لا معنى لنقد الإسلام السياسيّ دون نقد العقل الناقد نفسه


فئة :  حوارات

لا معنى لنقد الإسلام السياسيّ دون نقد العقل الناقد نفسه

لا معنى لنقد الإسلام السياسيّ دون نقد العقل الناقد نفسه

حوار مع الأستاذ الباحث أنس الطريقي

حاوره باسم المكّي

أنس الطريقي يعرّف بنفسه:

أنس الطريقي أستاذ الحضارة الحديثة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس/تونس. وعضو بوحدة بحث المتخيّل بالكلية نفسها. موضوع اهتمامي الأساسيّ، من منظور اختصاصي، يقع في تقاطع الدين والسياسة في العالم الإسلاميّ الحديث والمعاصر. هذان القطبان الأساسيّان للوجود الإنسانيّ، يمثّلان في نظريّ الإطار العامّ لكلّ الإشكاليّات الحضارية الراهنة في العالم العربي والإسلاميّ، بل في العالم كليّا. ربّما هذا ناتج عن هيمنة براديغم يتمثّل في هذا التفسير الدينيّ السياسي للتاريخ؛ أي باعتبار أنّ العوامل المهيمنة فيه متمثّلة في هذين العاملين، وربّما هو ناتج عن مركزيّة هذين القطبين في أبرز طرق الأشكلة التي يُحاوَل من خلالها فهم الموجّهات الكبرى للواقع الذي نحيا محليّا وكونيّا، ولكنّها على كلّ حال أشكلة ذات صلاحيّة عالية في تفسير مجريات الأحداث المحيطة بنا. ولذلك، فكلّ دروسي في الجامعة، وكلّ مساهماتي العلميّة في الجامعة وخارجها تدور حول هذين المحورين، أو في تقاطعهما.

باسم المكّي: أنتم من المختصّين في دراسة الحركات الإسلاميّة، وحركة الإسلام السياسي تحديدا، ولا سيما وقد ناقشتم أطروحة الدكتوراه حول هذا الموضوع. إن شئنا الحديث عن الإسلام السياسيّ في عيون نقّاده، ماذا يمكن أن نقول عن هذا الموضوع في الوقت الرّاهن؟

أنس الطريقي: يعود اهتمامي بموضوع الإسلام السياسيّ إلى فترات مبكّرة من بداية تخصّصي العلميّ، منذ ناقشت أطروحة الماجستير حول العلمانيّة بين دعاتها ومعارضيها عام 2005. وتدعّم الأمر عندما اهتممت بالموضوع في أطروحة الدكتوراه التي كان عنوانها الدولة الدينية في الفكر العربيّ المعاصر التي ناقشتها عام 2011، وأنا بصدد تحيينها للنشر. وعلى الرغم من الصعوبات التي كان يعانيها الباحث في مثل هذه المواضيع المحظورة بقوّة السلطة في تونس من ناحية توفر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها، فإنّنا تمكنّا من الاطلاع على هذا الفكر ودرسناه في نصوصه الأساسيّة. لهذا أعدّ نفسي شاهدا على هذا الفكر بين فترتيه التاريخيّتين الأبرز، أقصد الفترة السابقة للتحوّل الثوري العربي عام 2011، والفترة التالية له؛ فهما فترتان نقلتا هذا الفكر من طور التنظير إلى طور الممارسة. وفي خصوص الكتابات النقديّة للإسلام السياسي، وإذا ما اعتمدنا هذا التقسيم الزمني لتاريخه المعاصر، ما يمكن ملاحظته هو هذا التحوّل الذي طرأ عليها في الرؤية والمنهج. فمن جهة الرؤية، ثمّة نوع من التحوّل في مقاربة الموضوع تابع في الواقع لنوع من التحوّل في العقلانيّة المعاصرة من هذه العقلانيّة المغلقة الحديّة إلى عقلانيّة مرنة مفتوحة على المختلف والمغاير والهامشيّ. لا شكّ في أنّ الأمر مرتبط بهذا التأثير المعرفيّ المتزايد للتوجّه الأنجلوسكسونيّ الذي ربّما كانت بدايته الحقيقية مع كتاب نظريّة العدالة مع جون راولس، وهو تحوّل رعته مجموعة من الأصوات الفكريّة بعضها أمريكيّ وبعضها أوروبيّ، نذكر من بينها أعلام الجماعاتيّة في أمريكا، دفوركين، ونوزيك، ماك إنتاير، وتايلور، هؤلاء كان دورهم أساسيّا في الاحتجاج على برادايم العقلانية الغربيّة الحديثة والدعوة إلى الاعتراف الثقافي، والاعتراف بالظاهرة الدينيّة مكوّنا أساسيّا في تمثّل الأفراد والمجتمعات لوجودها، هذا فضلا عن إسهامات دعاة التعدّد الثقافي، ونهاية الهويّة القومية العقلانية الحديثة، أمثال هابرماس، وكيمليكا، ودعاة قيم الاعتراف كأكسال هونيت، والمحوّرين لمحتوى العقلانية ممّن سموا بفلاسفة ما بعد الحداثة بداية من نيتشه وصولا إلى بول ريكور. يمكننا أن نضيف إلى هذا في هذا السياق، تغيّر النظرة إلى مفهوم العلمانية من برادايم لحداثة نضالية في موقفها من الدين إلى برادايم مختلف لما بعد حداثة حاولت إدراج الدين ضمن العوامل المهيكلة للوجود الاجتماعيّ، وفي هذا السياق ظهرت الدراسات الجديدة للعلمانية من المجال الكندي والأمريكي، ولا سيما مع ميشلين ميلو، وشارلز تايلور، وهابرماس. هذا فضلا عن تزايد تأثير التقليد الألماني التأويليّ وقدرته على زحزحة أحادية العقلانية الحديثة، وفتحه الباب للعلوم الإنسانية كي تصبح العلم الذي تقع فيه دراسة هذه الظاهرة، أو على الأقل تطبيق منهجها المركّب عليها.

يبدو أنّ هذا التحوّل في نوع البرادايم العقلانيّ المعتمد ليتسع للبعد الدينيّ، غيّر الرؤى التي انبثق منها نقد الإسلام السياسيّ، ليتحوّل الرفض القطعيّ إلى نوع من محاولة الفهم والتفسير والقول بإمكان هذا التفكير، من هذا الجانب ربّما تكون أعمال جون لوي إسبوزيتو وفرونسوا بورغا منتمية إلى هذه الرؤية التفهّميّة.

التحوّل الثاني كان من جهة المنهج، وبعد هيمنة تكاد تكون مطلقة لمنهج تاريخ الأفكار، حيث تعزل ظاهرة الإسلام السياسي عن شتى ارتباطاتها وتعبيراتها. دخلت الظاهرة ساحة مختلف العلوم الإنسانيّة، فدرست في الخطاب، وفي المتخيّل، وفي علم السياسة، ومن قبل علم الاجتماع.

هذا وجه من وجوه التغيير الطارئة على دراسة الظاهرة. ومن نماذج هذه الكتابات التفهّميّة الكتابات التي أشرف عليها جون لوي اسبوزيتو، وتمارا سون، وفولبي، وألكسندر أوفول، أو تلك الصادرة عن مركز المسبار بالإمارات العربيّة المتّحدة، والتي خصّصت سلسلة كاملة من الكتب للظاهرة في تعددّ واجهاتها وتجاربها.

الوجه الآخر كان صادرا من الدراسات الناقدة لهذا التيار، وهي دراسات عاينت الإسلام السياسي وهو ينخرط في العمليّة السياسيّة، ولاسيما في تونس والمغرب وتركيا ومصر، لهذا انضاف لها في التقييم مردود هذه المعاينة للإسلام السياسي، وهو يخوض تجربة السياسة.

وفي هذين المستويين قليلة هي الدراسات التي كان تقييمها إيجابيّا لهذه الظاهرة. ولئن كان هناك نوع من التقبّل العام سياسيا للإسلام السياسي مشاركا في الحكم، في كل من تونس والمغرب وتركيا خاصّة، فإنّ تقييم الأداء السياسي كان سلبيا عموما، وخاصة في تونس وفي مصر التي كان فيها مصير الإسلام السياسيّ معروفا. وتبعا لهذا التقييم السلبي، تدعّمت الأفكار التي سار فيها أوليفيي روا، وجيل كابال، وغراهام فولّلر، وبسّام الطيبي (2012)، وحسام تمّام بإقرارهم معاناة التفكير القاعدي لهذا التيار من مشكلات بنيوية لا يمكن معها أن يكتب له النجاح. ولهذا ثمّة حديث عن أزمة هيكلية للإسلام السياسي، كما في كتاب حسن أوريد، "الإسلام السياسي في الميزان: حالة المغرب" (2016)، أو كتاب عبد المجيد الشرفي، "مرجعيات الإسلام السياسي" (2013)، وكتاب سعيد بن سعيد العلوي، "في دولة الإسلام السياسي...وهم الدولة الإسلاميّة" (2017)، وكتاب "محنة الإسلام السياسي الإيديولوجيا المارقة"، لياسر قنصوة وإبراهيم السخاوي، وكتاب فتحي ليسير "دولة الهواة (سنتان من حكم الترويكا في تونس..)" (2016)، بل أشار مثلا فريد بن بلقاسم إلى خطورة هذا التيّار على الدولة والمجتمع في كتابه "الإسلام السياسي ومفهوم المخاطر" (2019). وهناك حديث عن نهاية وشيكة للتنظيم عند حسام تمّام في كتابه "تحوّلات الإخوان المسلمين ...تفكّك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم" (2010)، وعمّا بعد الإسلاموية أو عن إسلاموية دون طموح كلياني والعبارة لآصف بيات وأوليفي روا. وعن نيو إسلامويّة أي إسلاموية دون إسلام سياسيّ والعبارة لوائل صلاح (2017)..

في الواقع، الحديث يطول جدا في توصيف مجمل الكتابات والتوجّهات النقدية التي اهتمّت بالإسلام السياسي. ولكن الغالبية العظمى من الكتابات نظرتها سلبية للظاهرة.

باسم المكّي: لكن الغرابة أنّه على الرغم من هذه النظرة السلبيّة فالظاهرة مستمرّة وموجودة، بل هي تغزو العالم الأوروبي نفسه. وقد تحوّلت إلى العنف مع تحوّلها الجهادي. فما سبب بقائها إذن، إن كانت بهذه الصور السلبية التي توصف في تقييمها.

أنس الطريقي: نعم، هذا من مفارقات التاريخ أو من مكر التاريخ. ولكن بودّي أن أقدّم نوعا من التنسيب أو الرأي الذاتي في خصوص هذا الإدراج للحركات الجهادية ضمن تيار الإسلام السياسي، وأعتقد أنّ هذا التصحيح يدخل في الإجابة عن سؤالك حول تفسير أسباب استمرار الظاهرة. أنا في الواقع لا أوافق على إدراج الجهاديّة الإسلامويّة ضمن الإسلام السياسيّ، على الرغم من كون الجهادية خرجت من هذا التلاقح بين السلفية والتفكير القطبيّ، والأعلام الكبار للجهاديّة كان بعضهم من تابعي قطب وتلامذته مثل الأردني عبد اللّه عزّام، يمكن في هذا السياق العودة إلى العمل الجماعي الموسوعيّ الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة تحت عنوان "الحركات الإسلامية في الوطن العربيّ" (2013). أعتقد أنّ هذا الإدراج ما يزال يعيش على التعريف الذي قدّمه محمّد سعيد العشماوي (1996)، باعتباره على حدّ قوله أوّل من ابتكر العبارة إسلام سياسيّ وعرّفه بأنّه إيديولوجيا تسييس الدين. هذا التعريف الذي سبقه إليه محمّد رشيد في مجلّة المنار كما يذكر أحمد صلاح الملاّ في كتابه "جذور الأصولية المعاصرة في مصر، رشيد رضا ومجلّة المنار.." (2008). ليس دقيقا بالقدر الكافي، ولكنّه يتبنّى على نطاق واسع إلى حدّ الآن، فهو التعريف الذي تتبنّاه الفرنسيّة آن كليمونتين لاروك في كتابها "جيوبوليتيكا الإسلام السياسي" (بالفرنسية 2015)، وربّما هو التعريف الذي جرّ إلى هذا الخلط بين الجهاديّة سليلة السلفيّة، والإسلام السياسيّ. أنا لي تعريف آخر للإسلام السياسي، وهو يسمح بتقديم بعض الإجابة عن سؤالك حول سبب استمراره، هذا التعريف توصّلت إليه في بحثي حول الظاهرة في أطروحتي للدكتوراه، ومؤدّاه أنّ الإسلام السياسيّ حركة دينيّة سياسيّة كان هدفها معارضة منظومة الدولة الحديثة بمنظومة دولة إسلاميّة. يجب أن يفهم هذا التعريف بمقدار الكلمات التي تقدّمه. فحين أقول إنّه أراد المعارضة، فإنّ قصدي هو المواجهة بالنظير والمشابه، وحين أقول منظومة فأنا أقصد تلك التركيبة للسلطة التي أنشأتها نظريّة الدولة الغربيّة أو نظرية دولة الحداثة. وهذا يعني أنّ الإسلام السياسيّ لم يرفض الدولة الحديثة بصفتها هيكلا لتوزيع السلطة، إنّما ما رفضه هو أنّ ذلك الهيكل لا تعبّأ مصطلحاته بما يناظرها على وجه التلفيق بالمصطلحات الإسلاميّة. ولو شئنا على سبيل الإجمال والتبسيط قلنا إنّ ما لم يعجبه في الدولة أنّها لا تضع مكانا للذات الإلهية كما تلوح صورتها في غالب الفكر السنيّ. وما سنلاحظه في المنظومة الإسلاميّة للدولة المقترحة من قبل الإسلام السياسيّ، هو أنّ التحوير الأساسي فيها قياسا إلى الدولة يتعلّق بمصدر السيادة الذي يتولد منه مصدر السلطة فمصدر التشريع. ومقابل السيادة البشرية الشعبية في منظومة الدولة، سنجد السيادة في دولة الإسلام السياسي سيادة إلهية، هذا اختلاف عميق الأثر على طبيعة الدولة، ولكنّه صيغ عندهم على نحو من التلفيق والتوفيق الذي أرادوا به توسيع الإسلام ليقبل الدولة الحديثة، في قرابة بالموقف الإصلاحيّ العام الذي كانوا استمرارا له، ولا سيما ونحن نعلم أنّ الإخوان تولّوا خلافة رشيد رضا على إصدار مجلة المنار، وإن كان ذلك لمدّة وجيزة.

هذه القرابة بالدولة تفسّر عندي إلى درجة ما سبب استمرار وجود الظاهرة، وأنا أعتقد أنّها ستستمرّ طالما استمرّ وجود الدولة، طالما استمرّ هيكلها وقاعها الإيديولوجيّ الهوويّ مستمرّا، وطالما استمرّت بأزماتها المتكررة نتيجة مشكلاتها الهيكلية. لا أقصد بهذا أنّ أزماتها تغذي مشروعيتهم فحسب، فهذا رأي قديم معروف، وإنّما قصدي فوق هذا أنّ برادايم الدولة هذا هو البرادايم الهوياتي عينه الذي يقوم عليه تصور الإسلام السياسي للدولة. وإذا كانت الدولة تؤسس هذا البرادايم في العقل، فإنّ التعالي والنزوع التأصيليّ الذي يصدر عنه هذا التأسيس للدولة، سيجابه بنمط التعالي الدينيّ الذي سيؤسّس المعنى والقيمة في المفارق أي اللّه. هذا جانب من الجواب عن سبب استمرار الظاهرة. وأنا أتوقع أنها ستستمرّ لهذا السبب، ولكن لأسباب أخرى منها ما يتّصل بخصائص العقل الدينيّ الإسلاميّ العام الذي يبقى عقلا تراثيا لم يتجرّأ على إنجاز قطائعه المعرفية، ومنها ما يتّصل بقدرة هذا التيار على الصمود والتأقلم حتى وصفوه بالسنبلة التي تجيد الانحناء للعاصفة، ومنها تركيبيّتها التي تمكّنها من توظيف واجهاتها المختلفة على مرّ الزمن، فهي صوفية، وسنية وسياسية واجتماعية ودينية، وهذه واجهات تمكّنها من متارس متعدّدة تربطها بالواقع. هذا خصوصا في ظلّ وعي دينيّ عام مازال لم ينجز نقلته إلى مرحلة الوعي التأويليّ، والمعنى التأويليّ للوجود الإنسانيّ، بل هو وعي يقوم أساسا على إيمان بوجود موضوعي للحقيقة، وعلى واحديّة هذه الحقيقة.

باسم المكّي: نفهم من هذا أنّكم تشاركون هذه المواقف النقديّة رأيها العامّ السلبيّ من هذه الظاهرة؟

أنس الطريقي: أنا في الواقع، حاولت أن أبني رأيي فيها انطلاقا من رؤية تفهميّة، حاولت تكوينها عن طريق استبعاد الأحكام القبليّة الصادرة في شأنها، بل عن طريق ممارسة رقابة صارمة على عقلي الناظر فيها، في شكل نوع من نقد العقل ومراجعة طرائق تفكيره، وتجريب مناهج مختلفة في التقييم. بعض هذه المناهج مارستها في دراستي للظاهرة في بحثي حولها لنيل شهادة الدكتوراه، وقد تبنّيت فيها منهج النّقد المنظوميّ الذي تتمثّل أهمّ مصادراته المنهجيّة، في العمل خارج منطق الوصول إلى الحقيقة، حقيقة الظاهرة، وحقيقة الحكم الصادر عنها، فهو منهج فكرته الجديدة هي فكرة الصلاحيّة، بمعنى مدى جدارة المعنى المتوصّل إليه حولها، وهي جدارة أو إمكانيّة منطقيّة صرف، وهي أيضا صلاحيّة نسبيّة بما أنّها تعتبر الأفكار، بل الأحكام التي تصل إليها صالحة أو ممكنة في حدود المنهج المعتمد في الدراسة. بهذا الشكل، تبقى الأحكام المتوصّل إليها محتفظة بأبرز شروط علميّتها وهي نسبيّتها. وقد كانت حصيلة دراستي للظاهرة، انطلاقا من نصوص منظريها الإيديولوجيين الكبار، الإقرار باستحالة المشروع الذي فكّروا فيه؛ أي مشروع الدولة الدينيّة، على اعتبار أنّها الدولة التي يتوقّع منها أن تكون التنفيذ الأرضي للمتخيّل الغيبيّ. بعد هذه المحاولة الأولى، جرّبت طرائق تفكير مختلفة في هذه الظاهرة، ومن منظور العقلانيّة التفهّميّة التي تغذّت بدراسة المتخيّل ضمن وحدة بحث المتخيّل بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. فانطلاقا من نظرة علميّة تعتبر المتخيّل قوّة ضرورية خلاّقة، وانطلاقا أيضا من إفادة من إضافات فلسفة اللّغة وعلاقة الوجود باللّغة ودور اللغة في صناعته وهيكلته وتعيين آفاقه وحدوده، حاولت النظر إلى الظاهرة من خلال الطاقة التي تحملها على توفير عناصر متخيّل جماعيّ صانع للمعنى الذي تحتاج إليه كلّ جماعة بشريّة في وجودها. ولكن من هذه الزاوية أيضا بدت لي هذه الظاهرة صانعة لمتخيّلات فرديّة وجماعيّة تتعارض مع شروط العيش الجماعي الرّاهن التي هي شروط قائمة على قيم قبول الاختلاف والتعدّد. ولئن توقّعت أنّ الخطاب يمكن أن يمثّل نوعا من البراكسيس الذي يحوّر الفهم والأفكار، فإنّني حين درست الظاهرة من هذه الزاوية عبر العيّنة التي تمثّلها تجربة حركة النهضة في تونس، وجدت أنّ هذا الخطاب بقدر ما يعبّر عن تحوّل لا واع ربّما في العقلانية التي يصدر عنها ممثلوها، فإنّه يبقى محتفظا بنواة صلبة من التفكير القاعدي الذي لا يتبدّل على الأقلّ إلى حدّ هذه اللّحظة. هذه المحاولة التفهميّة وجدتها عند أبرز الدارسين للظاهرة أقصد عند محمّد شريف فرجاني، وقد عبّر عنها في أحد كتبه الأخيرة الذي عنوانه تقريبا "من أجل الحسم مع مقولة الاستثناء الإسلاميّ" (بالفرنسيّة)؛ إلاّ أنّها نظرة تفهّميّة تظلّ في الكتابات الأخيرة على قدر ضئيل من الانتشار. وربّما يعود ذلك إلى الأداء السلبي للإسلام السياسيّ في ممارسة السلطة، في تونس خاصّة، والفشل المبكّر لتجربته السياسيّة في مصر. عموما يحمّل الإسلام السياسيّ مسؤولية تعثّر النسق الثوري الذي انطلقت شرارته من تونس، إذ يقع التشكيك باستمرار في صدق نواياه بالانخراط الفعليّ في المسار الديمقراطيّ، وهو تشكيك له حججه القويّة ومبرّراته المنطقيّة في الواقع.

باسم المكّي: معنى هذا أنّكم تتوقّعون فشل هذه الحركة في الانخراط الفعليّ في مقتضيات المسار الكوني الديمقراطيّ؟

أنس الطريقي: في الواقع، لا يمثّل القول بهذا الرّأي خياري الاستشرافيّ لمستقبل هذه الظاهرة في علاقتها بالديمقراطيّة. والحقّ أنّه علينا أن نتفادى إطلاق الأحكام التعميمية فليس واقعها في تونس، كواقعها في مصر، أو في الأردن، أو في اليمن أو في الجزائر، أو غيرها من بلدان العالم الإسلاميّ. ثمّة اختلافات في هذه السياقات التي يتحرّك فيها هذا التيّار. هذا منطلق مبدئيّ أو منهجيّ علمي ضروري لكلّ متكلّم من داخل حقل العلوم الإنسانيّة ذات المنوال التأويلي، وهو منوال تسييقي أساسا؛ أي إنّه لا ينظر إلى الظواهر الاجتماعيّة والسياسية والثقافية عامّة إلاّ في علاقتها بكلّ أبعاد التجربة الحيّة. ليست الأفكار والخيارات والأعمال ملقاة خارج التاريخ. ومن منطلق إيماني بالطبيعة الصيروريّة للوجود البشريّ، والطبيعة المتحرّكة المفتوحة والآخريّة لأيّة هويّة مهما حاولت أن تنكفئ على معنى موضوعي واحد أو بعد من أبعاد وجودها، فإنّني أعتقد أنّ عمليّة انخراط هذا التيّار في المسار الديمقراطيّ مسألة حتميّة، هي في طور التحقّق في تونس مثلا على الرغم من الصعوبات التي تواجهها، وهذا يحدث بسبب الطبيعة الإدماجية القسريّة للدولة. فهذا الهيكل السلطويّ صار كنوع من القدر الذي يجبر الجميع على الانخراط في قوانينه، حتّى وإن كان هو بدوره يعاني أزمة شرعية وجود، نتوقّع أنّه سيحلّها، بل إنّني أتوقّع أنّ هذا الهيكل نفسه ينفتح أكثر لاستيعاب أشكال الولاء التي قد تمسّ بالاستقطاب المطلق للولاء الذي يميّز الدولة؛ وذلك بتخفّف الدولة التدريجيّ من هذا الملمح النضالي للعلمانية التي تفرضها. هذا يحدث في تونس ويعبّر عنه في الدستور هذا الاحتفاظ بالتنصيص على إسلامية الدولة، على الرغم من مشاكل التأويل التي قد يحدثها هذا التنصيص. هذه التجربة التونسية لا يمكن أن نقيس عليها وضع التيار في باقي الدول العربيّة، ولكنّه في أغلب الأحوال يحافظ على وجوده. وأظنّ أنّ انخراطه في الديمقراطية مرتبط بانخراط هذه الدول في هذا المسار. المسألة في نظري مسألة وقت، خاصّة في ظلّ هذا التحوّل الرقميّ العامّ الذي لا يمسّ بسيلان المعلومة فحسب وإنّما هو محوّر لمعنى العيش وطرقه.

باسم المكّي: هل ينبني هذا الرّأي على ملاحظة لمراجعات أنجزها الإسلام السياسي، هل غيّر هذا الإسلام السياسيّ من تصوّراته الدينيّة في اتّجاه يسمح بالحديث عن انخراطه في وعي دينيّ مناسب لـتأسيس قيم التسامح والاختلاف والاعتراف؟

أنس الطريقي: بخصوص هذه المراجعات هي موجودة فعلا، وثمّة أسماء يمثّلها عبد اللّه النعيم من السودان، وكمال حبيب من مصر، عبد اللّه النفيسي الكويتي (الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق، 1984)، سعد الدين العثماني المغربي (الدين والسياسة تمييز لا فصل)، وأسماء أخرى انتقدت الحركة الإسلامية من الداخل.

عموما، لم تهتمّ هذه المراجعات بالنظر في المفاهيم المؤسسة لهذا الفكر، وربّما يمثّل مفهوم الحاكميّة الخطّ الأحمر الذي لا يمكن المساس به، والذي يتولّد منه هذا التأويل القانونيّ للدين. ومن هنا يمكن القول إنّنا لم نقرأ إلى حدّ الآن، أيّ حديث عندهم عن مراجعة في هذا الاتجاه. والأمر طبيعي، فمثل هذه المراجعة ستضرب أهمّ الأساسات التي يقوم عليها هذا الفكر، وهي هذه الرؤية التي لم تأخذ بالانقلاب التأويليّ المعرفيّ العامّ الحديث، وما يعنيه من استغناء عن فكرة موضوعية الحقيقة ووجودها في مقرّ متعال. وفي الواقع، فإنّ الوعي الإسلاميّ الغالب يعمل وفق هذه الرؤية الإبستمولوجيّة. وهذا يعدّ من أهمّ الأسباب التي تجعلني أقول إنّ هذا التيار لن يفقد على المدى القريب على الأقلّ القدرة على كسب الأنصار والمؤيّدين. ومهما قيل عن كونه يعيش ويتقوّى في فترات الأزمات الكبرى للدولة، كتلك التي أعقبت انحسار الحلم القومي ثمّ نهايته بداية من السبعينيات، فإنّني أعتقد أنّه سيكون قادرا على الاستمرار بالأفكار القاعدية نفسها مادام الوعي الدينيّ العام يقوم على هذه التصوّرات للألوهية ولوضع الإنسان بالنسبة إليها. إنّ ضمور هذا النفس التثويري للأفكار القاعديّة ربّما يعبّر عنه هذه الممانعة المستمرّة المرفوعة في وجه العلمانيّة. ففي هذا السياق، لا نجد اختلافا كبيرا بين الموقف الذي صدر من محمّد عمارة، والذي عيّن فيه الفرق بين التصوّر العلماني للألوهية وتصوّرها الإسلاميّ في كتابه "العلمانيّة بين الغرب والإسلام" (1996)، وموقف شبيه به تقريبا عبّر عنه راشد الغنّوشي في كتابه "مقاربات في العلمانية والمجتمع المدنيّ" (2011). كلا الموقفين يعبّر عن هذا الإيمان المشترك بأنّ مصدر الحقيقة واحد، ولا مجال لفكرة تعدّد الحقيقة، حتّى وإن قبل هذا الموقف الأخير بالحديث عن حريّة المعتقد. هذا المنظور الواحد أو هذه الخلفية الفكريّة الثابتة قد تمنع أيّ تفاعل جديّ أي في العمق مع قيم التسامح والاعتراف والاختلاف، سيبقى القبول بهذه القيم منظورا إليه من قبلهم تنازلا تمليه ضرورة الديمقراطيّة، ولا أظنّه يتحوّل إلى اقتناع داخليّ. أعتقد أنّ هذا التحوّل الذي دعا إليه جون جاك روسو تحت مفهوم الإرادة العامّة في شكل توسيع لأفق التفكير إلى إدراج قيم الآخر ورؤاه ضمن مجال الممكن التفكير فيه حسب عبارة أركون، لم يتحقّق، وربّما هو مستبعد التحقّق، بما أنّه مسألة وجوديّة بالنّسبة إلى هذا التيّار. ولكن مع هذا قد يجوز الأمل على المدى البعيد بأن تحدث الممارسة هذه النقلة المطلوبة، إن فكّرنا بمنطق هذه العقلانيّة الصيروريّة التواصليّة البيذاتيّة التي تحدّث عنها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس؛ فالوجود الجماعيّ البيذاتيّ الذي هو وجود لغوي تداولي بالمعنى اللّغوي خالق للجماعة بهذا المنطق، ربّما يمثّل هذا الإطار المذوّب بالخطاب للنماذج المثلى المتكلّسة للمعنى التي تعطّل عمليّة الاندماج الاجتماعيّ. ولكنّ هذا يجب أن يؤدّي في الاتجاه المقابل إلى تذويب التصلّبات الهوويّة الحداثويّة التي تمارس في الواقع تعاليا مواجها لمنطق التعالي الإسلامويّ، هو تعال بالعقل يحمل السوءات نفسها التي يعانيها التصلّب الإسلامويّ.

باسم المكّي: كلمة حرّة.

أنس الطريقي: في كلمتي الحرّة، ما أريد التركيز عليه في حديثي عن الإسلام السياسيّ هو ضرورة تفادي كلّ اختزاليّة في تفسير الظاهرة، وفي تقويمها. يعني هذا ضرورة ممارسة منهج هذا الفكر المركّب الذي قاد عملية تشكيله المنهجيّة الفيلسوف الفرنسيّ إدغار موران. لا يمكن الوقوع في منطق الإدانة والاستهجان بالنسبة إلى من يدّعي ضرورة تأسيس الديمقراطيّة، فهذه تتغذّى على تبنّينا الفعليّ لقيم الاعتراف والمغايرة والاختلاف. كما أنّ التفكير في تحوير نوع العقلانيّة التي يصدر عنها المعتنقون لتفكير الإسلام السياسيّ في اتّجاه العقلانيّة التي يرجونها، يجب أن يسبقه تفكير في مدى قدرة هذه العقلانية البديلة على أن تكون فعلا برادايما جديدا للعقل. فالتجربة التاريخية الغربيّة للحداثة تعلّمنا أنّ كلّ أشكال الاستبدال هذه تحمل معها نتائجها السلبية التي لا يمكن التفطّن إليها إلاّ بعيشها في التاريخ. إنّ النظر إلى المتخيّلات التي تهيكل حياة الأفراد والشعوب بمنطق تلك العقلانية العلمويّة الحديثة التي اعتبرتها أوهاما تتعارض مع الكمال الإنسانيّ، نظر خطّأه التاريخ، لمّا أدّى سحب التعالي من المفارق إلى الأرضيّ إلى صناعة متعاليات أرضيّة ضيّعت إلى حدّ ما العمق الأخلاقي لفلسفة التنوير. لقد بيّن النقد الفرويدي والماركسي للحداثة ثمّ كلّ النقد ما بعد الحديث أنّ توجيه العقلنة نحو أيّ تصلّب كان، هو المولّد الحقيقي لنسف أساسات التعايش بين البشر. يجب التفكير دائما بأنّ التحوّل الذي وقع مع الحداثة إلى عقلانيّة إجرائية هو تحوّل معناه الاستعمال الإجرائي للعقل بما هو دليل على وعي بدخولنا في مرحلة نسبيّة معرفيّة يعمل فيها العقل حسب نماذج تفكير ليست ذات صلاحيّة أزليّة، إنّما هي نماذج تجريبيّة للتفكير مفتوحة باستمرار على الآتي والمختلف؛ يعني هذا أنّه يتعيّن علينا إن شئنا أن ننتمي إلى التاريخ الحيّ أن ندخل إلى المرحلة النقديّة لوضع العقل فينا.