طبع النزعة الإنسانية في فكر عبد الكريم سروش


فئة :  مقالات

طبع النزعة الإنسانية في فكر عبد الكريم سروش

طبع النزعة الإنسانية في فكر عبد الكريم سروش

أو الإنسان كمدخل للإصلاح الديني في الإسلام


مقدمة عامة: تجديد الإسلام بالإسلام

تأسس المشروع الفكري لعبد الكريم سروش داخل الدينامية الفكرية التي ميزت الفكر الإيراني لما بعد الثورة أو ما يسمى إسلام ما بعد الخمينية، دينامية أثارتها خيبة الأمل أمام ثورة لم تحقق وعودها، بل وشكلت ردة حقيقية كرست تراجع قيم الحرية وانتكاس الدولة المدنية ودولة حقوق الإنسان بسبب التسييس المفرط للإسلام والهيمنة على المجال الديني، وأصبح الكثير من المثقفين على وعي أن سلطة الملالي لا تعدو أن تكون إعادة إنتاج لسلطة الشاه. أدى ذلك إلى ظهور كتابات تميزت بتراجع مد البراديغم الثوري لصالح البراديغم النقدي وانتقال تدريجي من سلطة التراث إلى سؤال الحداثة عبر نقاشات معمقة حول أسس المعرفة الدينية.

  ينطلق المشروع التجديدي لسروش من التمييز بين الإسلام المتعالي أو الإسلام في حد ذاته والإسلام التاريخي أو الفكر الديني.

تكتسي كتابات سروش أهميتها أولا من كون صاحبها نتاج المؤسسة الدينية الإيرانية، حيث تلقى جزءا من تعليمه في الحوزات الدينية، كما أسهم في إرساء دعائم الثورة الإيرانية، مما سمح له بتقديم تشخيص أصيل لانحرافات الفكر الديني المرتبط بالمؤسسات الدينية أو حتى بالمجتمع الديني عموما. كما أن تكوينه الأكاديمي الحديث، جعله ملما بالتحولات الكبرى للمعرفة المعاصرة، لهذا فهو نموذج للمثقف المؤمن والمنفتح على الحداثة في الوقت نفسه. ورغم أن أفكاره مرتبطة أساسا بالفكر الشيعي ونظريه ولاية الفقيه، إلا أنها يمكن أن تكون مدخلا لإصلاح الفكر الديني في الإسلام عموما نظرا لكون الفكر النقدي لسروش يتناول بنية المعرفة الدينية وثوابتها.

يلخص سروش أمراض المجتمعات الإسلامية في " أدلجة الدين، طغيان الشريعة على الأخلاق والحياة الروحية "[1]، مما خلق تعارضا بين عالم معاصر يتميز بحركية مستمرة وقراءة للإسلام تدعي إمساكها بتأويل مطلق وأبدي للنص الديني وحقيقة العالم، كما أصبحت العناصر العرضية والتاريخية للشريعة، وهو نمط خاص من المعرفة الدينية، عائقا أمام الولوج إلى جوهر الدين.

يعتقد سروش أن أي مشروع تنويري في العالم الإسلامي، يجب أن ينطلق من نقطة أساسية، وهي الوعي بأن الهدف ليس هو تغيير الدين، بل طريقة فهمنا للدين، ليس إعادة بناء الإسلام أو إحياؤه، بل ملاءمة فهمه مع عالم متحرك ودائم التعقيد. يتطلب ذلك إحداث قطيعة مع فكر ديني تبسيطي، نرجسي ومنغلق على نفسه من خلال نقاش حول نظرية التفسير والمعرفة الدينية وعلاقة الإسلام بالعقل النقدي والتعددية.

الانتقال من التنزيل للتأويل ينقلنا من النص الإلهي إلى مجال الفهم الإنساني الذي هو مجال النسبية

من هذا المنطلق، سعى إلى صياغة مشروع عقل إسلامي جديد من خلال عملية نقد داخلية للفكر الديني الأرثوذوكسي وسياجاته الدوغمائية المغلقة وتفكيك أطروحاته وبديهياته التي قد تشكل مبادئ للإيمان. لم يكتف باختراق المنظومة الفقهية وانتقاد رجال الدين الذين وصفهم بأنهم حرّاس العالم الأسطوري، بل عمل كذلك على مساءلة سلطة المؤسسة الدينية وعلاقتها بالمجال السياسي عبر ما يعتبره قراءة ليبرالية وديموقراطية للإسلام. ولعل حجم الخلخلة الفكرية التي أحدثها هذا المفكر هو ما يفسر كون هابرماس وصفه بمارتن لوثر العالم الإسلامي.

بسبب جرأة أطروحاته، تعرض سروش للمضايقة والاعتداء، واتهم باستهداف الثوابت الدينية والمقدسات وخدمة أجندة غربية، مما جعله يغادر بلاده نحو الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2000 كما هو الحال بالنسبة لعدد من المثقفين الإصلاحيين وبسب هيمنة المحافظين ورجال الدين تراجع حضور النقاشات حول مسألة الإسلام الليبرالي والإصلاحات السياسية.

يهدف المقال أساسا للكشف عن البعد المركزي للنزعة الإنسانية في مشروع الإصلاح الديني في الإسلام لسروش من خلال الانتقال من سلطة النص إلى الإنسان كقيمة عليا وصانع لقيمه الدينية، من تصور متعال إلى تصور إنساني للدين. يمكن تلخيص هذا المشروع النقدي في أربعة محاور أساسية:

إنسانية وبشرية المعرفة الدينية وربطها بما يسميه بالأفق التاريخي للإنسان؛ فالمعرفة الدينية نتاج القراءات التي هي أجوبة على الأسئلة التي تنبثق بدورها عن تعميق وتعقيد مستمرين للوعي الديني. لذا، يجب التمييز بين الدين في حد ذاته (المطلق) والفكر الديني الذي هو تأويل أو تفسير نسبي للنص والتأكيد على استحالة خلق تطابق بينهما، مما يعني استحالة احتكار فهم أو حقيقة الدين. بمعنى آخر، فإن الحضور الإنساني يسمح بتفكيك أسطورة التناهي أو التطابق بين الدين والفكر الديني.

تاريخية الشريعة والمعرفة الدينية أو مقولة القبض والبسط للشريعة التي تعني المسار المفتوح للفكر الديني والتأكيد على البعد التاريخي للنصوص والتفسيرات المؤسسة للفكر الديني الإسلامي. يقترح المفكر الإيراني مشروعا إبستيمولوجيا، يرى أن صيرورة المعرفة مسار إنساني يعتمد على تصحيح وتجاوز المعارف الخاطئة، ويقترح منهجا لتجديد طرائق معرفتنا بالإسلام وتطوير آليات القراءة.

تعدد الحقائق الدينية أو فكرة "الصراطات المستقيمة" التي تعني أسبقية التجربة الدينية؛ أي العلاقة المباشرة للإنسان بمجال المقدس والمتعالي، على فكرة الحقيقة القبلية أو الدوغما، مما يؤسس لفكرة تعدد الحقائق الدينية. إن الإنسان يصنع بإيمانه حقيقة التجربة الدينية، من هنا فكرة التعددية الدينية وتعدد طرق الخلاص. يعمل سروش على تفكيك أسطورة الحقيقة الواحدة وإرساء الحق في الاختلاف.

نقد الاستعمال الإيديولوجي للإسلام، والذي يحد من حرية المعرفة الدينية، ويقوض مبدأ العدل ويكرس الشمولية الدينية والسياسية: الحداثة الدينية كمدخل للحداثة السياسية. يرى ضرورة خضوع المجال السياسي للبعد الإنساني من خلال جعل حقوق الإنسان معبرا للإسلام نحو نموذج الحكم الديمقراطي والمجتمع الليبرالي.

1. الولوج إلى الدين من خلال الإنسان أو أنسنة الدين والمعرفة الدينية

ينطلق المشروع التجديدي لسروش من التمييز بين الإسلام أو الدين في حد ذاته من جهة، و الفكر الديني أو المعرفة الدينية من جهة أخرى، والتأكيد على استحالة إحداث أي تطابق بينهما. في كتابه "القبض والبسط في الشريعة" يتماهى الدين مع الحقيقة المطلقة التي تتجاوز مجال النقد والخطأ ، فهي "الشريعة الخالصة" التي تتمثل أولا في مجموع النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا في حين أن الفكر الديني هو والاجتهادات البشرية لفهم هذه النصوص ، فإذا كان «دين كل واحد هو عين فهمه للشريعة، فإن الشريعة الخالصة لا وجود لها إلا لدى الشارع عز وجل» .[2]

وإذا كان الدين يتميز بالثبوت، فإن المعرفة الدينية مجال دائم للتحول والحركة المنهجية كما هو الأمر بالنسبة لباقي المعارف الإنسانية التي تتغير بحسب الفهم المتغير للعالم. ولأن كل المعارف تشكل بنية مترابطة، فإن تطور المعارف الإنسانية يستتبع تغيرا في نمط فهمنا للدين؛ أي المعرفة الدينية التي تخضع للتطور البراديغمي أو الإبستيمي ، لذا فقراءتنا للشريعة تنقبض وتنبسط، تتسع وتضيق، ترتكس أو تنفتح على مجالات جديدةحسب درجة تطور المعرفة الدينية المرتبطة بالمعارف الأخرى. فإذا " تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض والبسط، فلابد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض والبسط أيضاً، أحياناً بصورة ضعيفة وخفيفة، وأحياناً بصورة شديدة وقوية".[3] تشكل هذه الأطروحة انتقادا ضمنيا لنظرية أسلمة المعرفة؛ فالفكر الإسلامي بالنسبة لسروش ليس إلا جزءا من المعرفة البشرية العامة. يمكن القول إذن، إن المشروع التجديدي لسروش ينطلق من التمييز بين الإسلام المتعالي أو الإسلام في حد ذاته والإسلام التاريخي أو الفكر الديني.

ما المعنى الذي يمنحه سروش لثبات الدين؟ يبدو أنه لا يشمل إلا منطوق النصوص التأسيسية. من هنا مفهوم الشريعة الصامتة التي لا تتكلم إلاّ حين تكون موضوع تفسير؛ أي عندما يطرح عليها البشر سؤالا ويستخلصون منها جوابا؛ فهم بذلك يستنطقونها، فيصبح النص "حمال أوجه". يعيد سروش فهم مقولة الشريعة الثابتة أو خلود النص الديني ليس بمعنى وجود معنى وحيد وثابت للنص، بل بمعنى استمرارية عملية التأويل، فيصبح عندها النص مفتوحا دوما. تصبح عملية القراءة هي الضامنة لقدسية النصوص، ما دام البشر لا يتوقفون عن محاولة الولوج إلى "بطون الشريعة". ولعل هذا مما يسمح لفعل التأويل أن يكون فعلا خلاقا؛ فالذات القارئة لا تتوقف عن تجديد الأسئلة في علاقتها بتطور الوعي الديني ودرجة تعقيده. يصبح النص القرآني صيرورة بشرية وعملية التنزيل عملية مستمرة . رغم ذلك " يتصور المؤمنون الدين كأنه شيء مقدس وثابت. لكن يجب علينا التمييز بين الدين من جهة والتأويل الديني من جهة أخرى. إن أولئك الذين يدافعون عن فكرة الثبات غير واعين بتاريخ الإسلام أو تاريخ الأديان الأخرى.الإسلام هو مجموع تأويلات الإسلام كما المسيحية مجموع تأويلات المسيحية وبما أن هذه التأويلات تاريخية، فإن البعد التاريخي حاضر. لذا، فإنه من الضروري أن نملك كمعرفة جيدة بتاريخ الإسلام كي نستطيع وضع التأويلات في سياقها التاريخي".[4]

  صيرورة القراءات تبقى في حد ذاتها، وعلى المدى البعيد عملية إيجابية، لأنها تجعل من الضروري صياغة أخلاقيات مشتركة للعيش المشترك وقبول الآخر.

بالموازاة مع ذلك، فإن الانتقال من التنزيل للتأويل ينقلنا من النص الإلهي إلى مجال الفهم الإنساني الذي هو مجال النسبية، حيث يتعدد ويتنوع فهم المتون الدينية حسب التجارب الدينية والسياقات الثقافية. تكشف العلاقة بين النص والتأويلات على وضع معرفي إشكالي يتخذ شكل الالتباس والغموض أو التناقض. لذا، فنحن " نسبح في بحر من التفاسير والأفهام للنصّ, هذا هو مقتضى ماهية الدين من جهة، ومقتضى بشريتنا وبناء أجهزتنا الإدراكية من جهة أخرى؛ فإن الإسلام السني يعتبر فهما خاصا عن الإسلام، والإسلام الشيعي أيضا فهم آخر عن الإسلام"[5]. من هنا، فإنه من الصعب إخضاع قراءاتنا للنص الديني لمفهوم الحقيقة الموضوعية.

2. في نقد الانغلاق الفكري والعقائدي

ليسالتعدد دائما شيئا إيجابيا، إذ يمكن الكشف عن علاقة وطيدة بين وهم الحقيقة الواحدة والعنف اللاهوتي والسياسي ، لا يمكن أن ننكر أن دخول مجال التأويلات الدينية هو دخول لمجال الصراع الديني والانغلاق المذهبي والعقائدي كما هو الأمر مع مسألة الإمامة التي فرقت المسلمين لشيع متناحرة. ويعتقد سروش أن الخروج من الانغلاقات العقائدية يستلزم تفكيك الأسس الإبستيمولوجية للفكر الديني من خلال الكشف عن الطابع التأويلي لكل معرفة دينية، وبالتالي عدم معصوميتها، كل تأويل يمثل " فقها جزئيا". أما الفقه الكامل، فلا يوجد إلا عند الله.

في كتابه "بسط التجربة النبوية"، يقوم سروش بتفكيك أصول الاستبداد الفكري عبر نقد التصور التقليدي أو الأرثوذوكسي الذي يسعى للمطابقة بين الدين أو الشريعة الخالدة والفكر الديني التي يصبح موضع تقديس تكرسه مقولات، مثل الإجماع أو المعلوم من الدين بالضرورة، ما يعبر عنه سروش بأسطورة " نهاية المراد، غاية الأفهام، منتهى الدراية". إذا كانت «الشريعة باعتقاد المؤمنين قدسية كاملة وإلهية المصدر والمنشأ، فإن فهم الشريعة لا يتصف بأي من هذه الصفات، ولم يكن في أي عصر من العصور كاملاً ولا ثابتاً ولا نقياً ولا بعيداً من الخطأ والخلل، ولا مستغنيا عن المعارف البشرية أو مستقلا عنها، ومنشأه ليس قدسيا، ولا إلهيا، وهو ليس بمنأى عن تحريف المحرفين أو الفهم الخاطئ لذوي العقول القاصرة، وليس خالدا ولا أبديا»[6] . لذا، يعترض سروش بشدة على تحويل تأويل ما للدين إلى "حجة تعبدية على شخص آخر " ؛ أي إلىتأويل يحتكر الحقيقة ويمارس الإكراه.

رغم الوجه المأساوي الذي يمكن أن يتخذه اختلاف التأويلات الدينية، إلا أن صيرورة القراءات تبقى في حد ذاتها، وعلى المدى البعيد عملية إيجابية، لأنها تجعل من الضروري صياغة أخلاقيات مشتركة للعيش المشترك وقبول الآخر.

لكن عملية التفكيك الأكثر جرأة، تبقى مقولة التمييز بين ما هو إلهي في النصوص المقدسة، وما هو خاضع لتأثير السياق التاريخي الذي تمت فيه عملية الوحي.

3. من العرض إلى الجوهر أو في تجديد نظرية خلق القرآن

يظهر التأثير الاعتزالي واضحا في فكر سروش من خلال كتابه "بسط التجربة النبوية"، حيث يحاول تجاوز الفهم الأرثوذوكسي أو التقليدي للرسالة والوحي؛ فهو يدافع عن فكرة أن لكل دين "عرضياته" وحيثياته الخارجية أو الإطار الثقافي واللغوي الذي تتأسس فيه ظاهرة الوحي، وتكتسب فيه المفاهيم العقدية نسبيتها؛ فالجنة مثلا في النص القرآني، بناء مجازي وثقافي أكثر منه واقع حقيقي، ففضاء الجنة يتأثث بعناصر تنتمي للثقافة العربية كالحور العين في الخيام ، مما يعني أن جوهر الجنة يتجاوز كل التمثلات والصور الثقافية. إذا كان الرسول عليه السلام قد تلقى الجوهر من عند الله إلا أن هذا الجوهر لا يمكن أن ينقل للناس كما هو؛ فهو يتجاوز كل إمكانية للتواصل، لذا قام النبي بترجمة الجوهر إلى اللغة والصور التي يعرفها وبسطه في خلال محدودية تجربته الشخصية وظروفه التاريخية. ويحيل سروش في هذا الصدد على رواية عن ابن الصوفي الشهير جلال الدين الرومي يرى فيها أن تعدد الزوجات "إنما أجيز في القرآن لأن النبيّ كان يحبّ النساء، ولهذا السبب أباح لأتباعه الزواج من أربع نساء". يخلص سروش في نهاية الأمر، أن النبي لم يتلقَ الوحي بالقرآن حرفيًا، بل منح للإلهام الإلهي شكلا بشريا، بل ويذهب أبعد من ذلك عندما يؤكد أنه حتى ما يتم اعتباره ثابتا؛ أي النصوص المقدسة (كالأحاديث النبوية أو القرآن المتواتر) يمكن أن يخضع لتحول عميق وتكون موضع شك عندما يتغيرالسياق الثقافي. رغم ذلك، فهو يؤكد أن الفعل النقدي المستمر لا يمس بجوهر الدين. نتساءل هنا: هل لا زال مفهوم الثوابت قائما في أطروحة سروش؟ وما هي ماهية هذا الجوهر الذي يمنح للدين معناه وتماسكه وللمؤمنين مشتركا إيمانيا، يعبر بهم بعيدا عن التعصبات المذهبية والتأويلات الضيقة؟ سنجد الإجابة في مفهوم الانفتاح الصوفي.

  يفسر سروش آية اكتمال الدين باكتمال الحد الأدنى اللازم لهداية الناس، ولكن الحد الأقصى يبقى مجالا مفتوحا

4. في مفهوم الصراطات المستقيمة أو كيف يصنع الإنسان الدين بإيمانه

يمكن القول إن مقولة التعددية الدينية نتيجة طبيعية لمقولة نسبية المعرفة الدينية ؛ فالدين لا يتمثل في مذهبٍ أو عقيدة ، بل هو مجموع تأويلات النص المقدس، انطلاقا من فروض تتأسس خارج الدين. هذا التعدد غير قابل للاختزال، حيث يصبح الالتباس وضعا وجوديا أصليا لا يمكن تجاوزه، "فإذا كان الواقع بسيطا، وإذا كان الحق واحدا لكان من اليسير تميز الهداية عن الضلالة أو الحق عن الباطل ولا مجال حينئذ لتبرير وجود الفرق والمذاهب بشكل معقول ومقبول، ولكن كثرة الحقائق واختلاطها فسح المجال بالضرورة لإيجاد هذه الكثرة في ظاهرة الفرق والمذاهب والسبيل الوحيد لنفي الكثرة نفي وجود الأسرار والحقائق المخفية وتبسيط الأمور وتسطيح الواقع، وهذا بدوره عين السذاجة والسطحية"[7]. كما أن التعدد جزء من الحكمة الإلهية، حيث إن الله نفسه من أسس واقع التعددية عندما أرسل رسلا متعددين إلى مجتمعات مختلفة.

يرفض سروش فكرة أن أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى أنكروا الدين الحق، لأنهم في ضلال أو ينكرون الحق عنادا، وإنما لأنهم آمنوا بعقائدهم ورأوا بأنها على الحق. ليس التعدد نتيجة الانحراف، بل تعبيرا عن حيرة المؤمنين أمام كثرة الحقائق والأفهام المكشوفة لهم. تتجلى أهمية هذه الفكرة في كونها تقوض مفهوما مركزيا في الفكر الفقهي الأرثوذوكسي، ألا وهو مفهوم الكفر أو الكافر بمعنى المعاند للحق رغم معرفته به، في حين أن المعنى الواقعي أو الفينومينولوجي يحيل على الشخص الذي لم يعرف الإسلام أو لم يقتنع به رغم معرفته به . لا يعني الكفر أكثر من كلمة نستعملها لتسمية من هم خارج عقائدنا وتقسيم العالم إلى معسكرات عقائدية.

يتجاوز سروش فكرة القبول بتعدد الأديان والتعايش بينها، لأن هذا التعدد حتميّ إلى مقولة تكثّر الحقائق الدينية؛ أي إلى كون كل دين يملك نصيبا من حقيقة متعالية عن كل الأديان. هكذا ينتقل من التعددية المعيارية Normative Religious pluralism ؛ أي التسامح الديني والالتزام الأخلاقي باحترام الديانات الأخرى، إلى التعددية الخلاصية. يرفض المفكر الإيراني الفكرة التي "ترى أنّ الحقانية والهداية والسعادة تكمن في إتباع دينٍ معين، ويمثل الأديان في صورة خطوط مستقيمة قد تتقاطع فيما بينها بدل خط واحد مستقيم، ويتفرع منه مئات الخطوط المنحرفة، كل نبي يتحرك في إحدى هذه الطرق، هذا ما ذكره القران الكريم عن صراط الأنبياء بأنهم"على صراط مستقيم"؛ بمعنى أن كل واحد منهم يتحرك في إحدى هذه الطرق والخطوط المستقيمة لأن المقصود صراط مستقيم واحد"[8] . رغم اختلافاتها حول سبل النجاة وتعددها الخارجي؛ فالأديان تنبع من روح واحدة ووحدة متعالية، حقيقة ذات بطون ، لا تنكشف إلا للمتأمل العارف بالله.

كما أن فكرة أن كل الأديان تحمل قيمة الحقانية والهداية تجد لها دليلا في اسم الله "الهادي"؛ فالله حريص على سعادة البشر. لذا، لا يمكن أن يحصر الحقانية في دين واحد، ويحرم أغلب الإنسانية من الهداية. يتساءل سروش:" لو قلنا بأن الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والأقوام المتدينة...الذين يبلغ عددهم مليارات الأفراد، واعتبرنا اتباع هذا المذهب"أي الشيعة" وهم الأقلون قد نالوا الهداية الإلهية وسائر الناس سلكوا طريق الضلال والكفر"في نظر الشيعة"؛ ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية الإلهية متجسدة على أرض الواقع؟... وكيف يمكن أن نصدق أن نبي الإسلام بمجرد أن وضع رأسه على وسادة الوفاة، فإن العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الإلهية، وأهدروا بذلك جميع أتعاب النبي الأكرم "ص"، ألا يعني هذا الاعتراف بفشل الخطة الإلهية وعدم نجاح النبي الأكرم "ص" في مهمته؟ هل إن ظهور عيسى روح الله ورسول الله وكلمة الله"بتعبير القرآن من أجل أن تشرك جماعة عظيمة من الناس، ويعتقدون بمقولة التثليث ويبتعدون عن جادة الهداية والصواب، ويتحركون على مستوى تحريف كتاب الله وكلام نبيه؟ فهل إن عيسى بهذا الاعتبار مضل أم هاد؟ هل إنه رسول الشيطان أم أن رسول الله الرحمن الرحيم؟....إن هذه الملاحظات البديهية تدفع بالإنسان إلى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القرآن، ويعتقد بأن للآخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية".[9]

يحذر سروش من فهم اختزالي للديمقراطية؛ فهي منهاج حكم يعتمد فصل السلط، حرية التعبير والتعددية الحزبية، لكنها أيضا منظومة قيم مركزها حقوق الإنسان المبنية على فهم عام للعدل يتجاوز التصور الفقهي



تشكل التعددية الخلاصة تفكيكا لمقولة الحقيقة الحصرية المبنية على احتكار الحقانية أو الفهم الصحيح للدين وخلخلة لفكرة المركزية الديني القائمة على وهم الأمة المختارة . داخل الإسلام لم يعد معنى لعقيدة الفرقة الناجية التي ليست إلا أسطورة اصطفائية. يورد سروش هنا تفسير جلال الدين الرومي لمقولة تفرق الأمة لسبعين فرقة، حيث تعدد الفرق ليس منبعه تراكم الضلالة على الضلالة، بل تراكم الحقيقية على الحقيقة.

5. الدين، النسبية والتحول الأخلاقي

رغم أن الأديان والمذاهب تحمل أنصبة من الحقيقة، إلا أن حقانيتها تبقى نسبية ، وهو ما يعبر عنه بمفهوم "عدم الخلوص" أو الحقانية النسبية . لا وجود للحق الخالص؛ فالحق يمتزج دائما بشيء آخر. لذا، فإن الاختلاف بين الأديان ليس اختلافا بين الحق والباطل، بل بين ما يسميه أشكال الحق غير الخالص، لذلك يعتقد سروش أن التدين يجري بين الناس كالماء الملوث إلى يوم القيامة، حيث سيحكم الله بين عباده في ما يخص اختلافاتهم. بالنسبة له لا يمكن القول إن التشيع أو التسنن هو الإسلام الخالص، ولا أي مذهب أو تفسير، كما لا يمكن القول إن عقيدة المسلمين أو المسيحيين خالية من كل شرك؛ "فالعالم الدنيوي مليء بالهويات الملوثة وغير الخالصة".[10]

من هذا المنطلق، يرى أن هناك نوعين من التدين: تدين العوام ، ويتأسس على العلة أو إرث الآباء الذي ينقلون للأبناء يقين إيمانهم، وتلك حالة أغلب المتدينين، عكس التدين المبني على الدليل والتحقيق، والذي يتميز بالشك والبحث. من هنا يرى عبث الدفاع عن فكرة خلاص عوام دين بدل آخر. ورغم تأكيده أن المعرفة الدينية والحقيقة مقولتان تنتميان لمجالين لا يخضعان لأي تواصل موضوعي؛ فالمعرفة الدينية ليست إلا المرآة المكسورة للحقيقة الدينية، إلا أن يرفض في الوقت نفسه النسبية المطلقة، ويؤكد أنه يؤمن بنسبية المعرفة لا بنسبية الحقيقة.

غير أننا نعتقد أن الأهم في مشروع سروش هو تحول الخطاب الإبستيمولوجي إلى خطاب أخلاقي ، فنسبية المعرفة الدينية هي من يضمن دخول الدين لمجال الإيجابية الأخلاقية، والتي هي المقصد الحقيقي للدين. تكون المعرفة الدينية أخلاقية عندما تعترف بنسبيتها؛ بمعنى آخر، فإن النسبية ليست طريقا إلى العدمية، بل ما يسمح بإحداث انزياح داخل المعرفة الدينية أساسه الأخلاقيات المبنية على النزعة الإنسانية. يمكن أن تصبح الأديان والمذاهب مجالا أخلاقيا أكثر منه دوغمائيا، لأن تعدد الفهوم الدينية والاختلافات العقائدية لا يجب أن تنسينا أننا في مركب واحد ، بل إن الاختلاف يجب أن يتحول لمنافسة أساسها التميز الأخلاقي، لذا، فإن المعيار الحقيقي للتدين ليس هو المعتقدات أو القواعد الفقهية، بل الأخلاق والأعمال الصالحة. Haut du formulaireHaut du formuHaut duHaut du formula

6. روح الإسلام الدين المفتوح والإنسان الكوني

تتميز كتابات سروش بحضور كثيف للمتن الصوفي أو العرفاني (خصوصا نصوص مولانا جلال الدين الرومي) مقارنة مع حضور النص الشيعي، وهو لا يتوقف عن التأكيد على أن جوهر الإسلام هو روحانيته الكونية، والتي هي روح الشريعة. يعتقد المفكر الإيراني أن الوعي الديني يتطور نحو مركز روحي كوني تنمحق فيه الخصوصيات المذهبية، بل وحتى الدينية؛ فجوهر الدين ليس إلا ما يضمن للرسالة شموليتها؛ أي بعدها الكوني ومستقبليتها؛ أي استمراريتها من خلال مختلف التأويلات التي ستؤدي إلى فك الترابط بين الجوهر والعرض. يمكن فهم هذه الفكرة انطلاقا من الثنائية الصوفية الشريعة والحقيقة؛ ففي حين أن العبادات الخاصة تشكل "الأصداف"، فإن البعد الروحي والمتعالي للعبادة يشكل الأصداف العليا. إن جوهر الدين هو رحلة الروح لمنزلها الأصلي وبحثها عن هويتها الحقيقية والأعمق، حيث يجتمع البشر رغم تعدد انتماءاتهم الدينية .

يتجه سروش نحو إعادة تفسير مقولة خاتمة الدين في الإسلام؛ فهي تعني قدرته على توحيد البشر في تجاوز الاختلافات العقائدية والشرائعية؛ أي "الحواشي والشؤون الخاصة والعرض التاريخي" ، هكذا يتحول الإسلام إلى دين يحتاجه الإنسان في الحداثة وقبل الحداثة وما بعد الحداثة ، يجب كسر الصدف،الأشكال الخارجية للعثور على الجواهر التي تحيل على قيم حب الله والناس والفضيلة ، وذلك هو المعنى الحقيقي للإيمان.

لكن الدين يتجاوز تجارب الأنبياء والشرائع أو النصوص المنزلة، ليشمل أيضا كل أنماط التجربة الداخلية أو الصوفية، بل إن إحدى وظائف الأنبياء هي تعليمنا كيفية تفسير تجاربنا الباطنية والكشف الشهودي المعنوي . تصبح المعرفة الصوفية امتدادا دائما للمعرفة الدينية، حيث إنه بإمكان كل إنسان أن يدخل إلى تجربة الوحي والنبوة من حيث هي إلهام رباني، وذلك لأن الله يسكن قلوب الموحدين الحقيقيين. رغم انتهاء المهمة النبوية، يبقي المجال مفتوحا لما يسميه سروش "بسط التجارب الباطنية"؛ أي القراءات الدائمة للنصوص المقدسة التي تسعى لتجديد التجارب الدينية والانتقال من «التدين المعرفي» إلى التجربة الروحية أو «التدين التجريبي». ويفسر سروش آية اكتمال الدين باكتمال الحد الأدنى اللازم لهداية الناس، ولكن الحد الأقصى يبقى مجالا مفتوحا. هنا ينقل كلمات جلال الدين الرومي حول المؤمن الذي يجب أن «يطرق الباب بأمل أن يخرج له صاحب الدار».

7. في الدولة المدنية: مركزية حقوق الإنسان ونقد الإيديولوجيا الدينية

يعتقد سروش أن شرعية الحكم في مجتمع ديني أو متدين تتأسس، إما على نظام إيديولوجي يحدد ويوجه السلوك العام، ويشكل تأويلا معينا للإسلام، أو على مبدإ تمثيل الإرادة الشعبية. ويؤكد رفضه كل أشكال الإيديولوجية الإسلامية بصفتها تأويلا دينيا محدودا للعالم، يعوق نمو المعرفة الدينية ويسعى لفرض فهم جامد وتقسيم أزلي للعالم إلى دار حق ودار باطل، في حين أن دينامية المعرفة الدينية أوسع من كل إيديولوجيا. يشير سروش مرارا إلى التحول السلبي الذي حدث في الكثير من المجتمعات الإسلامية، حيث أدت أزمة الهوية عند المسلمين إلى صعود إسلام الهوية منذ الستينيات، "فلم يعد الإسلام يشكل فضاء للحقيقة؛ أي خضوعا حرا للحقائق الأساسية التي يجب أن ينخرط فيها المؤمنون، بل إيديولوجية يحتمي وراءها المسلمون، مما أدى لنشأة تأويلات جامدة للدين ترفض أية رؤية نقدية.أصبحت الشمولية الدينية تهدد الفضاء الاجتماعي والسياسي"[11].

من هنا يعتقد سروش أن علاقة المجال الديني بالمجال السياسي لا يجب أن تتحدد انطلاقا من داخل الدين، بل من داخل المعرفة الإنسانية ، لأنه لا يمكن تأسيس نسبية المجال السياسي، ما يسميه "أمر غير متعين" على يقين أو يقينيات الدين أو المذهب"أمر متعين". فالفضاء السياسي فضاء مفتوح ، ليبرالي، يتميز بالقدرة على التساؤل والنقد والاختيار الفردي، في حين أن اليقين الديني يعتقد امتلاكه الحقيقة المطلقة، ويسعى لفرضها على الجميع. في هذا السياق ينتقد ما يسميه الفكر الإسلامي الفقهي الذي يسعى للدخول في ميدان لا يخصه عندما يحول السياسة، التي هي مبحث إبستيمولوجي، إلى مبحث ديني يخضع لمقولات الحرمة والحلية، لهذا فإنه "لا معنى للتحرك على مستوى إنكار أو تأييد الدين الديمقراطي من خلال الاستدلال بالأحكام والاجتهادات الفقهية من داخل دائرة الدين .[12] فالنقاش،مثلا، حول ولاية الفقيه يقع خارج مجال الفقه، لأن مسألتي النبوة والإمامة هي قضايا كلامية وليست فقهية.

الدليل على قصور مفهوم الحكومة أو الدولة الدينية وتهافته هو عجزها عن الاستجابة لمطلب العدل رغم ادعاء هذه الأخيرة، أن العدل هو هدفها الأسمى، وذلك لأن معيار العدل الذي تعتمده هو "تطبيق الفقه"، معيار يتأسس من داخل مجموعة من المرجعيات المقدسة ، مما قد يكرس الاستبداد والشمولية كما يظهر ذلك من خلال حكم قتل المرتد الذي ينفي حرية الضمير بصفتها أسمى مظاهر العدل أو مقولة نجاسة الكفار، وولاية الفقيه التي تنسف أسس الحكم الديمقراطي رغم أن هذه الأحكام ليست إلا تأويلات ناقصة للدين .لهذا السبب يؤكد سروش، أن سؤال العدالة الدينية يندرج في الفقه. أما السؤال عن دين عادل، فهو يندرج في علم الكلام ، ذلك أن العدل مفهوم يتحدد خارج الدين ويتأسس انطلاقا من فهم خاص لإنسانية الإنسان لا يمكن حصره في النصوص الدينية؛ بمعنى آخر ف " إننا لا نستمد مفهومنا للعدل من الدين ولكننا نقبل الدين لأنه عادل ".[13] تبرز هنا مركزية الإنسان في فكر سروش الليبرالي، حيث يصبح الإنسان قيمة في حد ذاته بغض النظر عن عقيدته أو عن رفضه الدخول في أية عقيدة. إن «موقف الليبرالية من إنسانية الإنسان يتجلى في دائرة واسعة جدا، فلا أحد من أفراد البشر يسقط من الإنسانية بسبب العقيدة أو يكون مستحقا للقتل وسلب الحقوق»[14]، لهذا السبب تبدو دائرة الإنسانية هنا أوسع من دائرة الدين أو على الأقل الدين الدوغمائي.

في الوقت نفسه يشير سروش إلى أن الحكم الذي ينتخبه المجتمع الديني ديمقراطيا لا يمكن أن يكون حكما لا دينيا، وأنه لا مجال لفصل الدين عن السياسة. [15] مبدئيا فهو لا يرفض حضور الإسلام في الحياة السياسية بصفة كلية، ما دام أن النظام الديمقراطي هو انعكاس للمجتمع الذي يمثله والمشاركة السياسية قد تكون حاملة لمشاعر دينية، غير أن معيار الحكم يجب أن يكون حقوق الإنسان، مما يضمن للدولة طبيعتها الدينية والديمقراطية. من هذا المنطلق، فإن عقيدة المؤمنين هي ضمانة الحكم والتشريع الديني، فإذا انهارت العقيدة يتم الانتقال إلى مرحلة المجتمع العلماني الوضعي.

لكن في الوقت نفسه، يحذر سروش من فهم اختزالي للديمقراطية؛ فهي منهاج حكم يعتمد فصل السلط، حرية التعبير والتعددية الحزبية، لكنها أيضا منظومة قيم مركزها حقوق الإنسان المبنية على فهم عام للعدل يتجاوز التصور الفقهي. يحب على الحكم الديني في الوقت نفسه أن يدافع عن حرمة الدين وحقوق الإنسان، " غير أنه في دفاعه عن حرمة الدين ليس عليه أن يصوغ فهما معينا للدين يكون على حساب حقوق الإنسان، ذلك أن حكما يحكم وفق تأويل رسمي للدين ويطالب مواطنيه أن يعيش وفق هذا التأويل، يضحي بحقوق الإنسان لفائدة الصفاء الإيديولوجي"[16]. يخلص سروش إلى أن شكل الحكم الوحيد الذي لا يحول الدين إلى إيديولوجية هو الديمقراطية. لذا، فإنه لا تعارض بين قيم الديمقراطية والثقافة الإسلامية، بل يذهب أبعد من ذلك ويؤكد أن احترام حقوق الإنسان لا يضمن ديموقراطية الحكم فحسب، ولكنه يضمن كذلك طبيعته الدينية. تبرز هنا مفارقة أن الديمقراطية وحدها يمكن أن تنقذ الدين من الدين نفسه؛ أي من الاستعمال اللا ديني واللا إنساني للدين؛ فالليبرالية ترجع الدين لأصوله وجوهره الروحي، وتحفظ خصوصيته كخيار ومسؤولية فردية أمام المطلق، لذا فإنالليبرالية تسمح بالتصالح مع المعنى الحقيقي للدين، والذي يتحدد بعيدا عن مفهوم الدين الرسمي أو الإجباري. في الوقت نفسه، يصبح الإيمان مسؤولية وجودية وليس وضعا اجتماعيا .وبهذه الروحية اللوثرية البروتستانتية يقول سروش: «ليس لدينا تجربة دينية جماعية، فالتجربة شخصية وذاتية دائماً. فنحن نعيش العشق لوحدنا، ونموت لوحدنا، ونعيش التجربة الدينية لوحدنا أيضاً».[17] لذا « يجب على الإيمان الداخلي أن يهيمن على الممارسات الخارجية، إن التركيز على الطقوس وفرض الممارسات بالإكراه تخلق مجتمعا دينيا منمطا ، بلا تعددية ، حيث يسيطر النفاق واحتكار الحقيقة ". [18] وفي كتابه "العقل والحرية"الذي تناول فيه مقولات العقلانية والحرية والدين والنبوة، عمل المفكر الإيراني على تبيان أن الحرية لا تتنافى مع الالتزام الديني، مؤكدا على أن جوهر العمل النبوي هو تغيير واقع الإنسان وكيانه الروحي وإحداث تحول وجودي ينقل من الإيمان المتوارث إلى الإيمان التجريبي. من جهة أخرى، فإنتعددية الأفهام الدينية لا تسمح بأي تطابق بين الدين كإيديولوجية للدولة وتجربة إيمانية، ما يعبر عنه عنوان المقالة السادسة: «الخلاص من اليقين واليقين بالخلاص».

 الشريعة كمسار مفتوح، حيث التشريعات الدنيوية جزء من البعد العرضي للدين وتجسيد لتاريخيته الخاضعة لسياقه تاريخي وثقافي خاص

غير أنه يرى أن الدين (أو الشريعة) يمكن أن تكون له وظيفة سياسية مركزية من حيث ترشيد المجتمع المدني، وإشاعة روح الانضباط القانوني والمساواة وترسيخ القيم الأخلاقية والروحية ، فيتحول لقيمة حضارية ويخلق فكرا دينيا إيجابيا يعمل على خلق المصالحة بين قيم الدين وقيم العقل، هكذا يكون الدين خادما والحياة الدنيا مخدومة، وهذا هو معنى الدين العلماني .

يؤسس سروش تصورا للدولة المدنية ينقل من التكليف الشرعي إلى التكليف العقلي، فيما يبدو أنه تجسيد فلسفي لبراديغم أو فكرة ما بعد الحركات الإسلامية أو الطريق الثالثة التي يعرفها " كخروج من الإسلام السياسي لا يقطع مع الإسلام، تميز بين الحقيقة والمجتمع، حيث يمكن للإسلام أن يكون مصدر حقيقة، لكن بإمكان المجتمع أن يخضع لقواعد لائكية وكونية كالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان" [19]. هذه الطريق تنبع من التحول العميق والكوني على مستوى الانتقال من السلطة الأفقية للدين إلى المستوى الأفقي للعقد الاجتماعي، ومن علاقة الرعية لعلاقة المواطنة، حيث أصبح الإنسان قيمة في حد ذاته بغض النظر عن انتمائه الديني، مما أدى أخيرا لفك الارتباط بين جماعة المواطنين وجماعة المؤمنين وتقويض سلطة الإكراه والموروث الديني. لكنها تنبع أيضا من ضرورة تحرير المجتمعات الإسلامية من مرض الشمولية والدولة الدينية، وتكريس متلازمة العقل والحرية الضامنة للروح النقدية أساس المجتمع الليبرالي.

في هذا السياق، نفهم النقد الذي يوجهه سروش لسلطة الحوزات ومؤسسة رجال الدين أو الملالي، لأنها تقوم على إيديولوجية دينية تحد من حرية المعرفة الدينية، وبالتالي تسيء للقيم الدينية وتدعي تطبيق الشريعة الإسلامية باسم الله، وباسم تأويل مطلق للدين يخلط بين الدين والمعرفة الدينية. كما تعمل على تبرير الوضع السياسي والاجتماعي ، لذا فإنه من الضروري الفصل بين النشاط الديني وأي شكل من أشكال السلطة السياسية. ويقترح سروش أن يتم تعويض فقهاء الحوزات الذين جعلوا من تأويل معين للدين مصدر عيشهم في مؤسسات أكاديمية من علماء الدين.

خاتمة: تجديد علم الكلام من أجل أنسنة الفكر الديني في الإسلام

يرفض المفكر الإيراني الانغلاق في سلطة التقليد والطقوسية التي كانت وراء تخلف المسلمين، لذا يدعو إلى تنقية التراث من شوائب الماضي للدخول في عصر الحداثة وإزالة اغتراب الإنسان بإعلاء قيمة العقل النقدي ضد هيمنة العقل التأويلي والنزعة الشكية ضد طغيان الوثوقية والإطلاقية ، كما أنه يجب الرقي بمفهوم الحقوق ضد أحادية الواجبات.

ويتصور الشريعة كمسار مفتوح، حيث التشريعات الدنيوية جزء من البعد العرضي للدين وتجسيد لتاريخيته الخاضعة لسياقه تاريخي وثقافي خاص. لذا، فهو غير قابل للمد باتجاه العصر الحديث، وهو يدعو الفقه للتجديد المستمر للانسجام مع مقتضيات العصر والتفاعل مع مساحات أفرزتها حركية الواقع المتسارعة. من أجلالدخول في عصر الروح النقدية والخروج من السياجات الدوغمائية يجب على هذا الفقه أن يعترف بحقيقة أساسية :العلاقة بين العدالة والقانون يجب أن تتأسس من خارج الدين، وانطلاقا مما يسميه العقل العلمي أو التعاقد الاجتماعي وليس من داخل الحق الإلهي. يستدعي ذلك أن يكون الفهم الديني متوافقا مع القيم حقوق الإنسان، إذ ليس من المطلوب أن يكون العدل دينيا، بل أن يكون الدين عادلا.

كما يدعو سروش إلى توسيع مجال الفكر الديني من خلال تجديد ما يسميه الهندسة المعرفية من خلال استخدام المناهج الإنسانية، مثل التأويلية والسيميائية، لكن التحول الأساسي هو تجديد علم الكلام من خلال الانتقال من ميدان الدفاع عن المعتقدات إلى فلسفة الإيمان، حيث انبثاق أسئلة لاهوتية جديدة تتجاوز مجال الشبهات والعقائد ومجمل المنظومة المعرفية القديمة، مثل التعددية، دور الدين في داخل الدولة المدنية، حقيقة التجربة الدينية، الثابت والمتحول في الدين الإضافة إلى علاقة الدين بالأخلاق أو البعد الإنساني للدين. وفي أحيان كثيرة يقترب فكر سروش من لاهوت التحرير أو التوحيد المتحرر، حيث يتم ربط الدين والحقيقة الدينية بالوضع الإنساني وبمقولات الأمل والمعاناة.

إن هذا الفهم الجديد لعلم الكلام الجديد هو بوابة الإصلاح الديني المعاصر، لأن الاجتهاد المستنير حسب سروش يستدعي تحوّلاً في المبادئ والأصول أو في طريقة فهمنا للوحي، لإيماننا وإيمان الآخرين وعلاقة الدين بالدنيا وغيرها، وليس فقط اجتهادا في الفروع، إنه يتطلب ثورة معرفية وروحية في الوقت نفسه، حيث نتخلص من المتاريس المذهبية وجهالاتنا المقدسة، ونقترب من المطلق داخلنا.

* رشيد سعدي باحث في الإصلاح الديني في الإسلام والأديان المقارنة، المغرب.


*باحث في الإصلاح الديني في الإسلام والأديان المقارنة، المركز الجهوي لمهن التربية و التكوين ، وجدة، المغرب.

[1]- Rachid Benzine, les nouveaux penseurs de l’islam, Albin Michel 2004,p. 76

[2]- عبد الكريم سروش، القبض والبسط الشريعة لعبد الكريم ، ترجمة دلال عباس ، دار الجديد بيروت ، الطبعة الأولى عام 2002، ص. 30

[3]- القبض و البسط في الشريعة ص. 73

[4]- Rachid Benzine, p. 59.

[5]- عبد الكريم سروش ، الصراطات المستقيمة قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية ، ترجمة: أحمد القبانجي ، دار الإنتشار العربي ، 2009 ،ص .15

[6]-القبض والبسط في الشريعة، ص . 31

[7]- الصراطات المستقيمة، ص. 39

[8]- الصراطات المستقيمة، ص.37

[9]- الصراطات المستقيمة، ص. 45

[10]- الصراطات المستقيمة, ص.27

[11]- Rachid Benzine ,p.77

[12]- عبد الكريم سروش،الدين العلماني، ترجمة تحقيق: أحمد القبانجي، الناشر: مؤسسة الانتشار العربي 2010، ص. 198

[13]- ولاء وكيلي، الحوار حول الدين والسياسة في إيران، الفكر السياسي لعبد الكريم سروش، ص .47

[14]- الدين العلماني، ص. 66

[15]- في مجتمعات ذات غالبية مسلمة يطرح النقاش حول تلازم العلمانية والديمقراطية وإمكانية إحداث طفرات ديمقراطية حقيقية في مجتمعات

أغلب المسلمين فيها يريدون إصلاحات ديمقراطية دون أن تتداعى قيمهم الدينية وحرية ممارسة شعائرهم. يبدو هذا قلقا لا مبرر له إذا ما علمنا أن العلمانية لا يمكن حصرها في النموذج الفرنسي. سروش نفسه يؤكد أنه "حين تكون أية حكومة علمانية بشكل كامل فهي حكومة غير ديمقراطية"، لكن في الوقت نفسه يؤكد أن الدين هو فقط وسيلة لترشيد القيم الأخلاقية وضمان السلم والتعايش.

[16]- الحوار حول الدين والسياسة في ايران، الفكر السياسي لعبد الكريم سروش، ص .53

[17]- عبد الكريم سروش، السياسة والتدين : دقائق نظرية ومآزق عملية ،ترجمة أحمد القبانجي، مؤسسة الانتشار العربي، 2009، ص.85

[18]- Rachid Benzine, p. 78

[19]- Guy sorman, Les enfants de Rifaa, musulmans et modernes, Fayard, 2003 , p.237 238