عندما كان صوت بدوي الجبل يوحد سوريا!


فئة :  مقالات

عندما كان صوت بدوي الجبل يوحد سوريا!

ربما لم يتغن شاعر بأمجاد سوريا والعرب أكثر مما فعل بدوي الجبل. ومع ذلك، فهم ينبشون الآن وثيقة غامضة مشبوهة تحاول الإثبات بأنه خائن أو عميل! حتى لوران فابيوس يحاول نبشها! لولا خوفي من التعميم الظالم الذي لا يجوز لقلت: بحياتي كلها لم أجد شعبا أغبى من العرب!. إنهم يدفعون بعضهم البعض دفعا للعمالة والخيانة. إنهم يجبرونهم على ذلك إجبارا. أو قل إن الأكثرية المتحكمة تضع الأقلية المستصغرة بين نارين: إما السحق التاريخي الكاملإ وإما التبعية للخارج! فقلت هما أمران أحلاهما مر.. أكاد أقول ما قاله المتنبي: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. كان شارل ديغول ينفجر أحيانا قائلا: مشكلتي مع الفرنسيين أنهم بقر لا يفهمون: أي لا يرون إلى أبعد من أنفهم. فإذا كان الفرنسيون بقراً فما بالك بنا نحن؟ لا أحد يموضع الأمور ضمن سياقها التاريخي، لكي يدرك ما حصل بالضبط إبان تلك الفترة المبكرة من تاريخ سوريا. من مكاننا الحالي أو من موقعنا الراهن نطلق أحكام الإدانة جزافا على أناس عاشوا وعانوا قبل أكثر من مائة سنة. يضاف إلى ذلك أن التعامل مع الفرنسيين لم يقتصر آنذاك على بعض الشخصيات العلوية، وإنما شمل أيضا شخصيات سنية ومسيحية عديدة في اللاذقية ودمشق وسواهما. فالمستعمر كان يسيطر آنذاك على البلاد والعباد. ومن السهل أن نبرز بطولاتنا بعد فوات الأوان! ثم بشكل أخص لا أحد يموضع هذه الوثيقة ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ كما يقول المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل، وهو منظور الفتنة الكبرى وحديث الفرقة الناجية والملاحقات الضارية، حتى رؤوس الجبال والإدانات اللاهوتية التكفيرية على مدار القرون الوسطى، بل وحتى اللحظة. (انظروا مواقع الانترنيت الأصولية عندما تطلق لنفسها العنان عن الروافض والنصيرية والقرامطة والزنادقة الذين هم أشد كفرا من اليهود والنصارى!...).

كل هذه الأشياء ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، إذا ما أردنا أن نفهم منشأ تلك الوثيقة التي تعبر عن رعب أقلية محتقرة لاهوتيا احتقارا شديدا ومضطهدة على مدار التاريخ. من يستطيع أن يعد المجازر التي لحقت بالطوائف الشيعية على مدار أكثر من ألف سنة متواصلة: أي منذ تلك المذابح المذكورة في كتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الاصفهاني، وحتى تفجيرات "القاعدة" الحالية مرورا بالعصرين المملوكي فالعثماني؟.. حتى أمد قريب ما كنت تجرؤ على النزول إلى المدينة أو المشي في الشارع مجرد مشي دون أن تسمع كلمات الاحتقار أو الشتم والاستهزاء تلاحقك وراء ظهرك. ومع ذلك، فإنهم يحاولون إيهامك بأن الدول العربية كانت دائما عادلة مع جميع ساكنيها وتعاملهم على قدم المساواة دون أي تمييز. وربما كانت أرقى من مجتمعات سويسرا أو هولندا أو السويد! لم لا؟ عندما أقرأ بعض الكتابات أشعر بالذهول وأتساءل عن أي مجتمعات يكتب هؤلاء الأخوة الكرام؟ كل هذه الحقائق التاريخية ينبغي الاعتراف بها يوما ما بغية فتح صفحة جديدة وتحقيق المصالحة التاريخية فيما بيننا. عندما أقول هذا الكلام لا أقصد إطلاقا التقليل من مسؤولية النظام البوليسي الحالي عن الانفجار الثوري الكبير والانتفاضة العارمة. ولكن لا يمكن فهم الكارثة السورية بكل أبعادها إن لم تموضع ضمن شريحة زمنية طويلة كما فعلت آنفا.

لكن لندع كل هذه الاعتبارات المزعجة جانبا، ولنحاول أن نستمتع ولو قليلا بهذه القصيدة العصماء لبدوي الجبل: البلبل الغريب، وهي شهيرة جدا وأنا لا أكتشف المجرات، إذ أتحدث لكم عنها. فهي سارية على كل شفة ولسان. وقد كتبها في المهجر السويسري إبان الخمسينيات، حيث كان منفيا. كتبها وهو يحن متلهفا إلى سوريا كلها، وليس فقط الى منطقته الخاصة بالذات: أي بلاد العلويين والساحل السوري الممتد حتى أنطاكية واللواء السليب... بل ويبتدئها بالعاصمة دمشق الشام:

وأعشق برق الشام إن كان ممطرا

حنونا بسقياه وإن كان خلبا

مآرب لي في الربوتين ودمر

فمن شم عطرا شم لي فيه مأربا

وبعدئذ ينتقل إلى العاصمة الثانية، حلب الشهباء، وما أدراك ما حلب في مثل هذه الظروف!

وجاد ثرى الشهباء عطرا كأنه

على القبر من قلبي أُريق وذُوبا

ربما كان قبر إبراهيم هنانو أو سعد الله الجابري، وهما رفيقاه في النضال ضد الاستعمار الفرنسي.

ونعرج على وسط سوريا والمدينتين التوأمين المتنافستين على المجد:

وحيّا فلم يخطيء "حماة" غمامه

وزف "لحمص" العيش ريان طيبا

وهل يمكن أن ننسى منطقة "حوران" العظيمة؟ فمن عاصمتها "درعا"، انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى ضد الاستبداد الشمولي وحكم المخابرات الإجرامية التي تستطيع أن تقتلع حتى أظافر الأطفال!

ونضّر في حوران سهلا وشاهقا

وباكر بالنعمى غنيا ومتربا

الشاهق هنا هو جبل العرب أو جبل الدروز الذي يطل كالنسر، من عل، على سهول حوران الرائعة، وهي السهول الكريمة المخصبة التي كانت تزود يوما ما كل الامبراطورية الرومانية بالقمح والخير والبركات.

ولا يمكن أن ننسى مناطق سوريا المحاذية للعراق وتركيا، حيث تتواجد العشائر العربية الأصيلة وإخواننا الأكراد:

وجلجل في أرض الجزيرة صيبٌ

يزاحم في السقيا وفي الحسن صيبا

وبالطبع، لا يمكن أن ينسى مسقط رأسه، الساحل السوري والجبل الأشم:

سقى الله عند اللاذقية شاطئا

مراحاً لأحلامي وملهى وملعبا

وأرضي ذرى الطود الأشم، فطالما

تحدى وسامي كل نجم وأتعبا

الأحلام تبخرت، والاستراحة انتهت، وفيما وراء القصف والقصف المضاد أكاد أسمع زئير التاريخ!

ثم هذا البيت الرائع الذي قد يدهشك، إذ يصدر عن شاعر علوي شيعي:

و يا رب عزٌ من أمية لا انطوى

و يا رب نورٌ وهّج الشرق لا خبا.

ثم يقولون لك بعد كل ذلك بأن محمد سليمان الأحمد المشهور باسم "بدوي الجبل" شخص طائفي عميل للاستعمار! أكاد أقول: ليت عندنا ألف عميل من هذا النوع!

هل يعلمون بأن أحد المشايخ الكبار لامه على هذا البيت لوما شديدا، عندما التقاه صدفة في مجلس ما أو على ميعاد، لا أعرف...ويعتقد بأنه قال له موبخا: تمدحهم وتفتخر بهم بعد أن شتموا علي بن أبي طالب على المنابر طيلة ثمانين سنة متواصلة؟ لا أعرف بماذا أجاب. لم أكن حاضرا الجلسة، وربما لم أكن قد ولدت بعد.(أنتهز هذه الفرصة لكي أفتخر وأستمتع بأني لا أزال "صغيرا" في السن..حتما حرب داحس والغبراء حصلت أيضا قبل أن أولد! أتصاغر وأتهافت في نفس الوقت...)

هكذا تلاحظون، أننا عدنا الى الفتنة الكبرى التي بقيت شوكة في حلق التاريخ العربي، وغصة يصعب بلعها. وفي رأيي الشخصي لن تُبلع ولن تُتجاوز إلا بعد أن تحصل ثورة كوبرنيكية – أي تنويرية - داخل الفكر العربي والإسلامي ككل، وهو شيء بعيد المنال في مثل هذه الظروف الحالكة السواد. ولا توجد أمارات ترهص به على الاطلاق، بل الموجود هو العكس تماما:انتعاش مجد الإخوان والسلفيين والخمينيين والارتداد إلى الوراء. وبالتالي، فالتنوير العربي الإسلامي ليس على الأبواب. والخروج من النفق المظلم لا يزال بعيدا...

من يراقب الأمور عن كثب ليس فقط في سوريا، وإنما أيضا في لبنان والعراق واليمن والخليج العربي يخيل إليه أن الفتنة الكبرى بين شطري الأمة قد حصلت البارحة! وقعة صفين لم تحصل عام 37 للهجرة: أي قبل ألف وأربعمائة عام تقريبا، وإنما قبل ساعات فقط!... لم يجف دمها بعد! إنها لا تزال جرحا نازفا، طريا، فاغرا فاه. وسوف تبلعنا جميعا إذا ما استمرت الأمور على هذا النحو. إنها الماضي الذي لا يمضي. إنها الماضي الذي يرفض أن يمضي. إنها شرخٌ في تاريخ طويل...والسبب هو أنها تشكل عقدة تاريخية يستحيل حل خيوطها أو فك طلاسمها وتجاوزها في المدى المنظور. يلزمنا أطباء كبار؛ أي فلاسفة كبار، لكي يعالجوننا نفسيا وصحيا ومعنويا، هم وحدهم القادرون على تحليل رواسب الماضي عمقيا وأركيولوجيا، مثلما فعل فرويد مع العقد التي تصيب المرضى النفسانيين في طفولتهم الأولى أو مثلما فعل نيتشه في نبشه العبقري عن جذور العقائد اليهودية - المسيحية. ومعلوم أن الفتنة الكبرى حصلت في طفولة الإسلام الأولى: أي في بدايات تاريخنا. منذ البداية، ونحن منقسمون على أنفسنا كنوع من الشيزوفرينيا المذهبية التي لا تدعنا نهدأ أو نرتاح أو نتصالح. وماذا عن مجزرة كربلاء واستشهاد الحسين سنة 61 للهجرة؟ هي أيضا حصلت البارحة، بل قبل دقائق فقط! ..كل هذه "الفواتير" التاريخية المعلقة أو المؤجلة ندفع ثمنها الآن عدا ونقدا. أكاد أقول : الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون. رحم الله الآباء والأجداد وشكرا لهم على هذا الارث الثقيل. ولكنهم لم يورثونا ذلك فقط. وإنما أورثونا أيضا الحضارة الأموية والعباسية والأندلسية التي أشعت على العالم يوما ما. وبالتالي، يحق لنا أن نفتخر بهم ونعتز. ينبغي أن نكون منصفين. والحق أن الآباء أكبر منا. فقد كانوا مبدعين في كافة المجالات في حين أننا مقلدون.

وإذن، فالقصة السورية ليس عمرها أربعين سنة فقط، وإنما ألف سنة أو حتى ألف وأربعمائة سنة.هذا لا يعني بالطبع أن النظام البوليسي الرابض على قلب الشعب منذ أربعين سنة ليس مسؤولا بشكل مباشر عن الكارثة الرهيبة الحاصلة حاليا. الضغط يولد الانفجار: قانون فيزيائي! ولكن المشكلة أعمق مما نتصور وأكثر تعقيدا. والدليل على ذلك، استفحال خطر الحركات الظلامية المتطرفة ونموها المقلق. من هنا استعصاء الحالة السورية وطابعها الدموي المرعب. الشيء الذي نستطيع قوله من خلال المقارنة مع التجربة الأوروبية هو أن الفتنة الكبرى الكاثوليكية – البروتستانتية التي تشبه كثيرا الفتنة الكبرى السنية – الشيعية لم تنحل من تلقاء ذاتها، وإنما من خلال مواجهتها وجها لوجه أو قل من خلال مواجهة "الإخوان المسيحيين" الذين يغذونها يوميا، وينفخون فيها النار لاهوتيا وعقائديا. كهنة كل طرف كانوا يهيجون الأتباع والعوام على جماعة الطرف الآخر الكافر الزنديق، لكي يذبحوهم ويتقربوا بذلك إلى الله تعالى. وبالتالي، لم يتم تجاوزها عن طريق القفز فوقها أو إنكار وجودها كما يفعل بعض المثقفين العرب اليوم. ومن قام بهذه العملية الجراحية – التفكيكية الخطيرة؟ إنهم فلاسفة الأنوار الانكليزية والفرنسية والألمانية أساسا. هؤلاء هم الذين تصدوا للمشروع الإخواني المسيحي الأصولي السلفي التكفيري، وفككوه من أساسات أساساته. وعلى أنقاضه ظهر مشروع الحداثة السياسية والدولة المدنية والإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن. باختصار شديد: على أنقاضه ظهرت الفلسفة السياسية الحديثة التي حلت محل اللاهوت الطائفي التكفيري القديم، وهو اللاهوت السياسي الذي برع سبينوزا في تفكيكه وتقويضه؛ فكان أن لعنه السلفيون اليهود والمسيحيون على حد سواء. هكذا تلاحظون أني "أفتعل المشاكل" باستمرار، وأمشي عكس التيار!...

لكن لنعد إلى الشعر مرة أخرى. فعلى بساطه المجنح يمكن أن نتلاقى جميعا دون أية حزازات مذهبية أو عصبيات طائفية. هنا لا شيء يقسمنا أو يفرقنا. عبقرية الشعر العربي تجمعنا. امرؤ القيس لنا كلنا، وكذلك نزار قباني ومحمود درويش...إنهم يخترقون كل الطوائف والمذاهب، بالإضافة إلى المتنبي وبدوي الجبل وأحمد شوقي والأخطل الصغير ومحمد مهدي الجواهري وعشرات غيرهم. إنهم لكل العرب وليس للشيعة أو للسنة، للعلويين أو للدروز أو المسيحيين... يخيل إلي أنه فيما يخص العبقرية الشعرية العربية و"الضربة القاضية" لا يتفوق على بدوي الجبل إلا المتنبي. وأحيانا أكاد أقول بأنه هو الذي يتفوق على المتنبي. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم!..

أخيرا، سوف أختتم بهذه الأبيات الخالدة عن حفيده "محمد" وروعة الطفل والطفولة. ويبدو أنهم يستشهدون بها حاليا لرثاء براعم سوريا الذين يتساقطون على دروب الحرية:

وسيماً من الأطفال لولاه لم أخف

على الشيب أن أنأى وأن أتغربا

تود النجوم الزهر لو أنها دمى

ليختار منها المترفات ويلعبا

يزف لنا الأعياد عيدا إذا خطا

وعيدا إذا ناغى وعيدا إذا حبا

كزغب القطا لو أنه راح صاديا

سكبت له قلبي وعيني ليشربا

***

ويا رب من أجل الطفولة وحدها

أفض بركات السلم شرقا ومغربا

وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها

إذا غردت في ظاميء الرمل أعشبا

ملائك لا الجنات أنجبن مثلهم

ولا خلدها - أستغفر الله - أنجبا

أخيرا تحية لأطفال سوريا ونسائها الذين أصبحوا مشتتين على الطرقات والدروب بالملايين. وانحناء واجلالا أمام الفجيعة السورية الكبرى التي أصبحت بحجم العالم.