الجميع بوشاحه. ويعبِّر عن ذلك أفضل تعبير الداعية المسيحي "جيلر" الذي كان يخطب في كاتدرائية ستراسبورغ، ويقول للناس: أيها الناس، إن أفضل شيء يمكن أن تفعلوه هو أن تقبعوا في بيوتكم، وأن تتقيدوا بالأوامر الإلهية، وأن تفعلوا الخير لكي تنالوا مرضاة الله[1]. فقد اقتربت الساعة، ولم يعد بيننا وبين يوم الحساب إلا وقت قليل. ويرى "جيلر" أنه لم يعد هناك أي أمل في تحسين الجنس البشري، وبالتالي فإن نهاية هذا العالم الفاسد تشكل الحل الوحيد. وقد كتب المؤرخ الهولندي المعروف "جوهان هويزنغا"[2] يقول بأن الشعور العام السائد في تلك الفترة هو أن دمار الأرض ومن عليها قد أصبح وشيكاً. وعندما حصلت الفتنة الكبرى وانقسمت المسيحية الأوروبية إلى قسمين: قسم تابع لبابا روما الذي يدعمه الإنجليز، وقسم تابع لبابا أفينيون الذي يدعمه الفرنسيون، فإن الناس ظنُّوا أن ذلك يمثل علامة لا تخطئ على أن يوم الحساب قد أزف. وكان الناس يخشون يوم القيامة كثيراً. لماذا؟ لأن "لقاء الله هولٌ دونه الهول" كما يقول ابن الرومي. فمن يستطيع أن يقول بأنه سيكون من الناجين في الدار الآخرة؟ من يستطيع أن يتنبأ سلفاً بأنه سيكون من أهل الجنة؟ الجميع كانوا يخافون ويرتجفون كالقصبة كلما اقترب يوم الحساب. نقول ذلك وبخاصة أن صورة التألُّه في القرون الوسطى كانت تدعو للخوف والرهبة. واليوم الآخر هو يوم الغضب والحساب والعقاب. ويقال بأن ملك فرنسا لويس الحادي عشر شعر بالرعب، عندما اقتربت منيته ولم يعد يعرف ماذا يفعل. وهكذا نجد أنه حتى الملوك الجبابرة يخشون تلك اللحظة ما إن ترتسم في الأفق فما بالك بعامة الشعب والبسطاء؟ ويقال بأنه، وهو الملك الجبار، راح يجمع رفات القديسين ويتمسَّح بهم ويشتري صكوك الغفران من كل حدب وصوب لكي ينجو بروحه، أو لكي يسهِّل عليه ذلك لقاء الله (سوف أتوقف هنا لحظة لكي أقول بأن الأوروبي الحديث لا تعنيه هذه المسألة من قريب أو بعيد على عكس سلفه الأوروبي الذي عاش في القرون الوسطى. وهنا تكمن القطيعة الإبستمولوجية (أو المعرفية العميقة) بين عقلية العصور الحديثة/ وعقلية العصور القديمة. هنا يكمن الحزُّ الفاصل بين الفضاء العقلي القروسطي/ والفضاء العقلي للحداثة) يقول أحد شعراء تلك الفترة في قصيدة جنائزية شديدة الإيمان والدلالة:

"يا له من رعب بالنسبة للمذنب

عندما يقف ربنا

لكي يحاسب المذنبين بكل صرامة

واحسرتاه، أي عذر يمكن أن نتعلَّل به؟

وأي قديس يمكن أن أتشفَّع به أنا الفقير الضعيف؟

ففي ذلك اليوم حتى القديسين يرتجفون خوفاً أمام الله...

يا له من يوم مهيب تقشعرُّ له الأبدان

حيث ينهض الميت من نعشه

لكي يُحاسَبَ على تعجرفه وغروره".[3]

وفي أدبيات تلك الفترة كان الإنسان يبدو وحيداً أمام قدره ومصيره، كان يمثل وحيداً أمام ربه. ويا لها من لحظة رهيبة تفوق كل اللحظات، حيث لا من معين ولا من أخ ولا من صديق. فلا العذراء تحميه ولا القديسون يهرعون لنجدته.

  لوثر الذي كان مرعوباً طيلة النصف الأول من حياته، أصبح هو الذي يطمئن الناس الآن: "طبيب يداوي الناس، وهو عليل"

في مثل هذه اللحظات، جاء لوثر بعقيدته المشهورة التي تتلخص بـ: التبرير عن طريق الإيمان. وكانت أكبر جواب على القلق المرعب لتلك الفترة المظلمة من حياة البشرية الأوروبية. فلوثر الذي كان مرعوباً طيلة النصف الأول من حياته، أصبح هو الذي يطمئن الناس الآن: "طبيب يداوي الناس، وهو عليل"! فبعد أن خرج من مرضه أو تغلَّب على عقدته النفسية القاتلة، أصبح أقوى قوة في العالم. من المعروف أن الأشخاص المجروحين في العمق عندما يتغلبون على جرحهم بعد نضال شديد، يتحولون إلى جبابرة، إلى قوة لا تقاوم ولا ترد. هكذا أصبح مارتن لوثر هو المسؤول عن شفاء العصر بعد أن نجح أولاً في شفاء نفسه. وهكذا، نهض لكي يقدم للمسيحية الأوروبية العلاج الذي تبحث عنه دون أن تجده. قال لهم لوثر بما معناه: لا تخشوا الجحيم ولا تخافوا من يوم الحساب. فالله ليس قاضياً صارماً مرعباً كما تتوهمون، وإنما هو رحمان رحيم، غفورٌ كريم. ومهما فعلتم فأنتم مذنبون، وستظلون مذنبين طيلة حياتكم كلها. ولكن إذا ما آمنتم بالعناية الإلهية، اذا ما عمر الإيمان قلوبكم، فإن الله سيغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر. وسوف تحظون برضوان الله ونعيمه. ثقوا بالله وبإيمانكم... وإذن الإيمان أولاً، الإيمان الذي ينبثق من القلب كما ينبثق الماء من الصخر، كما ينبثق العشب في الأرض البوار. إنه الإيمان الذي يزحزح الجبال...

  مهما حاول الإنسان أن يتحاشى الذنوب، وحتى لو أدى الفرائض كلها وما هو أكثر، فإنه سيظل مذنباً

إذا ما حاولنا أن نترجم هذا المقطع إلى اللغة المعاصرة، قلنا بأن لوثر ينطلق من النقطة الأساسية التالية: الشرط البشري منغمس بالذنب والخطيئة لا محالة. ومهما حاول الإنسان أن يتحاشى الذنوب، وحتى لو أدى الفرائض كلها وما هو أكثر، فإنه سيظل مذنباً. لا يوجد شخص على وجه الأرض إلا وارتكب خطيئة معينة. بالطبع، فهناك أشخاص مجرمون أو سفاحون يرتكبون الجرائم عن قصد أو ينهبون البشرية أو يؤذون الناس كثيراً، وهؤلاء لا يتحدث عنهم لوثر.هؤلاء خارج قوس ولا مغفرة لهم. ولوثر لا يدعو الناس إلى ارتكاب الذنوب والجرائم! وإنما يدعوهم فقط إلى الثقة بالله ورحمته وغفرانه. بالطبع، ينبغي أن يبذلوا كل جهودهم لفعل الخير وتحاشي الشر. ولكن إذا ما قصروا غصبا عنهم أو أذنبوا وأخطأوا، فإن الله لن يعاقبهم ما دامت نواياهم طيبة ومقاصدهم سليمة. المهم المقصد أكثر من العمل ذاته. هذا هو الإيمان الجديد الذي جاء به لوثر، والذي يختلف كليا عن إيمان القرون الوسطى المرعبات. هنا يكمن اكتشافه اللاهوتي الكبير الذي جعل منه أكبر مصلح في تاريخ المسيحية الأوروبية. لقد جلب الطمأنينة والسكينة للبشرية الأوروبية التي كانت مرعوبة إبان العصور الوسطى كما شرحنا على مدار هذه الدراسة. لقد شفاها من الهلع، من القلق القاتل بعد أن شفا نفسه أولا. بالطبع، لوثر يتحدث فقط عن الإنسان في الحالة العادية؛ أي الإنسان الذي يرتكب الذنوب الصغيرة دون أن يدري، أو هو مضطر إلى ذلك. فالحياة تجبره على الذنب. وما دام يتنفس، فسوف يظل يرتكب الذنوب: كأن يحسد جاره على جاه أو ثروة، أو كأن يشتهي امرأة جميلة غير امرأته، أو كأن يكذب كذبة صغيرة لا تضر كثيراً، أو كأن يتمنى الضرر (في قلبه) لشخص آخر ناجح أكثر منه... كل هذه الذنوب يغفرها الله، لأنها مرتبطة بالشرط البشري، والإنسان ليس قديساً وليس ملاكاً، وإن كان هناك أناس مثاليون يقتربون أحياناً من مرتبة القداسة. ولكن حتى هؤلاء، فإنهم يذنبون أيضاً.لا عصمة لبشري على وجه الأرض اللهم إلا للأنبياء. وبالتالي، فإذا كان الله سيحاسب الناس على كل صغيرة وكبيرة، فإنه لن ينجو أحد من عقابه، ولن يدخل أحدٌ جنته. وهذا غير ممكن.

  كان لوثر مضطراً لتغيير الصورة القروسطية المشكَّلة عن الله. وهنا يكمن اكتشافه الكبير. فهذه الصورة عن الله كانت مظلمة، عابسة، مكفهرة، لا تساعد الإنسان على الابتسام والأمل

ولكن لكي يرسخ لوثر تصوره اللاهوتي الجديد هذا، فإنه كان مضطراً لتغيير الصورة القروسطية المشكَّلة عن الله. وهنا يكمن اكتشافه الكبير. فهذه الصورة عن الله كانت مظلمة، عابسة، مكفهرة، لا تساعد الإنسان على الابتسام والأمل، بل إنها ترعب الإنسان وتشلُّه شللاً عن العمل والأمل. وهنا يكمن الداء الكبير لعصره بحسب تشخيص الدكتور لوثر. والواقع أن العصور التالية ما فعلت إلا أن عمَّمت تشخيص لوثر، وأدّت إلى إحداث أكبر انقلاب في التاريخ: أي الانقلاب على الصورة القروسطية للإيمان والتديُّن. هذا الانقلاب هو الذي شحن البشرية الأوروبية بالأمل والتفاؤل والقدرة على التغيير. إنه هو الذي فجَّر طاقاتها وجعلها تنتصر على نفسها وتنخرط في أكبر مغامرة شهدتها البشرية: مغامرة الحداثة وتحرير الشرط البشري على كافة الأصعدة والمستويات. ولهذا السبب، ربط بعضهم بين البروتستانتية والرأسمالية (انظر ماكس فيبر). فقد أصبح الإنسان مبرَّراً، أصبح الربح حلالاً ومشروعاً إذا كان ناتجاً عن عمل وجهد. باختصار: لم يعد الإنسان مذنباً أو مداناً بشكل مسبق إذا ما انخرط في هذا العالم وحاول تحسين وضعه المادي أو الاستمتاع بمباهج الحياة الدنيا. هكذا حصل الانقلاب الكبير على لاهوت العصور الوسطى المظلم المرعب. ولكن هذه العملية لم تحصل بسهولة، وإنما استغرقت من عمر البشرية الأوروبية مدة مائتي سنة على الأقل.


[0]- هذا البحث استمد مادته الأساسية من كتاب المؤرخ الفرنسي الشهير جان دوليمو: الخوف في الغرب

منشورات هاشيت، باريس،2003، وبالتالي فيمكن اعتباره عرضا له وان كان قد اعتمد على مراجع أخرى.

Jean Delumeau :La peur en Occident.Hachette.

[1]- انظر كتاب جان ديلومو المذكور سابقا: 'الخوف في الغرب" ص 198

- Jean Delumeau: La Peur en Occident , P. 198

[2]- انظر كتابه الشهير: خريف العصور الوسطى.منشورات بايو،باريس، 1989

ومنه استعرنا عنوان هذه الدراسة

Johan Huizinga :L’automne du Moyen Age.Payot.Paris.

[3]- انظر كتاب جان ديلومو: "ولادة الإصلاح الديني وترسخه في أوروبا"، باريس، 1968

- Jean Delumeau: Naissance et affirmation de la Réforme. Paris, 1968, P. 55.