في مفهوم الدولة


فئة :  مقالات

في مفهوم الدولة

1-في إشكاليّة مفهوم الدولة داعيا من دواعي مراجعته

يعدّ مفهوم الدولة واحدا من المفاهيم الإشكاليّة الأساسيّة في الفكر الإنسانيّ عامّة. هو مفهوم أساسيّ لأنّه يمثّل أبرز الحلول المبتكرة لأهمّ معضلات الوجود الإنسانيّ في توزّعه بين الفرديّة والجماعيّة، معضلة التوفيق بين فرديّته وجماعيّته، التي يترجم عنها الوعي الإنساني المعاصر بمعضلة التوفيق بين الحريّة والسلطة.

وتنبني إشكاليّة المفهوم على اعتبارات عدّة، منها ما يتعلّق بطبيعة المفهوم عامّة من وجهة النظر المعرفيّة، فكلّ مفهوم هو في الواقع مقولة اختزاليّة بالضرورة أو صناعة للذهن تحاول محاصرة الظواهر. ولذلك فهو يبقى عمليّة تبسيط مشدودة إلى آليّة التمثّل بمختلف ارتباطاتها بوجهة النّظر، وبمراجعها البيولوجيّة، والنفسيّة، والتاريخيّة، والثقافيّة المختلفة المتدخّلة في عمليّة الفهم.

كلّ مفهوم هو في الواقع مقولة اختزاليّة بالضرورة أو صناعة للذهن تحاول محاصرة الظواهر

ومنها ما يتّصل بطبيعة الظاهرة في تشكّلها التاريخيّ، فمفهوم الدولة من هذا الوجه، تعميم أو نوع أمثل حسب المصطلح الفيبري، لتركيبات تاريخيّة متنوّعة للسياسيّ، تنتج توحيدا في التسمية لظواهر متباعدة في الزمن والتركيب. بل تبيح شتّى أنواع التصنيف عليه، فتطلق عبارة الدولة على المدينة، وعلى الإمارة، وعلى المملكة، وعلى الامبراطوريّة المترامية الأطراف، على حدّ سواء. وتعلّق بها تصنيفات إلى دولة الحق، والدولة الأمّة، والدولة الراعية، والدولة الحزب، بل ودولة الخلافة، والدولة الإسلاميّة، والدولة الدينيّة. وغيرها من التصنيفات.

ويتعقّد الاعتباران السابقان من تراكب المستويات التي تكوّن الظاهرة، فالدولة ليست معطى جاهزا للوصف إنّما هي "إشارة مرسلة على تطوّر تاريخيّ كامل" للسياسي، وسجلّ لـ "مفاهيم سياسيّة، وإداريّة، وعقليّة" وقانونيّة، واجتماعيّة، وثقافيّة عامّة[1]. وهذا ما أنتج تعدّد واجهات المفهوم وتعدّد زوايا النّظر إليه، فالدولة ظاهرة اجتماعيّة من وجه[2]، وكيان قانونيّ من وجه آخر[3]، وتمظهر تاريخيّ لجوهر السياسيّ من وجه ثالث[4]، ونظام سياسيّ من وجه رابع[5].

ومّما يضاعف هذه السيولة المميّزة للمفهوم علاقته الوثيقة بمفهوم مكوّن له لا يقلّ عنه زئبقيّة هو مفهوم السياسة.

ولئن كان هذا الوجه الإشكاليّ للمفهوم يتعمّق بسبب تمثيله لفرضيّة قادرة على تقديم حلّ المعادلة الصعبة بين الحريّة و السلطة، فرضيّة وجدت سبل تحقّقها بل هيمنتها الواقعيّة التاريخيّة، فإنّ ما نتج عن هذه الطبيعة من دعاوي التشكيك في صلاحيّتها حلاّ فوق تاريخي، عبر عديد التنظيرات المحتجّة على الثقة الهيغليّة فيها، لا سيما من قبل الأنثروبولوجيا و الأنثروبولوجيا السياسيّة بالذات[6] فإنّ النّقد المعاصر للدولة من قبل فلسفة السياسة، وعلم الاجتماع يدعم ضرورة مراجعتها لتحيينها، و تحيين المعرفة بها باستمرار، لمساءلتها حول مدى قدرتها الفعليّة على حلّ معضلة السياسة. كلّ النقد الموجّه إلى الدولة من قبل الماركسيّة والأنثروبولوجيا، وكلّ المراجعات لأطروحتها ومبادئها من قبل القوميّة، واللّيبرالية، والاشتراكية وصولا إلى التكنوقراطيّة تبيّن أنّ الدولة ليست نهاية للتاريخ، وأنّ التفكير في سبل محاصرة البعد الماكيافلّي الملازم للسلطة، لتخليق السياسة وربطها بحريّة الإنسان، لم يكفّ في الفكر الغربيّ الذي أبدعها عن اعتبارها شكلا نسبيّا أو ناقصا للسياسيّ.

ولا شكّ في أنّ جماع هذه الإشكاليّات يتّخذ أهميّة إضافيّة بالنسبة إلى الكيانات الاجتماعيّة السياسيّة المتبنّية لشكل الدولة الغربي، وهي ما تنفكّ تعرض علامات واضحة علـى عسر عمليّة الملاءمـة القسريّة بيـن مرجعيّتها التاريخيّـة: السياسيّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة العامّة، ومتطلّبات الاندراج في نسق الدولة[7].

مفهوم الدولة تعميم أو نوع أمثل لتركيبات تاريخيّة متنوّعة للسياسيّ، تنتج توحيدا في التسمية لظواهر متباعدة في الزمن والتركيب

ولا ريب في أنّ العالم العربي واحد من هذه الكيانات التي لا تنجو من هذه الحقيقة التاريخيّة، وما يزال يثار فيها سؤال الدولة في الفكر والممارسة بشدّة. ولذلك انشغل الفكر العربيّ المعاصر بدوره بمشكلة الدولة. ولئن طرح عليه هذا الشاغل منذ أمد بعيد يعود إلى لحظة سقوط الخلافة، بل إلى ما قبلها، في سياق بحثه عن سبل تجديد أسس السياسة المدنيّة بعد تهاوي نموذج الخلافة، فإنّ الانقسام الذي أبدته النخب الفكريّة حول أهليّتها لإدارة السياسي العربيّ الإسلاميّ، منذ قرن من الزمن أو أكثر، يتكرّر اليوم، في ثورة الربيع العربيّ، بنفس الشعارات والحدّة. ما ينفكّ الفكر العربيّ المعاصر يعاود لوك المشكلة نفسها بين فصيلين، أحدهما مؤيّد لخلفيّة الدولة العلمانيّة، مهتمّ بترشيدها عبر بحث سبل وصلها بأحلام الديمقراطيّة، التي يجدها في ربط الدولة بمبادئ القوميّة أو اللّيبراليّة أو الاشتراكيّة. والآخر منكر لهذه الخلفيّة، بل منكر للدولة أصلا مراهن على قدرة الإسلام على مدّ السياسة بأسس مرجعيّة تضمن محاصرة السلطة من التعدّي على حريّة الإنسان[8].

قد تصلح لتفسير هذا الانحباس التاريخيّ الرئيسيّ في الموقفين السابقين جميع التأويلات التاريخيّة، أو الاجتماعيّة، أو الثقافيّة العامّة، إلاّ أنّها لا تقصي تأويلا أساسيّا من دائرة ممكنات التفسير، هو المتعلّق بماهيّة الدولة المتحدّث عنها عند الفرقاء في الفكر، بل وحتّى المتقاربين منهم. فالدولة التي يتحدّث عنها من قبل الجميع، لا تعني المعنى نفسه عند الجميع، لذلك لا يستغرب إن استمرّ لوك المشكلة ذاتها قرنا آخر من الزمن.

فما الدولة قبل كلّ شيء؟

2-مفهوم الدولة خلف تعريفاتها

في مقاله الصادر بمجلة المستقبل العربي، يحصي بهجت قرني أكثر من مائة وخمسين تعريفا للدولة[9]، ولكنّه مع هذا لا يسعى إلى إنجاز تأليفيّة توحّد حقيقة هذا المفهوم. وتبقينا كثافة التعريفات أمام سيولته وزئبقيّته الأصليّة. غير أنّ فلسفة العلوم تمدّنا بحل ممكن لفكّ هذه الإشكالية هو حلّ التعريف النظري. ثمة في النظرية قدرة على التجميع والتكثيف تلبي مطلب التأليف بين التعريفات الخصوصية، وييسّر استثمار طاقتها هذه في أفق الاستجابة للرؤية البينمناهجية الملحّة الراهنة -باعتبارها من أنجع طرق دراسة الظواهر الإنسانيّة، ومحاصرة تركيبيّتها-إيجاد تعريف يمتصّ خلاصة الشعب البحثية المختصة بدراستها. وههنا يمكّنالتنوّع في مقاربة الموضوع السياسيّ عامّة من إيجاد تعريف للدولة يمثّل منطقا ضمنيّا أو منطقة تماسّ بين مختلف شعب البحث السياسيّ المتعلّق بالدولة انطلاقا من مناهج دراستها المختلفة. وفي هذا الإطار تمكّن ملاحظة إدماجيّة بين اهتمام علماء السياسة الأوروبيين (جورج بوردو، وموريس دوفارجاي، وهانس كلسن، ومارسال بريلو، وجوليان فروند..) بالأفكار، وما أضافه الأمريكيّون والحقوقيّون من اهتمام بالمؤسّسات، من استنتاج خطّ تماسّ بين هذه المناهج، يمثّل تعريفا للدولة يوافق تعريفها عند جورج بوردو، إذ يعتبر أنّ الدولة ليست حصيلة الإقليم، والشعب، والقانون، كما تقرّر ذلك نظريّة المقاييس الثلاث للدولة، إنّها قبل كلّ شيء تضافر بين فكرة النظام المنشود التي توحّد جماعة بشريّة ما وجسم القواعد الملزمة، "الفكرة هي عمليّة تمثيل للنظام المرغوب، والجهاز (l’organisme ) هو آلة القوّة العامّة منظّمة بطريقة تجعل الفكرة تتحكّم في بنيتها ووسائلها"[10]. ويضيف: "الدولة آلة في خدمة فكرة الدولة بداية هي السلطة الممأسسة، وبالاستتباع المؤسّسة نفسها التي تكمن فيها السلطة المؤسّسة مشروع في خدمة فكرة، منظّما بطريقة تجعل الفكرة وهي مدمجة في المشروع ذات مدى زمنيّ وقوّة متجاوزة لقوى الأفراد الذين تمارس بهم دورها"[11]. ويشرح عبد اللّطيف ميموني نقلا عن موريس دوفارجاي معنى المأسسة والمؤسّسة فيبيّن أنّ للمؤسّسة معنيين، فالمؤسّسة عضو من ناحية أي مجموعة منظّمة لإنجاز وظيفة ما، وهي من ناحية ثانية آليّة أو إواليّة أي مجموعة القواعد المتحكّمة في تنظيم العلاقة بين أجزاء العضو، وبين الأعضاء فيما بينها، وتسييرها[12]. أمّا المؤسّسة التي نتعرّف بها على الدولة فهي مرتبطة بتحكّم الحقّ في تنظيم السلطة، فالدولة وحدها بين أشكال التنظيم السياسيّ من ينجز هذا التوليف بين السلطة وفكرة النظام المنشود بواسطة الحق.

ووصفا لارتباط المأسسة المميّزة للدولة بالقانون يقول جان جاك شوفالييه إنّ "ولادة المؤسّسة..تتجسّد أساسا بوجود الإجراء القانونيّ..فبهذه الرعاية القانونيّة وبتحوّلها إلى موضوع للحقّ تبقى المؤسّسة في حركة"[13].

حينئذ قد يصدق قول بوردو إنّ الدولة شكل تاريخيّ للسلطة ظهر مع بداية الحداثة في الغرب في أعقاب السلطة الخفيّة أو المبثوثة (anonyme) في المجتمعات البدائيّة، والسلطة المفردنة (individualisée) في المجتمعات التقليديّة، ذات الأنظمة السياسيّة كالملكيّة والإمبراطورية، هو شكل السلطة الممأسسة[14].

الدولة التي يتحدّث عنها من قبل الجميع، لا تعني المعنى نفسه عند الجميع

وإذا كانت المأسسة للسلطة نفيا لتشتّتها وفردنتها، أي مركزة لها وتحويلا إلى شخصيّة معنويّة، فإنّ هذه العمليّة لم تكتمل في غير الغرب عندما اكتمل تسييج السلطة بالحقّ الوضعيّ. وهو أمر بدأ تاريخيّا مع بداية الملكيّة الدستوريّة، وتمّ بانتصار الدستوريّة عقب نجاح الثورات الغربيّة الكبرى الثلاث (الإنجليزية، والأمريكيّة، والفرنسيّة). وما عبّر عن هذه التركيبة للسلطة هو الخطاطة العامّة للأنظمة السياسيّة التي قرّرها القانون الدستوريّ.

قد يتّهم هذا التجريد المفهوميّ، بالوقوع في فلك المواقف المعياريّة ذات المركزيّة الغربيّة، فينظر إليه تعريفا للدولة في الفكر الغربي، ينتزع من خصوصيّته الغربيّة، ليحوّل إلى معيار تصنيف يقصي مختلف أشكال التنظيم السياسي الخصوصيّة من مدار مفهوم الدولة، غير أنّ صلاحيّته النظريّة ناشئة من كونه لا يمثّل قالبا معياريّا أنتجه العقل التأمّليّ الغائي، نتيجة عمل داخليّ على ذاته، إنّما هو استنتاج على التاريخ الإنسانيّ عامّة، هذا ما يقرّره سلّم بوردو في تصنيفيّته السابقة للدولة. ولكنّ ما يدعم هذه الصلاحيّة أكثر أنّه تجريد يصاغ في ضوء النّظر إلى اتّصال مفهوم الدولة بالإشكاليّة الكبرى للسياسيّ، وهي إشكاليّة التوفيق بين السلطة والحريّة في الاجتماع البشريّ. فرغم كون الاهتمام بالحريّة لم يتحوّل إلى محور أساسيّ للفكر الإنساني إلاّ بداية من القرن الثامن عشر، بدفع من الفكر الغربيّ أساسا، فإنّ التفكير فيه في كلّ تفكير في الدولة، مثّل خطّا تاريخيّا لتطوّر التنظيرات السياسيّة لإشكاليّة السياسة، خلف الاستثاءات المنسّبة لهذا الحكم. ولذلك فإنّ ربط التشكّل الفعليّ التاريخيّ للدولة بتضافر عمليات لا شخصنة السلطنة، ومركزتها، ومأسستها القانونيّة، يعدّ من شروطها التعريفيّة المجمع عليها.

إنّ ترجمة لهذه الثنائيّة المكوّنة للدولة أي فكرة نظام منشود وآلة مؤسّساتيّة حقوقيّة منظّمة للسلطة بطريقة تجعلها خادمة للفكرة، تسمح لنا باعتبار الزوج المفهوميّ "الأدلوجة" و "الجهاز" الذي ابتكره العرويّ نظريّة للدولة، في كتابه الفريد في الفكر العربيّ المعاصر: مفهوم الدولة، صالحا لرسم خطاطة الدولة أو منظومتها أو نظريتها مع بعض التعديل.

إنّ الدولة ليست حصيلة الإقليم، والشعب، والقانون. إنّها قبل كلّ شيء تضافر بين فكرة النظام المنشود التي توحّد جماعة بشريّة ما، وجسم القواعد الملزمة

يعرّف العروي الأدلوجة بقوله إنّها: "المنطق الذي يقود تطوّر عناصر الدّولة"، و"إجماع وجدانيّ وليد التاريخ والمصلحة المشتركة الآنيّة"، و "منظومة فكريّة تعبّر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخيّة إلى هدف مرسوم في خطّة التاريخ العـام" إنّها إذن منطق ضمنيّ لتطوّر تاريخيّ كامل. ينظر هنا إلى الأدلوجة سياقا دياكرونيّا لتطوّر يربط حقبا تاريخيّة ببعضها. أمّا "أدلوجة عصر من العصور فهي الأفق الذهني الذي كان يحدّ فكر إنسان ذلك العصر"[15]وهو بهذا يوافق مفهوم رؤية العالم الذي جاء في شأنه " إنّها نوع الموقف الأساسيّ الموجّه نحو الواقع في كليّته، في علاقة بمبدأ تفسير هذا الواقع بطريقة تجعل هذا الموقف يحدّد السلوك الرّوحيّ المتعلّق بالحياة والقيم والعمل. إنّ الرؤية للعالم تسبغ النّظام على الواقع بالنّظر إليه من زاوية نظر موحّدة لتنوّعاته التي تقدّم في الرّؤية كليّة عضويّة "[16]. ويؤكّد جان ماريجكو أنّ" النّظام السياسيّ الإنسانيّ وجد نموذجه دائما في النّظام الطبيعي، كأنّ الإنسان أراد باستمرار تأسيس العلاقة بين الحكّام والمحكومين على نموذج طبيعيّ..ولهذا كانت طريقة تصوّر الطبيعة (أو العالم) أمرا مهمّا جدّا لتنظيم المدن"[17].

أمّا الجهاز فيعرّفه العروي بقوله إنّه "مجموع الأدوات التنظيميّة والقمعيّة: جيش، قضاء، إدارة..."[18]

 يعدّ ربط التشكّل الفعليّ التاريخيّ للدولة بتضافر عمليات لا شخصنة السلطنة، ومركزتها، ومأسستها القانونيّة، من شروطها التعريفيّة المجمع عليها

ولهذا فإنّ فكرة النظام المنشود التي تحدّث عنها بوردو توافق مفهوم الأدلوجة في تعريف العروي للدولة. كما أنّ مفهوم الجهاز عنده قريب جدّا من فكرة الآلة المؤسّساتيّة التي تحدّث عنها الحقوقيّون لكن باعتبار الجهاز المميّز للدولة الآلة المؤسّساتيّة المنظّمة للسلطة بالقانون.

وإذا كان الجهاز متمثّلا في الخطاطة التي رسمها القانون الدستوريّ للأنظمة السياسيّة في أربعة أنظمة رئيسيّة هي على التوالي: النظام الرئاسيّ، والنظام البرلمانيّ، ونظام حكومة الغرفة، والنظام الرئاسوي، وما يلحق بهذه الأنظمة من تفريعات عليها. فإنّ الأدلوجة أو فكرة النظام المنشود التي انشدّ إليها التاريخ الغربيّ المنتج للدولة تتمثل في الحريّة. وهي تتجسّد عبر تطوّر المقولات الناظمة لمختلف الأفكار السياسيّة، التي حدّدت في ثلاثة مقولات، هي مفهوم السياسة، ومفهوم السلطة، ومفهوم الحقّ. وهذه المقولات تجريدات اصطناعيّة تستخدم وحدات تنظيميّة أو محاور رئيسيّة تجمّع كلّ الأفكار السياسيّة التي صاغها الفكر السياسيّ الغربيّ في صيرورته التاريخيّة نحو الدولة في اتصال بفكرته عن النّظام المنشود، أي فكرة الحريّة. وقد تجلّى انشداد هذه المحاور إلى قيمة الحريّة في تحوّل عرفته مضامينها من طبيعة غائيّة مثاليّة فلسفيّة أو دينيّة، إلى طبيعة وضعيّة علميّة رافقت تطوّر رؤية الإنسان الغربيّ للكون من المثاليّة، إلى الماديّة الميكانيكيّة، وصولا إلى النسبيّة. وهو تحوّل نتج عنه استقلال تدريجيّ للسياسيّ عن الماورائيّ، واستقلال مشابه لمفهومي السلطة والحق بلغ قمّته في مفهوم السيادة.

 إنّ الأدلوجة أو فكرة النظام المنشود التي انشدّ إليها التاريخ الغربيّ المنتج للدولة تتمثل في الحريّة

قد يواجه هذا التعريف للدولة بحجة نسبيّته التاريخيّة الغربية، ولكنّ أهمّيته تبدو من جهة صلاحيّته التطبيقيّة نموذجا معياريّا يصلح به نقد كلّ أنماط التشكيل السياسيّ للسلطة في الوقت الحاضر بما في ذلك الدولة الغربيّة نفسها.

على أساس هذا التعريف للدولة يمكن القول إنّه لا مجال للحديث عن الدولة قبل اجتراحها المفهومي والعملي بداية من ماكيافال. أمّا إطلاق عبارة الدولة على تجارب سياسيّة سابقة على هذا التاريخ فالمرجّح أنّه من إسقاطات تاريخ ما بعد ظهور الدولة على تاريخ ما قبلها، هذا ما يذهب إليه العديد من الدارسين. ومن هذا المنظور ينظر الى مصطلح الدولة عند ابن خلدون، ومن سبقه من منظريها العرب المسلمين، مجازا على وضعية مختلفة عمّا يمكن أن يسمّى دولة.

المصادر والمراجع

- إبراهيم سعد الدين (وآخرون)، المجتمع والدولة في الوطن العربيّ، لبنان، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، 1988.

- أمين سمير، المغرب العربيّ المعاصر، ترجمة كميل قيصر داغر، بيروت، دار الحداثة، 1981.

- شرارة وضّاح، حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيّين، بيروت، دار الحداثة للنشر والتوزيع، ط1، 1980.

- ضاهر مسعود: مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربيّ، دمشق، ط1، 1994.

- العروي عبد اللّه، مفهوم الدولة، لبنان/ المغرب، المركز الثقافي العربي، ط 5، 1993.

- العظمة عزيز، العلمانيّة من منظور مختلف، لبنان، مركز دراسات الوحدة الإسلاميّة، ط1، 1992

- قرني بهجت، وافدة متغرّبة ولكنّها باقية: تناقضات الدولة العربيّة، المستقبل العربيّ، المجلّد العاشر، عدد105، س1987

- Burdeau Georges, l’état, edit. du Seuil, Paris, 1970

- Chevalier J. J. (et autres), l’institution, P.U.F, Paris, 1981

- Duverger Maurice, cours de sociologie politique, Paris, 1926

- Freund Julien, l’essence du politique, édit. Sirey, Paris, 1965

- Gicquel Jean, droit constitutionnel et institutions politiques, Montchrestien, 9éme édit., paris, 1987

- Kelsen Hans, Theorie generale du droit et de l’Etat, trad. Beatrice Laroche, lib. Generale de droit et de jurisprudence, Paris, 1997

- Encyclopédie philosophique universelle, P.U.F, Paris, 1990

- Marejko Jan, cosmologie et politique, édit. L’âge d’homme, Lausanne, 1989

- Memouni Abdellatif, institutions politiques et droit constitutionnel, 1ére édit. Toubkal, Maroc, 1991

الهوامش


[1]العظمة عزيز، العلمانيّة من منظور مختلف، لبنان، مركز دراسات الوحدة الإسلاميّة، ط1، 1992، ص9، 10

[2] وهو موقف السوسيولوجيا السياسيّة، ومن أبرز ممثّليها موريس دوفارجاي انظر كتابه

Duverger Maurice, cours de sociologie politique, Paris, 1926

[3] وهو موقف علم القانون، ومن أبرز ممثّليه في القرن العشرين هانس كلسن، انظر كتابه: النظريّة العامّة للحقّ و الدولة (المترجم إلى الفرنسيّة)، باريس، 1970، حيث يقول "الدولة مؤسّسة قانونيّة"، ص237

[4] وهو رأي علم السياسة، ومن ممثّليه جوليان فروند، انظر كتابه

Freund Julien, l’essence du politique, édit. Sirey, Paris, 1965

[5] هذا هو التوجّه الذي ذهب إليه علماء السياسة الأمريكيّون، حينما اعتبروا أنّ موضوع علم السياسة هو دراسة الأنظمة السياسيّة، ومن أبرزهم دافيفد إيستن

[6] يراجع في سياق فهم الموقف الأنثروبولوجي الرّافض للدولة، كتاب مارك آبليس، الأنثروبولوجيا السياسيّة، و كتاب جورج بالانديي، الأنثروبولوجيا السياسيّة.(بالفرنسيّة)

[7] يلحظ الدارس للفكر العربيّ المعاصر شبه إجماع على الأداء السلبيّ للدولة القطريّة في العالم العربيّ، في هذا السياق يبيّن وضّاح شرارة أنّ وجود الدولة في الوطن العربيّ كان مصطنعا لا نتيجة تفاعل تناقضات اجتماعيّة. لذلك كانت دولة هامشيّة منفصلة عن المجتمع لا تمثّله ولا تلتزم بالقانون. راجع كتابه: حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيّين، بيروت، دار الحداثة للنشر والتوزيع، ط1، 1980. ومن جهته يعتبر سمير أمين أنّ الدولة في الوطن العربيّ ولدت ولادة قيصريّة بفعل الإرادة الاستعماريّة، على غير أساس من منطق الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والثقافة. لذلك لم تمثّل وحدة للضبط الاجتماعيّ والولاء السياسيّ والإشباع الاقتصاديّ. فتقوّضت شرعيّتها، وضعف فيها الولاء للمؤسّسات والقانون، ممّا جعلها تعجز عن إدارة المجتمع بشكل رشيد. راجع كتابه: المغرب العربيّ المعاصر، ترجمة كميل قيصر داغر، بيروت، دار الحداثة، 1981. وفي نفس المعنى راجع أيضا كتاب مسعود ضاهر: مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربيّ، دمشق، ط1، 1994، وسعد الدين إبراهيم (وآخرون)، المجتمع والدولة في الوطن العربيّ، لبنان، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط1، 1988.

[8] يمكن تقريبيّا رسم شجرة سلالة هذين الخطّين الرئيسيين في الفكر العربيّ المعاصر، بخطّ أوّل: من رفاعة رفعت الطهطاوي (ت1873م)، إلى محمّد رشيد رضا (ت1935م)، إلى حسن البنّا (ت1949م)، إلى مفكّري الصحوة الإسلاميّة المعاصرة كيوسف القرضاوي (و1921م). وخطّ ثان: من فرح أنطون (ت1917م)، إلى علي عبد الرّازق (ت 1966م)، وأحمد لطفي السيّد (ت1963م)، إلى طه حسين (ت1973م)، إلى كمال عبد اللّطيف (و؟)، ومحمّد أركون (ت 2010) وغيرهما.

[9] راجع مقالته: وافدة متغرّبة ولكنّها باقية: تناقضات الدولة العربيّة، المستقبل العربيّ، المجلّد العاشر، عدد105، س1987

[10] Burdeau Georges, l’état, Seuil, Paris, 1970, p30

[11] المرجع السابق، ص71

[12]Memouni Abdellatif, institutions politiques et droit constitutionnel, 1ére édit. Toubkal, Maroc, 1991, p18

[13]Chevalier J. J. (et autres), l’institution, P.U.F, Paris, 1981, p8

وانظر أيضا

Gicquel Jean, droit constitutionnel et institutions politiques, Montchrestien, 9éme édit., paris, 1987, l’origine institutionnelle de l’état, p-p74-127

وتأكيدا لارتباط الدولة بالمأسسة والقانون جاء في الموسوعة الفلسفيّة الكونيّة أنّه "رغم أنّه من المبالغة أن نرى في الدولة واقعة قانونيّة أساسا، يجب أن نقبل أنّ عناصر الحقّ تمثّل وعاء وحدتها، ولهذا فإنّ بنيتها القانونيّة والخاصيّة المؤسّساتيّة للسلطة هما المكوّنان الرئيسيّان لنظريّة الدولة"

Encyclopédie philosophique universelle, P.U.F, Paris, 1990, dict.1, p863

[14]Burdeau, l’état, op.cit., p71

[15] عبد اللّه العروي، مفهوم الدولة، لبنان/ المغرب، المركز الثقافي العربي، ط 5، 1993، ص 7، 147، 101، 10.

[16]الموسوعة الفلسفيّة الكونيّة، مرجع سابق (بالفرنسيّة)، ج2، ص2770

[17]Marejko Jan, cosmologie et politique, édit. L’âge d’homme, Lausanne, 1989, p8

[18] العروي، مفهوم الدولة، ص85