عبد الرزاق الدغري: الفكر الدّيني، نحوَ التخلّص من المركزية الإيمانيّة


فئة :  حوارات

عبد الرزاق الدغري: الفكر الدّيني، نحوَ التخلّص من المركزية الإيمانيّة

فيصل شلّوف: مرحبا بك، أستاذ عبد الرزاق، ونشكرك بداية على قبول دعوتنا للحوار حول بعض المسائل والقضايا التي تتعلق بمشغلك البحثي واهتمامك العلمي.

عبد الرزّاق الدغري: شكرا لكم على الاستضافة، وأتوجه بعبارات الشكر والتقدير إلى "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" ومن يمثّلها في تونس؛ أي "جمعية الدّراسات الفكرية والاجتماعية"، التي تسهر على إيقاد الفكر النقدي الحر والمساهمة في تفعيل النشاط الثقافي وتعزيز البحث العلمي، وقد سبق لي شرف المشاركة في إحدى فعالياتها البحثية.

فيصل شلّوف: تحدّثت في كتابك ''المسيحية في الأحاديث النبوية'' عن جوانب مهمة وأساسية في التراث الإسلامي في علاقتها بالآخر، ودرست طبيعة العلاقات الإسلامية المسيحية، انطلاقا من نصوص السنة النبوية. كيف تقيّم الإمكانيات التي يتيحها التراث الإسلامي باتجاه التعرّف على الآخر؟

أعتقد أنّ التراث الإسلامي بمختلف نصوصه التي تشمل السنة وأخبار التاريخ والسيرة والقصص النبوي ينقسم إلى اتجاهين؛ اتجاه أوّل لا يمثل حقيقة الرسالة الإسلامية وجوهر الدعوة القرآنية، يميل إلى الغلو في تقديس تجربة النبي والجيل الإسلامي الأول، ويحد من إمكانيات التواصل والتعايش الحضاري، ويعبر عن قراءة خاصة متشنجة للإسلام في بواكيره الأولى. وأمّا الاتجاه الثاني، فإنّه يمثّل الأساس الجوهري للعقيدة الإسلامية، ويشكّل قسما مهما من التراث الديني والثقافي والحضاري الإسلامي، ويعبّر عن دعوة مستنيرة إلى احترام الآخر والتعاون معه، ويكفل له إنسانيته، فقد احتوى على جوانب مضيئة عبّرت عن علاقة التواصل والتعايش بين المسلمين وغيرهم من أهل المذاهب والأديان الأخرى، والتي هدفت إلى تكريم الإنسان عامة، فهناك إرث مشترك وقواسم عقائدية وثقافية تجمع بينهم، وتخصّ عقيدة التوحيد والإيمان بالشخصيات الدينية التاريخية، وأرى أنّ هذه الجوامع والعلاقات التاريخية الإيجابية يمكن أن تكون منطلقا نحو التعايش والاحترام والوئام.

وقد استخلصنا في بحثنا الموسوم بـ "المسيحية في الأحاديث النبوية" أنّ الكثير من الأحداث والوقائع التاريخية التي جمعت بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل والأديان الأخرى، أثبتت أنّ هناك احتراما متبادلا في أغلب مراحل الدعوة الإسلامية بين المسلمين والنصارى؛ فقد جمعت النبي والصحابة علاقات متينة بالأحبار وأهل الأديان الأخرى قبل البعثة وبعدها، وبينت الأخبار أنّ الإسلام لم ينشر بحد السيف، وأنّ الذميين والمختلفين شكّلوا كيانا دينيا وروحيا فاعلا داخل الدولة الإسلامية، فقد دافع الحديث عن حقوقهم، ونهى عن الإكراه في الدّين والتكفير والغلو والاعتداء، ودعت الأحاديث إلى احترام الأقلّيات الدّينية، ومنح المعاهد الذمّي حق اختيار عقيدته، فلا تُهدم له بيعة أو كنيسة، ولا تُفتكّ منه أرض أو مال. وقد تواترت في الأحاديث الدّعوات إلى احترام طقوس الآخرين وشعائرهم وعاداتهم، وتتالت المناداة بحسن معاملتهم، وبآداب الحرب وشروط القتال والنهي عن قتل غير المحاربين، بل أثبتت الأخبار التاريخية أنّ النبي أحسن وفادة القبائل والمجموعات التي أقبلت عليه لتعرف الدين الجديد، وبادر بمراسلة القادة والملوك مرغبا إيّاهم في الدعوة الوليدة، وكثيرا ما وصّى باليسر والتعاون والاحترام، وذكرت مجاميع الحديث وكتب التاريخ أن المسلمين تعايشوا مع أهل الكتاب والوثنيين في محيط واحد، وأنّ عمر بن الخطاب (ت23هـ) صلّى في بيعة، كما نشير إلى أنّ الأحاديث التي تدعو إلى القتال قليلة، وهي تعبر عن الصراع بين الأفكار أكثر مما تدل على الصراع بين الأديان. وقد رصدنا هذا التعايش والتعاون أيضا بين المسلمين الأوائل الذين يكنون الاحترام والتبجيل لآل الرسول ولأتباع علي وذريته، فقد تولّد الصراع والانقسام نتيجة تباين الأفكار وتعدد التأويل والرغبة في السلطة السياسية.

مما يعني أنه من الواجب علينا اليوم، في بلداننا العربية والإسلامية أن نقرأ الموروث الديني قراءة علمية رصينة للاستفادة منه أوّلا، ثم لنقده وتقييمه وتقويمه بعيدا عن التعصب والمغالاة، حتى ندرك ما شاب البعض منه من تحريف وخروج عن أصل الدين وحقيقة الإسلام.

فيصل شلّوف: ما هي أهميّة المقاربات النقدية للتراث الإسلامي اليوم، هل يستجيب الواقع التديّني الحالي للمجتمع التونسي برأيك لإطلاق مراجعات جذرية للظاهرة الدينية؟

تبدو المقاربات النقدية للتراث أمرا مهمّا وملحّا اليوم، لأنّها تيسّر فهمه وتقف عند ظروف تدوينه وانتقاله من المشافهة إلى التدوين، وإلى ما حفّ هذه المرحلة من غايات إيديولوجية وسياسية، فقد لحق الشخصيات التاريخية الكثير من الإطراء، ونسجت العديد من الأخبار التي تناصر هذا الصحابي أو الخليفة أو غيرهما، وتلونت الأحاديث والأخبار بلون كل مذهب. ومن البين أنّ الأولين فسّروا التاريخ ودونوه وفق ما أملته عليهم ظروف العصر وحسب غاياتهم الفكرية والإيمانية والسياسية وبممكناتهم التاريخية والعلمية واللغوية، فتأسست نصوص نالت من القداسة أكثر مما ناله النص القرآني. ولا شكّ في أنّ إضفاء القدسية على السنّة والتراث الفقهي وكلام الأنبياء وعلماء السلف وإلحاق أقوالهم واجتهاداتهم بقدسية الوحي يعدّ قصورا منهجيا يخالف ما جاء في القرآن وسيرة النبي، ولا يستجيب لمقاصد الشريعة؛ لأنّ هذا التراث يمثل تجربة بشرية محكومة بظروف عصر السلف وآليات فهم الدين.

وفي هذا الصدد، نذكّر بعدة مقاربات متباينة في نقد التراث وإحيائه وتجديد فهم الخطاب الديني ومنهج دراسة النصوص لباحثين استفادوا من الثقافتين الإسلامية والغربية، وحرصوا على توظيف مكتسبات العلوم والمناهج الحديثة، ومن بين هؤلاء نذكر محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعبد المجيد الشرفي وسعيد نشيد وعبد الجبار الرفاعي، ويمكن أن نشير كذلك إلى تيار الإصلاح والتجديد الديني في إيران الذي يمثله علي شريعتي وعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان. وكان لبعض المراجع الدينية - من قبلهم - في العراق ولبنان وإيران مثل مرتضى مطهري (ت1979) ومحمد باقر الصدر (ت1980) دور بارز في إحياء التراث وتجديده ونقده.

وتعود أهمية هذه المقاربات لكونها ساهمت في تجديد قراءة الموروث وإعادة النظر في ما تواتر من الأحاديث والأخبار، والانتباه إلى ظروف التلقي الأول للنص القرآني. لقد عالج الباحثون الجامعيون الموروث معالجة عقلية نقدية وقدموا قراءة حديثة تراعي مقتضيات الحاضر والمستقبل، فعبرت مشاريعهم الفكرية عن تجاوز الفهم الحرفي الضيق لنصوص الشريعة، ومساهمتهم في تنقيتها من الغلو، والتنبه إلى ما احتواه التراث من جوانب إيديولوجية ومصلحية وما وقع فيه الأوّلون من هفوات منهجية ومعرفية في زمن هيمن فيه النقل على العقل وسادت ثقافة التكفير والإقصاء.

أمّا بالنسبة إلى الجزء الثاني من سؤالك، فأعتقد أنّ قصور المقاربات النقدية للتراث ليست مشكلة خاصة بالمجتمع التونسي، وإنما تهم العالم العربي والإسلامي عامّة، فهناك من يقف سدّا منيعا أمام تجديد الفكر الديني لأنّه يرى فيه مساسا بالمقدس واليقيني، في حين أنّ نصوص التراث الإسلامي تضمن حرّية الفكر والعقيدة وتقرّ بضرورة نقد الأفكار وبأحقية تجاوز ما كان يتعارض مع مبدأ الحرية الإنسانية. والرأي عندي أنّ هناك في تونس اتجاهين على الأقل؛ الأوّل تجديدي يدعو إلى ممارسة النقد الحر، والآخر محافظ ينبذ النقد البناء وتجديد النظر في ما هو موروثٌ ومشهور من الآراء الفكرية والفقهية، وفضلا عن ذلك يتسم بنزعة إيمانية محافظة ترفض الرأي الآخر، فظل منشدا إلى سلطة الأنموذج ظنا منه بأنه لا يمكن الاجتهاد فيما اجتهد فيه السابقون، ولذلك يشكّل هذا الاتجاه عائقا من عوائق التجديد والاجتهاد.

وحري بالمجتمع التونسي الذي ينعم بمناخ من الحرية بعد الثورة أن يحقّق حرّية الٍرّأي والفكر والضمير والتعدد والتنوع، بيد أنّ بعض هذه القيم ولئن نصّ عليها الدستور، فإن تطبيقها على أرض الواقع لم يتبلور بشكل واضح، وظلت بعض محاولات النقد والتجديد محاصرة، ولم يستفد التونسيون بشكل كبير من المضمون الاجتماعي الثوري للعقيدة، فلا زالت القيم الثورية الفكرية والثقافية تجد تعثرا، رغم أنها تهدف إلى إصلاح الفكر ونقده ونبذ التدين الأعمى وتحقيق سلطة العقل، ومراجعة المسلمات والاستفادة من القيم الاجتماعية والإنسانية للدين. ولا مُراء في أنّ التونسيين يطمحون من خلالها إلى إصلاح مفهوم التدين والتحرر من بعض رواسب الماضي، وإلى أن يساهموا في البناء الفكري والحضاري وتحقيق التعدد والاختلاف وحرية الكلمة والنقد، وهي قيم ومبادئ يدعو لها الإسلام وتنادي بها منظومة القيم الكونية ومختلف الأديان.

ولذلك، أرى أنّ فهم الدين ومراجعة التراث مراجعة نقدية جذرية مازال يتطلب نشر الكثير من الوعي، ويستوجب التمييز بين الدين وما يقوله الدين؛ أي بين كلام الله ومعنى كلام الله، وتجاوز ما هو ذاتي إلى ما هو موضوعي، فهناك معاناة أمام النهضة الاجتهاديّة وحرية الرأي.

وأظنّ أنّه، رغم بعض الجهود التي ظهرت لمراجعة أنماط من التفكير، وتقديم قراءة نقدية عميقة للنصوص الحواف، وتجديد معاني النص في الجامعات ومخابر البحث، فإنّ عددا لا بأس به من المتدينين والباحثين التقليديين وبعض الحركات الدينية والتيارات السلفية المعاصرة يرون أنّ المعاني ثابتة، وأن السيرة مقدسة بل تضاهي القرآن، فرفضوا كل تغيير واعتبروه يمسّ العقيدة ويساهم في نشر الأفكار الضالة، ولذلك نعتوا كلّ من تجرّأ على نقد المنظومة الدينية التقليدية بالكفر والمروق عن الدين وبسوء النوايا. وأنتم تعلمون أنّ بعض الباحثين والمفكرين وغير المتدينين الذين لا يؤمنون بجدوى بعض الفرائض، مثل الصوم وبحثوا في الجندر، وتطرقوا إلى مواضيع تعدّ من 'المحرمات' أو 'المحظورات' مثل الزواج المثلي، وجدوا مضايقات شديدة من الرقابة التي تفرضها جهات مختلفة في الدولة ومنها فئة متشددة من المجتمع وممثلي المؤسسة الدينية والأجهزة الإعلامية، ومن بين هؤلاء المفكرين يوسف الصديق وآمال قرامي ومحمد الطالبي ورجاء بن سلامة، فقد تعرض البعض منهم إلى التكفير والعنف والمنع من تقديم أفكاره بسبب جرأته في الاجتهاد وممارسة الحرية الفكرية وتحقيق حيوية الفكر والفقه الإسلامي.

وصفوة القول، فإنّ التفكير الديني لدى فئة من التونسيين لا يزال منشدّا أيّما انشداد إلى المسائل الغيبية والميتافيزيقية، وهو لم يخرج بعد بشكل كبير من سياج التفكير الدوغمائي والتدين التقليدي أو الشعبي الذي يقدّس سنّة الأوّلين وتجربتهم الماضية، ولا يقبل حقّ التعدد والاختلاف.

فيصل شلّوف: التفكير الديني في الثقافة العربية الإسلامية، هو تفكير من داخل المركزية الإيمانيّة بالأساس (هاجس الاستنباط الفقهي/ التشريعي، هاجس الالتصاق بالنص، التفكير في مطابقة الواقع للمثال الغيبي الماورائي، التفكير المحكوم بأسبقية الماورائي على الواقع وليس العكس)، كيف يمكن تخليص هذا التفكير من رهاناته الأخرويّة؟ وما جدوى ذلك برأيك؟

أجل أعتقد أنّ الفكر الإسلامي، كما أسلفتم الذكر، شديد الارتباط بحرفية النص وبالأحكام الجامدة، وبما هو غيبي وميتافيزيقي، ينبذ الخروج عن دائرة ما رسمه الأوّلون وعن سياج العقيدة والمذهب، فالحقيقة واحدة، ولا خلاص إلاّ بالإسلام وبالتمسك بالجماعة والاقتداء بالأجيال الإسلامية الأولى. ولازال العلماء المسلمون والكثير من أتباعهم يقدسون زمن نزول الوحي والأشخاص والأشياء والأمكنة، ويهيمن على تفكيرهم المتخيل والغيبي والخارق والميتافيزيقي، وأعتقد أنّ هذا الفكر يحدّ من ممارسة الاجتهاد، ويعيق تطوّر الفقه، فلا يقبلون الآخر إلا إذا تطابق تفكيره وإيمانه مع معتقداتهم وطرائق تفكيرهم؛ والحال أنه من الممكن أن نستفيد من الآخرين، فنعثر في اجتهاداتهم وتصوراتهم على حلول لما لم نتمكن من أن نجد له حلاّ أو إجابة.

ويتجلّى هذا الطّابع الميتافيزيقي من خلال مسائل عديدة، تعلّق بعضها بطبيعة تصوّر علاقة الله بالإنسان، والاعتقاد بأنّ الله يُعاقب الناس عقابا أبديّا على أخطاء زمانية، ومنها ما اتّصل بمسألة المعاد وصورة الجنّة والنّار والعقاب والثواب ومتخيّل نهاية الكون وصورة الخلق والإيمان ببعض القوى والخوارق...لذلك تأتي الأخبار والتأويلات لتعبّر عمّا يسكن هواجس المسلمين، وصيّر المتخيل ما كان تاريخيا وسياسيا، وشمل الأحداث والشخصيات والملك والسياسة مسائل أصولية ورموز دينية وسياسية، وتحوّل الوعي الجمعي من مجال الواقع والتاريخ إلى حقل المعتقد المذهبي والمتخيل الرمزي، وصارت كلّ عناصر الأخبار علامات رمزية ومتخيلة تشمل الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأحداث التاريخية، فاستدعى أهل المذاهب وأتباع التدين الشعبي خطابات متنوعة تجمع بين الرمز والأسطورة والخيال وتستفيد من ثقافات شعبية ووثنية وكتابية.

ونلمس صدى هذا الجانب في الأحاديث النبوية وقصص الأنبياء وأخبار المعاد، فقد تميّزت بطابع خرافي عجيب يظهر من خلالها المسلمون تفوقهم وتميزهم ودوام ديانتهم وانشدادهم إلى جيل الصحابة والتابعين. وكشفت جملة هذه الروايات والتأويلات عن وجوه المتخيل السياسي والجغرافي الإسلامي، لتشكيل العقل الجمعي ورسم الأحلام والتطلعات وللانتقام من المخالفين وتكفيرهم والانتصار للمذهب، فيأتي زمان يحققون فيه حلمهم بالسلطة والملك، ويبسطون نفوذهم على كل مكان مقدس. وعلى هذا النحو هدفت الروايات إلى خلق قوة تأثيرية نفسية واجتماعية وسياسية تقوم على الرمز والحديث عنها باسم المقدس وتأسست على تعظيم قدرات الأشخاص وقداسة الأمكنة والأزمنة وعظمة الوقائع والاستيلاء على أماكن العبادة والسيادة وعناصر المقدس. وقد تكتسب الدولة المنتظرة قوتها من سيطرتها على المكان وتحقيق الامتداد على مساحات شاسعة، وتعزّز شرعيتها بحضور قوى غيبية وكائنات مفارقة تدعم أئمتها وجيوشها لتكسبها هالة من القداسة والقوة والنفوذ.

وأعتقد أنّ هذا التفكير الماورائي إقصائي، لا يحقق مفهوم الإنسانية بصيغة الجمع، بل ساهم في نشر التكفير والتعصب والمغالاة والإقصاء وضيق التفكير، ولذلك بدت الحاجة ملحّة إلى تحديث الفكر الإسلامي وإصلاحه وذلك بتجديد قراءة الدين ومراجعة آليات التأويل، ونزع القداسة عن سلطة السلف، فمن الأهمية بمكان 'أنسنة' قراءتنا للقرآن والسنّة على حدّ رأي أركون والرفاعي، ونشر قيم التّسامح، وإحداث قطيعة معرفية جزئية تخرج المؤمن من هيمنة النّص إلى حرّية الإنسان، وتساهم في الاعتراف بتعدّد الحقيقة الدّينية وتفضي إلى الإقرار بأنّ المعنى في كلّ نص ديني يظل نسبيا ومتعدّدا، وأنّ التأويل لا حدود له؛ لأنّ القراءة متجدّدة والنّص منفتح على عدد كبير من التأويلات، فنفرّق آنذاك بين ما يقتضيه الدين وما يقوله رجال الدين ..

وفي هذا السياق أيضا، أذهب إلى أنّ المطلوب هو تجديد الخطاب الديني بمراجعة بنى التفكير وطرائق التعقل، للحدّ من سلطة السلف ومن مرجعية الإجماع أو الشهرة أو سنّة السلف أو ما شابه ذلك من مفاهيم، فنتعامل مع القرآن والسنة بالتركيز على حركية المضمون، ونقد الواقع والموروث، وإيلاء العقل المنزلة التي يستحقها واحترام الاختلاف والتنوع، حتى يتحرر الدين من الإيديولوجيا.

ويمكن الحدّ من هذا التصور الميتافيزيقي ومن الأفكار الغنوصية (Gnosticisme) ومن الفكر السحري والخرافي بممارسة الاجتهاد بمفهومه القرآني وتوسيع مجالاته وتطوير علم الأصول، حتى يضمّ القضايا الإنسانية المعاصرة، ويكون هذا الأمر كذلك، من خلال التمييز بين النصوص الأصلية والنصوص المستنبطة منها مثل التفسير والتاريخ، وننوه بأهمية المراجعة النقدية للعلوم والخروج بالفقه الإسلامي من دائرة الأحكام الفردية إلى دائرة الأحكام الاجتماعية وتحويل الاجتهاد إلى عمل جماعي متخصص، فلا بد من تنمية الوعي الإسلامي والانخراط في قيم الحداثة كالحرية والتعاون والمسؤولية وتكريس سلطة العقل، ليكون خلاقا ومنتجا ومنفتحا.

وأظنّ أنّ دور الجامعات ومراكز البحث والجمعيات المدنية والمنظمات الحقوقية مهم، لنشر الوعي إذا ما كرست ملكة النقد وأولوية العقل، لذلك أرى من الضروري إصلاح برامج التعليم في مختلف مستوياته وإدراج مواد علمية ضمن أولوياته، مثل تدريس حوار الحضارات والأديان، والاهتمام بالأديان المقارنة وبنية الخطاب والجمال والبنية وفلسفة الدين والمناهج والبيداغوجيا في الإنسانيات، والتركيز على الهرمنيوطيقا وعلم نفس الدين وعلم اجتماع الدين، وهذه المواد تنفتح على شتى مجالات العلم والمعرفة، وقادرة على تجاوز الإرباك والخوف من الآخر وفهمه وقبوله والتعايش معه وفهم الذات والثقة بالنفس وعلى زعزعة الثوابت وتقويض المسلمات.

ولا ريب في أنّ أساس الإصلاح والتقدم لن يتحقّق إلاّ بتقديم فكر نقدي من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية، بالتخلّص من التقبّل التّقليدي للدّين وتكثيف نشاط العقل بدل التسليم والقبول والتدين الأعمى. آنذاك يمكن الكف عن تكفير الآخرين وقبول التراثات بمختلف أصنافها وتجاوز المركزية الإيمانية التقليدية.

فيصل شلّوف: هل توجد برأيك منطلقات للفكر الديني في الثقافة العربية الإسلامية من هذا المنظور الذي تحدثت عنه؛ أي الفكر الديني باعتباره فكرا نقديا متخلّصا من المركزية الإيمانيّة ومحتكما إلى أسبقية الإنساني على الإلهي؟

نعم، نلفي في الكثير من الكتابات العربية القديمة والمعاصرة هذا المنحى الإنساني، الذي يشيد بالقيم الإنسانية، ويدعو إلى احترام الإنسان، ويروم التخلص من هيمنة السلف، ونقد ما قرّ من مسلمات عبر تقديس العقل، وينادي بالحرية الفكرية والكرامة والحقوق، وبضرورة تجاوز الفهم الضيق الذي ساد بعض النصوص التراثية وأدبيات الجماعات الإسلامية المتشددة التي تنبذ الاجتهاد والتجديد.

لقد برز هذا الفكر النقدي منذ عصر عبد الله بن المقفع (ت142هـ) والجاحظ (ت255هـ) وأبي العلاء المعري (ت449هـ) وتعلق بنقد الفكر الخرافي والميتافيزيقي والمناداة بحرّية الفكر وسلطان العقل، فقد انطلق هؤلاء جميعا من نصوص الشريعة للحديث عن القيم الإنسانية، واهتموا بالفكر الإنساني (Humanist) النقدي المنفتح الذي يعلي من قيمة الفرد مهما كان دينه أو جنسه أو جنسيته أو منزلته الاجتماعية، ويرنو إلى تكريس مبدأ الحرية والتعايش السلمي.

وقد أثبت محمد أركون وجود إنسية عربية إسلامية في القرنين الثالث والرابع الهجريين من خلال جيل من الفلاسفة، مثل التوحيدي وابن مسكويه والرازي وابن رشد وابن سينا، فمثلوا مذهبا فكريا إنسانيا عقلانيا وتيارا متماسكا يدرس الدين دراسة نقدية شاملة، ويدعو إلى تحقيق نزعة إنسانية كونية شاملة تتجاوز ضيق التفكير وسياج الهوية والدين والعرق وتفضي إلى المساواة واحترام الإنسان في كل مكان والاعتماد عليه، والتركيز على حقوقه وتستفيد من شتى العلوم والثقافات والمعارف الحديثة، وتتحقق هذه الأنسنة بعدة عوامل ومنها تجاوز العنف والتقديس وادعاء الحقيقة المطلقة ومعرفة الذات وضرورة محاسبة النفس.

لقد هدف ابن المقفع وأبو العلاء وغيرهما من أهل الرأي إلى التّجديد وتوطين العقلانيّة في المجتمع العربي والإسلامي قصد التحرّر الفكري والعقائدي والإطاحة بالأوهام ونقد الفكر الخرافي، ونبذ التعصّب الأعمى وتكريس نور العقل الذي تنبع منه الحرّية والنّزعات الإنسانيّة، فحذّر ابن المقفع من سيطرة علماء الدين/الفقهاء على الناس باسم الدين، ونقد السّلطة السياسية التي هيمنت على مجال العقيدة، وخالف رجال الدّين، وتجرّأ على نقد بعض المقدّسات في السّيرة، ونادى بالاجتهاد وتحرير الفكر وتنظيم القياس، ودعا إلى التّعاون الفكريّ والتّضامن الرّوحيّ والتّفاعل الحضاريّ بين الشّعوب، وطعن في بعض التصوّرات والمسلّمات الإيمانية، لذلك رمي بالزّندقة والكفر، وهي تهمة سياسيّة واجتماعية أخلاقيّة أطلقت على كلّ من خالف الإسلام أو نقد المعتقد.

وأعتقد أنّ جلّ هؤلاء المفكرين ساهموا في بناء تصور ديني عقلاني يحترم الإنسان بصرف النظر عن اختلاف نمط تفكيره وتنوّع عقيدته ويهدف إلى تحديث الفكر وإصلاح المجتمع.

فيصل شلّوف: ما هو تقييمك لتأثير تلك المنطلقات الإنسانية في الفكر الديني الإسلامي، هل برأيك استفاد الفكر الإسلامي منها واستطاع البناء عليها؟ وهل تبقى صالحة باعتبارها أسسا ساندة لإمكانيات البناء الحداثي نحو ترميم الفكر العربي الإسلامي اليوم؟

بالتأكيد، ساهمت هذه المنطلقات الإنسانية التراثية في نشر قيم المحبة والتعاون والرحمة وتكريم الإنسان، وكان لها تأثير واسع في الفكر العربي والإسلامي الحديث، ولا شك في أنّها كانت منبعا لتحديث الفكر الإسلامي وتحقيق الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والانخراط في منظومة القيم الكونية؛ فقد ظهر في العصر الحديث عدّة مصلحين ومفكرين مجددين من السنة والشيعة ساهموا في إرساء فكر إنساني يحقق شرعية التنوّع وحقّ الاختلاف، ويقدس العقل، ويعيد النظر في منهج التعامل مع النصوص الدينية.

ونذكر من بين هؤلاء محمد الطاهر ابن عاشور (ت1973) ومحمد أركون (ت2010) ومحمد عابد الجابري (ت2010)، ونشير في هذا الصدد إلى أنّ طه حسين دعا إلى منهج عقلي في قراءة النصوص، للتمييز بين أدب السيرة وما يعزى إلى الرسول والصحابة، وكان الجابري قد أسس لمنهج جديد في التعامل مع التراث يقوم على التمييز بين العقل البياني والعقل البرهاني والعقل العرفاني، واستطاع أركون أن يعتمد ظاهرة "الأنسنة" في دراسة الخطاب القرآني.

وقد سادت هذه النزعة التي تحترم الآخر، وتعلي منزلة الإنسان وتؤمن بالقيم الإنسانية والاستيعاب النقدي للتراث وللمعرفة الحديثة، لدى المفكرين الإصلاحيين الشيعة المعاصرين مثل عبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان ومحمد مجتهد شبستري صاحب كتاب "تأملات في القراءة الإنسانية للدين" وعبد الجبار الرفاعي مؤلف كتاب "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين"، فقد استفاد هؤلاء الباحثون من حقول معرفية عديدة ولاسيما فلسفة الدين والمنهج الهرمنيوطيقي في مقاربة النصوص، واستثمروا منجزات الفكر الغربي على وجه الخصوص.

وتأكّد من خلال هؤلاء المجددين والإصلاحيين أنّ النزعة الإنسانية تفضي إلى تحقيق الحب والسلام والتعددية السياسية وحرية العقيدة والدين، فأضحت الكلمة السواء قاعدة للتعايش والحوار بين الأديان والثقافات، دونما إكراه أو مغالاة، وصارت المعنوية والمحبة خلاص جميع الأديان وإحدى رهانات الحداثة. هذه القراءة تفيد فهم الإنسان للدين والتدين وفق ما تتطلبه الأبعاد الإنسانية، لأن الدين لصالح الإنسان وليس لله.

إنّ من سمات التدين العقلاني الذي عمل على تكريسه هؤلاء المفكرون خدمة الناس لغايات إنسانية دون قيود دينية أو اجتماعية أو وطنية أو قومية، فيكون حسن التعامل معهم بالتحرر من أسر الماضي وتجاوز العراقيل والنزاعات واحترام إنسانية الإنسان، وعبر فرض قيم التسامح والاختلاف والاعتراف بتعدد الحقيقة الدينية؛ لذلك دافع سروش عن التعددية الدينية واعتبرها مساهمة في توسيع أفق مقاربة الوعي الديني، ودور الأديان في تحقيق التعايش والتوافق، ونلمس لدى هؤلاء إقرارا بحركية المضمون وبعدم قدسية التراث الفقهي لأنه تجربة بشرية، ومساهمة لتجاوز القصور المنهجي الذي يساهم في إضفاء قدسية على تراث السلف، ومحاولة لنبذ التكفير وإرساء خطاب الاعتدال.

فقد عمد الخطاب الإصلاحي والحداثي إلى تحرير الدين من الصراع ومن الاحتكار وتحقيق الاستيعاب النقدي للتراث وللمعرفة الحديثة واستقلال الشريعة عن الدولة ونزع المغالاة وتغليب العقل وتجذير قيم المواطنة والتعايش السلمي ونشر ثقافة الاعتدال في مواجهة التطرف والإرهاب وخطاب التطرف والفتنة.

وأعتقد أنّه من المهم التفكير في سياسات تحترم الإنسان وحقوقه وتقدّر حقّ التعايش وقبول الأعراف والأديان والتنوع الحضاري والثقافي، لأن ذلك سيدفع حتما إلى احترام النفس البشرية والحدّ من الإرهاب والتطرف والغلو، فتعمل على بناء منظومة تربوية وتعليمية تولي اهتمامها لتعليم طرائق التفكير العلمي العقلاني النقدي، وتحقيق الإبداع وطرح الأسئلة على اختلاف مجالاتها. وأرى من الأهمية بمكان أيضا أن يتوفر مناخ بحثي جامعي يحقق حرية الفكر والضمير ويتجاوز كل القيود التي تكبّل الفكر.

فيصل شلّوف: تنحو الدراسات الحضارية الأكاديمية في الجامعة التونسية باتجاه تكريس المناهج العلمية الحديثة في دراسة الظاهرة الدينية عموما، انطلاقا من استغلال ما تتيحه البيئة الثقافية التونسية من خصوصيات تنأى عن التمذهب والتحزّب الدّيني، كيف عاينت ذلك انطلاقا من المسائل التي اهتممت بها في أبحاثك؟

فعلا، أعتقد أنّ الجامعة التونسية رائدة في مجال تجديد مناهج البحث واعتماد البيداغوجيا الحديثة في مقاربة النصوص، وتبين مرجعياتها على اختلاف أجناسها وأصنافها، وأرى أن الأمر يعود إلى عدّة عوامل وظروف ملائمة ومنها استقلالية الجامعة وحرية الرأي والتفكير التي يفرضها المحيط الجامعي والوعي بقيمة العمل العلمي الأكاديمي الذي يميز بين الذاتي والموضوعي، ويطرح المسائل والأفكار ويقدم المقاربات العلمية الحضارية والأدبية واللغوية بعيدا عن التعصب والمغالاة أو التمجيد واجترار الأفكار والأخبار وتقديس الموروث، وفضلا عن ذلك كان لثلة من الباحثين الجامعيين دور فاعل بسبب استمرار اطلاعهم على منجزات البحوث والمقاربات العلمية والمنهجية الغربية الحديثة، فهناك رغبة جامحة لديهم لتكريس المنزع النقدي العقلاني والتنويري، لفهم الظاهرة الدينية وتاريخية النصوص المقدسة وتحليل أنماط التفكير وتاريخ الأفكار، وعزيمة ثابتة على أن تستفيد البحوث الأكاديمية من الدراسات النقدية والمنهاج الجديدة وعلوم العقل واللسان، ونلمس في هذا المستوى تشجيعا على الاستئناس بعلم النفس والاجتماع والفلسفة والمقاربات اللغوية واللسانية والحضارية الحديثة ولاسيما الغربية، وبذلك نأت الجامعات ومراكز البحث في أغلب الأحيان عن الإيديولوجيا الحزبية والمرجعية الدينية والسياسية وعن الانطباعية الذاتية. ويجدر بنا أن نشير في هذا السياق إلى أنّ الفضل يعود كما ذكرت إلى أساتذة ومفكرين أصحاب مشاريع نقدية ترمي إلى تحرير الدين من التشدد والاحتكار، فقد طرحوا القضايا بعقل ثاقب وفكر ناقد وتحليل موضوعي رائق. وقد نلت شرف الاطلاع على مقارباتهم ونصوصهم، فكان لهم دور كبير في تعميق رؤيتي للموروث الديني.

وأنا أحرص على توظيف مكتسبات مناهج البحث والبيداغوجيا التي تكرّسها الجامعة التونسية من خلال هياكل البحث العلمي على غرار مخبر تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات بكلية الآداب بالقيروان، الذي أنتمي إليه، وهو يعمل على استثمار بعض العلوم الإنسانية واللسانية في مجال الفلسفة وعلم النفس وعلم مقارنة الأديان والإناسة الذي تميز فيه الباحثان الفرنسيان مرسيا إلياد (Eliade Mircèa) وميشال ميلان (Meslin Michel) ويستفيد من فلسفة التأويل أو الهرمينوطيقا، في دراسات بول ريكور (Ricœur Paul) وغاديميرا (Gadamer) وعدد من البحوث اللسانية مثل اللسانيات العرفانية وبعض الدراسات السيميائية والألسنية لبارت (Roland Barthes) ودي سوسير (de Saussure) ويوظّف المنهج المقارني والمنهج النقدي التحليلي للبحث في المتخيل والرمزي والأسطوري، وقد استفدت من ذلك كلّه في كتابي "المسيحية في الأحاديث النبوية"، فوقفت عند منهج تدوين الحديث النبوي وآليات تأويله والظروف الحافة بذلك، وقارنت بين الفكرين المسيحي والإسلامي في مقاربته للتوحيد والخلاص والشفاعة وفي رؤيته للأشخاص التاريخية مثل عيسى ومريم ويحيى. ووظفت هذه المناهج أيضا في مقاربة موضوع فكري وديني مهم تعلق بـ دراسة صورة أهل البيت وتبين منزلتهم لدى أهل السنة والشيعة الإمامية الاثني عشرية، والنظر في ما حفّ بهم من وجوه الإطراء والمغالاة وما رسمته مخيلة الرواة من مكانة مميزة، فارتقى بهم المخيال الإسلامي إلى مصاف القديسين والأنبياء والمختارين. وقد أتاحت لي هذه المناهج والمقاربات العقلانية التي تعتمدها الجامعة التونسية فرصة لمراجعة ما استقر من مسلمات وتحقيق نقد الفكر والمقارنة بين مختلف التصوّرات بمنتهى الموضوعية دون تحيز ديني أو سياسي أو ثقافي.

وأختم بالقول، إن على الموروث الفكري والديني الإسلامي أن يحقّق التّفاعل الحيّ والحركي مع الواقع، ويجب أن يستجيب لقيم العصر ومستجدّاته، فيشمله الاجتهاد ويطاله النّقد، فلا شكّ في أنّ المتلقي المعاصر يختلف عن المتلقي القديم، فلكلّ عصر أدواته المعرفية والمنهجية وظروفه وخصائصه وأنماط تفكيره، ولا يمكن أن نعتبر الموروث الفكري مادة جامدة غير قابلة للتفكيك وإعادة التركيب والتأويل، وإنما هو يتشكّل من مجموعة نصوص متحركة تخضع لتقدم المعرفة ولتحولات المجتمع الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية.