عنف الفرق وآفاق التسامح


فئة :  مقالات

عنف الفرق وآفاق التسامح

- العنف المادّي وآثاره العقائديّة والنفسيّة:

كان الصراع على السّلطة في التاريخ الإسلاميّ سببا في نشوب كثير من الحروب ومقتل كثير من رموز الإسلام، ولعلّ من الغريب أن يكون مصرع كثير من الصّحابة على يد صحابة مثلهم يشاركونهم مبادئ التوحيد، وقاتلوا معهم جنبا إلى جنب تحت قيادة النبيّ وإمرته، ولم تبق الأحداث التاريخيّة زمن الصّراع الدمويّ على السلطة مجرّد أحداث طواها النسيان، ولكنّها تحوّلت إلى مولّد عنف، كان له أثره البالغ في نشأة تنافس دينيّ بين الفرق، لا يزال المسلم يرثُهُ ميراثَه للعقائد الإسلاميّة التي تكوّن ثوابت دينه، فكتب الفرق الإسلاميّة القائمة في هندستها العامّة على قسمة ضيزى بين فرقة ناجية وفرق من الهالكين، تتفنّن في تكفير الفرق الأخرى وإظهار مثالبها، لتستأثر بالاستقامة وتتّهم الباقين بالضلال والكفر. فهذا الأشعري يتّهم الغالية من الشيعة أنهم بعضهم يقولون: إن الله عزّ وجلّ على صورة إنسان، وأنّ البعض الآخر يزعم انّه ربّ وأنّه نبيّ فعبده شيعته، وهم يكفرون بالقيامة، ويدّعون أنّ الدنيا لا تفنى، ويستحلّون الميتة والخمر وغيرهما من المحارم.[1] فهل يمكن أن نعدّ مثل هذه العقائد التي يتحدّث عنها الأشعري داخل التصوّر الإسلامي أم خارجه؟ فهل يبقى للإسلام معنى إن صار الإله على صورة إنسان، وتحوّل البشر إلى إله، وكفر المسلم بالقيامة، واستحلّ الخمر وسائر المحارم؟

إنّ الغاية من هذه التّهم التي يوجّهها الأشعري إلى الفرق الغالية من الشيعة هي إقامة جدار فصل عقائديّ بين أهل السنّة والجماعة، وبين فريق من المعتقدين بأنّهم من المؤمنين.

فإمّا أن يكون الأشعري قد بالغ في تشويه فريق من المختلفين عن الفرقة التي يؤمن بأنها ناجية، وإمّا أنّ الاختلاف الإسلاميّ والدائرة التأويليّة قد بلغت حدّا من الاتّساع جعلت المنتمين إلى الإسلام يتجاوزون كثيرا من المحظورات ويتصرّفون اجتهادا في آيات تبدو مناقضة لما يفعلون، وأنّ تأليه الإنسان وأنسنة الإله قد شهدا تطوّرا جعل المسلمين يتصوّرون الإله بصور متناقضة ومختلفة، وما التأويلات المعاصرة حينئذ سوى ردّة عن انفتاح القدامى في فهمهم للكتاب والسنة.

بيد أنّ معايب كتب الفرق أنّها أقامت جدار فصل مذهبيّ أبّد الخلاف، وجعل كلّ فريق ينظر إلى الآخر نظرة المؤمن إلى الكافر، فيتعالى بوعيه، ويهدر الحوار مع المختلفين.

ولم يكن الطرف السنّي المفتتن بغلبته واقعا لوحده في تصوّر يستهجن المختلفين ويذرهم في خانة الكافرين، بل إن الشيعة أنفسهم قد صنّفوا كتبا للردّ على عقائد المختلفين عنهم عامّة، وعلى أهل السنة والجماعة خاصّة، فكان من ردود أفعالهم أن ألّفوا بدورهم كتب فرق تعبّر عن رفعة مذهبهم وتحطّ من شأن المذاهب الأخرى، إذ تعتبر أن عليّ بن أبي طالب إمام مفترض الطاعة بعد رسول الله، وأنه قلّده الإمامة ونصّبه لهم علما، وعقد له عليهم إمرة المؤمنين، فجعل منزلته منه منزلة هارون من موسى، وقالوا إنّه لابدّ مع ذلك من أن يقوم مقامه بعده رجل من ولده من ولد فاطمة معصوم من الذنوب طاهر من العيوب تقيّ نقيّ مأمور رضيّ مبرّأ من الآفات والعاهات في كل من الدين والنسب والمولد يؤمن منه العمد والخطأ والزلل منصوص عليه من الإمام الذي قبله مشار إليه بعينه واسمه...[2]

لا يزال الوعي الإسلامي مفتونا بالانتماء، فاليوم تفترق السبل بالسنّة والشيعة، لينبشوا في التراث، ويخرجوا منه أضغان السلف المتناحر، ويحاكوه في خلافاته ويتقاتلوا باسم مشاكله. فما سكنت قلوب الشيعة حسرة على فقد الإمامة من يد عليّ بن أبي طالب ولا هدأت نفوسهم حسرة على مقتل الحسين وتشريد أسرته، ولا تزال مقولات افتراق الفرق تتردّد أصداؤها في مواقف المعاصرين، فيتهمون المختلفين عنهم بالروافض والخوارج وشتّى النعوت التي يقصد بها الاستهجان والإخراج من ساحات الإيمان. ولا يزال "العدوّ الشيعيّ" أولى بأن يقاتل من "العدوّ اليهوديّ".

2- العنف الرمزيّ والإساءة إلى الرموز الدينيّة:

لقد كان من النتائج الحتميّة لسقيفة بني ساعدة ومقتل عثمان وقيام حروب إسلاميّة/ إسلاميّة، مثل واقعة الجمل ووقعة صفين ومعركة النهروان، نشأة عنف رمزي وجّه إلى الرموز الدينيّة، فتراوحت صورتهم بين المقدّس والمدنّس، فمثلما ألف "ابن الجوزي" مناقب عمر[3] ليرفع من منزلته إلى درجات القداسة، وتحاكي سيرته سيرة الرسول، راح فريق آخر يبحث في مطاعن عمر، ويعلي من شأن الإمامة، باعتبارها الشرط الرئيس لقيام إسلام صحيح في إطار مفاضلة لا يستقيم رفع منزلة فيها إلا على حساب آخر.[4] ثمّ نشأ أهل العقل وأهل التصوّف، فأمّا الفريق الأول فقد آمن أنّ العقل هو السبيل إلى إدراك المعارف، وكان جدلهم قائما مع أهل السنّة الذين اعتمدوا النقل ووثقوا بالروايات مصدرا أساسيّا للتشريع، ولذلك فقد أثبت المعتزلة لأنفسهم أصولا خمسة أقاموا عليها مذهبهم، وولجوا بها ساحة الجدل المذهبي مع الفرق الأخرى، وهي التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[5]، وأمّا الفريق الثاني فقد آمن أنّ طريق إدراك المعرفة "لا يكون بطريق التعلّم والاستدلال ولكنّه يهجم على القلب كأنّه ألقي فيه من حيث لا يدري."[6] وبرز الزوج الظاهر/ الباطن، ليثير جدلا جديدا بين علماء المتصوّفة والفقهاء، وتبدأ واجهة أخرى للتكفير والازدراء؛ فالمتصوّفة يتّهمون علماء السنّة بأنّهم لم ينالوا من المعارف الدينيّة سوى قشرها[7]، وفقهاء السنّة يتّهمون المتصوّفة بأنّهم مارقون عن الدين يخلطون بين منزلة الأولياء والأنبياء ويحطمون الحواجز بين قداسة الذات الإلهيّة وقصور الذوات البشريّة[8].

وعلى الرغم من نزوع بعض المتصوّفة إلى تأويل منفتح يقرّ بالاختلاف، جسّده ابن عربي (ت638 هـ) في أبياته الشهيرة:

لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة   فمرعى لغزلان وديـر لرهبـان

وبيـت لأوثـان وكعـبة لطائـف   وألواح توراة، ومصحف قرآن

أدين بديـن الحبّ أنّى توجّهت   ركائبه فالحبّ ديني وإيماني.[9]

إلاّ أنّ سائر المذاهب لم تكن قابلة لفكرة التعدّد، واعتقدت واثقة أنّ مذهبها هو الصّورة النقيّة للإيمان بنزعة دوغمائيّة لا تقبل التعدّد والاختلاف، ولذلك قتل الحلاّج (ت 309 هـ) وأحرق على رؤوس الأشهاد، بعد أن اتّهم بالكفر وضيّق الخناق على علماء التصوّف لقولهم بالحلول، وإعراضهم عن السبل الرسميّة للمعرفة، كاعتبار ابن الجوزي (ت 597 هـ) أن عقائد الصّوفيّة هي من تلبيس إبليس.[10]

فلقد كان التنوّع يفضي في كلّ مرّة إلى خلافات عقائديّة بين الفرق المتناحرة، وظلّ الحديث عن الأمّة الإسلاميّة من قبيل الوهم، ومثله تحوّلت الدعوات إلى إقامة دولة إسلاميّة لا تعترف في منظومتها التشريعيّة بكلّ هذا التعدّد، إذ ناشئة من رحم وعي سلطويّ يرى في أهل السنّة والجماعة أصحاب التأويل الصحيح ويستهجن سائر التأويلات ويزجّ بها في خانة المدنّس والبدع. وبدورها الأنظمة التي أقامت ثورتها الإسلاميّة على حكم ولاية الفقيه وقداسة الإمام كالثورة الإيرانيّة، فقد ظلّت وفيّة لأصولها العقائديّة، عاجزة عن إيجاد دولة تؤمن بالتعدّد المذهبي في الإسلام وتفتح أبواب الاختلاف في وجه المنتمين إليها.

لقد ظلّ التصوّر العقائديّ عند الفرق المختلفة منغلقا على ذاته، مسكونا بهاجس الردّ على الخصوم، ولم يكن ذلك الردّ سوى سجال، يخرج منه كلّ واثق بصحّة مذهبه أكثر وثوقا فيه، وقد كال لخصومه من تهم التكفير والبدع ما يخرجهم بها من دائرة الإسلام، وقد عجز الفلاسفة عن الانعتاق من أسر الانتماء المذهبي، فراحوا يبنون نظرّياتهم متجاهلين التنوّع الذي وسم الوعي الإسلاميّ، ولئن كانت الوظيفة الأساسيّة للفلسفة إدارة الخلافات المعرفيّة وضبط سبل الحقيقة المتعدّدة؛ فقد دخل الفلاسفة بدورهم ساحات السجال المذهبيّ ليثبت كلّ فيلسوف صحّة النسق الذي اعتمده، وسلامة المسار العقائديّ الذي اتّبعه.[11]

3- هل من سبيل للتسامح بين المذاهب؟

قد يبدو من اليسير استعراض العنف الرمزيّ الذي مارسته كلّ فرقة إسلاميّة في حقّ الفرق الأخرى، وهي تتصوّر نفسها صاحبة التأويل الصحيح، ومتّهمة الباقين بالتأويل الفاسد، ولكن يبدو من الصّعب البحث عن بؤر التوتّر التي يمكن أن تكون السبب في تواصل الخلاف على الخلافة في زمن انتهت فيه الخلافة الإسلاميّة مع تفكّك الدولة العثمانيّة، وبقيت الخلافات الدينيّة قائمة. وإنّه لمن اليسير الحديث عن التسامح والدّعوة إليه، ولكن كثيرا ما تتحوّل هذه الدعوة إلى بحث عن الحجج الدينية من الكتاب والسنّة، مع تجاهل الأسباب الحقيقيّة التي لا تزال تحرّك الضغائن بين المنتمين إلى الفرق الإسلاميّة المختلفة.

إنّ بؤرة التوترّ المذهبي تكمن في كون جماعة من المؤمنين بمذهبها لا تزال تستحضر صورة الماضي في الحاضر، فسنّي اليوم ليس مسؤولا عن خلاف عمر بن الخطاب مع عليّ ونيّته حرق منزلها إن صحّ الخبر، وهو ليس مسؤولا عن اغتصاب حقّ عليّ وعن حرب الجمل وصفّين ومقتل الحسين بن عليّ، إنّه كسائر المعتقدين في الدّين، نشأ في بيئة فرضت عليه مذهبا معيّنا وأكرهته بحكم الاجتماع البشري على ممارسة العقائد بنفس الطريقة التي وجد آباءه عليها، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الشيعة؛ فهم ليسوا مسؤولين عن شتم الصحابة، وإن شتم بعض أسلافهم. فالخلافات التّاريخيّة خبت جذوتها وما عادت لها من فائدة في عصرنا، وما الذي ينفع المؤمنين بالإمامة إن شتموا أو لعنوا عمر أو أبا بكر أو عائشة، فهل يضرّ الصّحابة شتما بعد موتهم؟

وقد شهد فكر الخوارج بدوره تحوّلات جعلت من تجربة المذهب الإباضيّ أكثر تسامحا مع الفرق الأخرى، فما عاد يجدي المسلم نفعا أن ينصّب نفسه بديلا من الإله يقضي بين الناس بالكفر والإيمان ويمنح صكوك التّوبة لمن يشاء، ويكفّر من يشاء. فالتسامح صار شعار كثير من الإباضيّين، ودعواتهم إلى التسامح نسخت إرث العنف الذي لحق بهم.

أمّا المتصوّفة، فبطبعهم يوجّهون وعيهم الديني إلى ذواتهم، ويجاهدون أنفسهم من أجل بلوغ المراتب السّامية من الاتّحاد والحلول، ونزعتهم السلطويّة ضعيفة. ولهذا، فهم خير زاد للتّسامح وخير مثال للمؤمنين بالاختلاف؛ فمجاهدة النفس أعظم من التسلّط على الآخرين واتهامهم بالكفر والزندقة. ومن واجب المؤمن أن يسلم الناس من يده ولسانه.


[1] انظر، الأشعري (أبو الحسن)، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، ط1، بيروت، المكتبة العصريّة، 1990، ج1، ص 67

[2] انظر: النوبختي (الحسن بن موسى)، القمي (سعد بن عبد الله)، فرق الشيعة، ط1، القاهرة، دار الرشاد، 1992، ص ص 16- 17

[3] انظر: الجوزي (أبو الفرج)، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، (تحقيق عاطف بن عبد الوهاب حماد)، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2011

[4] أورد الكليني هذا الموقف الذي يعبر عن رأي فريق من الشيعة قال: "والّه لو أنّ إبليس سجد لله عزّ ذكره بعد المعصية والتكبّر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عزّ ذكره ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزّ وجلّ أن يسجد له، وكذلك هذه الملّة العاصية المفتونة بعد نبيّهاﷺ، وبعد تركهم الإمام الذي نصبه بنبيّهم ﷺ، فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملا، ولن يرفع لهم حسنة حتّى يأتوا اللّه عزّ وجلّ من حيث أمرهم ويتولّوا الإمام الذي أمروا بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عزّ وجلّ ورسوله لهم." الكليني (محمد بن يعقوب)، الكافي، ط1، بيروت، منشورات الفجر، 2007، ج8، ص 146

[5] انظر: القاضي عبد الجبّار، شرح الأصول الخمسة (تحقيق عبد الكريم عثمان)، ط1، مصر، مكتبة وهبة، 1996، ص ص 149- 804

[6] ماسينوس ومصطفى عبد الرازق، التصوّف، ط1، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1984، ص 69

[7] يقول نصر حامد أبو زيد: "اللغة في هذا التصوّر مجرّد وسيط تؤدّي فعاليّته إلى اكتشاف السطح والقشرة الخارجيّة للنص دون أن تحقّق اقتحاما أو ولوجا لعالم النصّ الداخلي، لأسراره وجواهره." مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، ط2، بيروت/ الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1994، ص 248

[8] يقول ابن تيميّة مثلا: "تكلّم طائفة من الصّوفيّة في "خاتم الأنبياء"، وعظّموا أمره كالحكيم الترمذي، وهو من غلطاته، فإنّ الغالب على كلامه الصحّة بخلاف ابن عربي، فإنّه كثير التخليط، لاسيّما في الاتحاد وابن عربي وغيرهم، وادّعى جماعة كلّ واحد أنّه هو، كابن عربي، وربّما قيّده بأنّه ختم الولاية المحمّديّة، أو الكاملة، أو نحو ذلك، لئلاّ يلزمه ألاّ يخلق بعده لله وليّ، وربّما غلوا فيه، كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه ممدّا في الباطن لخاتم الأنبياء، تبّا لغلوّهم، حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوّة." ابن تيميّة، مجموع الفتاوى، ط1، السعوديّة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 2004، ج11، ص 363

[9] ابن عربي (محيي الدين)، ديوان ترجمان الأشواق، ط1، بيروت، دار المعرفة، 2005، ص 62

[10] انظر: ابن الجوزي (أبو الفرج)، تلبيس إبليس، ط1، لبنان، دار القلم، ص ص 155- 364

[11] ألّف ابن رشد (ت 595 هـ) كتاب "تهافت التهافت" ردّا على تهجّم الغزالي (ت 505 هـ) في كتابه "تهافت الفلاسفة"