خصائص القرآن الكريم


فئة :  أبحاث عامة

خصائص القرآن الكريم

1.خصائص القرآن الكريم عديدة، وقد بينها المفسرون لغة وأدبا ونحوا وبلاغة وإعجازا في مختلف المجالات، وهي خصائص تتعدد بتعدد وتنوع المطلعين وليست قابلة للحصر لأن بنائية القرآن (مطلقة)، فنحن هنا نأخذ فقط بالخصائص التي تهمنا فيما يختص باستمرارية القرآن العصورية وحفظه ومستقبلتيه.

2.القرآن يحمل في ذاته (وحيا كاملا) يستجيب لما كان من ظرف تاريخي خاص بمرحلة (الأميين) ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32)- سورة فاطر / الجزء 22).

3.خصائص الوحي الكامل أنه علوم متعددة تحيط بأوضاع الغيب والإنسان والطبيعة ويمكن الحديث عن أربعة عشر علما منها، تغطي كافة مسائل الوجود الكوني وحركته وغاياته، فالقرآن بتبسيط شديد هو الوعي المعادل موضوعيا للوجود الكوني وحركته: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) -(الحجر/ج14/ي87) والمثاني السبع سموات والسبع أرضين: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) – (سورة الطلاق/ج28 /ي12).

4.من خصائص (الاستمرارية) في القرآن أنه:

1.مجيد لا يبلى مع متغيرات الزمان والمكان: (بل هو قرآن مجيد (12) في لوح محفوظ (22) -سورة البروج/ج30).

2.كريم بمعنى تجدد العطاء: (إنه لقرآن كريم).

3.مكنون قابل لأن يتكشف عن جديد: (في كتاب مكنون).

الصياغة الكلية تماثل في البنائية مواقع النجوم الضابطة للحركة الكونية والمتبادلة التأثير بحيث ضبطت مواقع الحروف فيه فأصبح (كونا -كتابا) ممنهجا بوحدة عضوية كلية حية من فاتحته إلى معوذتيه تستمد منه معرفة المكنون بالكرم الإلهي حين يخالط-يمس الوعي:(فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وأنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون(79) -سورة الواقعة/ ج 27).

قارن الفرق بن العقلي والوجداني واللمس العضوي بمراجعة الآية:(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) -(سورة الأنعام/ج7/ي7).

خلاصة أولى:

إذن، فالقرآن كتاب يحمل في بنائيته المنضبطة كمواقع النجوم والمتبادلة التأثير ضمن وحدته العضوية وحيا كاملا يستجيب للظرفية والاستمرارية، متكشفا عن مكنونه، كريما بعطائه، مجيدا لا يبلى مع متغيرات الزمان والمكان، معادل في وعيه موضوعيا للوجود والحركة الكونية كيفما احتوت السبع سموات والسبع أرضين.

لهذا لزم أن يرتبط القرآن بأمرين، الحفظ الإلهي فلا يزيف، والوحدة المنهجية العضوية في بنائية الكتاب بحيث ينطلق من ظرفية (الأميين) المنصوص عنها في سورة الجمعة وإلى (العالمية) المنصوص عنها في سور (التوبة والفتح والصف).

4. خاصية الحفظ الإلهي للقرآن أنه متنزل في الأرض (المحرمة) بما يميزه عن الكتب المتنزلة في الأرض (المقدسة)، ولهذا أنطق الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليربط ما بين الأرض المحرمة وتلاوة القرآن: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) -سورة النمل/ج20). وحرمة المكان وليس قدسيته فقط إنما ترتبط بالعزة الإلهية حيث تضفي على الكتاب: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وأنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42) -سورة فصلت/ج24). أما التوراة والكتب المقدسة الأخرى فإنها قابلة بحكم تنزلها خارج الأرض (المحرمة) لأن يختلف فيها، ولهذا نصت آية لاحقة في نفس السورة على المختلف عليه في التوراة: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب) -(فصلت/ي45). أما الكلمة الإلهية في هذا الشأن فهي إشارة إلى التمييز بين التنزيل المحرم (القرآن) والتنزيل المقدس (التوراة) وبما أن المحرم مهيمن على المقدس فقد حفظ الله -سبحانه- كافة أنواع الذكر السابق من توراة وإنجيل في صلب القرآن، فيصبح الذكر التوراتي محفوظا بالقرآن والذكر الإنجيلي محفوظا بالقرآن: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)-(المائدة/ ج6/ي 48).

وهكذا يصبح الذكر كله –من التوراة وإلى الإنجيل- محفوظا بالهيمنة القرآنية على تلك الكتب، ولهذا جاء حفظ الذكر كله مطلقا (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)-(سورة الحجر/ج14/ي9)،وجاء الحض الإلهي لنا للتواصل مع أهل الذكر من قبلنا استنادا إلى حفظ القرآن لذكرهم مهما اختلفوا فيه: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44) – سورة النحل /ج14)، فهنا تأكيد على نزول الوحي بالكتب السابقة لتأكيد الارتباط بين الوحي والتنزيل، وهو أمر يقره من سبقنا، وكذلك هناك تأكيد على اتخاذ القرآن مرجعا لضبط ما كان من وحي سابق (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم). ويرتبط التبيين بالتفكر وليس بالعصبية (ولعلهم يتفكرون) فالقضية تتحول هنا إلى معالجة القضايا التي اختلف فيها ضمن ما ورد من تنزيل مقدس سابق ويكون القرآن قد أوضح حكمها.

5.تتعلق هذه الخاصية بالوحدة المنهجية العضوية التي حكمت بنائية الكتاب حين إعادة ترتيب مواضع الآيات خلافا لما كان عليه الترتيب المتوافق مع أسباب النزول، فالقرآن قد تنزل بداية بسورة (العلق) في حراء، ثم تتابع السياق إلى آية التمام (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم)، وهذه موضعها في الجزء السادس من الآية رقم (3) في سورة المائدة. أما الترتيب المعاد فقد بدأ بالفاتحة وانتهى بالمعوذتين وهو إعادة ترتيب وقفي كان على رأسه الروح الأمين جبريل، وعلى ذلك نص القرآن: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (01) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102) -سورة النحل/ج14). فهنا يحدد الله -سبحانه-حالتين: قضت الأولى بالنزول طبقا للمناسبات، وهي حالة (تثبيت) الإيمان، وقضت الثانية بإعادة ترتيب الآيات لغاية مستقبلية (وهدى وبشرى للمسلمين) والبشرى هي دوما تشير إلى حالة مستقبلية اقتضت الخروج بنسق البنائية القرآنية عن التقيد بالأسباب الظرفية إلى المنهجية العضوية التي يتناولها –في كليتها-العقل المستقبلي ومن هنا يشرع في قراءة القرآن ككتاب موحد عضويا وممنهج بهذه الوحدة في بنائية هي كمواقع النجوم.

خلاصة ثانية:

أن القرآن يتمتع بخاصية الحفظ (المحرم) حافظا للكتب الأخرى (المقدسة) مصداقية ذكرها ومهيمنا عليها وغير قابل للتحريف، وإن بنائيته قد أعيد تشكيلها من بعد مرحلة النزول المنجم بتوجيه وقفي لتعطي للكتاب وحدته العضوية المنهجية اللازمة للوعي المستقبلي خارج ظرفية مجتمع الأميين، وبذلك يخرج القرآن من محلية أسباب النزول إلى عالمية بشرية متسعة يستجيب معها لمتغيرات الزمان والمكان واختلافات الأنظمة الفكرية والإيديولوجيات وهنا البشرى بالمستقبلية.

6.إن القرآن في تطلعه المستقبلي قد حدد منهاجا للهدى ودين الحق بما يمكنه من استقطاب كافة التيارات الفكرية والمذاهب والديانات والحالات الثقافية المختلفة: (يريديون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)-سورة التوبة / ج10).

وكذلك: (هو الذي أٍسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) -(الفتح/ج26/ي28). وكذلك: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9) – سورة الصف/ج28).

قد ندرك أن هذه الآيات تشير إلى ظهور مطلق للدين (ليظهره على الدين كله)، وهذه مرحلة لم تتحقق من قبل ولم تتحقق حتى الآن ولكن بإرادة الله -سبحانه- وعلمه، حيث نص على هذه الإرادة والعلم بحصر المرحلة السابقة من الانتشار الجغرافي للدين في أوساط الأميين العرب والأمين من غير العرب الذين يلحقون بهم: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم (3) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (4) –سورة الجمعة /ج28). فقد اختار الله الفضل للأميين، وحصر فيهم الانتشار الجغرافي البشري للإسلام ولكن دون مستوى الظهور الكلي الشامل الذي تنص عليه سور التوبة والفتح والصف، ثم هيأ الله -سبحانه-القرآن الكريم ببنائية جديدة على غير البنائية الظرفية للانطلاق نحو العالمية الشاملة أي كمنهاج للهدى ودين الحق، أي مرحلة البشرى المستقبلية كما نصت الآية (102) من سورة النحل. فليس ثمة تناقض بين التقييد الأمي والإطلاق العالمي وإنما هو تواصل جدلي تاريخي من الأمية إلى العالمية.

ملاحظة ثالثة:

يجب معرفة أن التطور من المرحلة الأمية المقيدة إلى المرحلة العالمية الشاملة لا يعني الثانية مرحلة منفصلة أو مستقلة عن الأولى وإنما هي سياق لها، أي لذات الرسالة ضمن متغير عالمي وحضاري مختلف، ففي كل آيات الظهور الكلي للهدى ودين الحق إنما يرجع الله بأصل الدين إلى رسوله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) فيبطل منطق القائلين برسالة ثانية أو ثالثة، كما يبطل منطق القائلين بخصوصيات دينية اجتهادية يمارسون بموجبها نوعا من الاستقلالية عن خاتم النبيين، وكذلك يبطل منطق العائدين إلى (وحدة الديانات الإبراهيمية) دون أن يكون مرجعهم القرآن الذي يحدد مواصفات هذه الإبراهيمية ويشخص توجهاتها. وقد حتم الله الأمر كتوريث عن الرسول في سورة فاطر (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).

ملاحظة رابعة:

في حالة التطور من المرحلة الأمية المقيدة إلى المرحلة العالمية الشاملة يثور سؤالان:

الأول: هل يعطي القرآن جديدا أمام إشكاليات الواقع البشري وفكرة مما لم يكن قد أعطاه في السابق وهو مقيد إلى ذات اللغة العربية وألفاظها التي استوعبتها التفسيرات المتداولة من قبل؟

الثاني: هل يمكن أن يعطي القرآن ما هو مختلف عما سبق له أن أعطاه بموجب التفسيرات السابقة؟

للإجابة على الحالتين نوضح التالي:

أولا): أنه بمقدور القرآن الكريم عطاء والمجيد ديمومة والمكنون معنى أن يتكشف عن مفاهيم جديدة تقابل إشكاليات الواقع المتغير ومفاهيمه، فهذه خاصية أثبتها الله للقرآن كما نص في تحقيقها على مبدأ التوريث. وفي هذا الإطار نقول إنه كما نكتشف في الأرض والفضاء الكوني نظريات جديدة بحكم تطور واختلاف مناهج وسبل معارفنا، كذلك فإن تطور مناهج النظر للقرآن من (تحليل) واستدراك لوحدته المنهجية العضوية يمكن أن تعطي منظورات جديدة. فالقرآن يماثل الكتاب الكوني كلما تغيرت مناهج البحث فيه تكشف عن مكونات جديدة.

ثانيا): إن ما يتكشف من مكنون القرآن وفق استخدامات المناهج المعرفية الجديدة لا يأتي بالضرورة (متناقضا) مع التفسيرات والاجتهادات التي بلورها السلف الصالح، وإنما هذا الذي يتكشف (كوجه آخر) لنفس المسائل والإشكاليات، فإذا أخذنا بمنطق (تحليل القرآن ضمن وحدته العضوية المنهجية) يمكن أن نخلص إلى أن (تعدد) الزوجات مثلا هو أمر مقيد بالزواج من الرحم في حالات اليتم كمخرج للقسط فيهم بعد رفض التبني كما في سورة الأحزاب، ورفض مساكنة أمهم كما في سورة يوسف، في حين أن نص التعدد يرد في سورة النساء، فمثلا هذا الفهم لا يلغي إطلاق التعددية كما كان عليه الأمر في الماضي، فيتعايش المفهومان المستمدان من نفس القرآن ولكن بوسائل معرفية مختلفة، فإن جنح الناس للتعدد المقيد كان لهم وجه من وجوه القرآن، وأن جنحوا للتعدد المطلق كان لهم وجه آخر، وهذه هي المرونة في كتاب قدره الله لكل البشر والحضارات، مخترقا كافة المذاهب و المفاهيم ودون أن يقصره بالتضييق ليكون حكرا على مفاهيم شمولية إجبارية كنوع الفلسفات الوضعية التي تبوتق الإنسان وتسره على نظرياتها.

هنا لا يصبح ثمة تعارض بين (ثبات) النص القرآني و (اختلاف) المفاهيم تبعا لاختلاف مناهج البحث والمعرفة.

كيف يؤسس القرآن للمجتمع المعاصر؟

في حالة التأسيس لأي مجتمع عالمي معاصر، وأيا كانت عقيدته، فإن الاهتمام يتجــه – بحكم شروط الوعي الراهنة - إلى موضوعات أساسية أهمها (المنهج) الذي تستخلص منه (نظرية المعرفة) والتي تشكل بدورها ضابطا للتوجهات و الممارسات، وبما أن شروط الوعي التاريخية السابقة في مبتدأ ظهور الإسلام لم تكن تحمل موضوعيا قدرات اكتشاف المنهج، بحكم أن العقلية كانت إما إحيائية أو ثنائية، فقد جسد الرسول الخاتم الموقر، صلى الله عليه وسلم، دور الوسيط بين القرآن والعقل العربي – الأمي، ومن هنا تتضح قيمة السنة النبوية الصحيحة كحالة تطبيقية ترتبط بمفهوم الاقتداء الذي ينوب عن اكتشاف المنهج ضمن واقع لا يستطيع إلا أن يتعامل مع القرآن مجزأ تبعا لوقائع النزول وبما يتناسب مع عقليته التي تفسر ولا تحلل. فالرسول صلى الله عليه وسلم، قد وازن في تطبيقات السنة النبوية ما بين المنهج من جهة وشروط الواقع العربي –الأمي-الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من جهة أخرى، فزاوج بين النسبي التاريخي والمطلق القرآني معطيا لتلك المرحلة وحييها الخاص بها من القرآن.

الآن يتجه التأسيس المعاصر إلى استخلاص المنهج مباشرة من القرآن عبر التعامل مع كلمة الكتاب ووحدته العضوية من بعد إعادة ترتيب الآيات، على أن يتم العبور إلى اكتشاف هذا المنهج بوعي تحليلي يربط بين كافة موضوعات القرآن، لا بهدف اكتشاف أو معرفة الأحكام ولكن بهدف معرفة (ما ورائية) هذه الأحكام وخلفياتها.

يشترط في كل منهج معاصر الآن أن يعطي خصوصيته على مستوى (نظرية المعرفة) وذلك خارج منطق الثنائيات الذي لازال يتحكم بالفكر العربي الإسلامي، مثل القول بأن الإسلام يجمع بين الروح والمادة والاشتراكية والرأسمالية، والجبر والاختيار الخ، فهذا منطق ثنائي يعرف الإسلام بغيره ودون أن يكشف عن خصوصيته، تماما كالقول بأن الإسلام ليس اشتراكية وليس رأسمالية وأنه دين (الوسط) أو (التوسط) في كل شيء، فلا يدرك من الإسلام سوى أنه دين توفيقي لا يملك خصوصية ذاتية، أما حين نتجه لإدراك هذه الخصوصية الذاتية، وبمعزل عن الثنائيات، لا يعد ثمة بديل عن اكتشاف (المنهج) في القرآن الذي يعطي خصوصيته في تحديد المفاهيم والمواقف.

إن خصائص القرآن، والكريم والمكنون والمجيد، التي أوضحناها، تستجيب من بعد مرحلة القدوة النبوية الشريفة، وفي إطار الوعي العالمي المعاصر لإعطاء هذا المنهج الذي من شأنه التعامل مع كل الحضارات والمجتمعات المعاصرة وتلك اللاحقة تبعا لمتغيرات العصور، وبمجرد استخلاصنا لهذا المنهج – خارج منطق الثنائيات – نستطيع أن نحدد الغايات الاجتماعية والحضارية التي يستهدف النظام الإسلامي الكوني.

أولا: المنهج ونظرية المعرفة

يعود أصل البحث في المنهجية التي لا تبحث في المعرفة فقط ولكن عن (ضوابط المعرفة) التي ما شهدته الحضارة الأوربية المعاصرة من تحديد صناعي لشروط الإنتاجية مع تراكم المعلومات العلمية التطبيقية التي يسرت استخلاص قوانين عامة للحركة العادية والطبيعية، فلم يعد الفكر الإنساني المجرد والقائم على التأمل مقبولا، خصوصا وقد وطدت بعض المذاهب نفسها على أسمى منهجية فأوجدت المقابل الذي يفرض على الآخرين تحديه، وأخص بالذكر المنهج المادي الجدلي في تفسير الحركة التاريخية والاجتماعية وغاياتها استعدادا لقوانين الطبيعية مع ربطها بالجدلية والتطورية.

قد يقال إن مناهج عديدة قد وضعت في مقابل نظام المعرفة العادي الجدلي التطوري، منها ما يوطد مكانة الإنسان العقلية بمستوى وضعي أو وجودي، ومنها ما يحاول توطيد مكانة الغيب بشكل لاهوتي، ومنها ما يحاول التوفيق بين هذا وذاك، غير أن كافة هذه المحاولات انتهت إلى حدود رد الفعل ضد العادية الجدلية ولكن دون أن تثبت ضوابط معرفتها هي المقابلة للنهج المردود عليه.

هنا يخترق القرآن إشكالية الوعي العالمي المعاصر بتقديم منهج للمعرفة أشد صرامة وتحديدا ودون أن يلجأ للتوفيق بين النظريات، فمن المعروف أن كافة الفلسفات الوضعية المعاصرة التي استمدت نهجها من فلسفة العلوم الطبيعية قد انتهت التي نتائج مادية في تفكيرها، في حين أن الفلسفات الدينية لازالت تصر على نفي ضوابط فلسفة العلوم الطبيعية، وما بينهما تقع التيارات الحيادية بكافة إشكالها الانتقائية والتوفيقية والتلفيقية.

يحدد القرآن موقفه من نظرية المعرفة التي تستمد فلسفتها العادية من العلوم الطبيعية على النحو التالي:

"وفي الأرض قطع متجاورات وجنات وأعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (سورة الرعد/ ج 13/ع 4). ففي هذه الآية يطلب الله النظر إلى ثنائية جدلية تتكون من (قطع متجاورات) + (ماء واحد) غير أن الناتج الطبيعي يحدد تنوعا إلى حدود ترقى على التطورية المادية الجدلية، فالإشارة هنا تتضمن النظر إلى اختلاف الناتج الطبيعي مع تحديد المكونات، ثم وعلى نحو مختلف:

"وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلم تشكرون" (سورة فاطر/ ج 22 / ي 12) فهنا افترقت الخصائص التكوينية الطبيعية (عذب فرات) (ملح أجاج) واتحدت خصائص الناتج (لحما طريا) كما تنوعت المواد الأخرى كالحلية التي لا تماثل في تكوينها اللحم الطري، ثم تنوعت الاستخدامات الإنسانية (وترى الفلك فيه مواخر).

قد عمد الماديون إلى فلسفة العلوم الطبيعية لينتهوا بها إلى جدلية تطورية مادية بحتة غير أن هذا التوصيف القرآني للطبيعة يتحول بها من ضوابط الجدلية التطورية العادية إلى لا نهائيات أبعد بكثير معطيا بذلك بعدا (كونيا) لفلسفة العلوم الطبيعية، فالوعي العالمي المعاصر يدخل بالقرآن مرحلة اكتشاف لمنهج التفرقة هو أدق وأرقى بكثير من المنهج المادي العادي الجدلي التطوري، فعبر اكتشاف المنحى الكوني لفلسفة العلوم الطبيعية يتم الانطلاق نحو تفهم العلاقة مع الغيب خارج الأطر الأسطورية والخرافية واللاهوتية الضيقة.

هنا وحين نخرج من تلك الحالة التي وضعتنا فيها مناهج النظر إلى العلوم الطبيعية بمنحى مادي، يتحرر الإنسان من أسر المناهج الوضعية التي استلبته خارج قيمته الإنسانية وخارج علاقته مع الغيب، فتتحدد بدايات المنهج القرآني بالنظر في العلاقة الكونية القائمة بين الغيب والإنسان والطبيعة.

تلك هي أولى محددات الرؤية للمنهج، وقد أعطى الله فيها للإنسان قدرات الربط الجدلي بين الغيب والطبيعة معلنا له عن هذا المنهج في أول السور الكريمة إلى الخاتم الموقر في غار حراء، أن الربط بين قراءة القدرة الإلهية المطلقة بوصف الله خالقا، وبين العلم التطبيقي الطبيعي الموضوعي بوصف الله معلما:

"اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)" العلق / ج30.

الربط الجدلي بين القراءتين وبما يؤدي لتأسيس نظرية المعرفة الكونية من خلال قدرات الوعي الإنساني، وقد حدد الله هذه القدرات في ثلاث معطيات:

"والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (النحل /ج 14/ ي 78)، فهنا تحديد لمعطيات السمع والأبصار والأفئدة مع تحديد أن الوعي اكتسابي وليس غنوصي أو باطني، فنحن نخرج من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا.

ثم يضيف الله شرط (الحرية) إلى معطيات الوعي الثلاثي، فبعد ذكره للسمع والأبصار والأفئدة تأتي الآية اللاحقة: "ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" (النحل / ي 79).

الطير في جو السماء حالة من الانعتاق لا يحدها إلا المطلق، وكذلك الإنسان عبر حريته المتفاعلة مع قدرات وعيه الثلاثي ومن خلال ربطه الجدلي وليس التوفيقي أو التلفيقي بين القراءتين.

إذن: تتحدد بدايات منهج المعرفة القرآني بالتالي:

1-الجمع بين القراءتين وفق حدة جدلية (الغيب والإنسان والطبيعة).

2-توظيف قدرات الوعي الثلاثي في اكتساب المعرفة.

3-شرط الحرية.

هكذا نكتشف عبر القرآن أن الإنسان مطلوب لذاته ليكون هو قيما على المعرفة في صياغة المنهج وتحديد الرؤية الكونية، في حين أن كافة الفلسفات الوضعية الأخرى إنما تحاول – بطرق مباشرة أو غير مباشرة – أن تمنهج للإنسان وفق ضوابطها هي مما ينتهي إلى إلغاء الدور الإنساني في المعرفة وبالتالي تحجيم الإنسان لمصلحة (النظام) واستلابه طبقيا أو حزبيا.

تحديدا يؤكد القرآن على القدرات الإنسانية كجزء من المنهج ومفاهيم المعرفة في إطار نظرة كونية محددة ومؤكدة على الحرية وعلى دور الإنسان، فحين يتحول دور الإنسان إلى البوتقة تحت أسر منهجته واستلابه فإنه لا يفقد ذاته فقط وإنما يتحول إلى عبودية أيا كانت شعارات أنظمتها السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية.

ثانيا: الغاية الاجتماعية للنظام الإسلامي

فتقرير مسألة الحرية والوعي الإنساني يطرح القرآن مفهومه للغاية الاجتماعية من وجود الإنسان، وهي الغاية التي تتمحور حولها كافة التشريعات والمعاملات، بل إنها تشكل ما ورائية الأحكام القرآنية، فالحرية لا يمكن أن تمارس ضمن واقع اجتماعي يمنح إلى التقييد والتقليد والاتباعية، وفي هذا الإطار يأتي التحليل القرآني للكشف عن معنى العبودية وانعكاساته في المجتمعات البشرية ومميزا بذات الوقت بين تعبير العبد منسوبا إلى الله – سبحانه – والعبد المنسوب إلى البشر:

"فلا تضربوا لله أمثالا إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74) ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76)" (النحل / ج 14).

هنا يصف الله العبد المملوك للبشر بأنه هو مصدر رزق المالك وليس له ضمن شريعة مالكه أن يتصرف في الناتج عن عرقه، في حين أن الله هو مصدر رزق عبيده من البشر، ينفقون منه سرا وجهرا.

بعد هذا التمييز بين فحوى العبودية لله وفحوى العبودية للبشر، يوضح الله خصائص العلاقة بين العبد ومالكه البشري بوصفها علاقة تقوم على استلاب العبد البشري (أبكم لا يقدر على شيء)، ثم يكشف الله عن خصائص مجتمعات تملك الرقيق البشري بوصفها مجتمعات تعتمد تسخير الآخرين من عبيدها لأغراضها غير الإنسانية "أينما يوجهه لا يأت بخير"، فحالات الاستلاب الإنساني هنا لا تنتهي مجتمعات الرق العبودي وإنما تمتد لتفسر حالات مختلف الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي يكون فيها الإنسان "كل على غيره" و "أبكم لا يقدر على شيء" والنتيجة دائما "أينما يوجهه لا يأت بخير"، فالآيات تتجه لكشف مساوئ الاستلاب انطلاقا من حقيقة اتحادها في النتائج التي تؤدي إليها، ويأتي هذا الكشف لتعزيز دور الحرية الإنسانية المرتبطة بقدرات الوعي الثلاثي التي لا تتلاءم مقتضياتها مع حالة البكمة وأن يكون الإنسان (كلا) علي آخر.

بل ويمضي القرآن للتحذير من إتباع رأي الآخر دون تمحيصه وتدقيقه بحيث يقع الإنسان تحت طائلة المسؤولية عن أمور يتبعها أو يقلدها أو يقفوها دون وعي بها وعلم: (ويعود بالحكم عليها إلى معطيات الوعي الثلاثي، وفي هذا توجيه إلهي لإعمال النقد والتحليل في كل ما يعرض على الإنسان: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفوائد كل أولئك كان عنه مسؤولا" (الإسراء/ ج 15/ ي 36). بذلك تضاف العقلية النقدية إلى المنهج التحليلي وتعتبر مسؤولية مباشرة تجاه الله الذي لا يريد للإنسان أن يكون مقلدا أبكما لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه.

غير أن تأسيس الشرط الاجتماعي الذي مع حالة الحرية الإنسانية القادرة على الربط الجدلي بين القراءتين وبمنطق تحليلي نقدي لا يمكن أن يتحقق بوجود (حالة طبقية) تجمع في كفة اجتماعية راجحة بين الثروة والسلطة على حساب أولئك الذين يتحولون بالضرورة إلى بكم لا يقدرون على شيء، لهذا أوضح الله – سبحانه – خصائص التمايز الطبقي على نحو محدد:

"والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون" (النحل/ ج 14 /ي 71).

قد اغتر البعض بهذه الآية على أنها تأكيد على أزلية التفاوت الطبقي بموجب إرادة إلهية منطلقين من مطلعها فقط "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" ولكنهم أغفلوا أخطر ما يرد في سياق الآية "فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت إيمانهم فهم فيه سواء"، فالله – سبحانه – يربط هنا بين طبقة المملوكين كمصدر لرزق مالكيهم، ثم يشير إلى أن هذا الرزق لو رد الشيء لمصدره أي إلى طبقة المملوكين التي انتحته، لتحققت المساواة.

الآية لا تقول فما الذين فضلوا بمانحي رزقهم لما ملكت أيمانهم، ولكن تقول (برادي) رزقهم، ورد الشيء يكون إلى مصدره وقد أصبح هذا الأمر واضحا بالنسبة لنا عبر الدراسات الاقتصادية والاجتماعية وما فصلته حول (فائض القيمة) كأساس للتركيز الطبقي.

إذا حللنا مضمون هذه الآية وفق ما تظهره أحكام القرآن الاقتصادية والاجتماعية من منع للربا وتفتيت للثروة بالإرث وإخراج للزكاة ومنع للإكناز وتشريعات أخرى عديدة سنكشف حتما أن كافة التشريعات القرآنية مالذات الاقتصادية والاجتماعية إنما تتجه بالضرورة إلى التقليل من تركز (فائض القيمة) بحيث يحال دون بناء طبقات متفاوتة في المجتمع الإسلامي.

لم يطرح القرآن الاشتراكية كأساس لبناء المجتمع الإسلامي، ولم يطرح الرأسمالية ولم يفوق كذلك بينهما، وإنما أوجد الإسلام نظامه الخاص المتميز الذي يقوم على النهج الاقتصادي والاجتماعي التالي:

1-الاعتراف بكافة أشكال الإنتاج وفق مستويات تطور المجتمع البشري من العبودي إلى الإقطاعي إلى الرأسمالي.

2-منع أشكال الإنتاج من إفراز بنيات متفاوتة بضرب نمو فائض القيمة عبر مختلف التشريعات الاقتصادية والاجتماعية.

النتيجة:

إننا بدراستنا لمختلف أنماط التطور الاقتصادي والاجتماعي ارتبطت بالتشريعات الإسلامية سنكتشف وجود تناقض أحدثه الإسلام ما بين شكل الإنتاج وعلاقات الإنتاج بحيث منع التركز الطبقي وحال دون بناء مجتمعات طبقية.

إن هذه الموضوعة التي تكشف عن (ماورائية) التشريعات القرآنية توضح تماما أن الغاية الاجتماعية في النظام الإسلامي هو تحرير الإنسان من الاستلاب الطبقي، رأسماليا كان أو اشتراكيا، فما بين النظامين الرأسمالي أو الاشتراكي هو صراع طبقي في حين يتجه النظام الإسلامي لنفي التركز الطبقي، وعليه يحدد تعريف النظام الإسلامي، اجتماعيا واقتصاديا بأنه (النظام اللاطبقي).

يرتبط هذا التحديد ارتباطا ضروريا بأصل المنهج، إذ تتجه غايات المنهج لنفي الاستلاب عن الإنسان، فالإنسان هو المقصود لذاته، خارج النظر كمستلب لطبقة أو حزب أو فئة، الإنسان الحر، الرابط جدليا بين القراءتين، الذي لا يقفو ما ليس له به علم، المزود بمعطيات الوعي الثلاثي، الذي لا يكون كلا على مولاه، فالنظام الاجتماعي – الاقتصادي في الإسلام مؤسس على مبدأ الحرية بحيث يستعاد الإنسان إلى مكانته الكونية، وكل اجتهاد اقتصادي أو اجتماعي في الإسلام يؤدي إلى حالة التركز الطبقي إنما هو مرفوض وفق هذا المنهج ولا يستند – في أحسن الحالات – إلى متشابه الآيات أو القراءة الجزئية لبعض الآيات كما قرئت آية التفضيل في الرزق.

تأكيدا على هذا المعنى في أصل الحرية كمحور للتشريعات الاقتصادية والاجتماعية وميز الله سبحانه بين موجبات الطاعة له، ثم الطاعة للرسول بوصفها طاعة تستند إلى سلطة نبوية رسولية وبين طاعة أولي الأمر لكونهم (منا) وليس (علينا أوفينا): "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" (النساء / ج5/ ي 59).

أن أولي الأمر (فينا) يمكن أن تتجه إلى المعني الاستعلائي، وفي الحالتين يتم استلاب الإنسان والقضاء على حريته وتحويله إلى أبكم تابع.

ثالثا: الغاية الحضارية للنظام الإسلامي

من بعد التأكيد على منهج المعرفة والغاية الاجتماعية تتحدد الغاية الحضارية في النظام الإسلامي بوصفها متجهة لإلغاء حالات الاستقطاب الشوفيني للحضارات المختلفة وناسفة لأسس الانغلاق الذاتي كما عبرت عنها الحضارات ذات الميل العرقي، فالقرآن يربط ما بين مفهومي (الأمة الوسط) و(الخروج) معطيا الخروج معنى (الخير) خلافا لخروج الجيوش التوسعية التي أنتجتها مجتمعات الرق والارتزاق (أينما يوجهه لا يأت بخير) وفي حين أن الخروج العربي هو بهدف تأدية رسالة الخير للعالم: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون" (آل عمران/ ج 4/ ي 110).

الخير هنا يقتضي التفاعل والتدامج والحوار، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فالفتح الإسلامي لم يرتبط بنهب ثروات الشعوب وإنما ارتبط بالتفاعل معها، حتى أنه اتخذ في كثير من الأحيان طابع (التحرير) بوجه القوات الرومانية والفارسية التي نهبت ثروات الشعوب في حين لم تمتد يد السلطة الإسلامية إلى هذه الثروات إلا وفق معايير تشريعية دقيقة كانت في حملتها لصالح هذه الشعوب وهذا أمر يمكن البرهنة عليه.

ارتبط مشروع الخروج بالخير مع مفهوم الأمة (الوسط) والذي عني جغرافيا أن تتولى المرحلة العربية - الأمية مهمة الدمج بين حضارات المنطقة كلها، وهذا ما حدث فعلا حين شمل الفتح الإسلامي ما بين المحيطين الأطلسي غربا والهادي شرقا، فتفاعلت في الإطار العربي – الأمي حضارات الشرق الأوسط القديمة مع حضارات أوربا (اليونان والرومان) ومع حضارات آسيا فاستطاعت تلك المرحلة ولأول مرة في تاريخ البشرية أن تلغي (الثنائية الحضارية) بين الشرق والغرب، تماما كما أدى الخروج العربي – الأمي للتفاعل مع كافة الأعراق والسلالات دون تمايز عنصري، فاستجمعت تلكم المرحلة بواكير التأسيس لوحدة الحضارة العالمية.

ويتطابق هذا التأسيس الجغرافي البشري مع توجهات الإسلامي كرسالة عالمية للناس كافة، ومع وضعية النبي صلى الله عليه وسلم، كخاتم للأنبياء بما يعني أنه الوريث الشامل للنبوات كافة، تماما كما أن الإسلام هو الوعاء الختامي الشامل للديانات كافة.

هذا المنظور التوحيدي الحضاري – الديني من شأنه تحرير الإنسان من العصبوية الشوفينية دون إلغاء خصائصه الحضارية، فمهمة الإسلام أن يكيف أسلوب نمو الحضارات وفق غاياته المعرفية والاجتماعية وليس القضاء على شخصيتها أو استلابها لصالح حضارة أحادية الجانب، بل أن منطق الدمج التفاعلي لتكوين نزوع عالمي هو الأساس فيما ورائية أحكام الخروج والانطلاق من الوسط والحوار.

قد يقول البعض بأن القرآن قد أقر بتفاضلية البشر رجوعا إلى بعض الآيات الخاصة ببني إسرائيل: "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين" (البقرة/ج1/ي47)، وأن القرآن قد جعل الخيرة في العرب أو خصهم بها دون غيرهم من الشعوب: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" ثم يتخذ البعض من هذه الآيات دليلا يناقض ما طرحناه حول الغاية الحضارية والدينية ذات النزعة العالمية للإسلام.

لتوضيح هذا الأمر ينبغي العودة محددا إلى منهج المعرفة القرآنية للكشف عن الكيفية التي يطرح بها القرآن مراحل النمو التاريخي للبشرية فيما سبق أن أوضحناه في محاضرة لنا تحت عنوان: (الظاهرة الإسرائيلية وفق منهج جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، فالتفضيل الإسرائيلي لم يتخذ منحى عرقيا، ولا اتخذ الخيار العربي – الأمي منحى شوفينيا وإنما هي مراحل لتطور نمو الجنس البشري ابتداء من العائلية الآدمية وإلى الحالة الإسرائيلية التي ارتبط خطابها بالأرض المقدسة وإلى الحالة العربية – الأمية التي ارتبط خطابها بالأرض المحرمة ووصولا إلى المرحلة العالمية التي ترتبط بظهور الهدى ودين الحق على الدين كله.

الخاتمة

كخلاصة لهذه الدراسة يمكننا القول أن التأسيس القرآني للمجتمع المعاصر إنما يعتمد على بلورة منهج للمعرفة يوحد الرؤية الكونية للغيب والإنسان والطبيعة وفق منظور الربط الجدلي بين القراءتين، الغيبية والطبيعية، مع اعتبار المجتمع اللاطبقي مدخلا للحرية الإنسانية القائمة على معطيات الوعي الثلاثي، سمعا وبصرا وفؤادا وذلك كله في إطار نزوع حضاري وديني عالمي، وبموجب هذه الخلاصة يتم بحث وكافة المتفرعات الأخرى، فأزمات العالم المعاصر لا تخرج في جوهرها عن إشكاليات مناهج المعرفة التي قادت إلى وضع اجتماعي واقتصادي مأزوم وإلى وضع حضاري منغلق.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا