في تأسيس الحق السياسي


فئة :  مقالات

في تأسيس الحق السياسي

إن فهم الحق السياسي عند سبينوزا، الذي يرتبط بمفهوم الدولة الحديثة؛ دولة الحق والقانون، والدولة العادلة، والدولة الديمقراطية، يقتضي وضعه في سياقه الفلسفي، وربطه بشبكة المفاهيم التي تؤسس المتن السبينوزي، لاستحالة فهمه، ومن ثم ربطه بالواقع العربي، دون الاستناد إلى مفاهيم أخرى، كالحق الطبيعي والجوهر والرغبة، وإن تبدت عند البعض أنها لا تنتمي إلى الحق الدلالي السياسي، لكن العودة إلى هذا المتن يبرز أنها جزء من نسق فكري تحكمت فيه غاية واحدة، هي تأسيس دولة الفرد الحر، أو دولة الحرية.

والحق أن العودة إلى النص السبينوزي، في معرض طرح مسألة تأسيس الحق السياسي، تنطلق من فكرة مفادها، أن الدولة عند سبينوزا أسست على مبادئ إتيقية بوصفها تعني ثورة مفاهيمية ضد التقليد، ونعني بهذا أن سبينوزا أسس للدولة من داخل نسقه الفلسفي "الإتيقا"، الذي يقوم على قلب عديد من التصورات الأنطولوجية والأنثروبولوجية التي ظلت حاضرة في الفكر الأوروبي حتى مع القطيعة المحدثة مع ماضيه اليوناني والسيكولائي، التي كانت أساسًا ثورة مفاهيمية، بدأت أولاً من النظر إلى الإنسان، باعتباره حالاً من أحوال الجوهر الطبيعة، مثله مثل كل الموجودات، وهو ما يفضي إلى القول إن كل ما يوجد لا يشذ عن قوانين الطبيعية الضرورية والثابتة، وأبرزها قانون الحق الطبيعي، المتمثل في أن لكل واحد "حرية حفظ الوجود وفق القدرة" الموجودة في الجسم، بوسمها ماهية كل موجود "الرغبة الكوناتوس"، الذي يتنزل منزلة "الحق الأسمى" للطبيعة، إذ لا يعبر هذا الحق إلا عن قوة وقوانين الطبيعة، غير أن الإنسان يختلف عن الأحوال والكيفيات الأخرى بامتلاكه العقل، لكنه يظل غائبًا تاركًا مكانه للأهواء السلبية التي تؤدي إلى التصارع. أما حين يغلب العقل عليها، ويمتلك أفكارًا صحيحة، فإنه يستخلص مباشرة فكرة الاجتماع أو المجتمع. ويتجلى هذا الانتقال من حال الأهواء إلى حال العقل، ومن حال الأحقاد إلى حال يظهر فيه الآخر شريكًا، وتبنى العلاقات على أساس عقلي، بموجب تعاقد مقتضاه تجميع هذه القدرات والقوى والرغبات في "كلٍّ" هو "السلطة" التي تتكفل بضمان ذاك الحق الطبيعي؛ أي الحياة. لكن الذي يهمنا هنا هو: كيف أن الدولة بقيامها تصير هي المالكة للحق الطبيعي؟ وما الذي يشرعن للدولة هذا الامتلاك؟

إن الانتقال إلى حال المجتمع، الذي سِمَتُه سيادة العقل، ينتج عن التعاقد بين الأفراد، الذي ينتج قوة تسمى "قوة الأغلبية"، وتعبر، بوصفها قوةً حقيقية، عن حق طبيعي جماعي ينجم عنه ولادة جسم سياسي، هو الدولة: "ونتيجة لذلك يصبح الحق الذي كان لديهم، بحكم الطبيعة، منتميًا إلى الجماعة."[1] ولن يتحقق إلا بانتقال الأفراد من العيش وفق شهواتهم وأهوائهم إلى العيش بمنطق العقل، تكون نتيجته المباشرة "عقد اجتماعي" ينقل بموجبه الأفراد حقهم الطبيعي إلى سلطة تصير هي المالكة لهذا الحق؛ أي أن كل "فرد ينقل إلى المجتمع كل قدرته التي يملك، بطريقة يكون له وحده، أي المجتمع، على كل الأشياء حق طبيعي سامي، بمعنى سيادة الحكم الذي على كل فرد طاعته بحرية أو خوفًا من العقاب."[2] وهو الحق الذي يعني أن على كل الأفراد الخضوع إلى سلطة الدولة بمقتضى التعاقد الذي فوّض إليها "حق السلطة"، ومسؤولية هذه الجماعة مرادفًا للديمقراطية، بوصفها تكليف شخص بتدبير شؤون المجتمع عبر تعاقد جماعي، لن تصير قدرة حقيقية قادرة على الفعل إلا من خلال التعاقد الذي يتضمن نقل الحق الطبيعي إليها. وستستفيد الدولة بمقتضى هذا التعاقد من حق سياسي هو "السيادة"، باعتباره "قدرة المحكومين الذين يوافقون على وضعه تحت تصرف الحاكمين، يستعملونه بواسطة مؤسسات."[3] وتمارسه الدولة انطلاقًا من التفويض المنجز، أو ما يطلق عليه سبينوزا "نقل الحق"، بحيث ستمارسه الدولة انطلاقًا من التفويض المنجز، حيث يلتزم كل الأفراد بالخضوع له، لأن "إرادة السلطة صاحبة السيادة داخل المجتمع هي في حقيقة الأمر إرادة الفرد العاقل."[4]

يطابق سبينوزا بين الجسم الفردي والجسم الجماعي في امتلاكهما لجهد يتجلى عبر الفعل لتأكيد الوجود "الكوناتوس"، وبناءً على هذا لن تخرج الدولة عن منطق الإتيقا، لأنها حال من أحوال الطبيعة، إذ تملك حق الفعل، الحق الطبيعي، والانفعال بجسم جماعي آخر يمكن أن تكون قوته أو قدرته أقوى منا فينهي حقها الطبيعي، بمقتضى أن الحق الطبيعي يمتد بامتداد قوة الجسم. ويتجلى حقها الطبيعي في البحث عما يفيدها وينفعها؛ أي كل ما يحفظ وجودها وسلطتها، والذي يتحدد في السير وفق نظام العقل أي "الديمقراطية". ونلحظ هنا أن سبينوزا يجعل الحق الطبيعي للدولة هو الضمان ضد الاستبداد والطغيان، لأن استمرار هذه السلطة وبقاءها مرتبطٌ أساسًا بحماية الحق الطبيعي للأفراد، المتمثل بالحرية والحياة، لذلك ليس من مصلحة السلطة أن تتعارض مع العقل بدايةً لأن ولادتها وتأسيسها جاء وفق الانتقال الذي حدث، من حال الأهواء إلى حال العقل، وتثنية لأن الأفراد لن يرتضوا الخضوع إلى نظام أو سلطة إلا إذا طابقت الطبيعة، طبيعتهم، وسعت إلى ضمان الحق الذي منحته الطبيعة لكل أحوالها. فحق الدولة ممتد حد قوتها، قوة جماعية محددة عبر الأغلبية، لذلك يقول سبينوزا "من النادر أن يأمر الحكام بأوامر متناقضة، لأن فطنتهم وحرصهم على الاحتفاظ بالسلطة يجعلهم يهتمون إلى أقصى حد بالسهر على المصلحة العامة أو توجيه دفة الأمور جميعًا وفقًا لأحكام العقل"[5]، وهو ما يجعل المنفعة "الفضيلة" متبادلة هنا، إذ يخضع الفرد لأوامر السلطة لأنه فوّضها حق ضمان حقه الطبيعي، في حين تتجلى مصلحتها في حماية هذا الحق خوفًا من تمرد يقوم به الأفراد، ويهدد حقها في الوجود والبقاء.

ترادف سيادة الدولة حرية الجوهر التي لا تخضع إلا لقوانين طبيعته الخاصة، لأن الحرية في نسق الإتيقا لا تفيد الإرادة المطلقة في فعل كل شيء، بل هي الفعل بحسب قوانين طبيعة الشيء الثابتة، أما الإكراه فإنه يعني الخضوع لطبيعة موجود آخر، فالموجود حر متى تطابق مع طبيعته، وهو ما ينطبق على الدولة بوسمها مالكة للسيادة التي تتجلى في أنها "لا تنصاع إلا لنفسها، وهي حرة لا تخضع إلا لقانونها الخاص."[6]

وتقوم مشروعية الدولة على المحايثة وليس على المفارقة والتعالي، إذ يتطابق مع النظام الأزلي للطبيعة الذي يجعل كل شيء موجود في الطبيعة وليس خارجها، لذلك لن تخرج الدولة عن هذا النظام، حيث تكرر السيادة الكلية للطبيعة الخاضعة لقوانين ضرورية. إن معايير مشروعية الدولة لن تكون غير الدولة عينها، مثلما أن معايير الحقيقة لا توجد خارج الحقيقة التي تعتبر وحدها معيار الصحة والخطأ. فالدولة لا تلتزم بأية مبادئ أخلاقية أو قيم ما وارئية لأنها ليست "دولة فضيلة" بل تتصرف بمنطق المحايثة وتخضع للعقل، إذ إن قوة الدولة تتجلى في التنظيم العقلاني الذي يضمن الحرية والسلم، وذلك لأن التنظيم اللاعقلاني سيكون بالنهاية غير مطابق لإرادة الأفراد.

وتنشأ الدولة عن طريق اتفاق مضمونه نقل الحقوق من حقوق فردية إلى حقوق جماعية، لكي تصير قوة جماعية تمثل الأغلبية، تقضي إلى انتقال الحق من طبيعي إلى سياسي يتجلى في السيادة الممارسة باسم قوانين الدولة الداخلية، وتسير نحو غاية واحدة هي ضمان رغبة الأفراد الأولى أو ماهيتهم الحقيقية المتمثلة في الحرية. وانطلاقًا من الحق الذي صار للدولة، يمكنها، أي الدولة، أن تشرع أو تلغي القوانين، كما يحق لها أن تضع معايير الخطأ أو الصواب والمقبول والمرفوض والعادل والظالم، لأن هذه المعايير لا تدرك إلا داخل الدولة؛ أي داخل منظم عقلانيًا، إذ إن الذي فوّض له شأن السلطة هو "الذي يعرف بطريقة مماثلة ما هو الحسن وما هو القبيح بالنسبة لكل واحد. فذاك، أو أولئك، الذي يحوز السيادة يملك سلطة تعريف ما يعتبر حسنًا وقبيحًا بالنسبة لكل واحد، وهذه السلطة معبر عنها في القوانين"[7]، عكس حالة الطبيعة التي لم يكن الفرد يخضع فيها لغير قوته الداخلية، أي رغبته، لكنه سيصير في المجتمع خاضعًا لمقتضيات القوانين العامة، التي وضعها الأفراد بتوحدهم داخل فكر واحد، هو فكر الدولة، ولحق السلطة، وهكذا يضحي الخطأ فعلاً لا يسمح به القانون. أما الفعل المقبول، فهو ذلك الذي لا يتعارض مع القوانين العامة. وننتقل في الدولة نحو معايير جماعية، وليست ذاتية، إذ لن يكون مسموحًا لفرد أن يقوم بفعل مناقض لما صار متفقًا عليه داخل المجتمع، لكن الخضوع للقوانين هنا لا يتعارض مع حرية الأفراد بل يؤكدها، وذلك لأن الحرية كما حددت في نظام الإتيقا هي السير وفق قوانين الطبيعة، والدولة ليست غير حال من أحوال الطبيعة.

لا يمكن للدولة، التي صارت هي السيادة، أن تشرك أحدًا في حقها المفوّض إليها بالأغلبية، بل عليها أن تمارسه بقدرتها التي منحتها إياها الطبيعة، أما إذا فقدت هذه القدرة وأصبح كل المواطنين يقاسمون الدولة حقها السياسي الطبيعي، أو تركت لأحد من الرعايا أن يتصرف بمنطقه الخاص ووفق شهواته ورغباته الذاتية، وليس بمقتضى الفكر الواحد للجسم، فإنها تعلن عن نهايتها وهلاكها، كما يكون فعلها تصريح بنقض الحالة المدنية والعودة إلى حال الطبيعة. ومرد هذا إلى أن الانتقال من حال مملكة الانفعالات السلبية إلى حالة العقل هو تفويض للقدرة الذاتية إلى الدولة لكي تصبح قدرة جماعية تمارسها بموجب القوانين، إذ لم يعد من حق الفرد أن يتصرف وفق مشيئته الخاصة وأهوائه، بل يخضع للفكر الواحد، كما ليس من حقه بمقتضى حق السيادة أن يؤول القوانين أو يتخذ القرارات فيما يتعلق بالمصلحة العامة أو تقرير ما هو الحسن والقبيح والعادل واللاعادل، وذلك لأن "كل مواطن ليس مستقلاً أبدًا، ولكنه خاضع للأمة، التي تلزم بتنفيذ كل الأوامر"[8]. ويستلزم احترام القوانين والالتزام بها شرط الفعل العقلاني الذي يتجلى في أن الفرد لا يمكن أن يعيش وحده، بل الأفضل له العيش مع الآخرين داخل المجتمع، لكنه، أي المجتمع، مرتبط باستمرار السلم الذي لن يتحقق إلا بالقطع مع كل فعل مستقل، مرتبط بالأهواء والغرائز. لذلك، فإن العقل يتطابق مع الطبيعة حين يعلمنا أن أسمى خير هو العيش مع الآخرين الذي هو المجتمع بالنهاية، مثلما يدفع الفرد إلى احترام قوانين المجتمع وتنفيذ أوامر السلطة القائمة، لأن إعمال هذه القوانين وتأويلها وجعلها مكيفة مع بعض الحالات الخاصة، لن يكون إلا حقًا مخوّلاً لهذه السلطة وفق ذلك الحق الطبيعي الذي هو السيادة. كما تفرض هذا الحق على كل دولة سيادة أخرى، يتجلى في استقلالها، إذ يحق للدولة أن تنقض كل عهد أو اتفاقية مع دولة أخرى أنّى لاحظت أنها متناقضة مع مصلحتها الخاصة، لأن ما يهمها هم مواطنوها ليس غير، أو إعلان الحرب وإقرار السلم وإنفاذ مضامين معاهدة مع دولة أخرى، لأن سيادتها تمتد إلى الخارج. إن حق الدولة بالنهاية هو "الحكم على الأفعال الفردية وامتحان كل المسؤوليات وإدانة المذنبين وفصل الخلافات القانونية بين المواطنين."[9] لكن ألا يمكن لهذه السلطة أن تكون على خطأ؟

ليس خطأ السلطة عند سبينوزا غير السماح بعودة حالة الانفعالات السلبية لكي يسيطر، وبالتالي نقض حالة السلم ومنح الأفراد الحق في التصرف بمنطق الشهوة والغريزة، مما يفضي إلى الفوضى التي تناقض العقل، فتعود مشاعر الخوف والكراهية التي تدفع الأفراد إلى عدم طاعتها والخضوع لها، وهو ما سيسبب ضعفًا كبيرًا للجسم السياسي، ويفقده تدريجيًا سيادته على أفراده، لأنه بظهور الخوف لدى كل مواطن، ينحل كل تنظيم ويرفض، وعليه الالتزام بالتعاقد المتبادل. وحين تناقض الدولة أو السلطة العقل، فإنها تعلن عن فقدان مشروعيتها وحقها الذي حصلت عليه يتجمع الحق الطبيعي للأفراد. إن خطأ السلطة عند سبينوزا ليس سوى أن يكون فعلها مناقض لمذهب وسلوك العقل.


1 سبينوا، باروخ، رسالة في اللاهوت والسياسة، تر: حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكرياء، بيروت، دار الطليعة، ط 4، 1997، ص 380

[2] Spinoza, traité théologico-politique, présentation et traduction et notes par Charles Appunh, (paris,GF Flammarion 2009), chapitre 16, p 266

[3] Christian Lazzari, droit, pouvoir et liberté, Spinoza critique Hobbes,( paris, PUF, 1998), p 305

4 ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الأول من تيوكيديدس حتى سبينوزا، تر: محمود سيد أحمد، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 675

5 سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص 383

[6] Spinoza, traité de l’autorité politique, traduction, notice et notes de Madeleine Francès, préface de Robert Misrahi, (paris, NRF Gallimard, 1954 pour le texte principal, la notice et les notes, 1978 pour la préface), p 24

[7] Christian Lazzari, droit, pouvoir et liberté, Spinoza critique Hobbes, p 306

[8] Spinoza, traité de l’autorité politique, chapitre 3, paragraphe 5, p 115

[9] Ibid, p 128