مدينة الفيلسوف الإسلامي


فئة :  أبحاث محكمة

مدينة الفيلسوف الإسلامي

مدينة الفيلسوف الإسلامي[1]

يوتوبيا الشرعيَّة السياسيَّة

نورة بوحناش

المقدمة

التباس الزمن السياسي العربي الراهن: تتأرجح الدولة الوطنيَّة الحديثة في العالم العربي بين نموذجين لتدبير الجماعة سياسياً: الأوَّل هو نموذج الدولة الحديثة، وقد سارت في أداء إجراءاته الرمزيَّة قسراً؛ لأَّنَّها واقعة تحت سلطة المركزيَّة الغربيَّة هيمنةً. أمَّا عن الثاني، فيتردَّد عبر مخزونها اللاشعوري، ليمتدَّ نحو الدولة السلطانيَّة، وقد تضمَّنت في جنباتها صورة الرعيَّة المكملة لرمزيَّة الحاكم، رعيَّة تقع على هامش التدبير السياسي؛ بل هي موضوع للاستبداد وسلب الحق، واستكمال لصورة المُلكْ.

وعلى الرغم من أنَّ هذه الدولة الوطنيَّة الحديثة، ذات البعدين المدني الحديث والسلطاني الموروث، قد سلكت سبل تطبيق «بروتوكولات» الدولة الحديثة، وتنظيم الصيغ الضروريَّة لبنيتها الإجرائيَّة من دستور، وانتخابات موصوفة بالديمقراطيَّة، إلا أنَّ الاندماج بين سلطة الدولة والمواطن (الرعيَّة)، يتميز بالتشقق وعدم الانسجام، ليكون الانفصال بين الدولة وجسدها هو السمة البارزة التي تختصُّ بها، هو تشقق بعيد الغور في تحديد المسار الاستشرافي لمستقبلها، فهل يؤول هذا الانشقاق إلى التركيبة الأنثربولوجيَّة للمجتمعات العربيَّة، ذات البنية القبليَّة المؤسَّسة على العصبيَّة ورابطة الدم؟ فتكون من ثمَّ مستعصية على الاندماج في السياق المدني الحديث الذي يفترض عقلنة للعلاقات؛ إذ (القبيلة تتميز كوحدة ممتلكة لكيان ذاتي [...] فهي تعمل وكأنَّها كائن سياسي قائم -لا محالة- على مبدأ آخر غير مبدأ الدولة)[2]، هي بنية أنثربولوجيَّة، تفترض شكلاً آخر للعلاقات، لا ينسجم وصورة الحداثة السياسيَّة، وهنا نثير السؤال الخلدوني، في قلب الدرس السياسي العربي الراهن، تفسيراً لنمو الدولة وأفولها في التاريخ العربي الإسلامي، ونركّز على العصبيَّة في علاقتها بالدعوة الدينيَّة عاملاً له دوره في قراءة استراتيجيَّة الفعل السياسي العربي الراهن، كما قرأه ابن خلدون قديماً.

ولأنَّ التاريخ السياسي العربي يمتدُّ عميقاً داخل نمط الهيمنة الأبويَّة المستندة على شخص السلطان حاكماً بأمر الله؛ فمن الضروري السؤال عن الدور الذي يؤدّيه التاريخ السياسي السلطاني بوصفه رأس المال الرمزي المحمول في بنية اللَّاشعور العربي في التطعيم المتواصل لصورة الحكم القائم على الغلبة، وسيادة الصورة النمطيَّة للتراتب الهرمي السلطان/الرعيَّة في سياق كونيَّة المواطنة، يتمظهر اليوم في كاريكاتير وهمي الرئيس/ المواطن. وإذا كان مفهوم المواطنة قد تجاوز مفهوم الرعيَّة الذي كان سائداً طوال قرون[3]، فهل تحوَّل الإنسان العربي بوصفه موجوداً سياسياً إلى سيّد ومالك للسلطة عبر التعاقد في إطار دولة الحق؟ حيث تتموضع الإرادة العامَّة في قلب الرهانات السياسيَّة، تدبيراً للجماعة على مقتضى العدل والحق.

تبرهن الإخفاقات السياسيَّة المتوالية في العالم العربي على الغياب الكلي لمسار التطوُّر السياسي، بناء لدولة حديثة تتأسَّس على قيم العيش المشترك، وتُعدُّ التجربة السياسيَّة الراهنة أفضل شاهد على فقدان الوعي العربي قوة التدبير السياسي الحكيم، فبين مخزون رأس المال الرمزي الذي يُحَيِّنُ مدينة النبي، كضرورة تحافظ على هويَّة الأمَّة وبين مقاصد الشريعة، ثمَّ المطالبة بوجوب بناء دولة حديثة، تنزلق المسارات السياسيَّة في العالم العربي نحو العنف، ويندثر مفهوم الدولة لتعمَّ الأوليغارشيَّة، وتختلط نماذج من دول في دولة واحدة، فيها الخسَّة والنذالة والكرامة، وبَيْن بَيْن تندثر كرامة الإنسان؛ بين مصالح سياسيَّة خدمة للكولونياليَّة بصيغتها الجديدة.

تحرَّك التاريخ السياسي للدولة، في العالم العربي الحديث والمعاصر، بين جنبات التاريخ الغربي، فتقمَّص أشكالاً من الأنظمة السياسيَّة والاقتصاديَّة، بوصفها الخلاصة التاريخيَّة لديناميكيَّة المجتمع الغربي في دفاعه عن دولة الحق، ولأنَّ هذا التاريخ هو نتاج للمركزيَّة الغربيَّة، وتفاعل حركي لأفكارها ومنطلقاتها المجتمعيَّة، فهو فاعل في زمانه ومكانه، فهل يكون كذلك في أزمنة أخرى وأمكنة مغايرة؟

تحدَّد مصير الدولة الحديثة المنبثقة بعد الكولونياليَّة في العالم العربي، بحسب ما اقتضته المصالح الجيوسياسيَّة والاقتصاديَّة للكولونياليَّة، فمن الواجب إذاً السؤال إذا ما كانت هذه الدولة قناعاً آخر للكولونياليَّة، ورمزيَّة لتواصل المركزيَّة الغربيَّة، حتى وإن غادرت الأرض، ذلك أنَّها دولة غير منتجة لوعي سياسي عقلاني، كفيل بتنظيم مجتمع مدني مؤسَّس على جدليَّة الحق والواجب. سيكون إذاً من الصعب الفصل بين اللحظة الكولونياليَّة وما بعدها في الزمان العربي الراهن، بما أنَّه مرتهن بصدمة الحداثة، ليؤلف تاريخه مساراً تصير لحظاته عبر جدل الأنا والآخر، كمحدّد لبناء الذات، إمَّا اتساقاً، وإما اختلافاً.

وهكذا تموقع فهم التاريخ السياسي العربي عبر جدل المفهوم الغربي، فنمت الأفكار وفتحت مسارات للنقاش حول بنية الدولة[4]، ثم انزلقت هذه المسارات نحو الشجار العنيف، تكريساً لفهم مزدوج لنمط الدولة المرغوبة؛ ديمقراطيَّة حديثة أم خلافة شرعيَّة وراثة للنبي؟ تستقي أصولها من القراءة الرمزيَّة للعصر التدشيني، مدينة النبي بما هو قائد لدولة، مدبر لها عبر الوحي الإلهي.

تستدعي الإجابة عن زخم الأسئلة السابقة تفكيكاً عميقاً لمسار انبثاق وإنشاء الدولة الوطنيَّة الحديثة في العالم العربي، وقد ولدت أشكالاً من الدعاوى السياسيَّة المناقضة لهذه الحداثة، تستلهم رأس المال الرمزي لمفهوم الأمَّة الناجية، ودلالاتها السياسيَّة، وتحين الشكل السياسي لمدينة النبي، وتدعو إلى دولة الخلافة بمواصفاتها المبثوثة في المخيال التاريخي، وبين الوصف المعياري لتاريخ هذه المدينة وانبثاقاتها وممارسات التاريخ، تندثر عقلانيَّة التصوُّر السياسي للدولة، وبين الضغط المحقق للعقل السياسي الغربي، وجدل التصوُّرات القادمة من سلطة السلف، تتحيد الدولة عن أداء وظيفتها، فهل من فعل للمصالحة العقلانيَّة بين سلطة الحداثة، وسلطة السلف بناء أو انزياحاً للدور؟

هناك، إذاً، قسمة ثنائيَّة بين زمانين: زمان حديث مفروض بقوَّة واقع الحال، وزمان يتردَّد في غياهب اللَّاوعي العربي موروث عن دولة الغلبة بأشكالها المتعدّدة ورموزها المتكرّرة، في صورة خليفة وقد أضمر ملكاً لا يفنى، يُمكِّن له الفقيه الشرعيَّة الإلهيَّة والتواصل الأبدي مع مدينة النبي، ليلتبس الزمن السياسي العربي الراهن ويختلط بين الدعوة إلى حداثة الدولة تطبيقاً، ثمَّ الدعوة إلى دولة الخلافة، وقد استنهضت الهمَّة في زمن نهاية التاريخ وإمبراطوريَّة العولمة، فهل تنسجم الصورة بين الدعوتين: العلمانيَّة قاعدةً لازمة للحداثة السياسيَّة، ثمَّ طاعة أولي الأمر إكمالاً لطاعة الله ورسوله، لتمتزج السيادة العليا مع السلطة السياسيَّة، ويخوَّل الأمر لولي الأمر، سيّداً مالكاً للسلطة الزمنيَّة والسلطة الروحانيَّة؟ كيف يمكن بناء نموذج آخر لا يقلد السلطتين: سلطة الآخر وسلطة السلف؟

ولأنَّ الصيغة المعجميَّة للفلسفة السياسيَّة للدولة الحديثة سارت عبر جدل اللوغوس الذي أنتجه عقل الأنوار، فما مدى استلهام الوعي السياسي العربي ما بعد الكولونيالي لهذا الجدل، إنشاء لقاعدة العقلانيَّة السياسيَّة؟ أليس الصراع السياسي اليوم هو خلاصة عن المناقضة القائمة بين الدولة الحديثة، بوصفها منتوجاً تاريخيَّاً للأفكار العقلانيَّة الأنواريَّة، وبين دولة الخلافة؟ كيف يمكن إجراء المطابقة بين المدينة الحديثة (سليلة المدينة اليونانية) ومدينة النبي؟

لعلَّ فلسفة تخريج النقاش المرجعي للموازنة بين صراع السلطتين تستدعي نقاشاً متحرّراً من ضغط هاتين السلطتين، كما أنَّ القدرة على الإجابة تقتضي تفعيل مهمَّة الوعي النخبوي، منتجاً لخطاب العقلانيَّة، هل من دور للفلسفة في فضاء النخب العربيَّة بعد نكبة ابن رشد؟ ألم يجد ابن رشد في جمهوريَّة أفلاطون سنداً نقدياً لقراءة سياسة المدينة المستبدَّة في زمانه؟ إلى أيّ مدى يمكن تحرير الفلسفة من اللَّاشعور الإقصائي داخل الفضاءات الإسلامَّية؟ فالفيلسوف وحده القادر على فتح ثغرة في أنساق الوهم، وتكسير فروض الإيديولوجيات الموروثة عن صدمة الحداثة، أو عن سلطة السلف، كلعبة أخرى للإيديولوجيَّة السلطانيَّة الثاوية، تحريراً للإنسان من السيطرة المزدوجة؛ سلطة العقل الكولونيالي، ثمَّ سلطة عنف الخطاب اللَّاعقلاني الذي ينبثق تباعاً.

يتحيَّن النقاش السياسي في العالم العربي عبر الضغط المزدوج لصورة الدولة الحديثة المفروضة، والتاريخ السياسي الإسلامي، وقد تحرَّك جدلاً عبر خطة السياسة السلطانيَّة المتوارية في تاريخ الاستبداد المديد. والحق أنَّ النقاش العقلاني حول طبيعة هذه الشرعيَّة لم يفتح إلى الآن في العلوم الإسلاميَّة، ولذلك يستمرُّ أسر الوعي السياسي في العالم العربي داخل منظومة السياسة السلطانيَّة، وقد تلونت في الأزمنة الحديثة عبر قراءات إيديولوجيَّة مختلفة، فرضاً لطاعة أولي الأمر طاعةً لله ورسوله[5]، وذلك في زمان المفاهيم الكونيَّة للسياسة الحديثة، وافتراضاتها الأخلاقَّية التي تهتمُّ ببناء المجتمع السعيد.

يؤدي الفقه مهمَّة تسوية واقع الحال السياسي والأخلاقي، خلواً من البناء النظري المحدّد للتصوُّرات المرجعيَّة والاستشرافيَّة، وعليه يفتقد الوعي العربي الرهانات النظريَّة لبناء مشروع مجتمع حديث، وسينقسم بين ضرورة عيش الحداثة السياسيَّة كما هي، أو العودة إلى صون البيضة والذود عن الأمَّة، وإحياء تاريخها المعرفي والسياسي، فبين السبيلين، هل من مجال لحوار عقلاني هادئ، منتج لفلسفة إسلاميَّة ترعى الخصوصيَّة ومؤلفة للمرجعيَّة؟

يُعدُّ الشكل التأويلي لمدينة النبي الشكل السياسي الأكثر إثارة بعد نهاية الحرب الباردة، إذ يعتمد على الصيغة الدلاليَّة، والمضامين المفهوميَّة لجدل العقيدة، كما أثير بعد غلبة قيم القبيلة، لتتحين مسألة الإمامة زمان العولمة، مثيرة لصخب سياسي وعنف جغرافي، سنسأل مع لوي غاردي عن حدود الممكن اليوم لبناء دولة الخلافة، أيّ قاعدة سياسيَّة تجعلها ممكنة التحقق[6]؟ فما هو الدور الذي تؤديه عقلانيَّة الحوار في قراءة أخرى لمدينة النبي بناء لدولة العدل والحق؟ (فالتفكير بالحالة التاريخيَّة في المجتمعات العربيَّة الإسلاميَّة [...] عبر علمي الأخلاق والسياسة، يبدو لي أنَّه يشكّل المساهمة الأثمن والمعونة الأفضل لتلك الحركة الاجتماعيَّة الضخمة التي تثير الآمال الكبار في كلّ مكان)[7] ؛ ذلك أنَّ حالة الانفعال التي تسود الاختيارات الإنسانيَّة تجعل من أمل بناء مجتمع يحترم الحق ضئيلاً، على الأقل في الراهن.

قديماً كتب الفيلسوف في السياسة، وبين القراءات المختلفة لمدينة النبي، قدَّم قراءة عقلانيَّة تستلهم الفلسفة اليونانيَّة. وعلى الرغم من اجتهاده في إنشاء كونيَّة فلسفيّة، تأليفاً لنقد عقلاني لما يجب أن يكون عليه التدبير السياسي، إلا أنَّه يجب الإقرار بفقدان هذا المشروع، التأثير الفاعل في إتمام استشراف عقلاني مدني في المجتمع الإسلامي، يجعل من الفيلسوف حارساً للمدينة، متمَّاً لوظيفته النقديَّة، فهل تكون معادلة العقل لا يفكر إلا ليتوافق مع النقل عاملاً رئيساً في افتقاد التفكير المدني استمراريَّة التأثير؟ أيؤول ذلك إلى أنَّ التنظير الفلسفي في مدينة الفيلسوف لا يعدو كونه تفكيراً حول تصوُّرات مدن تعود في أصولها إلى قراءات مختلفة لمدينة النبي، وقد هيمنت عليها استراتيجيَّة عالم الكلام والفقيه؟ لماذا أنتجت جمهوريَّة أفلاطون، مثلاً، حراكاً معرفيَّاً في العصر الحديث تطويعاً لفكرة العدالة، بينما بقيت مدينة الفيلسوف الإسلامي تراثاً سياسياً جامداً؟ وربما نعثر في آليات التأليف بين ساحة المسجد والأغورا على تفسير لنهاية النقديَّة الفلسفيّة في مستواها السياسي، ليكون النص، الذي فكَّر في إنشاء علم مدني، مجرَّد سفر إلى مدينة أخرى، انتهى تاريخها وابتعدت جغرافيتها.

فكر الفيلسوف داخل تراتب للمدن تبدو كالدمى الروسيَّة، يحتوي بعضها بعضاً، مدينة النبي بوصفها الافتراض النموذجي، ثمَّ مدينة الفقيه، وقد قدَّمت ذاتها على أنَّها القراءة التطبيقيَّة لمدينة النبي، أمَّا المدينة الفلسفيَّة فقد فكَّرت لتضع هذه الدمى داخل بعضها بعضاً، ولتعيد التفكير في أشكالها منتجة لفكر افتراضي يستلهم النموذج اليوناني، لينأى بذاته إلى مدينة السعداء [8]، فكيف كانت تصوُّرات الفيلسوف للسلطة وأدوات الحكم؟

ربَّما نعثر على مبررات فقدان دور الفيلسوف في تصوُّره للسلطة، ما يجعل مستوى الحديث عن نقد أو تبرير السلطة أحد مقتضيات الوفاء للروح الفلسفيَّة، فما هي أشكال تصوُّره للسلطة بين الاندماج والنقد والتجاوز؟ لقد فكَّر الفيلسوف اليوناني لأجل العقلنة وإنتاج العلم، بينما فكَّر الفيلسوف الإسلامي في حدود السلطة التي سمحت بها تصورات قيم القبيلة، بما أنَّ مسألة السلطة الشرعيَّة ستوجّه اختياراته، فيتصوَّر مدينة سعيدة، دون تقديم أدوات اندماجها في الواقع.

لم تفكر الفلسفة الإسلاميَّة في مدينة تتعقل غاياتها، فبقي الفقيه الفاعل الأساس في السياسة حِرَاسَةً للشرعيَّة، في حين كان الفيلسوف حارساً لمدينة افتراضيَّة، تحرَّكت داخل الزمان اليوناني في فضاء إسلامي، فكانت صياغتها النقديَّة نظريَّة مجرَّدة، إذ لم تتفاعل مع المجتمع الإسلامي، بخصائصه الاجتماعيَّة وروحه الثقافيَّة وبنيته الأنثربولوجيَّة، فلماذا عجزت الفلسفة عن تقديم البديل لأزمة الخلافة، لتقدّم نسقاً فكرياً لمجتمع يفكّر خارج إطاره الزمكاني؟ هل يؤول ذلك إلى خطابها الغريب عن مجتمع يحتكم إلى الكتاب؟

وعموماً يبقى السؤال عن دور الفيلسوف الإسلامي في بناء علم مدني ينتقد ويفكّر ويشرّع ضرورياً، إذ يفتقد مشروعه الدور المنوط بكلّ فلسفة سياسيَّة حيَّة ومنتجة، بمعنى استمراريتها في الاحتضان العقلي لأزمات الإنسان اللاحقة، فهل كان التفكير في المدينة الفلسفيَّة استمراريَّة لأزمة الخلافة؟ فتكون مدينة الفقيه ومدينة الفيلسوف قد انبثقتا معاً عن تأويل لمدينة النبي؟ ما هي آليات إعادة إنتاج المعنى السياسي النبوي، عبر صور المخيال المرتكز على السلطة الإلهيَّة في مدينة الفيلسوف؟ لماذا حسم هذا المعنى الغاية ليجعلها في يد الحاكم المستبد؟

تحرَّكت المدينة الفلسفيَّة داخل مجال سياسي، اختلط فيه وعي النصيحة السلطانيَّة بالشرعيَّة المتواترة عن مدينة النبي، فألفت شكلاً تفاضلياً، وقع فيه الحاكم مقام النبي، بينما كانت الرعيَّة في حكم اللَّامفكر فيه والمنسي، ففي خضم التشريع الماورائي لشرعيَّة الحاكم، يطبعن الفارابي الحق الأبدي لهذا الحاكم، ويمدُّه بآليات الفلسفة لتزداد شرعيته السماويَّة، فهل كانت حركة الفلسفة داخل النسق السلطاني، ثمَّ السير في صوريَّة النص اليوناني، سبباً مباشراً في نهاية المشروع المدني العقلاني في الفلسفة الإسلاميَّة؟

أولاً: مدينة النبي ومدينة الفيلسوف - التوفيق بين ساحة المسجد والأغورا: ينبني النص الفلسفي في الإسلام على ضرورة انزياح المنقول نحو المعقول، وسيجد الفيلسوف في فعل التوفيق آليَّة قمينة لعقلنة النص، لذلك من غير المجدي انطلاق كلّ دراسة للفلسفة العمليَّة، دون اعتبار الدور الذي أدته مسألة الشرعيَّة في بنية النص الفلسفي وآفاقه، لتتحدَّد وجهة هذا النص في إيجاد آليات القراءة المعقولة للشرعيَّة في مجتمع يحتكم إلى الكتاب، فهل استطاع الفيلسوف نقل خطاب الشرعيَّة إلى مستوى التعقيل المفترض في الخطاب الفلسفي؟

لا يبدو تحيين العلم المدني ترفاً فكرياً، بقدر ما كان ضرورة تحدث فهماً عقلياً لأزمة السلطة، كما تردَّدت داخل وعي الشرعيَّة، وقد انقسم حولها الطالبون، ليستفحل حولها الجدل الإيديولوجي، فإلى أيّ مدى تتمكن الفلسفة من تجاوز أزمة الشرعيَّة؟ ما المدى الذي تسمح به الفلسفة، لإنشاء مفهوم آخر للسلطة الشرعيَّة؟ أَأراد الفيلسوف تعويض علم الفقه بالعلم المدني، أ م جعل صياغته للعقلانيَّة في حدود مطالب الفقه؟

ارتبط مفهوم الشرعيَّة في الإسلام بمن له الحق في خلافة النبي، ليتجاوز هذا المفهوم كلَّ حق في الحكم، إلا بالتواتر إلى مدينة النبي، فهي مجال المفكر فيه، فلا مراء، إذاً، أن ترتكز أوَّل مطالب الفلسفة في البحث عن أدوات لتماهي الفيلسوف والنبي، وإيجاد مسارات مفهوميَّة لتلاقي الأبعاد بين مدينتين، وهل يكون الحديث عن المدينة اليونانيَّة قارئة لمدينة النبي ممكناً في فضاءات الشرعيَّة الإلهيَّة؟ كيف نقل الفيلسوف نقاش الأغورا لينقح به خلاف السقيفة؟ ثمَّ هل كان الاختلاف في مفهوم السلطة بين العقل والنقل سبباً في بقاء العلم المدني من دون تأثير يذكر؟ إلى أيّ مدى استطاع الخطاب الفلسفي تحويل المخزون الوجداني لمخيال خلاف السقيفة، من عصبيَّة الانتماء الديني إلى النقاش العقلاني حول مصلحة الجماعة؟

وعلى الرغم من أنَّ الحديث عن العلم المدني قد دفعت إليه حاجة منهجيَّة تنتمي إلى مستلزم اللوغوس اليوناني، فكَّر الفيلسوف في مدينة فاضلة، وميَّز ذاته بتدبير عقلاني، غير أنَّ تردُّد المدينة الأصليَّة (مدينة النبي) جعل من مدينة الفيلسوف خلاصة للتوفيقيَّة، تأسيساً لمشروع سياسي افتراضي يفكّر بالأداة الفلسفيَّة في الشرعيَّة الإسلاميَّة، فما مدى انسجام الشرعيتين بين العقل والنقل؟

1. التواتر عن مدينة النبي- الخليفة/ السلطان وبنية السلطة في الإسلام: من الضروري أن تتحدَّد المنطلقات الكبرى في وعي نمو الأفكار وتوالدها في التاريخ الإسلامي، من مقدّمة أولى، وهي أنَّ (الإسلام يقوم على كتاب، وهو النص الحاكم لما ينبغي أن يكون عليه الفرد المسلم في سيرته وسريرته، وما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من حيث نظامه وسياسته)[9]، فاعتبار اللحظة النبويَّة في كلّ تفسير يُعدُّ حاسماً في وعي نشوء الشرعيَّة، وكذا أثرها في بناء الحمولة المعياريَّة للجماعة، سواء في سؤال الخلافة، أم في اتخاذ السُّنَّة مصدراً ثانياً من مصادر التشريع؛ إذ أحدثت العلاقة المتعديَّة من النبي إلى الخليفة، تحت توجُّه تأويل آيات طاعة أولي الأمر، ربطاً للسلطة بالقوَّة، ليكون الحكم متعدياً بالوكالة، فتولى مفهوم الشرعيَّة الإلهيَّة تقديم السلطة والقوَّة للخليفة، تحت توجيه الرمزيَّة الإلهيَّة للنبي، وكذا التحولات الأنثربولوجيَّة التي مرَّت بها الدعوة السياسيَّة.

تردَّد المتخيل الأكسيولوجي الإسلامي في حدود المدينة النبويَّة، إنَّ الرسول شخصيَّة جامعة، قائد الجماعة ومنشئ المثال الأخلاقي الفذ (وعلى هذا لا يندرج تأثير «المدينة» في المدينة الإسلاميَّة خارج بلاد العرب [...] بل يندرج أساساً في عمل الرسول ذاته، المؤسّس لدلالات حاسمة، ولأعمق رمزيَّة للمدينة المسلمة التي جعل منها هيكلاً إسلاميَّاً مؤسساتيَّاً لا مدينة فحسب؛ بل مدينة بالمعنى السياسي)[10]. بهذا عمل النبي على خلق النواة الصلبة لتصوُّر المدينة الإسلاميَّة، لتكون روحاً للسلطة، فهل من الممكن بناء سلوكيَّة الجماعة في السياق الإسلامي دون مرجعيَّة هذه المدينة؟

وإذاً لحظة المدينة لحظة فارقة، ستحدث انقساماً في السلطة، علميَّة وسياسيَّة، التزمت الأولى بالتنسيق بين النص والتاريخ، أمَّا الثانية فمثلت شرعيَّة التواصل بالسيادة العليا (الله)، وعلى الرغم من ثنائيَّة القسمة بينهما، إلا أنَّ التاريخ أحدث حالة توافقيَّة جمعتهما، لتؤلف السلطة العلميَّة مؤسَّسة للإنتاج المتواصل للمشروعيَّة السياسيَّة، ما يعني استبعاد كلّ سلطة مغايرة للحالة التوافقيَّة التي يجب أن يكون عليها فضاء المفكّر فيه، لذلك ستؤلف الفلسفة نموذجاً غريباً، أحدث الإدانة والمحاكمة والإقصاء؛ بل جعل التقيَّة وسيلة لتمرير المشروع العقلي، ويكون ابن طفيل نموذجاً تدثَّر بثوب الفقيه، مخفياً الفيلسوف تحت هذا الدثار[11].

لقد لعب السياق المزدوج لقيم القبيلة، والروح الكسرويَّة (الموروثة عن التماس الحضاري) على توحيد الصورة بين الخليفة والسلطان، فتوحَّد الحق في وراثة النبي بين السلطان والفقيه، ليتمَّ التسرُّب إلى الشريعة النصيَّة تأويلاً، وسيعمل الفقيه على إجراء المواءمة بين النص وواقع الحال، تخريجاً لنصوص الشرعيَّة المفترضة، الأمر الذي يفسّر الانتماء الضروري للمذهب، ووحدة الحضور خليفة/سلطان والفقيه، باعتباره مكوّناً أساسيَّاً للذاكرة الإسلاميَّة، ولعل هذا التحالف يفسّر الوضع المضطرب للنص الفلسفي بين الاستحواذ على مكتسبات السُّلطة، كما هي في حالة الفارابي، والنفور من التحالف بين الفقيه والسلطان، ممثلاً في مروق ابن باجة طلباً للتوحد، أو تلك النقديَّة الهادئة لابن مسكويه في نسيجه للموقف الإنساني، بناء للوجود المدني بعيداً عن قهر السلطان، ثمَّ اختصار ابن رشد لجمهوريَّة أفلاطون، فالعدالة ممكنة ومدينة الفيلسوف تؤلف نقديَّة مهمَّة لمدينة الحاكم المستبد، كما شهدتها المدن الأندلسيَّة المغربيَّة.

إذاً ألف النص الفلسفي نقديَّة عقلانيَّة لتجلّيات السُّلطة، ليقدّم العلم المدني، بوصفه بديلاً لخلاف أثارته مدينة النبي، لماذا لا يؤلف العلم المدني مرجعيَّة كونيَّة تمكّن من انزياح عقلاني للجدل العقدي حول أزمة الخلافة؟ قد تكون الصياغة الكونيَّة للسلطة، مبدأ يفكُّ أزمة الحكم وبناء مجتمع سعيد، خلاصةً ترد في قراءة تهذيب الأخلاق لمسكويه وتلخيص السياسة لابن رشد.

إنَّ ما حدث فعلاً هو تواري النص الفلسفي وراء الترجيح الضروري للنص الفقهي، لينتصر الفقيه في تسييج مجال الشرعيَّة في سلطة الخليفة، بما أنَّه ملتزم بوضع حلول فوريَّة ولازمة لتنظيم الأزمات وتسييرها، ولكنَّ روح التجاذب الوجداني والخلاف حول السلطة، كما حدث فعلاً في التاريخ، وكما انتثر في فُرْقَة الفرق، يحيل إلى ضرورة فتح سياق آخر للنقاش يرجح العقلانيَّة، الأمر الذي يفسّر، إلى حدٍّ ما، استقدام المشروعيَّة الفلسفيَّة في تقديم رؤية توافقيَّة تحدث عقلنة للنَّص الشرعي.

يدفع السؤال عن حالة الاستحواذ، التي تمكَّن منها النص الفقهي على حساب النص الفلسفي، إلى تحليل لأركيولوجيا السلطة، ومن ثمَّ الموقف العام والتاريخي من الفلسفة، فقد احتلَّ الفقيه مساحات الوعي، فكان حارساً للشرعيَّة، واندثر أثر الفيلسوف ليكون حارساً لذاته، من هنا نفسّر المنزلقات السياسيَّة في التاريخ الإسلامي، وموت مشروع العقل مع نكبة ابن رشد، أفلا يثير الموقف الرشدي من العلاقة بين الحكمة والشريعة توجُّساً من الفلسفة، ودورها المجاوز في الكشف عن تقلبات الشرعيَّة، في استجماع مكتسبات الاستبداد؟ فقد يحرّر العقل مدينة النبي من التأويل الذي أحدثته الأقاويل الجداليّة، ويضعها في سياقها المقاصدي، إذا ما اعتنى العقل بالنص تخريجاً لقصد الشارع، الذي تجلى عند ابن رشد في الفضيلة[12]، فتكون وحدة جامعة بين الحكمة والشريعة، ومن ثمَّ لن تتجاوز مهمَّة العلوم الشرعيَّة ما يقتضيه العقل بمعنى ما يقتضيه الحق.

2. تواتر المدينة الفلسفية- الفلسفة وما وراء السُّلطة: انخرط الفيلسوف في النص اليوناني، محدداً لنفسه توجُّها مغايراً لتمظهرات الشرعيَّة، وسيختار شكلاً من التيولوجيا المخالفة لعلم الكلام، مؤسّساً لجذور العقيدة الفلسفيَّة، فصاغ صورة الأوَّل «الله» بموجب تفكيره في ما وراء الفلاسفة اليونان، فالألوهيَّة يجب ألَّا تقام على الأقاويل الجداليَّة؛ بل بالاستمداد من الطرق البرهانيَّة، ليتجه الفيلسوف إلى ما وراء السُّلطة التي أسَّسها علم الكلام في جدله العقدي، وسيعوّض الفيلسوف علم الكلام بالميتافيزيقا، فهل تعلق استقدام العلم المدني بتحرير العقيدة من السلطة؟ خاصَّة أنَّ علم الكلام قد اندمج في هذه السلطة، وتحوَّل إلى بيان عن صحَّة الاعتقاد أو خطئه، إلى أيّ مدى كان بناء العلم الإلهي على مركزيَّة الأوَّل بوصفه عقلاً، فتحاً لمنافذ أخرى لوعي السلطة وفكّاً لأزمة الشرعيَّة في حدّ ذاتها؟

انبنى العلم الإلهي عند الفارابي مقابلاً لعلم الكلام، فالأوَّل يعتمد في بنيته على تصوُّر لعقل فلسفي توفيقي ذي طابع برهاني، بينما يؤسّس الثاني نقاشه على الأقاويل الجداليَّة، ستُحدث المدينة الفاضلة تنسيقاً بين الغايتين الميتافيزيقيَّة والعمليَّة[13]، وذلك للبرهنة على المحايثة بين العقل الإنساني والعقل الإلهي تجاوزاً لعقيدة المتكلم، في سبيل ترجيح شكل السُّلطة المفترضة بوسيلة العقل.

وإذا كانت هذه المدينة تمكّن من قراءات متفاوتة التقدير، إمَّا باعتبارها تردّد الفكرة الإسماعيليَّة[14]، وإما بالذهاب إلى شرعنة الدولة السلطانيَّة الموروثة عن أردشير[15]، فإنَّ القراءة الفارابيَّة لتصوُّرات المدينة الافتراضيَّة بوسيلة القول البرهاني، قد أدى مهمَّة ترجيح الشرعيَّة الكونيَّة للعقل، إلا أنَّ أداة التوفيق ممثلة في الفيض الأفلوطيني، ومحاولته حشد الوسيلة لاستمرار الفيوض المعرفيَّة بين الرئيس والأول[16]، تبين -لا محالة- عن عدم تخطي الفارابي الشرعيَّة النبويَّة، وأنَّ المدينة الفاضلة في نهاية الأمر تسير في مسار الغايات التي حدَّدتها ثنائيَّة الخليفة السلطان، على الرغم من صياغاتها للمعقول، ولكنَّها ترجّح كونيَّة المعنى بين الدين والفلسفة، تحت توجيه السلطة، كما هي في المجال الدلالي.

وعموماً تتخلل الشرعيَّة النبويَّة عند الفارابي السمات الكونيَّة للفلسفة؛ بل تخضعها لها (فالفقه في الأشياء العمليَّة [...] وهو جزء من أجزاء العلم المدني)[17]. وعلى الرغم من نسبة الفقه إلى العلم المدني هي نسبة الجزء إلى الكل، فإنَّ تصوُّر الفارابي لمدينته الفاضلة على غرار المدينة الإلهيَّة، ثمَّ إصراره على مركزيَّة الحاكم النبي، يجعل من هذه المدينة تردُّداً للشرعيَّة؛ بل تمتيناً لها، فكلُّ ما يحدث هو زيادة للسُّلطة، باستحكام البُعد الإلهي، ولذلك خفت تأثير أقدم وثيقة في الفلسفة السياسيَّة، ولم يكن لها دور في تطوُّر علم السياسة في الفكر الإسلامي، بما أنَّها أحدثت مسوّغات للسُّلطة، ولم تقدّم نقداً مجاوزاً لها، فالحاكم في المدينة الفارابيَّة فلك مركزي من أفلاك الميثولوجيا الأفلوطينيَّة، وهو ليس كذلك بالإرادة بل بالطبيعة[18]، وكلُّ ما عداه يدور في محيطه تبجيلاً.

وهكذا أحدث الفارابي حالة توفيقيَّة، بين سُلطة النبي وسُلطة الحاكم، لينتهي إلى مركزيَّة الحاكم، وحينئذ تلتحم السُّلطة السياسيَّة بالسيادة العليا، وفق المعقول الغنوصي، ممدَّة إيَّاه بنظريَّة الفيض، وسيتمكَّن الفيلسوف من الوحي عند انقطاعه، ليتواصل المدد الإلهي عبر الوحدة العقليَّة، التي تفترضها مدارج الفيوض عن الأول، وإذاً ستؤدي مدينة الفارابي دورها في استقدام العلم المدني، لكن تحت تأويليَّة افترضت تصوُّرات عن سلطة، ارتبطت بمنطق التطويع الغنوصي تحت هيمنة سياسة واقع الحال، بمعنى (من نظام الكون أو المدينة الإلهيَّة، الذي رسمته الفلسفة النظريَّة التي اعتمدها وهي غير أرسطيَّة بل أفلاطونيَّة محدثة (هرمسيَّة وحرَّانيَّة) إلى نظام الاجتماع أو المدينة البشريَّة)[19]، وهي مدينة ارتهنت بوضع سياسي قائم، الشرعيَّة السياسيَّة تلزم عن الشرعيَّة الدينيَّة والعكس، ولأنَّ الفارابي عقد مصالحة نظريَّة بين السُّلطة السياسيَّة والعقلانيَّة الفلسفيَّة، فِيمَ تجلت النقديَّة العقلانيَّة للسُّلطة في النَّصّ الفلسفي الإسلامي؟

ثانياً: مدينة الفقيه ومدينة الفيلسوف - السُّلطة بين التسويغ التاريخي والنقد العقلاني: يمثل الفقه أداة لمواصلة الوحي مهماته في تنظيم الجماعة الإسلاميَّة، وستتركز خيوط الشرعيَّة في يد الفقيه، محركاً لأفق الإمكان السلوكي الفردي والجماعي، ولأجل إكمال صورة الشرعيَّة لا بُدَّ للفقيه من أن يعود إلى الزمان الذي يرى فيه المسلمون (تطابقاً بين النص والواقع، وهو تطابق يفسّرونه بالأخلاقيَّة الاستثنائيَّة للجيل الإسلامي الأول)[20]. فالعثور على الحلول المناسبة تستوجب تعليلاً يحين الرمزيَّة النبويَّة بوصفها الشرعيَّة الفاصلة.

انتهى الفقيه في التاريخ الإسلامي إلى مكمل لمجالس السلطان، ورمز للشرعيَّة ومحفز على قبول سياسة الأمر الواقع، بما أنَّه المسؤول عن إحداث المواءمة بين رجل السلطة والسيادة العليا، من هنا خلا مجال الفقه من تأسيس بنائي لتصوُّر مجتمع منظم تتوازن فيه الحقوق والواجبات، لتميل كفته إلى جانب حق الحاكم ترجيحاً للسلم والاستقرار.

هكذا تنحصر وظيفة الفقيه في تمتين عُرا الشرعيَّة، بتنزيل المستجد على الشبيه، وأثناء ذلك يعتمد على النقل المتسلسل لأحداث تاريخ انقضى، سيخلص فقه السياسة الشرعيَّة، إلى إحداث تسوية لمسوّغات السلطة بحسب قراءة تأويليَّة للنص، ولا مراء في أنَّ الفقه قد تشكَّل بفعل ممارسات رجل السلطة، حيث سيعمل دائماً على أداء وظيفة براغماتيَّة، تعتني بتبرير موقف السلطة، وإعطائها المشروعيَّة، تحت بند «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

تمثل مسألة الشرعيَّة بحقّ أزمة سياسيَّة لها دورها في المنزلقات الكبرى في التاريخ الإسلامي، ذلك أنَّ تولي الفقيه مسؤوليَّة القيادة نحو الشرعية، أدَّى إلى غياب سياسة نقديَّة، ولأنَّ الفيلسوف احتل موقع الغريب، فإنَّ مشروعه النقدي بقي بعيداً عن دوائر السياسة، فالعلم المدني بما يؤديه من مهام نقديَّة وبدائل تنظيميَّة، عُدَّ مجرَّد قراءة صوريَّة، ولوحة جماليَّة تكمل المجلس الثقافي للسلطان، أمَّا المهمات الرسميَّة فسيتولاها الفقيه، بينما كان قدر الفيلسوف أن يتوارى مكتفياً بنيل السعادة العقليَّة، فهل كان للمشروع الفلسفي أن ينمو تجاه بناء تصوُّر سياسة نقديَّة في مجتمع يحاكم الفلسفة؟

1. علم الفقه والفلسفة - مشروعيَّة السلطة بين الفقيه والفيلسوف: الحضارة الإسلاميَّة حضارة فقه[21]، فقد كان للفقيه مهمَّة استثمار النص، وفي مدار استثماره هذا يسوق النصيحة للحاكم، ويمتن سلطته عبر الفتوى، كما يعمل على الصياغة الشرعيَّة لسياسة تنظر إلى الأمر الواقع بوصف الأولويَّة، فكانت خلاصة الاستشارة الفقهيَّة توجيه وتطويع للشريعة لتأتلف مع مطامح السلطة، لذلك قدّم الفقهاء تبرير السياسة، ومكنوا من هدنة طويلة الأمد، تحت بند يتكرَّر دائماً (السلطان والدين أخوان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر [...] إنَّما الزمان هو السلطان [...] عدل السلطان أنفع للرعيَّة من خصب الزمان)[22]. إنَّ حسن الصياغة التي يجريها الفقيه بين السيادتين الإلهيَّة والسياسيَّة جعلته يحتل مواقع الاستشارة، ليكون اللاعب الفاعل للمشاهد السياسيَّة في تدبير الجماعة.

ولأنَّ الفلسفة باب آخر لا يستقيم موقعه في مجتمع الكتاب ولا في باب السلطان، لم يعتلِ الفيلسوف موقع الاستشارة السياسيَّة، ولم يجانب السلاطين، إلا إذا اتخذ له هويَّة أخرى، كأن يكون فقيهاً أو طبيباً، هذا التواري يحدّد مجال المخاصمة الكبرى بين المعرفة الدينيَّة والمعرفة الفلسفيَّة، فالفقيه يرى في الفلسفة علماً مشوهاً غريباً لا يخدم الشريعة بقدر ما يحطمها، والفيلسوف يدرك ضعف مدارك الفقيه في تمثل الحقيقة، هي إذاً خصومة وجَّهت مسار المشروع الفلسفي وتأثيراته اللاحقة، فما هو الدور الذي أدته في وأد مشروع العقل بناء لروح فلسفة مدنيَّة عربيَّة إسلاميَّة؟ كيف تمثلت العلاقات بين الفقيه والفيلسوف، فانتهينا إلى غلبة الشرعيَّة الدينيَّة على الشرعيَّة العقلانيَّة؟

بعيداً عن الصراع السياسي، فكّر الفارابي في المشترك بين علوم ثلاثة: الفقه والكلام والعلم المدني؛ فالحقول تتمايز بين مباحث الفلسفة العمليَّة والعلوم الإسلاميَّة، كلٌّ له مجاله، وإن كانت الأفعال والأقوال موضوعاً مشتركاً بينها، لكن تبقى الغايات محدّدة للخصوصيات، مصوّبة لحقل هذه العلوم المختلفة، غير أنَّ العلم المدني يتميز بالكونيَّة، لما له من قدرة على معرفة النظام الكلي للمدينة وانقيادها نحو السعادة، ثمَّ إنَّه العلم الذي يدرس طبيعة المجتمعات واختلافاتها[23]، وتبدو حالة الهدنة واضحة في علاقة الفارابي بالفقيه، فلم يكن سوى ملاحظ يقظ، نظر كخبير ليدوّن العلم، ولعلَّ موقف المهادنة هذا يؤول إلى الانفصال الذي حدث بين الفارابي والسياسة، فهو الذي (كان أزهد الناس في الدنيا، لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كلَّ يوم من بيت المال أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته)[24]، أو إلى تسليمه بضرورة اللحمة بين الدين والسياسة تحت توجيه انتماء مذهبي.

لم تسر حالة المهادنة بين الفقيه والفيلسوف على وتيرة واحدة؛ بل تتجلى المخاصمة في السبيل الذي سلكه ابن باجة مناقضاً للسلطة، فتدبير ذات المتوحد هي سبيل السالك إلى الحق بعيداً عن مدينة ناقصة[25] يسوسها الفقهاء، وستحدد عزلة المتوحد بقدر درجات التدبير صعوداً إلى العقل الفعَّال، إنَّها عمليَّة ضروريَّة لتحصيل درجة التفضيل التي يختصُّ بها الفيلسوف. وستحيل تجربة التدبير إلى موقف من المنقول، ومن ثمَّ القطيعة بين علوم النقل والفلسفة، بل وحالة من المخاصمة، ففي تتبعه لمفهومات التدبير، عمل ابن باجة على وضع هرميَّة معرفيَّة، ينزل فيها الناس مراتب، ليعتلي الفيلسوف أعلى الدرجات، سواء في الاتصال بالعقل الفعال، أم في نيل السعادة، ما جعله يغادر أرض الإنسانيَّة للبحث عن مدينة سكانها فلاسفة لا طبيب فيها ولا قاضيَ، ليكون تدبير المتوحد صيغة بانوراميَّة لموقف عام من الفلسفة مثله الفقهاء والعامَّة، واستغلها رجل السلطة خدمة لمصالحه، لتنتهي بموت أبي بكر بن الصائغ، ولعلَّ موقفه هذا يبيّن عن خبرة سياسيَّة، بما أنَّه استوزر، وقارب السلطة من داخلها.

زمان ابن باجة هو زمان دولة المرابطين، وهي دولة للفقهاء، فلهم وكلت الشرعيَّة وتوجهاتها السياسيَّة، فكيف يكون مصير المعرفة العقليَّة في دولة الفقهاء؟ أليس على الفيلسوف أن ينأى بنفسه هرباً؟ فكان تدبير الذات الفلسفيَّة السبيل للبحث عن سعادة في انتظار حلول المدينة الفاضلة، فالزمان هو زمان الدول الناقصة، وعلى الفيلسوف أن يجهّز نفسه بأدوات العقل في انتظار حلول اللقاء بين المتوحدين، إنَّها مدينة الفلاسفة البديلة لمدينة الفقهاء، لا تعبّر رسالة تدبير المتوحد عن مشروع مدني لبناء دولة على العدل؛ بل هي نقديَّة فلسفيَّة بينت حال الدول في زمان ابن باجة، وهي دول ناقصة تحكمها طبقات تنتمي إلى الجسمانيَّة، وفي انتظار زمان الدولة الكاملة، على الفيلسوف أن يسوس نفسه مدبراً.

وعموماً تعبّر رسالة تدبير المتوحد عن الظرف الفلسفي في مجتمع يعتلي فيه الفقيه دفَّة القيادة، فكان التدبير بياناً عن المخاصمة الكبرى بين الفيلسوف والفقيه في الغرب الإسلامي، ولم يكن مشروعاً لفلسفة مدنيَّة قد تخط الغاية المجتمعيَّة، فكيف أدّى الفقيه الدور الحاسم في نهاية النقديَّة الفلسفيَّة؟

اختصر ابن رشد سياسة أفلاطون، ولكنَّ اتفاقه على تفادي الأقوال الجداليَّة، مركّزاً على البرهانيَّة، يعني إعادة إنتاجه لنصّ الجمهوريَّة إنتاجاً يحتوي على دلالات عميقة في البعد النقدي للسياسة في العصر الموحدي، ولاسيما أنَّ حالات المقارنة التي يجريها بين التفكير الأفلاطوني والمدن الأندلسية[26] يثير الانتباه، فعلى الرغم من الصبغة المثاليَّة لجمهورية أفلاطون، المثال حاضر في ثنايا الواقع، صفات تتميز بها المدن في زمانه، ما يجعل الكتابة الرشديَّة في السياسة تعبيراً عن موقف لما آلت إليه المدن الأندلسيَّة المغربيَّة من فساد حالها السياسي، ثمَّ إنَّ ترجيح التفكير البرهاني في الفلسفة الرشديَّة يضمر موقفاً من المعرفة النقليَّة التي يقودها الفقهاء؛ إذ التأويل له دوره الخطير في استخدامات النص السياسيَّة، فلماذا لا ينضبط في قوانين يقوم بها العقل، بدل تشتته في دروب الأقاويل الجداليَّة، حيث يتشظَّى النصُّ ترويجاً للدعاوى الإيديولوجيَّة؟ وإذا كان دخول ابن رشد إلى بلاط الموحدين رفعاً لقلق العبارة الأرسطيَّة، فهناك مهمَّة أخرى سيؤديها، فكّ سلطة الشرعيَّة التومرتيَّة عن السياسة والعامَّة، بوساطة فهم جديد للنص.

اتخذ النصُّ الفلسفي مساره عبر الاندماج في جدل الثقافة الأصيلة، فلم تخوّل له الموافقة إلا حين انخرط في مجال المفكر فيه؛ أي في الحقل الدلالي للشرعيَّة، إلا أنَّ العقل وقد تجلى في الفلسفة، فقد مثل للنقل مجالاً للمناوأة، بالنظر إلى غرابته وموقفه النقدي المصوَّب لتوجهات الشرعيَّة، فكان زوال تأثيره وبقاء النص متغلغلاً في النسيج المجتمعي عبر انخراط الفقيه فيه تأويلاً، ممثلاً لبعد أنثربولوجي، له مسؤوليَّة اتخاذ الاختيارات الإنسانيَّة القادمة.

2. العلم المدني بديلاً للفقه السلطاني- الانتقال من الجزئيَّات إلى الكليَّات: ألف العلم المدني خلاصة المذهب الفلسفي، ولم يؤدِّ وسيلة التنظير السياسي. وسواء انتهى إلى صياغة فلسفيَّة لمركزيَّة السلطة، كما استدلَّ عليها الفارابي في مدينته، أم مكَّن من نقديَّة فلسفيَّة سبرت الحال المجتمعي الناقص، كما أوعز إليها تدبير المتوحد وتلخيص سياسة أفلاطون، ارتقى الفيلسوف إلى مساءلة الكوني، بدلاً من التشتُّت في الجزئيات، كما هي حال علوم الملة.

لم يستطع الفيلسوف افتكاك مجال العملي من الملة، لتختصَّ علومها بتوجيه الأفعال، كما هي في الواقع، أمَّا المثال فهو من مستلزمات التفلسف، أفلا تعود هذه الخاتمة إلى صعوبة افتكاك التوجيه العملي من قبضة الفقيه، باعتباره لسان حال الشرعيَّة؟ سيوفر الفيلسوف آليات منطقيَّة لبناء تراتبيَّة معرفيَّة، تقع فيها الفلسفة في منزلة الكلي، بينما تندرج كلُّ العلوم تحت سلطتها، فهل يتمكن العلم المدني من أن يكون بديلاً لعلم الفقه؟ أم هل سلطة الكلّي على الجزئي، الفلسفة على الملة، تعني ضرورة توجيه علوم الملة، بوساطة التعقيل الفلسفي، خروجاً من وضعيَّة الاختلاف التي وقع فيها النص؟

لقد اتجه العلم المدني إلى بناء شرعيَّة العقل، وسيبين التعقيل الذي يؤديه هذا العلم عن حدود اللقاء بالمسموح به في الإطار المرجعي للجماعة المسلمة، ولذلك سيتجه الفيلسوف إلى العقل الهيليني، بحثاً عن مجال التوافق بين المسموح به ومساحة التعقيل. لم يترك الفيلسوف مجال هذه العلوم دون أن يعيد تنظيمها وبيان حدودها، إذ أدرك دورها في تأسيس التراتب المجتمعي، وتأثيرها في بناء النسق المعرفي الذي يسمح بحركة المجتمع، فسمح لنفسه بالتفكير في هذه العلوم، رافعاً إياهاً من الجدل إلى البرهان، وستنقلب الملة الفاضلة لتكتسي مقام الفلسفة، لذلك (العمليَّة في الملة هي التي كليتها في الفلسفة العمليَّة)[27]، هناك إذاً تضمن بين الملة الفاضلة والفلسفة عند الفارابي، وهيمنة لها على علوم الملة.

والحق أنَّ انحصار العلاقة بين الملة الفاضلة والفلسفة، في مجرَّد التسوية للعلاقة بين العقل والنقل، يُعدُّ تبسيطاً لموقف الفيلسوف الإسلامي من الدور الذي تؤديه الملة في تدبير الجماعة المسلمة، ففي مستوى البرهان تبدو سلطة الفلسفة شاملة في توجيه مدار الأفعال والأقوال، بمعنى علم الفقه وعلم الكلام، فبالنسبة إلى الفارابي (كانت الملة الفاضلة ليست إنَّما هي للفلاسفة، أو لمن منزلته أن يفهم ما يخاطب به على طريق الفلسفة فقط)[28]. هذا التضمين الذي أجراه الفارابي على مستوى ترتيب الفلسفة والدين يكشف عن موقف إصلاحي لمسار العلوم النقليَّة، وأثرها في توجيه غايات المجتمع العمليَّة، ونعني بها الأخلاق والسياسة.

تُعدُّ سلطة الدين كليَّة في أدائها التوجهات الإيديولوجيَّة، لذلك سيتسق موقف ابن رشد الشامل لكلّ دعاواه المعرفيَّة، حول جدوى الانخراط الإنساني في النص الشرعي تأويلاً، وقد أجاب عن هذه الجدوى في فصل المقال، مؤسساً لأدوات تأويل الشريعة، وانحياز اليقين إلى جانب البرهان، فالناظرون في النصّ هم البرهانيون، ما يعني أنَّ سلطة الفلسفة كليَّة في توجيه العلوم الشرعية، لم تكن رئاسة الفلسفة هذه إلا من قبيل الدور الذي يؤديه الفقهاء والمتكلمون في تسيير الواقع العملي، وهي هنا الأفعال والأقوال ذات الأثر في بنية المجتمع وتوجهاته، أدركها ابن رشد في ارتباط العصبيَّة الدينيَّة بنشوء دول ونهاية أخرى، فلماذا لا يكون النقل تحت توجيه العقل؟ ذلك أنَّ البديل عن علم الكلام يتركز على كونيَّة دليل العناية والاختراع، أمَّا علم الفقه فهو علم بالمقاصد الكونيَّة للتوجيه الأخلاقي الذي يرتكز على غائيَّة الفضيلة، ولا ريب في أنَّ تلخيص سياسة أفلاطون يكمل المشروع الرشدي، ليكون للفلسفة القدرة الكونيَّة في القيادة السياسيَّة[29].

وإذاً، اتجه النص الفلسفي إلى إعادة تأسيس علوم الدين على العقل، لما لها من أثر عميق في توجيه الأقوال والأفعال في الملة المسلمة، فلن يكون العلم المدني بديلاً لعلم الفقه؛ بل الصلة التي تحكمهما هي صلة الكلّ بالجزء، وسلطة العقل على النقل، غير أنَّ غلبة الفقه على العلم المدني أدَّت إلى نهاية النقديَّة الفلسفيَّة، ومن ثمَّ بناء عقلانيَّة مدنيَّة، تستشرف المستقبل السياسي.

ثالثاً: زمان المدينة الفلسفيَّة - حدود التلاقي بين مدينتي النبي ومدينة الفيلسوف: مثلت مدينة الفيلسوف منعطفاً مهماً في مجال النقد السياسي، بناء للعقل المدني، لكنَّها بقيت دون تأثير في مجال عقلنة الفعل السياسي. فالفقيه، وكيل الشرعيَّة، احتلَّ فضاء اختيارات التوجيه نحو ما ينبغي أن يكون، معتلياً حراسة المدينة الإسلاميَّة بمفرده، لينتهي دور الفلسفة حتى على صعيد النجاعة المعرفيَّة. ففي القرون الأولى شهد الفكر الإسلامي شكلاً من الانفتاح على التجربة الفلسفيَّة، إلا أنَّ هذه النجاعة ستختفي، فالإدانة التاريخيَّة التي تعرضت لها جعلتها من دون فعاليَّة في بناء العقل أو في حراسة المجتمع، إن كانت هذه هي نهاية الفلسفة، فهل يتمُّ العثور في نصوصها على استشراف دلالي يمكّن من قراءة أخرى للعقل المدني العربي زمان العقل الحديث؟

1. رئيس المدينة - تدبير الجماعة بين النبوَّة والتفلسف: كانت بداية الدولة في الإسلام بداية مأزومة، فاستمراريَّة الحاكم في حراسة الدين والدنيا، والتكفل بمطالب الجماعة، تحت قيادة الوحي، أدى إلى الاستيلاء المتواصل على الشرعيَّة، لتتشظى الدعاوى الدينيَّة، وتتشظى معها شرعيَّة الحكم، وسيستولي الحاكم بأمر الله على تسيير الجماعة لصالح السلالة، ثمَّ لصالح المفرد، أمَّا الجماعة فقد وقعت على حواف اهتمامه، ما أحدث دائماً شرخاً بين الإرادات السياسيَّة.

ألفت قيادة المدينة نواة المعالجة عند الفيلسوف، شاعراً بأبعاد الأزمة بالنظر إلى ارتباطها بالشرعيَّة الدينيَّة، فكيف يمكن تجاوز الخلاف الذي تثيره الدعاوى الدينيَّة، والارتقاء إلى بنية ترجح كفة الاختيارات العقلانيَّة على غيرها؟ فهل كانت مواقف الفلاسفة مستجيبة لصيغة الشرعيَّة، بمعنى خليفة له الحق في حراسة الدين والدنيا؟ هل فكَّر الفيلسوف خارج نسق الشرعيَّة مقدّماً مقترحات بديلة؟

أولى الفارابي رئيس المدينة دوراً مركزياً، حيث يجعل تكامل المدينتين الأرضيَّة والإلهيَّة علامة على القيمة التي يتولاها الرئيس في اتصاله بالعقول، فيُظْهِرُ الحاكم قدرة تتوازن فيها قوى النبي والفيلسوف، فهما وجهان لعملة واحدة، تمثلت لديها قوَّة معرفيَّة مرفقة بخصال الإنسان الكامل، ويبدو أنَّ الفارابي أحدث تنسيقاً يستوفي شروط الشرعيَّة (فإنَّ الرئيس الأول الفاضل إنَّما تكون مهنته ملكيَّة مقرونة بوحي الله)[30]، فالاتصال هو قاعدة الشرعيَّة، ومن ثمَّ يتولى الوحي قيادة المدينة حتى عند غياب النبي، بوسيلة الفيض الذي يتمكَّن منه الحاكم على مرّ الزمان.

إذا كان الفارابي قد تمسَّك بالشرعيَّة الإلهيَّة، ليجمع بين النبي والفيلسوف في قدرة القيادة، فابن باجة تبدو له المسألة محسومة في المدينة الناقصة، ولا مجال للتغيير إلا بالإصلاح، فالبداية تقتضي إصلاح موقف مجتمعي من العقل، والانطلاق نحو الإنشاء الفلسفي، ويبدو أنَّ النسيج الذي سيؤلفه المتوحدون يتجاوز كلَّ سلطة إلا سلطة العقل، إنَّها مدينة تخطَّت أزمة الشرعيَّة النبويَّة، كما تمَّ تكريسها في التاريخ الإسلامي، لذلك يمثل العقل وسيلة الإصلاح السياسي، فكان التدبير تعبيراً عن يأس من المدينة الناقصة التي ينتمي إليها، مدينة الفقهاء وقد أفسدوا العقل والسياسة، فالأولى إصلاح حالة العقل، قبل كلّ مبادرة لتصوُّر سياسي، وسيذكر تلخيص السياسة لابن رشد بالبديل الأفلاطوني محدثاً تواصل النقديَّة بين اليونان وزمانه، الذي يبدو مضاداً للمدينة الفاضلة، لتتجلى تلك الاستمراريَّة العقلانيّة من ابن باجة إلى ابن رشد في إحالة تدبير الجماعة إلى العقل، فمسؤوليَّة القيادة تعني قوة التدبير الفاضل الذي يرعاه (ملوك فاضلو السيرة)[31]، ومسار الوعي المدني لا بدَّ من أن يوحد الاهتمام العملي بين الحاكم والرعيَّة داخل إطار العلاقات المجتمعيَّة.

تؤلف فلسفة مسكويه الأخلاقيَّة المشروع البديل، فموقع التفكير المدني العربي لن يتيسر عبر اليوتوبيا؛ بل بالإصلاح المجتمعي الذي بدا أكبر من تغيير رأس القيادة عقلاً أو نقلاً، فالأولى التفكير في بناء الأخلاق ترقية للسلوك؛ ولأنَّ مسكويه يئس من حال مجتمعي بأكمله، حيث تركزت السلطة في يد ملوك جاروا على أنفسهم وعلى رعيتهم[32]، فقد اتجه إلى قراءة نقديَّة للواقع، فالملوك مصابون بأمراض أخلاقيَّة عميقة؛ إذ يأنف العاقل من تمنّي حالهم، بما أنَّهم فقدوا الصفة الإنسيَّة ليصابوا بأمراض أخلاقيَّة شتى[33].

تمثل الدعوة إلى تحكيم الحاكم العاقل قلب المشروع المدني عند الفيلسوف، فهناك أزمة شرعيَّة، على مستويي التنظير والواقع. وفي سبيل تجاوز الأزمة يذكر الفيلسوف نفسه بالخصال الكاملة للنبي، ليماثل بينها وبين خصال الفلاسفة، وستجتمع الخصال المشتركة في شخصيَّة الحاكم المفترض بناء للشرعيَّة المفتقدة. سيعني الحلم السياسي البديل عند الفلاسفة تصويباً للحاكم المستبد، الذي انتصر لنفسه بالغلبة، بدت عند الفارابي عقداً أبدياً بين الحاكم والوحي، أمَّا عند فلاسفة المغرب فقد مثل لديهم بديل العقل السمة البارزة لإصلاح الحاكم، ومردُّ ذلك إلى التضمين الإيديولوجي الذي يكرّس النص في سبيل الدعاوى السياسيَّة. أمَّا مسكويه، فينشئ نقداً أخلاقيَّاً لوضع السلطان، وفي حال غياب العدالة تنتهي الشرعيَّة لتتحوَّل إلى الغلبة، ولا فرق في المقاصد الأخلاقيَّة بين النبي والفيلسوف.

2. الغاية المدنيَّة بين السعادة والصلاح: تستوجب مقولة «الإنسان مدني بطبعه» التعقيل السياسي تنظيماً للمدينة، وتحيل إلى بيان الغاية من العيش المجتمعي المشترك، فقد تجلت لدى الفيلسوف في السعادة، إذ إنَّ نجاح العيش المشترك في أداء مهمّاته المجتمعيَّة يؤدي مباشرة إلى تجلياتها، هي الفرضيَّة التي تلقى داخل المجتمع المسلم التباساً، فالغاية التي تتضح في ثنايا النص الشرعي تركّز على الصلاح غاية فرديَّة ومجتمعيَّة، فالجزاء يُرجأ إلى زمان لاحق، فهل يكون هذا الإرجاء فناء للدنيا السعيدة في سبيل نعيم الآخرة؟ ومن ثمَّ ساد الاتكال وغياب المراقبة والمعاقبة في المدينة الأرضيَّة.

بين السعادة والصلاح تفترق الصيغ المجتمعيَّة بين مدينتي الفقيه والفيلسوف، إذ يصوّب الفقيه موقفه تجاه المصلحة، بينما يحين خطاب الفيلسوف غائيَّة السعادة، مذكراً بها على درب أسلافه اليونان، بين الصلاح والسعادة بدت الغاية المدنيَّة عند الفيلسوف فرضاً لا يستقيم في أداء غايات المجتمع المسلم، فالسعادة -وإن حضرت في خطاب الفقيه- تبدو استثناء وتابعاً لتجليات الصلاح؛ بل هي من مستلزماته بموجب العقد بين الدنيا والآخرة.

والحق أنَّ انخراط الفقيه في منظومة القيم المجتمعيَّة مكَّن له السلطة توجيهاً للعامَّة والخاصَّة، وهم يبحثون عن شرعيَّة أفعالهم التي تعني نجاتهم في الآخرة، أمَّا الفيلسوف فلا يمتلك آليات الاندماج المجتمعي، ولا يستطيع تقديم الحلول الفوريَّة للخاصَّة، ناهيك عن العامَّة التي لم تكن في مجال تفكيره؛ إذ حركته داخل النسق اليوناني أحدثت مفارقة بين الواقع والمعقول، فالسعادة مستعصية على الكل، إلا المتعقل الذي فارق الحس، وارتقى في مدارج المعقول، ونالها بصحبته للأخيار، هكذا كانت الغاية التي وضعها الفيلسوف غريبة غربة خطابه، في مجتمع كتاب تمحور تبليغه السماوي حول قيمة الصلاح، وإذاً بين صوريَّة السعادة وبراغماتيَّة المصلحة، اندثر التصوُّر الناهض بالروح المدنيَّة، لتتفكَّك الغايات ويندثر الاهتمام بالجماعة قيادة، فيتولى الفقيه والسلطان المتغلب دائرة القيادة تحت بند «ملك غشوم ولا فتنة تدوم».

رابعاً: مدينة الفيلسوف - في سبيل مشروع مدني: توارت مدينة الفيلسوف خلف مدينة الفقيه، ولم تؤسّس بديل البناء المجتمعي القائم على المشاركة، بينما تكون مدينة الفقيه أكثر جدارة وحركيَّة، ومن ثمَّ قيادة للشرعيَّة تجاه السيادة العليا، لتغيب مدينة الفيلسوف، وتبقى مدينة الفقيه مُغلقة للدراية في مجال السياسة، فأدَّت مهمَّة تسويغ الحال السياسي درءاً للفتنة وتعزيز ظلّ الله في الأرض، والقيام بطاعة أولي الأمر، فتضخم حقُّ الحاكم، أمَّا حقُّ الرعية فلم يكن يشغل مجال المفكر فيه[34].

ألفت مدينة الفيلسوف يوتوبيا خارج حدود الإمكان، ذكَّرَ بها الفيلسوف نفسه بوضعه مع العقل، فهل يكون الترقيع بين اليوناني والإسلامي سبباً لتراجع دورها في الترميم العقلاني للوعي المدني؟ ما هي عوامل العجز عن تأسس البديل المدني؟ ألم تكن جمهوريَّة أفلاطون سؤالاً شاقاً حول غايات السياسة العادلة؟ ألم ينتقل أرسطو إلى سؤال السياسة بعدما علل الفعل على مستوى الإيتيقا؟ ففي حين ركز العقل الهيليني على دور التربية في إنشاء وعي المواطنة، لم يفتح الفيلسوف الإسلامي سؤال الإنسان، ولم تكن إشكاليَّة المواطنة لتطرح نفسها أمام اختياراته الفلسفيَّة.

1. الإنسان والتربية - نحو أنسنة الغاية المدنيَّة: تُعدُّ مدينة الفارابي أوَّل وثيقة في الفلسفة السياسيَّة في الإسلام، نُسجت في صمت المتعالي، فعبَّرت عن فكر افتراضي، ليتصدَّر سؤال صلة الميتافيزيقا بالغاية العمليَّة اهتماماتها، فكانت مثالاً عن المدينة الإلهيَّة، ما جعل الفارابي منظّراً مخلصاً لسياسة واقع الحال، حينما توحَّدت لديه صورتا الخليفة والسلطان، فقوة التواصل بين الحاكم والمدينة الإلهَّية جعل الحاكم حاكماً بأمر الله، أمَّا المحكوم فإنَّه يدور في فلك هذه المركزيَّة الحاكمة، ألا نقول إنَّ الفارابي كان مهادناً كبيراً للسلطة؟

صاغ الفارابي بنية السلطة صياغة فلسفيَّة، ففي الماوراء الذي مثلته النظريَّة الأفلوطينيَّة، تمَّ ربط السلطة بالمدينة الإلهيَّة بناء للحق الأبدي للخليفة/السلطان، لتتولى الشرعيَّة الإلهيَّة تقديم السلطة والقوَّة للخليفة متردّدة في الرمزيَّة النبويَّة، لذلك ستختفي الغاية المدنيَّة في فلسفة الفارابي، التي تعني مواطناً سعيداً في مدينة عادلة.

انتقلت الرشديَّة إلى النقديَّة السياسيَّة عبر سياسة أفلاطون، إلا أنَّ نكبة ابن رشد أحدثت موتاً للمشروع الفلسفي، ووأداً لنقديَّة قد تواصل الأداء العقلي، ممكنة من استشراف عقل سياسي، فكانت النصرة للفقيه محتوياً ومؤدياً لوظيفة إحداث المسوغات الضروريَّة لأمر الواقع، إنَّه احتواء أزال الوعي المديني، وصياغة الدولة بحسب المطالب الإنسانيَّة، فهل هناك توجُّه فلسفي يفتح النقاش حول العقل المدني العربي في ثنايا تاريخه المعرفي؟

قد نعثر على مشروع لبناء العقل المدني داخل السياق الإسلامي في فلسفة مسكويه الأخلاقيَّة، فعلى الرغم من خلو الكتابة المسكويَّة من الأطروحة السياسيَّة، يحضر الوعد بالتنظيم المدني في قلب الاهتمام بالإيتيقا التي جعلت من الاختيار الإنساني قلب البناء المجتمعي السعيد، وإن كان اضطلاع مسكويه بالتفكير في المشروع الإنساني، بما يتضمنه من غايات مدنيَّة، قد بقي من دون تأثير يذكر ليلقى المصير نفسه لكلّ فلسفة.

تجلى اهتمام مسكويه بالمشروع الإنساني عبر حسّه الأخلاقي والتاريخي المستفيض، ففي التهذيب يحدث علاقات تركيبيَّة بين الفلاسفة اليونان، ليجيب عن سؤال الفضيلة والرذيلة، ويرتقي إلى نقاش حول مركزيَّة الإنسان في الأخلاق، فالتنسيق بين الغايات الفرديَّة والمجتمعيَّة هو الغاية النهائيَّة للتهذيب.

يتبين موقف الفيلسوف من المشروع السياسي في اهتمامه المركزي بالمسألة التربويَّة، لكن بعد إحداث مقدمات أولى تجعل من نيل الخلق حالة من الدربة ثمَّ العادة، فلا يوجد فعل إنساني إلا ويمكن للتربية شحذاً للسلوك في سبيل التنظيم المجتمعي ومشروعيَّة القانون، ذلك أنَّ القول بثبات الخلق إن كان خيّراً أو شريراً يعني القضاء على مصداقيَّة الفعل في المستويين الأخلاقي والسياسي، واندثار المعقوليَّة السياسيَّة[35]، ليتجه مسكويه إلى موقف يحدّد قواعد العدالة المفترضة خلافاً للموقف الكلامي؛ إذ العدالة تقتضي الحريَّة ومن ثمَّ مشروعيَّة المعاقبة.

بعد تحرير الشخصيَّة الإنسانيَّة من الحتميَّة، ونيلها حريَّة التصرُّف في التغيير والنمو، يثير مسكويه وسائل تغيير الذات، وبالنسبة إليه البداية تكون من حداثة الشخصيَّة، فيتجه إلى تربية الأحداث، أو تطبيب النفس المريضة، إذا ألمَّت بها الرذائل، ولا تعنينا هنا آليات التربية، بقدر ما يعنينا شعور مسكويه بأهميَّة التربية في تنظيم المجتمع، على الغايات المرجوة من الإنسان، بما أنّه حيوان اجتماعي، ولذلك يتجاوز مسكويه المشروع الافتراضي للفيلسوف الذي انتهى (إلى أن يبني مدينته داخل ذاته، ولم يكن يعنيه أن يقدّم مشروعاً لبناء مجتمع، ولو على سبيل الاحتمال البعيد)[36]، إلى تأسيس فعاليَّة تغييريَّة تبني الإنسان، بما أنَّه مدني بالطبع، ما أدى إلى:

1. تجاوز الخطاب الديني المؤجّج للفرقة، واعتبار الإنسان مركز الفلسفة العمليَّة، مع تحليل عقلاني هادئ للمقاصد الأخلاقيَّة التي تخلص إليها الشريعة، ففي مستوى العقل لا يحدث الصدام بين الأخلاق والغايات التي تغياها الشارع.

2. تأسيس إنسيَّة تعتمد على المحبَّة لبناء المجتمع السعيد، وسيكون حضور الرعيَّة ضرورياً استكمالاً للمشهد المدني وشرعيَّة الحكم.

3. إثبات الحريَّة، فالشخصيَّة لا يمكن لها النمو إلا إذا تميزت بالتغيير، إذ يُعدُّ موقف مسكويه من الخلق ثورة تتجه عكس الخطاب الكلامي الأشعري، الذي ركَّز الإرادة الإنسانيَّة في يد الله، مبيناً عدم قدرة الإنسان على وعي القيم، ليتسرَّب أمر الطاعة فيكون خضوعاً لكلّ من تكون له الغلبة في الحكم. سيناقش مسكويه مسألة الإرادة في بداية كتاب التهذيب، ويدلل بالبرهان المنطقي على أنَّ موضوع الأخلاق هو الرويَّة والاختيار[37]، وأنَّ الإنسان قادر على تغيير أخلاقه، وهنا تكمن مشروعيَّة التربية مؤلفة وسيلة التغيير المرتقب. إذ لم يكن اهتمام مسكويه بالتربية اهتماماً نظرياً، بل اهتمام مؤرخ خبر الوضع السياسي للدولة البويهيَّة، وعاصر سلاطينها تباعاً، كما نظر إلى الأحداث السياسيَّة نظرة خبير، فاتجه مباشرة إلى البحث عن العوامل التي بموجبها يمكن إصلاح الإنسان، وبناء مجتمع على المعقوليَّة في القرن الرابع، وقد تميَّز بتراجع الدولة، وانهيار مجتمعي تفكَّكت فيه الأخلاق وكثر صخب الدعاوى الدينيَّة، ومنها صخب الصوفيَّة.

2. بناء المجتمع على العدالة - نيل السعادة المجتمعيَّة: ولأنَّ الإنسان مدني بالطبع، فصياغة المجتمع على الغايات الأخلاقيَّة هو مبتغى العيش معاً، وهو ما تؤدّيه فلسفة المحبة عند مسكويه، فلكي تحقق الشخصيَّة أبعادها الإنسيَّة، لا بُدَّ من تأليف سياق مشترك لبناء السعادة، يقتضي العدالة بما أنَّها المدار الكلي للتعاون، ولأنَّ العدل في البدء هو القسط الذي يؤدي مفهوماً حسابياً دقيقاً، فالحقوق لن تنال إلا بالاعتدال والمساواة (فالعادل من شأنه أن يساوي بين الأشياء غير المتساوية)[38]، ومن ثمَّ تكون العدالة قبلاً بُعداً عقلياً، يؤلف مجال التفكير الإنساني، وينشأ في الوعي بوساطة التربية، ليتحوَّل إلى مجال سلوكي محقق، والشريعة تؤلف في ذاتها آليَّة تحقيق القسط، بما قدمته للنفس من وسائل التوسُّط والاعتدال، وبما مكّنت منه من موازين للقسط التي تضمنتها المعاملات الإنسانيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، فحبها للمقسطين يجعل منهم في مصافّ المحسنين.

ولأنَّ المدنيَّة تتطلب العدالة كقاعدة لنشوئها ودوامها، فقد أولى مسكويه أهميَّة للإمام العادل، بما أنَّ العدل المدني به (عمرت المدن، وبالجور المدني خربت المدن)[39]، وسيكون العادل الحكيم العاقل أقدر على قيادة المجتمع، بما أنَّ (الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقيَّة)[40]، إنَّه الحاكم المقسط، الذي يعطي غيره أكثر ممَّا يعطي نفسه، وتبدو هذه النتيجة إعلان الفيلسوف نصيحة فلسفيَّة لحكام جائرين، ففي مقام آخر يذكّرنا مسكويه بوضع السلطان وحبّه للدنيا، إذ يبدو أنَّ حال العدل انتهى إلى حال من الجور، يستوجب تسريع الإصلاح الذي بدا عند مسكويه صيرورة تربويَّة تقتضي الاهتمام بالعامَّة إنشاء للفضائل المجتمعيَّة، وسوق النصيحة للحاكم تصحيحاً لمسار الدولة.

وهكذا يكون اقتضاء المجتمع المدني هو التعاون بين أفراده، وبما أنَّ العيش المشترك شرطه الألفة، فقد بنى مسكويه تصوُّر المدينة على صياغة العلاقات الإنسانيَّة، على قيم التعاون والأنس والمحبَّة، إتماماً للسيرة الإنسانيَّة داخل المدينة، فالسير في العمل المجتمعي، حتى تحصيل العمل النافع الواحد، هو الغاية من تأسيس المجتمع البشري. ما مصدر هذه العلاقة؟ إنَّها الرويَّة والإرادة، وليس الجور والغلبة.

وعموماً ينزلق الخطاب المسكويّ إلى بنية الوجود المدني، إنَّها علاقات التعاون المؤسَّسة على المحبَّة، يترأسها حكيم عاقل، أمَّا حدود الخلافة فلحراسة الدّين. ويشير مسكويه إلى الغفلة التي تصيب هذه الحراسة عندما تعتلي الشهوات دفَّة القيادة، مبيناً كيف تنقلب إلى الجور إذا دخل عليها الهوى، وهو تنبيه لفسادها، منذ الانقلاب على قيم الشريعة، فحلول الشهوة مقام العقل يفسد دين الناس، ناهيك عن دنياهم، فما هي العلاقة بين الخلافة والسياسة العادلة؟

إنَّ سياسة العدل، كما تقتضيها المقاصد الأخلاقيَّة المبثوثة في الشريعة، لا تناقض الحق والعدل بمفهومهما الكوني، فصاحب الشريعة عمل عبر العبادات والمعاملات، على وضع الأنس والمحبة في ثنايا المقاصد التي بثها، لكنَّ الموازنة في معايير اختيار الإمام حارس الدين والدنيا، بين اختيار العامَّة الذي يعتمد النسبيَّة مثل الحسب والمال، واختيار العقلاء يحدث فرقاً، فالمعايير النسبيَّة عند مسكويه ضئيلة في اختيار الصالح للقيادة، فالحكيم العاقل هو من يجب أن تكون في يده مقاليد حكم المدينة، فهو الأقدر على الحكمة والفضيلة، فبالنسبة إلى الحكيم إدراك الحقائق الإلهيَّة على الطريقة النبويَّة ميسور، فقد أتيح له العقل الذي يبدي معقوليَّة ما تولى الوحي الإخبار عنه (فإنَّ الوحي بالنسبة إلى مسكويه ليس إلا الصورة الأكثر من ذلك، إنَّه فيض النور المنبثق عن الواحد الأول)[41]، وتبدو مثل هذه العلاقة راجحة، بما أنَّ الإسلام يزيل رابطة الدم، ويحيل إلى القيم الأخلاقيَّة كمنسق أساسي للعلاقات الإنسانيَّة، أخلاقيَّة كانت أو سياسيَّة.

في مدار إحداث العدل نيلاً للسعادة، أولى مسكويه أهميَّة قصوى للرعيَّة، فالصفة الأبويَّة هي التي يجب أن تحكم العلاقة بين صاحب الملك والرعيَّة، ولكن على حسن المقاصد التي بثها الشارع، إذا لم تحفظ العدالة وساد الجور وانقلب السلطان إلى التغلب. وعلى الرغم من انتباه مسكويه لخطورة دور المحكومين في الدولة، العلاقةُ الحاكمة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة الأبوَّة، وهو مجال المفكَّر فيه في القرن الرابع الهجري.

الخاتمة: العقل المدني العربي بين شرعيَّة الخلافة وشرعيَّة الحق الإنساني: لا تنظر الجماعة الإسلاميَّة إلى وجودها السياسي إلا تحت توجيه مدينة النبي، حيث الالتحام بين سلطة الزمان وسلطة الروح، فكانت (الإمامة موضوعة لخلافة النبَّوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا)[42]. ستثير طبيعة الإمام التنازع بين المسلمين، لينقسموا إلى سُنَّة وشيعة، ورحى الصراع بينهما دائرة، لتستمرَّ إلى راهن المسلمين، حيث تحدث المتناقضات شرخاً في الاختيارات السياسيَّة، لا يمكن تفسير هذه الشروخ إلا بافتقاد الفعل السياسي لرهانات العقلانيَّة، فقد استمرَّ العقل الفقهي يؤدي مهمَّة الخلاص السياسي داعياً إلى إحياء الخلافة الإسلاميَّة، واتجه دعاة الحداثة إلى ترقيع يولي العقل الغربي الدور المركزي في الاختيار السياسي، فهل قدَّم العقل السياسي العربي وعياً مدنياً، قد يحدث فسحة للانتقال التاريخي للفعل السياسي الواعي لذاته بعيداً عن صراع الشرعيَّة الإلهيَّة؟ ونعني الفلسفة بما أنَّها حقل لممارسة التفكير، بعيداً عن ضغط الأولويَّة الدينيَّة، وتمثلاتها المنساقة إلى ربط الشرعيَّة الإنسانيَّة بالشرعيَّة الإلهيَّة.

يحيل التراث السياسي الإسلامي إلى قراءة مركّزة للمدينة كما تصوَّرها الفلاسفة المسلمون، تراءى لهم وعد المدينة المترقبة في مرجعيتهم الهيلينيَّة، وتمثلوا خطط الفلاسفة اليونان في تصوُّرهم السياسي، فهل فكَّر هؤلاء خارج مفهوم الشرعيَّة الإسلاميَّة بحسب مقتضاها التاريخي؟ هل أحدثوا وعياً عقلانياً بشرعيَّة إنسانيَّة؟ الإجابة عن هذا السؤال تظهر نفسها عبر النتائج الآتية:

1. على الرغم من أنَّ مدينة الفيلسوف بدا أنَّها قراءة للمدينة الفلسفيَّة بافتراضها اليوناني، يتطلب تفكيك بنيتها اعتبار المجال الاجتماعي الذي تجلَّى في مفهوم الشرعيَّة السياسيَّة، التي تحيل المخيال ضرورة إلى مدينة النبي، حيث الربط الزماني بالروحاني، واستمرار السيادة الإلهيَّة في أداء مهمّاتها التنظيميَّة للمدينة البشريَّة.

2. ليس للمدينة الفلسفيَّة تأثير يذكر، على صعيد نمو الأفكار، في ميدان الفلسفة السياسيَّة الإسلاميَّة، فالغلبة كانت لمدينة الفقيه، بما أنَّه مالك المجال الاجتماعي، أمَّا الفيلسوف فينتمي إلى فضاء مغاير بدا غريباً، لكنَّه دخل في مجال التعقيل المفهومي للقضيَّة السياسيَّة، وانخرط في مجال النقد السياسي، مقدمّاً لبدائل يبدو أنَّها حلٌّ لأزمة الخلاف على الحكم، ولكنَّها بقيت اقتضاء ينتمي إلى ما يجب أن يكون تعقيلاً.

3. كانت العلاقة بين الفيلسوفين الإسلامي واليوناني علاقة انتقائيَّة، فقد اختار الأول من نسق الثاني ما يؤسّس موقفه من الشرعيَّة، كما هو حال الفارابي، إنَّها مدينة إلهيَّة تؤبّد الشرعيَّة النبويَّة عبر الإمام القادم، وقد تحوَّل الفيض لديه أداة واصل بوساطتها الوحي تقديم الشرعيَّة، وفي خضمّ التدليل على هذه الشرعيَّة، ينهي الفيلسوف مشروعه المدني بفقدان العلاقة مع العامَّة، فالفيلسوف وحده القادر على العيش السعيد، ومن ثمَّ انتهى المشروع العقلاني في بناء النسق السياسي في تاريخ العقل السياسي العربي.

4. تُعدُّ المواطنة مفهوماً يونانياً موصولاً بمفهوم البوليس، كما تحقَّق تاريخيَّاً في بلاد اليونان؛ إذ اعتنت الدولة المدينة بموقع المواطنة، بوصفها تجليَّاً لعلاقات اللوغوس داخل المدينة، وعندما اندمج الفيلسوف الإسلامي في الصياغة الفلسفيَّة للمدينة، لم يدرك خطورة هذا المفهوم المفصلي، فقد بقي جسم الدولة، وهو الرعيَّة، في حكم المنسي، ويبدو أنَّ هذه الغفلة تعود إلى افتقاد الوعي العربي هذا المفهوم من الناحية الأنتربولوجيَّة والدلاليّة ثمَّ السياسيَّة، فعلى المستوى الدلالي الوطن ليس هو المدينة.

5. لأنَّ العامَّة لا تفقه الغاية الإنسيَّة، فقد غفل عنها الفيلسوف، لم يفكّر في تربيتها، ولم يقترح قيمة العدل فاعلاً أساسياً في تنظيم المجتمع (وقد نستثني مسكويه من هذه النتيجة) بينما كان أصله الهيليني قد فكَّر في لقاء للسعادة والعدالة، بناء لحق المجتمع في النظام، ولذلك ستتمُّ قراءة النص اليوناني في الفكر الغربي، وتعمل فكرة العدالة على تثوير مقترحات الفلسفة في الزمن اللاحق، فهل يمكن أن نتجاوز حقَّ أفلاطون في قراءة ماركس وراولز؟

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

_______________________________________________________________

[1]- يتفكرون العدد11

[2] - جعيط. هشام، نشأة المدينة العربيَّة الإسلاميَّة - الكوفة، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط3، 2005، ص 192.

[3] . Grand Dictionnaire de la philosophie, Larousse, CNRS Editions, Montréal, Canada, 2003, p. 135

[4]  . Gardet, Louis, La Cité Musulmane, 4éme édition, L PH, J VRIN, 1976, p. 17

[5] - انظر اختلاف التوجهات الإيديولوجية في العالم العربي، من علمانيَّة اشتراكيَّة إلى إسلاميَّة، إلا أنَّ شكل الحاكم يتحدَّد عبر صورة واحدة، إنَّها صورة الحاكم بأمره.

[6] - Gardet, Louis, La Cité Musulmane, p. 23.

[7] - أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، دار النهضة العربية، ط1، 2007، ص 7

[8] - أرسطو، دعوة للفلسفة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، ط الهيئة المصريَّة للكتاب، 1987، ص 46

[9] - علي، أومليل، السلطة الثقافيَّة والسلطة السياسيَّة، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، لبنان، ط1، 1996، ص 10

[10] - جعيط، هشام، نشأة المدينة العربيَّة الإسلاميَّة، الكوفة، ص ص 210 - 211

[11] - المراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الفرجاني للنشر والتوزيع، ط1، 1994، ص 169-171

[12] - ابن رشد، فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، (د.ط)، 1982، ص 53.

[13] - الفارابي، المدينة الفاضلة، موفم للنشر، الجزائر، ط2، 1990، ص7

[14]- كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، ترجمة نصير مروة وآخرون، عويدات للنشر والتوزيع، ط2، 1998، ص 244

[15] - الجابري، العقل الأخلاقي العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2001، ص 363

[16] - الفارابي، كتاب السياسة المدنيَّة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، ط 1996، ص 88

[17] - الفاربي، كتاب الملة ونصوص أخرى، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط3، 2001، ص 52

[18] - الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، ط1، 1995، ص 69

[19] - الجابري، نقد العقل الأخلاقي العربي، ص 354

[20] - أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص 11

[21] - جب، هاملتون، دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة إحسان عباس وآخرون، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، (د.ط)، 1979، ص 261

[22] - ابن قتيبة، كتاب عيون الأخبار، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، (د. ت)، ج1، ص50

[23] - الفارابي، كتاب الملة ونصوص أخرى، ص 71

[24] - ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، مكتبة النهضة المصرية، مصر، ط1، 1947، ج4، ص 242

[25] - ابن باجة، تدبير المتوحد، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2012، ص 56

[26] - ابن رشد، تلخيص السياسة، ترجمة حسن مجيد العبيدي وآخرون، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط2، 2002، ص 182

[27] - الفارابي، كتاب الملة ونصوص أخرى، ص 47

[28] - المرجع نفسه، ص 47

[29] - ابن رشد، تلخيص السياسة، ص139

[30] - الفارابي، كتاب الملة، ص 44

[31] - ابن رشد، تلخيص السياسة، ص 117

[32] - مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 191

[33] - المرجع نفسه، ص 190

[34] - صورة أنتربولوجيَّة مشتركة عبر الزمان العربي، تفسّر أركيولوجيا المواطنة في فضاء الدولة العربيَّة الراهنة.

[35] - مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص41

[36] - أومليل، السلطة الثقافيَّة والسلطة العلميَّة، ص 23

[37] - مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 44

[38] - المرجع نفسه، ص126

[39] - المرجع نفسه، ص127

[40] - المرجع نفسه، ص 129

[41] - أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط1، 1997، ص 529

[42] - الماوردي، الأحكام السلطانيَّة، دار الاعتصام، (د.ت)، ج1، ص 60