سمير الزغبي: فلسفة الجسد واستراتيجيات توظيفه في مجالي السينما والاستقطاب الأصولي


فئة :  حوارات

سمير الزغبي: فلسفة الجسد واستراتيجيات توظيفه في مجالي السينما والاستقطاب الأصولي

تقديم:

يستضيف قسم الدراسات الدينيّة بمؤسّسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث الأستاذ الجامعي التونسي الدكتور سمير الزغبي، وهو الآن يدرّس بالمعهد العالي لفنون الملتيميديا، وكليّة الآداب والفنون والإنسانيات (جامعة منوبة). هو من مواليد الشمال التونسي، ولاية بنزرت، وبالتحديد مدينة منزل بورقيبة. متحصّل على شهادة الأستاذية في الفلسفة والدراسات المعمّقة في اختصاص الجماليات وتاريخ الفن. كما تحصّل على شهادة التبريز في الفلسفة وعلى شهادة الدكتوراه في جماليات السينما. وفضلاً عن ذلك فهو عضو ناشط بالجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي. من أهمّ أعماله المنشورة نذكر:

*    الفن والوهم وإبداع الحياة في فلسفة نيتشة، دار التنوير بيروت 2009

*    جماليات السينما، نظرية وتقنية إنشاء الفيلم، دار نقوش عربية 2010

*    دراساتفي النقد السينمائي، تونس 2014

Esthétique et théorie du cinéma: Essai sur le processus de la réalisation filmique. Tunisie 2014.

يوسف هريمة: بداية اسمح لي أن أستعير عنواناً لفؤاد إسحاق الخوري عنون به كتابه "إيديولوجيا الجسد" لأسألكم: كيف يمكن أن يكون الجسد إيديولوجيا؟ وما هي حدود الزيف فيه إذا اعتمدنا التعريف الماركسي للإيديولوجيا بكونها تزييفاً للواقع؟

ـ د. سمير الزغبي: تمثّل مسألة الجسد مسألة هامّة ومحوريّة داخل خطابات الفكر الفلسفي، بمختلف توجّهاته من القديم إلى المعاصر. ولم يقتصر الأمر في معالجة المسألة على الفكر الفلسفي فحسب، بل نجدها كذلك تحتلّ موقعاً متميّزاً في الأدب والأنتروبولوجيا والشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي.

إلا أنّ السؤال عن مسألة "إيديولوجيا الجسد" يدفعنا إلى تحديد المقاربة ضمن بُعدين: البعد الأوّل هو المقاربة الأركيويولوجية للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، أمّا البعد الثاني فيمكن أن نستند فيه إلى المقاربة البنيوية والسيميولوجية للفيلسوف رولان بارت. ذلك أنّه ضمن المقاربتين تتوضّح مسألة توظيف الجسد واستثماره واعتباره مجرد بنية وعلامة، خاصّة داخل ما يُسمّى بالعقلانية التكنوقراطية والمجتمعات الاستهلاكية.

لقد اهتمّ ميشال فوكو بمسألة الجسد اهتماماً خاصّاً في مؤلفه الشهير "المراقبة والمعاقبة"، متجاوزاً المقاربات السالفة التي اختزلت الجسد في بعده البيولوجي وباعتباره موضوعاً للمقاربة العلمية، إنّ المقاربة الأركيولوجية تحيلنا إلى ما هو أبعد، حيث تحتضن الجسد في بعده الاقتصادي والسياسي، أي تنزيل المسألة ضمن المجال السياسي. إذ يقول الفيلسوف: "بيد أنّ الجسد يتنزّل أيضاً تنزيلاً مباشراً في مجال سياسي، وعلاقات السلطة تمارس عليه هيمنة مباشرة. إنّها تستثمره وتطبعه وتقوّمه وتنكّل به وترغمه على ضروب من الأعمال وتكرهه على الشعائر وتطالبه بضروب من الإشارات".

مثل هذه الممارسات التي يخضع لها الجسد تعبّر بشكل صريح عن الاستثمار السياسي للجسد واستخدامه الاقتصادي بوصفه قوّة إنتاج.

أمّا في مستوى المقاربة البنيوية والسيميولوجية، فقد اهتمّ رولان بارت بمسألة إيديولوجيا الجسد على أنّه جسد الإشهار، أي الجسد باعتباره علامة وحاملاً لدلالة غير دلالته الأصلية. إنّه "الجسد المحوّل" كما يقول رولان بارت في مؤلفه "نظام الموضة" «Le système de la mode».

هذا الأمر يتوضّح بصورة جليّة مع تطوّر أشكال الإشهار، خاصّة الإشهار السمعي البصري ضمن الأشرطة الوثائقية والسينمائية وغيرها. إذ أنّه يتموقع باعتباره إيديولوجيا تستعمل لشدّ انتباه المشاهد وإرغامه والتحكّم في أبعاده السيكولوجية. إنّ "سلعنة" الجسد وتشيئته ضمن المنظومة الرأسمالية يكشف بوضوح البعد الإيديولوجي في مقاربة الجسد، حيث تكون المصلحة هي الأساس الأوّل، فيتحوّل الجسد المبدع من كائن حي إلى مجرّد شيء من أشياء السوق. وهو أمر أدّى إلى تشيئة الإنسان برمّته، فتتغلّب قوى النجاعة على القيم وإرادة المصلحة على إرادة الإنسان.

يوسف هريمة: مثّـل حضور الجسد في جميع الثقافات حضوراً مركزياً، وتراوح هذا الجسد بين التمركز والتهميش. حبّذا لو تضعنا أمام لمحة تاريخية تبيّن لنا فيها إشكالية الجسد بين الحضور والغياب.

ـ د. سمير الزغبي: لقد كان الجسد حاضراً في جميع الثقافات حضوراً متميّزاً، إلا أنّ هذا الحضور تراوح بين التهميش من جهة وردّ الاعتبار من جهة ثانية. وما يجب التأكيد عليه هو أنّ خضوع الجسد لممارسة معينة ضمن التاريخ ناتجة في الأصل عن رؤية وموقف محدّد مسبقاً من الجسد.

تأرجح الجسد ضمن تاريخ الفكر الإنساني بين موقفين: موقف يمكن اعتباره ميتافيزيقيا، وآخر يمكن تسميته الموقف الحيوي. الموقف الأوّل هو موقف ازدرائي من الجسد حيث يعتبره مجرّد جثّة هامدة إذا ما فارقته الروح. وأكثر من ذلك فإنّ الجسد يُعتبر "قبراً للروح" ضمن الاعتبار الميتافيزيقي، لأنّ الروح لما حلّت بالجسد تناست كلّ معارفها، لذلك يقول أفلاطون "المعرفة تذكّر والجهل نسيان"، والنفس تفكرّ أحسن ما يكون التفكير عندما لا يعطل صفوها لا السمع ولا البصر. إنّ الجسد ضمن هذا المنظور هو عائق أمام المعرفة، والجسد يفنى في حين أنّ النفس تتميّز بالسرمدية.

إلا أنّ هذا المنظور لن يمثّل قدراً محتوماً على الجسد، بل سيتمّ تجاوزه مع تطوّر العلم وبالتحديد مع فكر الحداثة، حيث سيتحوّل الجسد من مجرّد عائق أمام تحرّر الروح إلى موضوع للمعرفة العلمية. لقد كانت الفلسفات القديمة والحديثة تفصل في الإنسان بين شيئين هما النفس والجسد، وتعتبر أنّ حقيقته تكمن في أنّه جوهر مفكّر، وما جسده إلا مجرّد وعاء أو سفينة يوجّهها الربّان (ديكارت). وفي أحسن الأحوال اعتبر الإنسان جوهراً واحداً، تارة يكون مفكّراً وتارة يكون ممتداً (سبنوزا)، ولكن ضمن هذا الاعتبار الأخير وقع لفت الانتباه إلى شيء هام جداً وهو أهمية وأولوية الجسد بالنسبة إلى النفس أو الوعي، إذ أنّ ما يُسمّى بالنفس ما هو إلا لاحق وانعكاس لما يحصل في الجسد وما يلحقه من تغيّرات ومن تأثّرات بالعالم الفيزيائي. إنّ هذا التصوّر، على ما يتميّز به من طرافة ومن جدّة، يبقى يتحرّك في سجلّ ميتافيزيقي يعترف بقيمة النفس، إذ يعتبرها صفة من صفات الجوهر، كما أنّه ما يزال يثق في قدرة العقل على بلوغ معرفة حقيقية. لهذه الأسباب يمكن اعتبار التصوّر النيتشوي تصوّراً ثورياً يقطع قطيعة جذرية مع كلّ هذه الاعتبارات السابقة. يقول نيتشه: "إنّي بأسري جسد ولا شيء سوى جسد، وما الروح إلا كلمة تشير إلى جزء من هذا الجسد".

هكذا يتجاوز نيتشه التصوّرات الفلسفية السابقة وخاصّة تلك التي أقرّت بثنائية النفس والجسد، ويقرّ بكون الإنسان ليس شيئاً آخر غير جسد، وأنّ الأنا التي اعتبرها ديكارت ماهية الإنسان، ما هي إلا وهم منطقي وليست "يقيناً مباشراً"، لكن بالنسبة إلى نيتشه "الأنا" ليس شيئاً آخر غير الجسد الذي يمثل "عقلاً عظيماً"، وهو أكثر حكمة من العقل، بل هو العقل الحقيقي، "إنك تقول "أنا" وأنت فخور بهذه الكلمة، بل هناك ما هو أعظم منها، وهو ما ترفض تصديقه، ألا وهو جسدك وعقلك العظيم". وهذا الجسد ليس ذلك الأنا الذي يشير إلى نفسه في اللغة فيقول "أنا"، وإنّما هو هذا الذي يفعل ويتجسّد عبر إبداعاته المختلفة، "هذا الجسد لا يقول أنا، بل يكون من خلال الفعل." عند نيتشه حقيقة الإنسان ليست شيئاً آخر سوى جسده، وما الروح إلا أداة وألعوبة يلهو بها هذا الجسد، وبهذا تصبح الأفكار والمشاعر التي كانت انفعالات للنفس ما هي إلّا تشكّلات حقيقيّة للجسد، إذ هو الذي يسكن وراء كلّ سلوك يقوم به الإنسان ويريده. فكلّ ما نفكر فيه أو نحسّ به قد أملاه علينا جسدنا، "إنّ وراء أفكارك ومشاعرك، يا أخي، يقوم سيّد جبار وحكيم مجهول هو "الهو" الذي يسكن جسدك، بل هو جسدك". الجسد هو الذي يحسّ ويفكّر، فيفرح ويتألّم، يتخيّل ويفكّر، وعدّة أفعال أخرى كان يعتقد أنّها من أفعال النفس أو الروح. إنّ الجسد هذا الغائب الحاضر هو الذي يقدّر كلّ شيء، فحتّى ما كان يعتقد أنّه من تقديرات النفس إنّما هو من تقديراته هو، فقيمة الخير والشر وقيمة الحق والخطأ، وقيمة الجمال والقبح، إنّما هي قيم يضعها الجسد ويقيّم الأشياء من خلالها. إنّ الجسد هو الذي يريد كلّ شيء، هكذا يصبح الجسد هو الذي يريد وليست النفس.

مع نيتشه تنفتح مرحلة جديدة للجسد، حيث تنكشف قواه الإبداعية ويتخلّص من كلّ التشويهات التي مورست عليه خلال التاريخ، وأهمّ أمر تمثل في إجلاء قدراته الجمالية، عبر إعادة الاعتبار للظاهر والإحساس فيصبح كلّ ما هو جمالي وإبداعي منبعه الجسد، فعبر انفعالات الجسد تنجلي معاني الحياة وتدفّق الأحاسيس التي تكشف عن الصيرورة.

يوسف هريمة: لا يمكن أن نأتي على ذكر الجسد دون استحضار البعد الديني، ومراوحة الجسد بين التقديس والتدنيس. كيف تقرأ الصورة المتناقضة في التصوّر الديني، خاصة في تعامله مع المرأة كناقصة عقل ودين، أو أنّها عورة تقطع الصلاة في صورة مهينة لإنسان كرّمه الله؟

ـ د. سمير الزغبي: في الحقيقة ليس هنالك تناقض بين اعتبار المرأة "ناقصة عقل ودين" واعتبارها "عورة تقطع الصلاة في صورة مهينة لإنسان كرّمه الله". فاعتبارها ناقصة عقلاً وديناً هو نفس اعتبارها سبباً للخطيئة، وذلك الاعتبار يتأسّس ضمن نظرة تحقيرية ميتافيزيقية للجسد بعامة غذتها النظرة الدينية التي لم تعتبر الجسد فقط أمراً مدنّساً، بل أكثر من ذلك خصّت جسد المرأة بالدنس والنجاسة، والسبب في سقوط الإنسان في الذنب.

هذا التصوّر الأخلاقي التحقيري للجسد بعامة ولجسد المرأة بخاصة يمكن تفسيره فلسفياً بالعودة إلى التصوّر الميتافيزيقي الأرسطي. خاصّة عندما تمّ ترتيب الكائنات ترتيباً أنطولوجياً تفاضلياً يضع النفس أفضل من الجسد، والسماء أفضل من الأرض، والحاكم أفضل من العامّة، نزولاً الى اعتبار المرأة أدنى مرتبة من الرجل، ولذلك فهي في المجتمع الأثيني لا تتمتع بحقّ المشاركة في الحكم، أعني لقب المواطنة، مثلها مثل الأطفال والأجانب.

وكلّ هذا الاعتبار ينتج عن نظرة مجانبة للحقيقة، بل هو ناتج عن قراءة مغلوطة أو جزئية لم تدرك عمق النص الديني. فالدين كرّم المرأة باعتبارها أيضاً أمّاً، وباعتبارها نفساً يسكن لها، وهي محل للطمأنينة والراحة. المرأة في تاريخ الإسلام كان لها شأن عظيم، فقد كانت إلى جانب الرجل في كلّ الأحوال، وتميّزت بجرأتها وإقدامها.

يوسف هريمة: في واقع العولمة بدل أن يتبوأ جسد الإنسان قيمته، تشيأ واستُلِب وصار موضوعاً للاستهلاك. هل نحن في مرحلة نهاية الإنسان إذا اعتمدنا منطق فلسفة النهايات؟ أم هي البداية لتشكّل وعي الإنسان بذاته وجسده؟

ـ د. سمير الزغبي: إنّ الهيمنة على الإنسان كما بيّن ذلك النقد الفلسفيّ والسوسيولوجيّ مع ماركوز وآدرنو وهابرماس وفروم وبودريار وبورديو وفوكو...أضحت تعتمد:

أ- رغد العيش الذي حوّل الوفرة في المجتمع الاستهلاكيّ وما يرتبط بها من رفاهيّة وتسلية وملذاّت وأناقة...، إلى إيديولوجيا جديدة تجعل من المنتجات نفسها واقتنائها تكييفاً للحساسية وللفكر وللسلوك، فيتوهّم الأفراد أنّهم يحيون في أفضل العوالم الممكنة وينعمون بالمساواة والحريّة والسعادة. يقول ماركوز في مؤلفه "الإنسان ذو البعد الواحد": "إنّ المنتجات تكيّف النّاس ذهنيّاً وتشرّطهم، وتشكّل وعياً زائفاً عديم الإحساس بِما فيه من زيف."

ب- سلطة الصورة من خلال الدعاية والإشهار والإعلام التي تحوّلت بحكم بنائها وكثافة دفق بثّها إلى ضرب من غسيل الدماغ الذي يصيب الأفراد ويسلب قدرتهم على التفكير بوضوح والحكم بشكلٍ مستقلّ. يقول إريك فروم في مؤلفه الامتلاك أو الكينونة: "إنّ الأساليب الإيحائيّة شبه التنويميّة المستخدمة في الإعلانات التجاريّة والدعاية السياسيّة تُعدّ خطراً كبيراً على الصحّة العقليّة، وخصوصاً على الصفاء الذهنيّ والتفكير النقديّ واستقلاليّة الوجدان."

ج- الإخضاع السلطويّ للأجساد الذي يهدف إلى التحكّم في أدقّ حركات الأفراد وأفعالهم وإشاراتهم من خلال إجراءات انضباطيّة تعضدها مراقبة مستمرّة للسيطرة على الإنسان وعياً وجسداً فيكون نافعاً وطيّعاً في آن واحد. يقول فوكو في مؤلفه أقوال وكتابات: "إنّ الكيفيّة التي يُراقب بها فردٌ ما، ويضبط بها تصرّفه وسلوكه واستعداداته، والكيفيّة التي بها يتمّ الزيادة من كفاءته ومضاعفة مهاراته، والكيفيّة التي بها يوضع الفرد في المكان الذي يجعله الأكثر فائدة؛ هذا هو الانضباط في نظريّ."

يوسف هريمة: في أزمة الأصولية المعاصرة يصير الجسد عرضة للانتهاك، وإشباع رغبة كائن همجي يتسلط باسم الله. فمن فارق الدين يفارق جسده طهارته، وبالتالي هو نجس، ومن خرج عن مقرّرات الجماعة مات ميتة جاهليّة وجب قتله. ما هي قراءتكم لموضوع الردّة في الإسلام باعتبارها إبعاداً للجسد عن طهارته الأصلية؟

ـ د. سمير الزغبي: قد تكون الأصولية المعاصرة نابعة من تصوّرات إيديولوجية غاية في التطرف، خاصّة إذا ما تبيّنا موقفها من الجسد باعتباره مجرّد بؤرة لإشباع الرغبة، لكأنّها تريد أن تؤسّس لفعل متميّز بإعراضه عن الملذّات، وفي المقابل التضحية بالجسد في كلّ المعاني.

تطرح الردّة في الإسلام إشكالاً هامّاً، باعتبار أنّ مجموعات أو أقليّة تطرح نفسها على أنّها هي التي تمتلك الحقيقة دون غيرها. وهو أمر من شأنه أن يجرّ إلى انقسامات كبيرة ومتاهات لا خير فيها. فالردّة هي موقف دغمائي متصلّب لا يؤمن بالحوار وبالتحوّلات التي يشهدها المجتمع الإنساني في كونيته.

يوسف هريمة: أنتم من المهتمين بموضوع السينما باعتبارها حقلاً معرفياً اهتمّ به العديد من الفلاسفة كجيل دولوز وإدغار موران وغيرهم. كيف يمكنك تقريب صورة العلاقة الجامعة بين السينما والفسلفة؟

ـ د. سمير الزغبي: لا يمثّل مبحث العلاقة بين الفلسفة والسينما أمراً بدهياً. وهذا الأمر له العديد من المبرّرات تتعلّق إمّا بطبيعة المنهج المتّبع في كلا المجالين أو بتاريخيّة كلّ منهما، فمن جهة المنهج تتحدّد السينما كإبداع فنّي يعتمد على مقوّمات تقنية ونشاط جماليّ يقوم على بناء "الصورـ الحركة"، في حين أنّ الفلسفة تتحدّد كخطاب سمته التحليل والإفهام والكشف عن مقاصد ورؤى ومواقف محدّدة وتأسيس أطروحات معيّنة. أمّا على المستوى التاريخي فالسينما حديثة العهد، في حين أنّ الفلسفة يشهد تاريخها على نشاط الفكر منذ أقدم العصور. وهكذا فإنّ العلاقة بين السينما والفلسفة انطلاقاً من هذه الاعتبارات تبدو أمراً غريباً، فهي ليست بدهيّة.

لقد بيّن دومينيك شاتو Château Dominique ضمن مؤلف "السينما والفلسفة" أنّ هنالك العديد من المواقف الفلسفيّة قد تمسّكت بالتباعد بين المجالين، وتعتبر أنّ هنالك فوارق هامّة بينهما، من مجال تفكير إلى مجال تقني. فهو يستحضر بعضاً من المواقف الفلسفيّة حول هذه العلاقة مثل موقف برغسون وكذلك مورلوبونتي…، وهي مواقف مازالت تتمسّك بالتباعد بين المجالين، وتعتبر أنّ هنالك فوارق هامّة بينهما، من مجال تفكير إلى مجال تقني. كذلك لم يتوانَ دولوز عن الكشف عن موقف الفلاسفة تجاه السينما، فقد اعتبر أنّ برغسون، في الظاهر، لم يجد في السينما سوى حليف زائف[1]. أمّا بخصوص هوسارل، فهو لم يأتِ مطلقاً على ذكر السينما، وكذلك الأمر لدى سارتر الذي لم يذكر الصورة السينمائية رغم تحليله لكافّة أنواع الصور في نطاق المخيال. وكذلك مورلوبنتي فإنّه أعاد الاعتبار الفلسفي للصورة والظاهر والمحسوس والجسد، إلا أنّه قد حاول على نحو عرضي أن ينشئ قرابة بين السينما والفينمينولوجيا، دون تحديد علاقة هامّة بين المجالين.

لقد افتتح دولوز عصراً جديداً للفلسفة، وإن كان نيتشه في ما سبق قد بشّر بأنّ فيلسوف المستقبل هو فنّان مستكشف العوالم القديمة. إلا أنّ فيلسوف "الاختلاف والمعاودة" سيدفع بالمشروع إلى أفق هو بمثابة السقف، حيث إنّ التفلسف أصبح يضمّ قطاعات كان قد تبرّأ منها الفيلسوف في ما سبق أكثر من مرّة. فاحتفال مدوّنة دولوز بالسينما يجعل الفكر منفتحاً وأكثر من ذي قبل على المجالات الحيويّة للتجربة الإنسانية، وتصنيف منظّري السينما ضمن خانة الفلاسفة يعتبر سبقاً فلسفياً دشّنه دولوز. السينمائيون لا يمكن عزلهم عن صنف المفكّرين، لأنّ التفكير لا ينحصر في الانشغال بالماهيات، بل يكون بواسطة نمط جديد من المفهوم هو "الصورة - الحركة" و"الصورة - الزمن".

يروم دولوز في مؤلّفيه حول السينما تشخيص العلاقة بين الفلسفة والسينما، وذلك ببيان أنّ التحوّل الذي شهدتها السينما هو تحوّل جمالي ومفاهيمي في الوقت نفسه، بلغة أوضح إنّ السينما في مرحلتها المتطوّرة لم تتخلَّ عن نمطية تقنية جمالية كانت تخصّها لتنتقل إلى نمطية مغايرة تماماً، بل إنّ هنالك تحوّلاً مفاهيمياً، أي أنّه يوجد تحوّل في مستوى مفهوم الحركة ذاته. لذلك كان لا بدّ من العودة إلى التحوّل السينمائي ذاته ومعاينة تحوّلات العلاقة بين الصورة والمفهوم في الإبداع السينمائي ذاته. إنّ التحوّل من "الصورة - الحركة" إلى "الصورة ـ الزمن" هو بمثابة الأزمة المفهومية في نظر دولوز، وبالتحديد أزمة في مستوى مفهوم "الصورة - الفعل"، وهي أزمة لها العديد من الدوافع، أي كلّ التأثيرات الممكنة التي تتدخّل في العملية السينمائيّة، لكن بالأخص هذا التحوّل هو نابع من جماليات السينما ذاتها. وتحدّدت الأزمة في مستوى الصورة وبالتحديد في مستوى الأنماط الجمالية الكلاسيكية للسينما، أي الانتقال من "الصورة - الفعل" إلى "الصورة - الحدث". الأمر الذي أفضى إلى تغيّر مفهوم الصورة ذاته في الإبداع السينمائي. هكذا ندرك كيف يفكّر دولوز كفيلسوف، ولكنّ تفكيره منبثق من الإبداع السينمائي، فهو يعود إلى بدايات السينما وإلى المدارس المختلفة، ويستشهد بأفلام لكبار المخرجين، ويؤكّد على التحوّلات التي شهدتها التقنية السينمائية من خلال أمثلة دقيقة وشواهد من تاريخ السينما.

إنّ التفكير مع دولوز بهذا المعنى ليس "بآخر"، ولكنّه "وجه آخر"، فإذا كان "إنشاء المفاهيم" هو النشاط الفلسفي بامتياز، فإنّ الفلسفة في هذه المرّة ستتكفّل ـ على غير عادتها- بالتفكير في الدّلالات الجديدة لمفهوم الصورة، وخاصّة في مجالها الخاص الذي هو السينما، كما أنّها ستبحث في منزلة الصورة المعاصرة من حيث هي في أصلها الوسيلة الأهمّ من الوسائل الجديدة للتّعبير، وكأنّ الطّرق الكلامية القديمة أو الجهاز المفهومي القديم أصبح عاجزاً، يعتبر دولوز أنّ السينما تمنحنا القدرة على التفكير، إذ تقوم بإحداث نوع من الصدمة على مستوى الفكر فتنقل إلى الجهاز العصبي ذبذبات خاصة، "فالصورة - الحركة" تجبرنا على التفكير وتدفعنا إليه دفعاً.

يوسف هريمة: كتبتم عن إشكالية الهويّة والاختلاف في السينما العربية. ماذا تقصدون بهذه الإشكالية؟ وهل السينما إبداع محايد أم هي وسيلة تتضمّن حمولات إيديولوجية تبعاً لصانعيها؟

ـ د. سمير الزغبي: مثّل فن السينما المولود الأخير للفنون، ولكنّه، خلافاً للإبداعات الستّة السابقة، يتميز بكونه سريع الانتشار، فهو مجال ليست له هويّة ثابتة، لأنّ عرض الفيلم غير محدود أو مشروط بزمان أو مكان. السينما تتميّز بسعة جماهيرها وتجاوزها لكلّ الحدود، فهي كونية لأنّها تتحوّل إلى آلية للتواصل في أعمق معانيه، فهي تتوجّه للإنسان بتنوّع انتمائه الفكري والحضاري. هذا الإبداع وهذه التقنية الفنية المتميزة، هي في واقع الأمر أداة للتعبير عن معيش الإنسان وعن مشاكله وأزماته. وقد انخرطت السينما العربية عموماً في هذا التوجّه، أي معالجة المسائل الكونية، وهو ما يبرّر انتشارها وتميّزها في محفل المهرجانات العالمية، مثال ذلك فيلم "المصير" للمخرج الراحل يوسف شاهين، فهو فيلم يعالج مسألة كونية، وهي قضية "الإرهاب والتسامح ". إلا أنّ كونية الإبداع السينماتوغرافي تطرح إشكالاً في مستوى التأرجح ما بين الهويّة والاختلاف؟ هل البعد الكوني للسينماتوغرافيا ينفي انتمائها القومي والفكري؟ ألا ينطلق المخرج من قناعاته الفكرية وانتمائه إلى هويّة محددة ليترجمها ويعيد إنتاجها سينمائياً؟ لمعالجة هذه الإشكالية لا بدّ من تفكيك بنية السينما العربية والانطلاق من أمثلة محددة تكشف عن التأرجح ما بين الهويّة والاختلاف.

لأنّه في الفن لا شيء اعتباطياً، بل تنطوي الأعمال، حتى لو كانت تهدف إلى المتعة، على رسائل ورموز وقضايا ودلالات ذات مضمون حضاري يجسّد الثقافة الخاصّة بصانعيها، فإنّ السؤال الذي يجب طرحه هو: هل توجد هويّة قومية للسينما العربية أم أنّها سينما كونية؟ وإلى أي مدى يمكن الفصل بين ما هو كوني وما هو ذاتي في السينما؟ إنّ الهويّة القومية للسينما لا تعني أن يتبنى المخرج - وهو المسؤول الأول عن الفيلم- شعارات وطنية أو تضمين الفيلم بقضايا فكرية تحول دون المتعة الجمالية، وهو الشرط الأول للفن، أعني التحرر من وظيفة نقل الواقع كما هو. الإبداع السينمائي يجب أن يترجم عن القدرة الإبداعية للمخرج، حيث يجب أن يمتلك حدّاً أدنى من الوعي بشروط الفن والحرفة والانتماء معاً، فالفيلم الجيد وطن وهويّة، مادام يتمتع بالصدق الفني، فما يقوله الفيلم هو شيء جميل يتذوّقه أي إنسان مهما كان انتماؤه الفكري والعقائدي، إنّ السؤال الذي يجب أن يطرحه الناقد السينمائي هو: "كيف" يحبك المخرج البناء الدرامي في الفيلم، وليس ما هو موضوع هذا الفيلم؟ وهل يعكس الواقع الذي ينتمي إليه الفنّان؟ ولا يكتسب الفيلم، أو الفن عموماً، صفة "الكونية" ـ التي تتردد بلا معنى - إلا من قدرة مخرجه على التوجه إلى الإنسان عموماً، بغض النظر عن لغة الفيلم. فالسينمائي هو أولاً إنسان، وذلك لا يحول دونه ودون انتمائه إلى وطن خاص ويلتقي في أحاسيسه وذوقه مع غيره من الناس. لذلك نقول إنّ الكونية لا تتحقّق إلا من فائض الوعي بالهويّة القومية، حين يستوعب المخرج تراثه الحضاري وقضاياه الآنية، في رؤية لا تتشابه مع غيرها، وإنّما تكون هي ما هي، أي تدلّ على نفسها. هنالك نمطية جمالية ينكشف ضمنها البعد القومي للسينما، سينما تحمل في داخلها هموم الوطن وأزماته ورهاناته، سينما الهويّة لا تعني بالمرّة رفض الآخر وطرد الاختلاف، بل بالعكس، هنالك قناعة لدى المنشغلين سينمائياً بمسألة الهويّة، بأنّ السينما لا بدّ لها من أن تكون منفتحة على محيطها السياسي والجغرافي، لكن دون تزييف للقضايا وتهميشها.

إنّ الفنان دريد لحام، وفي ظلّ مسيرة طويلة وحافلة بالإبداعات، جسّد همومه الوطنية ضمن أكثر من عمل سواء في المسرح أو السينما. إذ يعالج فيلم "الحدود" قضية التقسيم مجسّدة لمعاناة المواطن العربي. هذا الفيلم يعارض وجود حدود لا سيّما بين البلدان العربية. وهكذا فهو يسعى ويعبّر بعمق عن معنى الكونية بدءاً بفكرة القومية.

العديد من الأفلام العربية الأخرى تميّزت بوضوح انتمائها إلى الهويّة العربية، من حيث مقاربتها لمواضيع تجسّد القضايا العربية الراهنة. كما أنّ هنالك شكلاً آخر للسينما ذات الطابع المتمسك بالهويّة، مجسّدة في الأفلام التي تمثل بيوغرافيا رموز وطنية مثل فيلم "ناصر 1956" بطولة أحمد زكي وفردوس عبد الحميد وطارق دسوقي وإخراج محمد فاضل. وهو يترجم سينيمائياً كفاح الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وتأميمه لقناة السويس.

يوسف هريمة: في عصر تراجع الإنتاج السينمائي العربي، احتلت الصورة والفيديوهات والروبورتاجات المشهد العام. وبدأ توظيف هذه التقنيات لأهداف غير إنسانية، كالاستقطاب إلى جماعات أصولية وإرهابية. ما أسباب تراجع السينما العربية؟ وكيف اختلّ المشهد لصالح الإنتاجات الأصولية؟

ـ د. سمير الزغبي: شهدت السينما العربية تحوّلاً هاماً في الفترة الأخيرة. إلا أنّ المشهد السينمائي لم يشهد تراجعاً في عموميته بل هنالك تغيير في مستوى بنيته الدرامية، وتميّزت المرحلة عموماً بالسينما الوثائقية التي استحضرت وقائع الثورة واستتباعاتها. وما يمكن الإشارة إليه هو أنّ جلّ المهرجانات العربية قد حافظت على مواعيدها. لكن في المقابل يمكن الإشارة إلى تفشّي ظاهرة استغلال تطوّر الآلات السمعيّة البصريّة لأغراض لا إنسانية، وأصبحت تنهض بدور الوسيط لبثّ الرعب والترهيب وإظهار القوة، ويمكن تلخيص استراتيجيات توظيف الوسيط السمعي البصري والتواصل عن بُعد في العناصر التالية:

- تصوير العمليات "الجهادية" وتركيبها بشكل دعائي.

- تجنيد الأعضاء أو التدريب أو التخطيط لعمليات إرهابية.

- الاستهداف الصارخ للنظام الرسمي ولأجهزة الدولة.

- التحريض على العنف.

- التشجيع على العمليات الانتحارية، باعتبارها: وسيلة غير مكلفة، مضمونة الفعالية، من أشدّ الأسلحة

فتكاً، أكثر الوسائل إثارة للرعب، صعوبة منع حدوثها.

يوسف هريمة: شكراً دكتور سمير الزغبي