دراسات ما بعد الربيع العربي كنقد لدراسات ما بعد الكولونيالية


فئة :  مقالات

دراسات ما بعد الربيع العربي كنقد لدراسات ما بعد الكولونيالية

دراسات ما بعد الربيع العربي كنقد لدراسات ما بعد الكولونيالية

د. وائل صالح

كما بينا في سلسلة تفكيك ونقد الخطاب المتعاطف مع الإسلاموية في الأكاديميا الغربية، وصل الحال ببعض المنتسبين إلى تيار ما بعد الكولونيالية (الذي يدعي السعي لفهم صحيح للمستعمرات السابقة؛ وذلك بإزاحة الأفكار الخاطئة التي زرعتها الدوائر والدراسات الإمبريالية القديمة والحديثة)، والذي تمثله أسماء مثل طلال أسد وصبا محمود للتطابق اليوم مع تيار الاستشراق في قسمه الاستعماري الذي تمثله أسماء مثل برنارد لويس (والذي يرى أن الإسلام دين سياسي بطبيعته، وأن العلمانية ذاتها هي المشكلة، وليست الحل لمشاكل العالم العربي الإسلامي، وأن تجديد الخطاب الديني هو مشروع إمبريالي برعاية الغرب (وهو نفس ما يعتقده الإسلامويون).

لا يتردد هذا التيار إذن، في التبني المطلق لمقولات الإسلاميين المؤسسة واعتبارها من صميم الإسلام ذاته كدين، مدعيا أنه هكذا يعطي الفرصة للعرب وللمسلمين أن يعبروا عن أنفسهم بأنفسهم، دون الحكم عليهم بالمنظور الثقافي والفلسفي الغربي، وكأن الإسلاموية الممثل الوحيد لتلك الثقافة وذلك الدين، وكأن التيارات والفرق والجماعات المختلفة الأخرى في مجتمعات ما بعد الاستعمار هي كيان واحد لا تعدد فيه، رغم أن هذا التيار ما بعد الكولونيالي يعرف من مجتمعاته الغربية، ومن العلوم الاجتماعية والإنسانية أن تعدد الجماعات داخل النسيج الديني الواحد هو القاعدة وليس العكس.

بيّنا أيضا أنه في حين يدعي هؤلاء المنتسبون لتيار ما بعد الكولونيالية أنهم يسعون لإسماع صوت المستعمرات السابقة للعالم، ينتهي بهم الأمر بارتكاب ما هو معاكس لذلك تماما؛ وذلك بخلق وضع تعتمد فيه الدراسات والمجتمعات عليهم للحديث نيابة عن مجتمعات المستعمرات السابقة، بدلا من السماح لها بالتكلم عن نفسها مباشرة، كأنه كتب عليها أن يتكلم عنها غيرها تحت وطأة الاستعمار باسم الاستشراق وبعده باسم الدراسات ما بعد الكولونيالية.

حول هذا التفريع المتعمد لمحتوى الأهداف النبيلة لتيار ما بعد الكولونيالية (التي كان يستهدفها مؤسسو هذا التيار مثل إدوارد سعيد) إلى نوع من الاستشراق الجديد؛ وذلك باستمرار تأطيرهما للعالم العربي في صورة تلبي طموحات الغرب ومخيلته ومطامعه في امتلاك تلك المنطقة من العالم عن طريق امتلاك صوره وتمثلاته، كما فعل الاستشراق التقليدي.

أمام هكذا وضع، يتوجب على الباحثين العرب نقد ذلك التيار وتفكيكه واقتراح مقاربات أخرى لفهم ومساعدة منطقتنا ومجتمعاتها في النماء وفي التمكن من التعبير عن نفسها والوصول إلى مقاربتها المعرفية الخاصة بها لفهم ظواهرها، خصوصا بعد ما سمي بالربيع العربي، والذي أثبت فشل معظم المقاربات والدراسات، التي كانت سائدة قبل الربيع وأثنائه، والتي شاركت بجهلها أو بتجاهلها بحقائق الواقع فيما وصلت إليه المنطقة من نتائج كارثية.

في هذا الإطار، أقترح ما أسميه دراسات ما بعد الربيع العربي (Post-Arab Spring Studies)، وهو مصطلح يمكن أن يشير إلى ثلاثة معان متمايزة: أولا، معنى تاريخي بحت، حيث يشير إلى فاصل زمني بين فترة ما قبل وما بعد ما يسمى الربيع العربي. وبحسب هذا المعنى، لا يؤخذ في الاعتبار إلا ما يتعلق بفترة ما بعد 2011. ثانيا، معنى يشير إلى الدراسات العلمية التي تم إنتاجها في فترة ما بعد الربيع العربي. وثالثا، معنى علمي، بمعنى ظهور مقاربة نظرية يتم فيها نقد وتفكيك الخطابات والمناهج والمقاربات المعرفية والتحليلات السائدة والمتعلقة بالعالم العربي. وكل تلك المعاني تشكل معا، متضامنة ومتعاونة، القلب المعرفي لدراسات ما بعد الربيع العربي.

تسعى دراسات ما بعد الربيع العربي إلى زيادة الأبحاث المهتمة بتطور العالم العربي متفادية الهيمنة الإمبريالية العلمية والنسبية الراديكالية للتيارات السائدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي تتناول بالتحليل ظواهر المنطقة العربية؛ وذلك من خلال مقاربة واقعية عابرة لحدود التخصصات، تسعى أيضا إلى تطوير مجال منهجي وفكري ونظري معرفي يسعى إلى تجاوز النقاط العمياء والغيتو الفكري لتلك التيارات التي كانت سائدة، رغم جنوحها المعرفي والمنهجي.

دراسات تطور الدولة الوطنية العربية وتنميتها يجب أن تكون من المباحث الرئيسة لدراسات ما بعد الربيع العربي؛ لتجيب من خلال مقاربة نقدية للأدبيات التقليدية المتواجدة حول الموضوع على أسئلة من قبيل: كيف تتطور المعرفة عن الدولة القومية في العالم العربي في عالم العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ ما هي المقاربات المعرفية والأنطولوجية المهيمنة على تناول الدولة القومية في الأدبيات والدراسات الغربية الحالية؟ كيف يمكن للبحث الأكاديمي أن يساعد في تقدم وازدهار المجتمع والمواطن في إطار الدولة الوطنية الحالية في العالم العربي؟ وهذه أمثلة على الموضوعات التي يتوجب تناولها بشكل جديد في نطاق ذلك المبحث: رأس المال الاجتماعي، السلم المدني، التماسك الاجتماعي، العيش معا، المواطنة، سيادة القانون، الفضاء الدولتي الفضاء العام، التوفيق بين الحرية والأمن، خطر الإسلاموية، المجتمع المدني، الشرعية السياسية، الدولة التنموية، تنظيم الارتباط بين الدين والسياسة، مما يسمح بانبثاق دولة المواطنة الديمقراطية.

دراسات المنظمات الدولية في علاقتها بالعالم العربي يجب أن تكون أيضا من المباحث الرئيسة لدراسات ما بعد الربيع العربي؛ لتجيب من خلال مقاربة نقدية للأدبيات التقليدية المتواجدة حول الموضوع على أسئلة من قبيل: كيف تسلك هذه المنظمات تجاه الدول العربية؟ هل هي عادلة تجاههم؟ هل هي ديمقراطية في نمط حكومتها وفي عملية اتخاذ القرار فيها؟ هل القانون الدولي حقا قانون؟ كيف يؤثر مدى قوتها أو ضعفها على الدول العربية؟ يهدف ذلك المبحث أيضا لتقييم وتحليل أداء تلك المنظمات الدولية، والتي غالبا ما تكون مسؤولة عن تقييم الدول وقادتها دون أن تكون هي نفسها موضوع تقييم جاد ومعمق ودوري. أمثلة على الموضوعات الجديدة التي يتوجب تناولها في نطاق ذلك المبحث: حال الديمقراطية على مستوى الحوكمة الدولية، تقييم نقدي لتدخلات المنظمات الدولية في الدول العربية، الجغرافيا السياسية للظلم وعدم المساواة في تعامل تلك المنظمات مع بعض الدول، القوى العظمى والمؤسسات الدولية، الهيمنة والإذلال كعامل جيوسياسي، الجغرافيا السياسية لفوضى وإدارة الصراعات.

دراسة الإعلام الدولي في علاقته بالعالم العربي، يجب أن يكون أيضا من المباحث الرئيسة لدراسات ما بعد الربيع العربي؛ لتجيب من خلال مقاربة نقدية أيضا للأدبيات التقليدية المتواجدة حول الموضوع على أسئلة من قبيل: كيف تعمل وسائل الإعلام الدولية؟ من يمولها؟ كيف يؤثر التمويل على تناول الموضوعات الخاصة بالعالم العربي؟ كيف تنتج وتتناول المعلومات والآراء عن المنطقة العربية؟ هل تحليلاتها خالية من تأثير الأيديولوجية أو صراع القوى أو جماعات الضغط؟ هل هي عادلة ومحايدة؟ الهدف من تلك الدراسات هو مراقبة وتحليل وسائل الإعلام الدولية، والتي غالبا لا تخضع للمراقبة ولا للتحليل الجادين. أمثلة على الموضوعات التي يتوجب تناولها بشكل جديد في نطاق ذلك المبحث: أخلاقيات الصحافة بين النظرية والتطبيق، الموضوعية والحياد في زمن ما بعد الحقيقة، الإمبريالية الإعلامية، جماعات الضغط والإعلام، الاقتصاد والإعلام، الأيديولوجيا والإعلام، تنوع الوسائل ليس تعددية، فرض الرضا، الشيطنة، الأجندات السياسية ووسائل الإعلام، التلاعب بالمعلومات، التسويق والإعلانات وتأثيرهما على المحتوى.

الدراسة النقدية للدراسات الأكاديمية حول العالم العربي يجب أن تكون أيضا من المباحث الرئيسة لدراسات ما بعد الربيع العربي؛ لتجيب من خلال مقاربة نقدية أيضا للأدبيات والدراسات التقليدية المتواجدة حول الموضوع على أسئلة من قبيل: ماذا تنتج الأكاديميا الغربية حول العالم العربي؟ كيف يتم ذلك؟ ما هي المقاربات الأنطولوجية والمعرفية والمنهجية السائدة في العمل الأكاديمي الغربي حول العالم العربي، ولماذا تسود تلك المناهج؟ ما هي عواقب تلك الهيمنة؟ من هم الكتاب الأكثر غزارة في الكتابة ومن هم الأكثر تأثيرا، ومن هم الأكثر هامشية في المجالات المتعلقة بالعالم العربي؟ ما هي دراستهم ومسيرتهم العلمية، ما هو مفهومهم عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، ما هي أيديولوجيتهم أو رؤيتهم للعالم؟ هل تحليلاتهم بلا أيديولوجيا أو تأثير من دولهم أو من جماعات الضغط؟ هل هم محايدون علميون بحق؟ أمثلة على الموضوعات التي يتوجب تناولها بشكل جديد في نطاق ذلك المبحث: الأخلاقيات الأكاديمية، الموضوعية، الحياد، ذاتية الباحث، الإمبريالية العلمية، نسبية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جماعات الضغط الأكاديمي، نقد الأدبيات المتعلقة بظواهر العالم العربي. دراسات مقارنة بين الأدبيات والدراسات التي تتناول تلك الظواهر، وهم النمذجة.

خلاصة الأمر، بعد تواطؤ بعض منتسبي تيار ما بعد الكولونيالية فيما وصلت إليه المنطقة في أثناء ما سمي بالربيع العربي، وتبني الكثير من القادة في الغرب على المستوى السياسي والثقافي والإعلامي للنتائج المضللة للكثير من بحوثها، تسعى دراسات ما بعد الربيع العربي لنقد وتفكيك تيار ما بعد الكولونيالية، والذي تحول لنوع من الاستشراق يحقق أهداف الإسلاموية والإمبريالية معا؛ وذلك باقتراح مقاربات جديدة لفهم ومساعدة منطقتنا ومجتمعاتها في التقدم والرخاء من جانب، وفي تمكينها حقيقة من التعبير عن نفسها بنفسها ومن وصولها لمقاربتها المعرفية الخاصة بها لفهم ظواهرها من جانب آخر.