سرديات الكراهية عند المسلمين والمسيحيين: (الكُفّار) لـ "أندرو هويتكروفت"


فئة :  قراءات في كتب

سرديات الكراهية عند المسلمين والمسيحيين: (الكُفّار) لـ "أندرو هويتكروفت"

يبدو كتاب (الكفار: تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام)[1] لـ "أندرو هويتكروف" كتاباً مفتاحياً لكثيرٍ من الأسئلة الإيجابية التي يمكن أن تُطرح وسط حقلٍ من العلاقات السلبية بين الإسلامية المسيحية، لا سيما بعد تغذية متون سرديات من الكراهيات المُتتالية، على مدار قرون طويلة، ستتجلّى حاضراً في سجالات وتشاحنات، ستصل في كثير من الأحيان إلى حدّ إراقة الدماء.

أمكن - تعقيباً على ما أشرتُ إليه، لناحية طرح كثير من الأسئلة الإيجابية - اختصار جميع الأسئلة في سؤال رحماني واحد، يتمثّل بـ:

هل يمكن نزع فتيل الأزمة الكبيرة بين الإسلام والمسيحية، والتأسيس لسياقات حِبِّية بينهما، بدل سياق الكراهية المُميتة، الذي يضغط عليهما معاً إلى درجة التنافر –في كثير من الأحيان وفي جغرافيات متعدّدة- ليس فقط المعرفي، بل والسيكولوجي أيضاً، وتعميم مفاهيم قاتلة ومؤذية، مثل "الإسلاموفوبيا" "الحروب الصليبية"، إلى آخر هذه المفاهيم التي تُعمّق الخلاف الزمني بين الإسلام والمسيحية، وتجعله مُستعصياً على التفاهم والتقارب؟.

في خاتمة كتابه، والتي جاءت تحت عنوان: "الملائكة الأفضل في طبيعتنا"، كتب أندرو هويتكروف ما نصّه:

"في النهاية، فإن الأمل الحقيقي في مستقبل أفضل هو، على حد تعبير مايير، هذه العملية التي تتمثل في "الاستماع إلى الكل مع الأجزاء، سوياً"[2]

لربما كان هذا نوع من الطوبى الموجودة في أذهان القلّة على حساب الكثرة التي تتغذّى على سردية الكراهية الكبرى، في العالمين الإسلامي والمسيحي، وتُغذّي بدورها هذه السردية وتضخّ إليها دماً جديداً المرة تلو الأخرى. لربما كان الأمر كذلك، لكن يمكن البدء من جديد، وتأسيس لسردية جديدة، تُقرّب المسافة بين الإسلام والمسيحية، وتجعلهما أكثر تعايشاً، بدل حالة التنابذ التي لا زالت تفتك بهما، ويروح ضحيتها حيوات كثير من البشر، كان من الممكن الاستفادة منها في تعزيز مسارات الإنسان الإعمارية في هذا العالَم.

إن عُمراً مديداً لسردية الكراهية، يصل إلى مئات من السنوات، سيجعل من العسير الانخلاع عن سياقات التلاسن والتنابذ والاحتراب، والتموضع في سياقات التفاعل والتقارب والإعمار. ففي تعزيز حديث لسردية الكراهية العتيدة، يكتب أندرو هويتكروفت:

"الكلمات مهمة، ولها أجنحة. فقد كتب ميخائيل باختين قبل موته سنة 1975 م بوقت قصير، في الفترة الأخيرة من آخر مقالاته أن هناك "كتل ضخمة بلا حدود من المعاني السياقية المنسية سوف يتم تذكرها في لحظة مستقبلية ما وسيتم تنشيطها في شكل مجدد، في سياق جديد" كانت آخر كلمة له في عمل حياته: "ليس هناك شيء ميت بصفة مطلقة، فكل معنى سوف يعود من مكانه"... أذهلتني الدقة التي اتسمت بها تنبؤاته بأن الكلمات والأفكار يمكن أن تكون مخيفة وخطيرة مثل الأشباح العائدة بعد الموت غير المرغوبة. وبمصادفة غريبة، في الأسبوع نفسه من سنة 2003، كانت الكلمات التي نطق بها كل من رئيس وزراء ماليزيا الدكتور مهاتير بن محمد، والقائد الأعلى لقوات الولايات المتحدة وليم بويكين، ونائب المخابرات العسكرية، قد زادت من الخصومة بين العالم المسلم والعالم المسيحي الغربي، فما لاقاه وليس ما فعلاه ترددت اصداؤه حول العالم، وهي العاقبة الحتمية للكلمات التي اختارا أن يستخدماها"[3]

فمهاتير محمد يقول، كما ينقل مؤلف الكتاب: "هناك شعور باليأس وانعدام الرجاء بين البلاد الإسلامية وشعوبها. إنهم يشعرون أنه ليس بوسعهم عمل شيء صحيح، وهم يعتقدون أن الأمور يمكن فقط أن تسوء، فسوف يكون المسلمون مقهورين إلى الأبد ويحكمهم الأوروبيون واليهود، وأنهم سيكونون فقراء أبد الدهر، ومتخلفين وضعفاء".[4]

ثم يستطرد مهاتير محمد: "لا يمكن هزيمة مليار وثلاثمائة مليون مسلم على أيدي ملايين قليلة من اليهود، لا بد أن هناك طريقة. ويمكن أن نجد طريقة إذا ما توقفنا عن التفكير، لكي نقيم ضعفنا وقوتنا، لكي نخطط، ونضع الاستراتيجية، ثم نشن الهجوم المضاد".[5]

أما بالنسبة إلـى "وليم بوكين، وهو مقاتل نال الكثير من الأوسمة ورقى حديثاً إلى منصب قيادي في البنتاغون فكان مكشوف الوجه باعتباره من المتحمسين للصليبية الجديدة... فعندما وقف في منصة الكنيسة المعمدانية الأولى في بروكن آرو، بأوكلاهوما، عرض شريحة مصورة لعلامة سوداء غريبة على العاصمة الصومالية مقديشيو في سنة 1993، وقال للجمهور "هذا هو عدوكم، إنها إمارات الظلام. إنه وجود شيطاني في تلك المدينة التي كشفها الرب لي عدوة (هكذا)"[6]

تبدو سردية (الآخر الكافر) سواء أتمّ ضخّ متون جديدة لها من قبل المسلمين أو المسيحيين، سردية معقّدة ومتشابكة، لذا يفتتح الكاتب كتابه بمقدمة يتحدّث فيها عن تجربة خاصة حدث معه في المغرب، وتحمل دلالة قوية على الغرض من كتابه، إذ يقول:

"أتذكر وأنا جالس بجوار طريق في المغرب، وحيداً يملؤني الخوف، أن توقف رجلان في سيارة نقل قديمة صغيرة وسألاني باللغة العربية أولاً ثم بالفرنسية عن وجهتي، وأخبرتهما انني متوجه إلى الشمال إلى طنجة، ومنها إلى إسبانيا. وبينما تسير بنا السيارة في بطء شديد، كنا نتبادل الحديث بصورة متقطعة، ولكننا بقينا صامتين طوال الشطر الأكبر من الرحلة، ولكنهما أصرا عندما وصلنا المدينة أن أبقى معهما. وأخذني هذان الأخوان معهما إلى منزلهما، حيث مكثت عدة أيام. وقد جعلاني أرى الحياة الفقيرة في المدينة الواسعة، ويبدو أننا أمضينا ساعات عديدة في السوق ونحن نحتسي الشاي المغربي بالنعناع، الذي لم يفارقني مذاقه على الإطلاق. وفي الليل كانت الكهرباء تنقطع باستمرار بحيث يغوص وسط مدينة طنجة في الظلام، وعندها يتوقف الصخب برهة، ثم تضاء المصابيح والشموع، وينتقل الناس بلا جهد من أسلوب حياة حديث إلى أسلوب حياة تقليدي. وفي النهاية، وبقدر من التردد، قلت إنني مضطر إلى اللحاق بمركب في ملقا، ثم اقطع مسافة طويلة إلى غرناطة، وأخذني صديقاي الجديدان حسان ومحمود إلى الميناء حيث رحلت، ولم أرهما ثانية قط، ولكن هنا كانت بداية الكتاب".[7]

هذي البداية القصصية دالّة جداً في سياق هذا الكتاب الشيّق والخيّر، فهي بمثابة المتن الحِبِّي الجديد على هامش سردية الكراهية التي تغذّي العلاقة بين الإسلام والمسيحية. فالكاتب يُؤشّر على ما يطمح إليه من تصالح وتعاون مثمر بين الإسلام والمسيحية، رغم سرده لكثير من متون الكراهية التي عصفت بالعالمين الإسلامي والمسيحي - وأسّست لعلاقات موتورة ومتوترة على مدار قرون طويلة بينهما - للتدليل أو بالأحرى للتفريق بين الطوبى التي يطمح إليها الكاتب، وبين الواقع المرير الذي يتغذّى على متون متوحشة، لن تفضي إذا ما استمر عليه الوضع، إلا إلى مزيد من التنابذ والتحاقد والتذابح.

يُقسّم أندرو هويتكروفت كتابه إلى ستة أجزاء إضافة إلى مقدمة وخاتمة. ما بين المقدمة التي أشرتُ إليها قبل قليل، وبين الخاتمة التي أشرتُ إليها هي الأخرى، وعنونها عنونةً دالّة هي الأخرى "الملائكة الأفضل في طبيعتنا".

شكلّت الأجزاء الستة، وما شملت عليه من تفاصيل كثيرة، الحمولة الكبيرة في الكتاب، لكن تبقى المقدّمة والخاتمة، رغم خفتهما أمام ثقل أجزاء الكتاب الأخرى، هما الأمل الجديد، أو الفراشة التي تنطلق من صندوق باندورا المليء بالشرور.

فالكتاب - حسبما يؤكّد مؤلفه - طيدور حول العداوة. كيف خلقت، وكيف بقيت. ومع أن المسلمين لم يكونوا أول أعداء العالم المسيحي الغربي ولا أعداءه الوحيدين، فإنهم سرعان ما صاروا بؤرة الخوف والكراهية الأولى بالنسبة للغرب"[8]. لكن الدفع باتجاه القيمة الغيرية للآخر الصديق، هي ميزة هذا الكتاب.

إذن، من الجزء الأول ووصولاً إلى الجزء السادس، ثمة سرد لما شهده العالمين الإسلامي والمسيحي من تأسيس لسردية الكراهية، التي ستتجلّى آخر تجلياتها في أحداث دموية بينهما، ابتداءً من حادثة تفجير مركزي التجارة العالمية في نيويورك في العام 2001م واعتبار ذلك بمثابة غزوة في سبيل الله، والدور الذي تمّ التأسيس له آنفاً في عقل ووجدان الإنسان السلم، لناحية إجبار الناس على دخول الدين الإسلامي تحت تهديد السلاح، وليس انتهاء بغزو العراق في العام 2003م، واعتبار ذلك بمثابة حملة صليبية جديدة باتجاه العالَم الإسلامي، في تذكير لما تمّ التأسيس له سابقاً، واستقرّ في عقل ووجدان الإنسان المسيحي.

وبموجب هذا الحِمْل الذاكراتي الثقيل، الذي يبرع اندرو هويتكروفت في سرد بعض متونه، مُغطيّاً بذلك مساحات زمانية ومكانية واسعة وشاسعة، ستبقى ثيمة الحقد هي الثيمة الأبرز التي تربط العالم الإسلامي بالعالم المسيحي. لكن أملاً - كان قد أسّس له منذ البداية - يحدوه في الانتقال من طور شيطنة الأعداء، إلى طور البحث عن أفق للتصالح والتعايش بين الجيران الأعداء، وتحويل العداوة التاريخية العتيدة، إلى صداقة جديدة، من شأنها التأسيس لأفق تعاوني بينهما، بدل أن يضلا على ما هم عليه من تناحر وتنابذ لأزمان قادمة. فالجيل الأبناء الحالي الذي يدفع ثمن ما اقترفه أيدي الآباء، يمكنه أن يقول كلمته، بعيداً عن إرث الكراهية المُتوارث، وذلك باكتساب خبرات جديدة، لا تخضع للشرط البيوثقافي، بقدر ما تخضع للمشترك الإنساني، الذي يمكن اكتسابه بمزيدٍ من المراجعات النقدية، لكلّ ما هو مُسلّم ويقيني، سواء بالنسبة إلى المسلم أو المسيحي.


[1] هويتكروفت، أندرو، الكفار: تاريخ الصراع بين عالم الإسلام وعالم المسيحية، ترجمة قاسم عبده قاسم، المركز القومي للترجمة، مصر، العدد 2072، ط1، 2013

[2] السابق، ص 598

[3] السابق، ص ص 588- 589

[4] السابق، ص 589

[5] السابق، ص 590

[6] السابق، ص ص 590- 591

[7] السابق، ص 33

[8] السابق، ص 97