في علاقة الفكر الديني بالحداثة


فئة :  قراءات في كتب

في علاقة الفكر الديني بالحداثة

 في علاقة الفكر الديني بالحداثة:

تقديم كتاب "الفكر المسيحي الكاثوليكي في مواجهة الحداثة من المجمع الفاتيكاني الأوّل (1869 م/ 1870 م) إلى المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 م/ 1965 م)" لـحسن القرواشي


تمهيد:

لم يعد التعرّف على عقائد المغاير دينيًّا ترفًا فكريًّا بقدر ما أصبح ضرورة يفرض واقع الحياة المعاصرة التي جعلت تبيّن ماهية عقائد الأنا مشروطًا بمعرفة المغاير دينيًّا، ذلك أنّ ما يواجه الأديان الأخرى من إشكاليات موصولة بالفرد والمجتمع وما يفرضه الواقع من أسئلة وقضايا هي الأسئلة نفسها التي تواجه كل دين، وفي هذا السياق يتنزّل السؤال عن علاقة الخطاب الديني بالحداثة ومتطلّباتها، فالعلاقة القائمة بين الفكر الديني والحداثة تنطوي على رؤية دقيقة لما يجب أن يكون عليه الوضع بين المؤسسة الدينية والإنسان.

فلم يعد يجدي نفعًا اليوم القول إنّ المؤسسة الدينية هي من يحقّ لها الدفاع عن حقّ الله والتكلّم باسمه، فهي إنْ أرادت أنْ يكون لها وجود في قلوب المؤمنين وتأثير في حيواتهم وممارساتهم فعليها أنْ تدافع عن حقّ الإنسان قبل كل شيء. فالله ليس بالضعيف كي يكون في حاجة إلى من يدافع عن حقّه.

إنّ الانتقال من الرؤية التقليدية إلى رؤية أخرى معاصرة من شأنه أنْ يجعل الفكر الديني متناغمًا مع الإنسان (الحداثة)، وكلّما كانت المؤسسة الدينية مصرّة على الانغلاق على ذاتها متمسّكة بمسلماتها كانت أكثر بعدًا عن الإنسان وواقعه.

وفي هذا السياق يتنزّل تناولنا لكتاب الدكتور حسن بن خميّس القرواشي[1] "الفكر المسيحي الكاثوليكي في مواجهة الحداثة من المجمع الفاتيكاني الأوّل إلى المجمع الفاتيكاني الثاني" الّذي يُعدّ من أهم المؤلّفات التي عالجت علاقة الفكر الديني بالحداثة والمسارات التي اتخذتها أو التي يجب اتخاذها.

صاحب الكتاب هو الباحث التونسي حسن بن خميّس القرواشي، أستاذ التعليم العالي، وهو أستاذ مبرّز في اللغة العربية وآدابها وواحد من أبرز الباحثين العرب المعاصرين المختصين في شأن الفكر الديني المسيحي، ولعلنا لا نخطئ الصواب إذا ما قلنا إنّ الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه، والصادر في المجلد الثاني عشر من السلسلة الثامنة من منشورات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (ط 1 سنة 2005) واحد من أهم المراجع التي لا بدّ للباحث في شأن العقائد المسيحية من العودة إليها والإفادة مما انتهى إليه صاحب البحث من نتائج وتأويلات طريفة تكشف عن خفايا الفكر المسيحي وتدفع بالقارئ إلى بناء تصوّر جديد للخطاب المسيحي بعيدًا عن الرؤى والمقاربات المتداولة التي تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر.

والكتاب الذي نقدّم للقرّاء في الأصل بحث أكاديمي تقدّم به الأستاذ حسن بن خميّس القرواشي لنيل شهادة الدكتوراه دولة في اللغة والآداب العربية.[2]

وقد تكوّن الكتاب من ستّ مئة وسبعين صفحة من الحجم المتوسط توزّعت على مقدّمة (من ص 10 إلى ص ص18) وخمسة أبواب وُسِمت على النحو الآتي:

الباب الأوّل: مواقف البابويّة الفورية من الحداثة قبل المجمع الفاتيكاني الثاني (من ص 19 إلى ص 14).

الباب الثاني: المواجهة بين المحدثين والكنيسة، التصلّب المتوازي: لوازي المتمرّد والبابا بيوس العاشر المتصلّب (من 143 إلى ص247).

الباب الثالث: نحو الانفراج وإعادة بناء الفكر الكاثوليكي العقدي على ضوء قيم الحداثة (من ص249 إلى ص 410).

الباب الرابع: المنعرج تدحرج الهاجس العقدي وبروز البعد الرعوي، من مقاومة العالم إلى الانفتاح عليه (من 411 إلى ص 491).

الباب الخامس: الفكر الكاثوليكي والآخر والحرية الدينية (من ص 493 إلى ص 595)

الخاتمة (من ص 596 إلى ص610).

أشار الباحث في المقدّمة إلى أهم الدوافع التي جعلته يقدم على تأليف الكتاب، فالبحث جاء ليسدّ فراغًا في حقل الدراسات التي تتعلق بالفكر المسيحي الذي تعامل معه المسلمون باعتباره فكرًا "معروفًا لا يحتاج إلى الدرس والتمحيص ويكفي أنْ يعود المرء إلى القرآن ليطلّع على أسراره أو كأنّه فكر لا نحتاج إلى معرفته" (ص 10). وهي رؤية لا بدّ من تجاوزها ذلك أنّ عهد تجاهل المخالف دينيًّا قد ولّى وانقضى، وفي هذا المستوى حدد الأستاذ حسن القرواشي الأسباب الداعية إلى الاهتمام بالموضوع فإذا بالمسألة لها أسباب عديدة بعضها حضاري قوامه وعي جديد بأنّ "النصوص المقدّسة رغم ما فيها صامتة ولا تنطق إلا بفضل التفاعل بينها وبين المؤمنين القرّاء" (ص 12).

من هذا المنظور بات الاشتغال على الفكر المسيحي الكاثوليكي حاجة ملحة بالنسبة إلى المسلم، والباحث من خلال المقدّمة يحدّد طريقته في البحث وأسلوبه في دراسة الفكر المسيحي فهو لا يكتفي بالتنقيب في النصوص وتبيّن ما سكتت عنه بقدر ما يعوّل على التجربة، إذ يقول في ص 13 "لقد عشنا مع الرهبان واختلفنا إلى دياراتهم وجلسنا إلى موائدهم وآكلناهم وحضرنا صلواتهم وقداساتهم [.. كي] نبيّن للبعض الذين استغربوا هذا السلوك أنّ المؤمن لا يخاف من أخيه المؤمن وهو في شوق إلى معرفة طقوس أخيه في الإيمان وشعائره وعقائده".

بحث حسن القرواشي بحث متحرر من قيود النزعات التقليدية والأيديولوجيات المختلفة التي قد تحول دون تبيّن حقائق الأشياء، فالغاية التي من أجلها قام البحث بيّنة تتمثل بالأساس في الإفادة من تلك العلاقة التي نشأت بين الحداثة والفكر المسيحي الكاثوليكي لفهم الإشكاليات التي تطرحها الحداثة على الإسلام من منطلق أنّ الإسلام شأنه شأن بقية الأديان والتقاليد الثقافية يقوم على بنى متشابهة.

أمّا الباب الأول فقد احتوى على فصول خصصها للنظر في المواقف الجبرية التي اتخذها الآباء أمثال البابا بيوس التاسع والبابا لاون الثالث عشر (1878 م/ 1903 م) والبابا بيوس العاشر والبابا بندكتوس الخامس عشر (1914 م /1922 م) والبابا بيوس الحادي عشر والبابا بيوس الثاني عشر والبابا يوحنّا الثالث والعشرون، ...

و قد لاحظ الباحث أنّه على الرغم من اتفاق الآباء في اتخاذ مواقف جبرية متشدّدة ومتصلبة من قضايا الحداثة (الحرية، ...) فإنّ مواقفهم قد اختلفت في مستوى درجتها وشدّتها، ففي بعض الأحيان قامت على سوء الفهم والخلط بين المفاهيم وفي أحيان أخرى رامت وضع أسس جديد لتحديث الخطاب الديني بما يجعله أقوى في مواجهة الحداثة، وذلك بإدانة الحداثة والتنظير لتصفيتها أو تجاهلها، على أنّ هذا السلوك لم يحل دون الاضطرار إلى محاورة الحداثة على الرغم من حرص الفكر المسيحي على إلغائها وتجاهل مقتضياتها، وهو ما تجلّى في وقوع الفكر المسيحي لا سيما الفكر الكاثوليكي في مفارقات ترتب عليها بروز هواجس عديدة، فمعاداة العقلانية وتزييف إشكاليات الحداثة لم تؤد إلى التخفيف من حدّة التصادم بين الفكر المسيحي الكاثوليكي والحداثة، بل على العكس من ذلك ساهمت في تأجيج الصراع، "فالتحديات بمختلف أنواعها الفلسفية والعلمية والسياسية أعنف من التي عرفتها الكنيسة منذ الفاتيكان الأوّل" (ص 115)

إنّ التفاف الكنسية والفكر الديني على مطالب الحداثة في المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي لم يدفع الكنيسة إلى الانفتاح على الحداثة بقدر ما وطّد فيها (الكنيسة) أركان نزعة الاحتواء المقنّع لها (الحداثة).

من هذا المنظور فإنّ الفكر المسيحي الكاثوليكي لم يقدر على فهم مطالب الحداثة بقدر ما سعى إلى الالتفاف عليها، وهو ما قاد في نهاية الأمر إلى تباعد المسافات بين الطرفين بشكل لم يعد معه ممكنًا الحديث عن احتواء الكنسية للحداثة ومتطلّباتها، فالفكر المسيحي من منطلقات دينية لم ير في الحداثة ومبادئها إلاّ خصمًا له، وهو ما ولّد أزمة زاد من حدّتها تصلّب المواقف بين المحدثين والكنسية، فاتسع الفتق بينهما ولم يعد من الممكن رتقه، وهي مسألة تناول الأستاذ القرواشي أبعادها وتجلياتها في الباب الثاني من الكتاب الذي تتبع فيه أسباب الأزمة فإذا هي خارجية لا صلة لها بالفكر الديني (بروز تيارات فلسفية وعلمية احتفت بالإنسان ونادت بإقرار سيادته على نفسه والعالم، ...). وبعضها الآخر موصول بما يقع داخل الفكر الديني والمؤسسة الدينية من تغيّرات نادى بها أعلام أفذاذ لم يجدوا حرجًا في الإصغاء لمطالب الحداثة أمثال دي لامنّه الذي أثار إشكاليات عديدة في وقت مبكّر لم تنظر إليها الكنيسة نظرة جدّية إلاّ بعد أكثر من قرن، - وذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني - من قبيل الدعوة إلى إعادة النظر في الجهاز الفكري الذي بنت عليه الكنيسة البابوية رؤيتها إلى تاريخها، وذلك من خلال بسط تأويلات جديدة للمفاهيم المركزيّة في العقيدة المسيح مثل الخطيئة الأصلية...، بيد أنّ هذه العوامل (الخارجية والداخلية) لم تمنع الكنيسة من اعتبار منظومة المحدثين منظومة أضاليل وأكاذيب، وهو ما تجلّى في لائحة الأضاليل الصادرة عن المؤسسة الدينية، فهذه اللائحة ستُعدّ أهم أعمدة المشروع الفكري الذي أسسه الآباء لمقاومة الحداثة ومقولاتها (العقلانية، العلمانية، الاشتراكية، الشيوعية...). وفي ما يتصل بهذه المسألة يسجّل الباحث مفارقة من نوع خاص مدارها على أنّ الكنيسة "من حيث سعت إلى خدمة الإنسان والمعرفة قد انتهت إلى القضاء عليهما معًا، ذلك أنّ حرمان المؤمن من الحرية معناه القضاء على إمكانية الاختيار والقرار لديه" (ص 167)

لقد أصبحت الكنيسة سلطة معرقلة للمؤمن وحريته التي تعتبر أهم مقوّمات الخطاب الحداثي، فإذا بالمؤمن المسيحي إزاء خيارين متنافرين فإمّا الإيمان بالكنيسة والتخلّي عن الحرية وإمكانية الاختيار، وإمّا التمتع بحقّ الاختيار وحرية الفكر والحرمان من بركات الكنيسة ونعمها، خياران هما في الأصل فرضتهما الكنيسة على المؤمن علّها بذلك تقصي الحداثة وتكبح جماح اندفاعها، بيد أنّ رفض الكنيسة للحداثة والإصرار على تقييد حرية الإنسان انتهى إلى نشوب صراع دام ودائم بين الكنيسة الكاثوليكيّة والمحدثين. وقد قام هذا الصراع على تنظير الأولى لتصفية الحداثة وإضعاف تأثيرها في الإنسان المؤمن في حين سعى أنصارها (الحداثة) إلى نشر قيمها وتوضيح مميزاتها وخصائصها (لا سيما مع ألفريد لوازي Alfred Loisy 1850 م /1940 م)، وذلك بغاية التخلّص من سلطة علم اللاهوت وإعادة تنظيم العلاقة التي تربطه بالإيمان (راجع ص 183). وهي مبادئ اجتمعت حولها كلمة المحدثين على اختلاف منطلقاتهم وانتماءاتهم المذهبية (هارناك ولوازي)، فالجميع كان يسعى إلى تنزيل التجربة الدينية المسيحية في التاريخ والإقرار بضرورة التطوّر، وهو ما جعل من ربط المسيحية بقيم الحداثة المدار الرئيس للفكر المسيحي الحداثي. فتمّ وضع الكنيسة الكاثوليكية وتاريخها وعقائدها تحت محكّ القراءة النقدية، وهو ما أدّى إلى إصدار الكنيسة وثائق عملت من خلالها على تعمية الحداثة، على أنّ تلك الوثائق دلّت في جوهرها على عجز الكنيسة عن تمثّل آراء المحدثين وأفكارهم، ففيها أرجعت مختلف مظاهر الحداثة ومتطلباتها إلى مبدإ اللا أدرية Agnosticisme. وهي رؤية سارع المحدثون إلى رفضها ومقاومتها، ذلك أنّ لا صلة للا أدرية بعملهم التجديدي. وقد رأى الباحث في هذا المسار دليلاً على تعدّد (وتراكم) "إنجازات النقد [... وذلك ببلورة] العديد من المسائل المتعلّقة بالفكر الديني أو بالحداثة ذاتها مما جعل باب التغيير مفتوحًا" (ص 247).

فإذا بالعقل اللاهوتي بات محاصرًا بمدّ العقل الحداثي الذي اكتسح الفضاء الديني، ولم يعد ينفع في شيء تجاهل متطلباته، وهو ما توسّع في بيان أبعاده الباحث في الباب الثالث الموسوم بـ "نحو الانفراج وإعادة بناء الفكر الكاثوليكي العقدي على ضوء قيم الحداثة"، وفي هذا الباب انطلق الأستاذ القرواشي من سؤال محوري مداره: هل تحديث اللاهوت الكنسي تنازل أم تراجع أم رغبة في احتواء الحداثة وقيمها؟ وللإجابة على هذا السؤال تناول بالبحث مقومات اللاهوت الكنسي (الكنيسة السر، الكنيسة صورة من الثالوث، الكنيسة جسد المسيح السرّي، الكنيسة منظورة وروحية معًا، الكنيسة، شعب الله، ...) ليتبين له أنّ جميع المقوّمات تؤكّد ضرورة المحافظة على سلطة الكنيسة والآباء في حيوات الأفراد بما يمثل "قطعًا للطريق أمام كل المحاولات الساعية إلى علمنتها أو تسييسها أو دمقرطتها" ص 271، ولكي يوضّح أبعاد هذه المسألة راح الباحث ينقّب في أبعاد السلطة والسيادة في الكنيسة الكاثوليكية، وكيف تمّ الانتقال من سلطة الراعي الأزلي إلى الحديث عن نور العالم

إنّ إشكالية العلاقة بين الكنيسة والحداثة موصولة بالأساس في تصوّر الأستاذ القرواشي بالعلاقة القائمة بين البشري والإلهي في الفكر المسيحي الكنسي والحداثي، وهو ما وجد في لاهوت الوحي والتفسير والتأويل الحيز المعبّر عن تحديات التقليد والحداثة معًا أي بين مرتكزات الإيمان الكنسي ومسلمات النقد الحديث، وهو ما أدّى إلى بروز مقاربة إنجيلية كتابية لتطوير الخطاب اللاهوتي الذي لم يستطع التخلّص من سطوة الهاجس الإيماني للآباء، بيد أنّ ما تجدر الإشارة إليه أنّ بعض المحاولات مكنّت "علماء اللاهوت من أن يحرّروا البناء الأسراري من التعقّد الذّي حفّ به ومن المقاربة السطحية الشكليّة التي كان عليها من داخل المنظومة العقدية ذاتها وبالاعتماد على ما ورد لدى بعض الآباء المشهورين" ص 358، وهو ما تجلّى في المجمع الفاتيكاني الثاني الذي قام على تحدّيات عديدة تمّت معالجتها بذهنية جديدة عبّرت عنها مبادئ جديدة أهمّها القول "إنّ الأسرار ليست إلا مجرّد علامات مغذّية للإيمان. وهذا يعني أنّه بإمكان الإيمان أنْ يقوم بذاته دون حاجة إلى الأسرار، ولكن بما أنّ المسيح قد أسس البعض منها فلا بدّ من القيام بها دون التساؤل عن أصولها الشكليّة وعن شرعيتها. وفي هذا الضرب من التفكير مغالطة وتجاهل للأسئلة الحرجة التي تطرح اليوم" (ص 365)

لقد عملت الكنيسة على ملاءمة موروثها مع قيم الحداثة، بيد أنّ النزعة الرعوية وسيطرتها على النزعة المعرفية كانت وراء انكماش الخطاب الكنسي على نفسه، فإذا بالانفتاح على الحداثة الغاية الرئيسة منه "إنعاش سلطتها الذابلة بعودة المصلّين إلى كنائسها المهجورة، ولذلك قدّمت العديد من التنازلات وقبلت الحلول التي رفضتها في السابق ولكن دون جدوى [ ...] فالكنيسة الكاثوليكية ليست من أصحاب المغامرة ولا من المنادين بالثورة" (ص 410)

ظلّت الكنيسة منذ المجمع الفاتيكاني الأوّل تراوح بين محاولة تجاهل الحداثة أو التخلّص منها أو احتوائها دون أنْ تفتح أبوابها في وجه الحداثة ودون أن تصغي إليها. وما كانت هذه الممارسة بكافية كي تقي الكنيسة زحف مياه الحداثة التي تحوّلت إلى حقيقة ثابتة وواقعية لا مجال لغض النظر عنها أو صمّ الآذان عن مطالبها، وهو ما تطلّب حدوث منعرج حاسم من أهم تجلياته الانتقال من مقاومة العالم إلى الانفتاح عليه، وهي المسألة التي خصص لها الباحث الباب الرابع، وفيه تتبّع دلالات انتقال الكنيسة من المقاربة العقدية المركّزة على يسوع الإله إلى المقاربة الرعوية المؤسسة على يسوع الإنسان فإذا بالكنيسة تعي أنّ عليها أن تجدّد أسسها وأنْ تفتح أبوابها أمام الإنسان وأن تدافع عن حقوقه بعدما كانت تدافع عن حقوق الإله، وفي ظل هذا التصوّر كان لا بد من الإنصات إلى صوت الإنسان أيًّا كان هذا الإنسان مؤمنًا أم ملحدًا، وبذلك تحوّلت الكنيسة من وضع القطيعة إلى الحوار على الرغم ممّا شابه من سوء فهم وازدواج في المنطلقات وعدم قدرة على تطويع العقائد بما يتناغم والفكر الحديث، وهو ما جعل الباحث يتساءل عما إذا كانت الكنسية بانفتاحها على "نقيضها [الإلحاد] قد قامت بمجرّد تغيير في سياستها الكنسية بحكم التوجّه الرعوي الذي اتخذته في المجمع الفاتيكاني الثاني أم أنّها تمكّنت بالفعل من دراسة الإلحاد بالطريقة الوحيدة [...] أي من خلال الإقرار بأطروحات الملحدين مع ما يترتّب عن ذلك من تنكّر لذاتها؟" (ص 457).

إنّ هذا السؤال في تقديرنا يكشف عن وجود توتّر بين الرؤية الكنسية والحداثة على الرغم من المحاولات المتتالية للملاءمة بينهما، وكأنّنا بالباحث يشير بطريقة ضمنية حينًا وبطريقة صريحة حينًا آخر – إلى أنّ الانفتاح على الحداثة والدعوة إلى الحوار مع الآخر (الملحد، المغاير دينيًّا، ...) لم تكن دعوة واضحة ولم تبن على أسس دقيقة. وهي رؤية تنسحب على مواقف الكنيسة من المسائل الاقتصادية والاجتماعية التي كشفت عن تأرجح الموقف الكنسي بين المحافظة والتجديد، وهي نزعة عرفت منعرجها الأهم مع المجمع الفاتيكاني الثاني الذي سعى إلى تجاوز الإشكاليات السالفة التي رامت تطويع الواقع إلى بناء رؤية جديدة تقوم على النظر في المسائل الاقتصادية والاجتماعية حسب مقتضيات الواقع وبروح رعوية لا تلقينية.

أمّا الباب الخامس فخصصه الباحث للنظر في "الفكر الكاثوليكي والآخر والحرية الدينية" وفيه وقف على إشكالية الوحدة المسكونية بين الطوائف المسيحية معتبرًا المساومة على الحقيقة الإلاهية إثمًا وخيانةً والوَحدة لا تتوفّر بالخراب وإنّما بالاعتراف الواضح بشرعية التنوّع. وهو ما يدفع إلى القول إنّ الاختلاف أصل من أصول التجربة الإنسانية، وهي رؤية لم تكن واضحة المعالم في الخطاب الكنسي – بما في ذلك المجمع الفاتيكاني الثاني – فعلى الرغم من الدعوة إلى إقامة حوار بنّاء بين الأديان واحترامها فإنّ تلك الدعوة انطوت حسب الباحث على مراوغة، فالحوار مع مؤمني الأديان الأخرى هو في الأصل بحث عن المسيح المبثوث في دياناتهم.

وفي هذا المستوى يطرح الباحث إشكالية مخصوصة تتمثل في القول هل الحقّ في الحرية الدينية إشكال أخلاقي لاهوتي أم سياسي؟ (راجع ص 563)

سؤال يلخّص العلاقة القائمة بين الخطاب الديني والخطاب الحداثي، إذ لا بد من وضع الحدود بين ما لقيصر وما لله كي نستطيع تمييز اللاهوتي من السياسي، ولكي نميز حق الله من حق الإنسان.

إنّ القضايا التي بسطها حسن القرواشي للبحث وما توصل إليه من نتائج تتجاوز الفكر المسيحي الكاثوليكي لتطول التجربة الدينية الإسلامية، ذلك أنّ الإسلام قام على بنية دينية لا تختلف في شيء عن بنية المسيحية الكاثوليكية، وفي ذلك التشابه دعوة من الباحث إلى ضرورة تجاوز الخطاب الإسلامي مآزق الخطاب الكنسي الكاثوليكي (انعدام الحرية، نزعة القداسة، ...) إذا ما أراد أن يدخل الحداثة من أوسع أبوابها.


[1] الأستاذ حسن بن خميس القرواشي من مواليد مدينة تستور (ولاية باجة/ الشمال الغربي للبلاد التونسية) من خريجي دار المعلمين العليا بتونس، درّس في مؤسسات جامعية تونسية عديدة وتقلّد مسؤولية إدارة بعضها، تميّزت بحوثه العديدة بجدّتها وطرافة مقاربتها، ومن أهم أعماله "المنطوق به والمسكوت عنه في فقه ابن الحفيد"، "مدخل إلى تاريخ المسيحية"، "العصمة والأولية في المسيحية مقاربة نسقية تاريخيّة"، "الإسلام في مرآة الآخر أو في المقاربات النسقية"، "هل للأصيل والدخيل معنًى في الأديان"، "الحوار بين الوحي/الكتاب المقدّس واللاهوت/ الأيديولوجيا نظر في المنوال الكاثوليكي مع اقتراح بديل"، "العنف في المخيال الديني ودلالته"، "إشكالية المرجع النظري وأسئلة الراهن: الفكر الديني وحقوق الإنسان أنموذجًا"، "الجغرافيا والهوية الدينية مواقف كنسيّة من أوروبا ومن المسلمين فيها: غلق الحدود أم قطع الجسور؟"، "القرآن والمناهج التعليميّة: إشكالية اختيار أم قراءة؟".

[2] ناقشت البحث في 13 جوان 2001 لجنةٌ تكوّنت من الأستاذ محمّد الطالبي رئيسًا ومن الأستاذين توفيق بن عامر وكمال عمران مقررين والأستاذ محمّد قوبعة عضوًا إلى جانب الأستاذ عبد المجيد الشرفي مشرفًا.