قراءة في كتاب: "الفكر اليوناني والثقافة العربية"


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب: "الفكر اليوناني والثقافة العربية"

قراءة في كتاب: "الفكر اليوناني والثقافة العربية"

للمستشرق الأمريكي ديمتري غوتاس،

ترجمة المؤرخ اللبناني الراحل نقولا زيادة

احميمنة عبد المولى[1]

صدر عن المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، الترجمة العربية لكتاب "الفكر اليوناني والثقافة العربية" لمؤلفه المستشرق الأمريكي المعاصر "ديمتري غوتاس". الكتاب نقله إلى العربية المؤرخ اللبناني الراحل "نقولا زيادة" الذي شغل قيد حياته منصب أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية ببيروت.

يتكون الكتاب، بالإضافة إلى التمهيد ومقدمتي المؤلف والمترجم، من قسمين: الأول يحمل عنوان: الترجمة والدولة، ويتكون من أربعة فصول. والثاني، جاء تحت عنوان: الترجمة والمجتمع، وقوامه ثلاثة فصول.

خلَّف هذا الكتاب فور صدوره سنة 2003م، صدى طيبا جدا في الأوساط الثقافية العربية، حيث استطاع أن يستقطب إليه اهتمام الكثير من الباحثين، الذين وللأمانة سجلوا عليه ملاحظات مهمة، من حيث، الترجمة، التي تضمنت الكثير من النقائص والعيوب في نظرهم، إلى درجة أن بعضهم طالب بسحبها من المكتبات رحمة بالقرَّاء وباللسان العربي[2]، فقد قال عنها مثلا الدكتور "بناصر البعزاتي[3]" بأنها: "مصيبة كبيرة أخرى من مصائب الترجمة العربية"[4]، وهي في نظرنا ليست على هذه الدرجة من الرداءة، إذ نستطيع أن نقول إنها ترجمة تخللتها إيقاعات مختلفة، حيث وجدنا أنفسنا وعلى امتداد صفحات الكتاب، تارة، أمام عبارات سلسة ومعان واضحة ومضبوطة، وتارة اخرى، أمام عبارات قلقة ومتوترة ومعان هاربة ومشوشة، وذلك راجع بالأساس، إلى عدم توخي المترجم للدقة في وضع علامات القراءة من نقط وفواصل وعودة إلى السطر وغيرها، مما أدى إلى تمزيق الجملة الواحدة وإدماج عدة جمل في جملة واحدة، بالشكل الذي جعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، استخلاص معنى للعبارة.

هذه الملاحظات على الترجمة، لا تقلل بأي حال من الأحوال من القيمة العلمية الكبيرة للكتاب، فهو عمل متميز، من حيث، موضوعه ومنهجه والنتائج التي خلص إليها. فقد لمسنا فيه إيقاعا جديدا، ونبرة مختلفة عن الكثير من الدراسات الاستشراقية[5]، التي انشغل فيها أصحابها بتصريف قناعات إيديولوجية، عرقية أو دينية، أكثر من انشغالهم بتقديم دراسات علمية موضوعية، تستجيب على الأقل للحد الأدنى من الشروط التي يقتضيها البحث العلمي الرصين. عكس "ديمتري غوتاس" الذي أخلص ضميره للبحث العلمي الجاد، وفي كل خطوة يخطوها كان يتكئ على النصوص، وينكب على فحصها ومساءلتها والمقارنة بينها في مصادرها الأصلية، ويظهر ذلك جليا في إحالته - المباشرة والضمنية - على ما يزيد عن مئتين وستين عملا، بالعربية والإنجليزية، تبثها كلها في لائحة المراجع، وهي ببيبلوغرافيا غنية جدا، تدل أن لهذا المستشرق اطلاع واسع، وإلمام محترم بالثقافة العربية القديمة.

فكيف نظر هذا المستشرق إلى علاقة الفكر اليوناني بالثقافة العربية؟ وكيف نظر إلى الترجمة تحديدا؟ وهل اعتبر الترجمة سببا أم نتيجة للتطور السياسي والازدهار الاقتصادي والانفتاح الثقافي؟ أو بصيغة أخرى، هل الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والانفتاح الثقافي هو الذي كان وراء انطلاق حركة الترجمة وتطورها في الثقافة العربية، أم إن حركة الترجمة هي التي كانت وراء تطور كل مناحي الحياة في الحضارة الإسلامية؟ وما هي أسباب توقف هذه الحركة؟ وهل توقّف التفكير والإنتاج العلمي والفلسفي في الثقافة العربية بالموازاة مع توقف حركة الترجمة؟

الغاية الأساسية للكتاب

تتحدد الغاية الأساسية لهذا الكتاب في: دراسة مختلفِ مكوناتِ الحضارةِ الإسلامية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…، التي تخمرت وتفاعلت فيما بينها، ما بين القرن الثاني والرابع الهجري، وأدت إلى إطلاق أضخم حركة ترجمة في العصر الوسيط.

أطروحة الكتاب

ذهب "ديمتري غوتاس" في هذا الكتاب، عكس التوجه العام الذي سارت فيه أغلب الدراسات التي أرخت لحركة الترجمة اليونانية - العربية؛ فهو لا يربط انطلاق وتطور ونجاح هذه الحركة، بالدعم المادي والمعنوي الذي حظيت به من قبل بعض الحكام المتنورين، أمثال: المنصور وهارون الرشيد والمأمون، ولا يربطها أيضا بالحماس العلمي الذي وجد عند بعض المسيحيين السريان، الذين كانوا يجيدون اليونانية والعربية، فقرروا ترجمة بعض الكتب المختارة، بهدف نفع الآخرين وتطوير المجتمع. ويرى في المقابل أن هذه الحركة، لا يمكن العض عليها بالنواجذ، وتفسيرها، إلا إذا ثم النظر إليها كظاهرة تاريخية واجتماعية في الوقت نفسه؛ فهي تاريخية لأنها عميقة الجذور بعيدة الأثر، حيث تمتد إرهاصاتها الأولى إلى ما قبل ظهور العباسيين بكثير. لكن ما ميَّز حركة الترجمة في بغداد والمجتمع العباسي عن الحركات التي سبقتها، هو كونها أصبحت ممأسسة وجزءا من السياسة الرسمية للدولة، فضلا عن أنها قامت على أساس برنامج محكم وواضح المعالم، وضع "إسحاق بن حنين" وأصحابه أسسه النظرية وفق منهجية صارمة وضبط فيلولوجي دقيق، وهي حركة اجتماعية، فكرية، علمية عامة؛ لأنه انخرط فيها ورعاها من المجتمع العباسي كل من كانت لهم رغبة في العلم والمعرفة من خلفاء وأمراء وموظفي الدولة الكبار وقادة عسكريين وعلماء وغيرهم.

هذا هو التصور الأساسي الذي حاول "ديمتري غوتاس" في ضوئه تفسير الجوانب المختلفة لحركة الترجمة اليونانية - العربية، التي تمت في المجتمع العباسي المبكر، وهو تصور أصيل وجدي، وجدته، تكمن في كون صاحبه، نأى فيه بنفسه عن مختلف النظريات التي تناولت حركة الترجمة في الثقافة العربية، وعمدت إلى اختزالها في هذا السبب أو ذاك، أو فسرتها بناء على ما حدث لحركات مماثلة، دون أن تأخذ بعين الاعتبار بعد المسافة الزمنية، وخصوصية المناخ الثقافي والفكري الذي جرت فيه.

القسم الأول: الترجمة والدولة

خصص "ديمتري غوتاس" هذا القسم للحديث عن العوامل المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية، التي أدت إلى ظهور حركة الترجمة وتطورها في المجتمع العباسي المبكر، حيث ركز في الفصل الأول على الفتوحات الإسلامية، وبين كيف أنها أدت إحداث تغيرات عميقة جدا في بنية المجتمعات المشرقية عموما، والمجتمع العربي-الإسلامي خصوصا؛ فهي في رأيه فضلا عن أنها جعلت المسلمين يبسطون سيطرتهم على منطقة جغرافية واسعة، تمتد من أواسط آسيا وشبه القارة الهندية، وصولا إلى جبال البرانس في إسبانيا، مرورا بشمال إفريقيا، قد وحدت الشرق بالغرب، وطوت الخلاف بينهما إلى غير رجعة (ص: 44). وهذه الوحدة على المستوى السياسي، كانت لها نتائج مبهرة على مستويات أخرى، خصوصا على المستوى الاقتصادي، الذي عرف ازدهارا غير مسبوق، حيث عرفت المواد الخام والمصنوعات والمنتوجات الزراعية وغير الزراعية، انسيابية كبيرة بين الشرق والغرب، فتطورت على إثر ذلك التجارة أضعافا مضاعفة، وعرفت الزراعة ثورة حقيقية. وتنبه "ديمتري غوتاس" بهذا الخصوص إلى أن فائدة التطور الحاصل على المستوى التجاري بقيت محصورة في فئة التجار. أما الزراعة، فقد أفادت كل الفئات الاجتماعية، ووفرت للدولة الموارد المالية الكافية، التي سخرت جزءا كبيرا منها لخدمة العلم والمعرفة -الترجمة- (ص: 45).

أما على المستوى الثقافي، فقد أكد "غوتاس" أن الفتوحات الإسلامية، ساهمت في إزاحة الحواجز بين الشرق والغرب، وفكت العزلة الثقافية والدينية عن الكثير من المناطق والشعوب الواقعة تحت تأثير الهلينية، وأفسحت المجال أمام تواصل وتثاقف أكبر، ازداد خصوبة بحدوث الثورة العباسية (750م)، وانتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، التي أصبحت مركزا ثقافيا جديدا، ينعم فيه المزيج السكاني المختلف، ديمغرافيا وثقافيا ودينيا، بحرية لم يسبق لها مثيل، وتحولت الخصومات وكل أشكال العداء، إلى جدالات فكرية جريئة، تشحذ فيها العقول للإتيان بأفضل الحجج الممكنة، لنصرة الآراء والأفكار، بدل شحذ السيوف لخوض معارك بلهاء. وانتبه "غوتاس" بهذا الخصوص إلى تفصيل أساسي، حيث لاحظ أن ما جعل العاصمة بغداد قادرة على الوفاء بالحاجات المختلفة للناس الذين يوجدون تحت نفوذها السياسي، هو أن الحكام الجدد للدولة الاسلامية، وعلى خلاف سابقيهم، لم يكونوا يقيمون وزنا للعصبية القبلية، واكتفوا بتقديم دولتهم على أساس أنها دولة إسلامية فقط، للمسلمين (سنة أو شيعة) فيها حقوق متساوية، والطريق أمامهم جميعا سالكة للوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ (ص: 47).

لشد بنيان هذه الدولة، وضمان استمرارها، كشف "ديمتري غوتاس" في الفصل الثاني، أن المهندسين الأوائل للدولة العباسية، وعلى رأسهم المنصور، نهجوا سياسة مزدوجة، تقوم على الاحتضان والاحتواء، فبلوروا لأجل ذلك إيديولوجية ذات مرجعية دينية وتاريخية، تمزج بين الدين الإسلامي، وثقافات الشعوب الفارسية القديمة. ولترسيم هذه الإيديولوجيا، وترسيخها في الوعي والوجدان، وشرعنتها في أعين جميع الأحزاب، روج العباسيون لفكرتين أساسيتين، تزعم الأولى أن: سلالتهم تنحدر من الأسرة النبوية، وبهذه الفكرة ضمنوا تأييد المسلمين لهم. وتدعي الثانية أن: دولتهم تقوم على مجد مؤثل، فهي خليفة كل الدول والإمبراطوريات التي قامت في العراق وفارس، منذ أيام البابليين القدماء(ص: 71)، فهي دولة قامت على ما يشبه التفويض الإلهي، الذي عبر عنه الله في حركة النجوم والكواكب السيارة. وقد بنى العباسيون هذا الجزء من إديولوجيتهم على كتاب "النهمطان" أو التاريخ التنجيمي -الذي يشكل مصدر ثقة كبيرة بالنسبة إلى الفارسيين، باعتباره جزءا من كتاب "الأفيستا" المقدس لديهم- الذي يقوم على فكرة أساسية مفادها أن التاريخ البشري يقوم على دورات زمانية مختلفة، تقع تحت سيطرة النجوم والكواكب السيارة، وهي قد قضت، الآن، بأمر من الله، بحسب المنجمين، الذين كان العباسيون يحيطون أنفسهم بهم، بأن تتولى السلالة العباسية الحكم، وتضطلع بمهمة تجديد العلم كما كان يفعل الساسانيون من قبل (ص: 95-96). وما نقل المنصور لعاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد؛ أي على مقربة من مركز العالم القديم، إلا لإعطاء الانطباع بأنه يواصل السير على التقليد الساساني.

استطاع المنصور بعبقريته السياسية الفذة، أن يثبِّت إيديولوجيته، ويحتوي الفرس باللعب على عواطفهم، وعطشهم للماضي، حيث استغل نزعتهم الإحيائية للتاريخ، وجعلهم يشعرون أن الدولة العباسية هي امتداد للإمبراطورية الساسانية الزاراديتشية، وأنها ستحقق لهم مصلحة تاريخية وإثنية، وستعيد لهم مجدهم الديني والأدبي، الذي صادره الإسكندر المقدوني، يوم تغلب على الإمبراطورية الفارسية القديمة، وصادر المكتبة الفارسية، وعمل على نقل المواد المهمة إلى اليونانية، ثم أتلف النصوص الأصلية، كي يمحو كل أثر للدولة الأخمينية!!

بغض النظر عن صحة هذه الرواية من عدمها، فإن ما يهم بالنسبة إلينا هو أن "غوتاس" استحضرها، ليبين، أن حركة الترجمة في عهد المنصور، كانت محدودة جدا في مجملها، فباستثناء ترجمة بعض الكتب المتعلقة بالطب بالفلك والتنجيم، واحتمال ترجمة كتاب "الأصول" لأقليديس، فإن ما تبقى هي نصوص أدبية ودينية زاراديتشية مقدسة من "الأفيستا"، نقلها الفارسيون إلى العربية، لحفظها من الضياع، وليتعرفوا من خلالها على تراث أجدادهم، الذي شارف على الانمحاء (ص: من83 إلى 92).

وفي الفصل الثالث، أوضح "غوتاس" أن المسار السياسي والفكري الذي افتتحه الخليفة المنصور، تبعه فيه الخليفة المهدي، الذي حرص هو الآخر على توطيد إيديولوجية الدولة العباسية، باعتبارها دولة إسلامية أساسا، قوامها المواطنون المسلمون، الذين يتمتعون بامتيازات وحقوق متساوية، فعمد بهذا الخصوص، إلى سن مجموعة من التدابير، التي أدت بالفعل إلى: انتشار أوسع للدين الإسلامي، وتصاعد مضامينه وقيمه، وبداية تحولها إلى ما يشبه سياسة عالمية للإسلام (ص: 126). في مقابل ذلك، شهدت الأديان الفارسية والهندية القديمة، هبوطا حادا، وتراجعت اليهودية والمسيحية كثيرا. لكن مع مرور الوقت، بدأت تظهر نتائج عكسية على الإسلام! حيث بدأ الفارسيون بإيعاز من حركات البعث والإحياء -المقاوِمة- يرتدّون نحو أديانهم الوطنية الفارسية. أما اليهود والمسيحيون، فدافعوا بشراسة عن حقهم في الوجود والاختلاف، مستغلين في ذلك، خبرتهم في فن الجدل والمناظرة، والمعاملة المرنة التي أبداها المهدي في التعامل معهم، بحكم مكانتهم الدينية التي يقرها الإسلام نفسه.

أمام هذه التحديات التي فرضها هؤلاء الخصوم الأقوياء، وجد الخليفة المهدي نفسه في مسيس الحاجة لتعلم الجدل والمحاجَّة، بناء على قواعد منظمة، ليدافع عن العقيدة الإسلامية بالأدلة العقلية، ويكون في مستوى الرد على الزنادقة والجاحدين، وإقامة البراهين على المعاندين، وإزالة شبه الملحدين، وإيضاح الحق للشاكين. وبحكم أن الرجل كان محاطا بمستشارين جيِّدين، فقد أشاروا عليه بمجموعة من الكتب المنطقية، التي تخدم هذا الغرض، وكان في طليعتها كتاب المقولات! لأرسطو[6]؛ لأن محتوياته، كانت وثيقة الصلة بالأمور الملحة التي تولدت في المجتمع الإسلامي آنذاك (ص: 131-132). فطلب المهدي ترجمته فورا، إضافة إلى طلبه ترجمة كتب "الطبيعة" لأرسطو، للاستعانة بها في الإجابة عن تساؤلات المسلمين، بخصوص القضايا التي لم يكن الإسلام يقول عنها شيئا، كقضايا النظرية الطبيعية والذرات والفضاء والفراغ وغيرها (ص: 138-139). إذن لسد هذا الفراغ، وقطع الطريق على الخصوم الدينيين، ومنعهم من استمالة الحيارى والشاكِّين، ثم بأمر من الخليفة المهدي، تسريع وثيرة الترجمة، وزيادة زخمها، والانفتاح على حقول معرفية جديدة، لم تمسسها يد المترجمين في السابق، وكل ذلك ثم بضغط من الحاجة وبتوجيه منها.

في الفصل الرابع والأخير من القسم الأول، تحدث "ديمتري غوتاس" عن الخليفة المأمون وسياسته الداخلية والخارجية وانعكاساتها على حركة الترجمة، فلاحظ أن تعيينه من قبل هارون الرشيد كحاكم على إقليم خراسان خدمه كثيرا، فمقامه بهذا الإقليم مكنه من تشرب الإيديولوجية الإمبراطورية الساسانية الزاراديتشية، والاطلاع على تفاصيل حكم بعض الأباطرة الساسانيين، فتعلق بتجربة أردشير الأول (224م-262م) مؤسس الأسرة الساسانية، وأسلوبه السياسي الحكيم الذي كان يزاوج بين الديني والسياسي؛ فالمُلك والدّين عند هذا الإمبراطور توأمان، "فالدين أسّ الملك، والملك حارس الدين، فلا بد للملك من أسه، ولا بد للدين من حارسه، فما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهدوم" (ص: 149). لذلك، كان إبّان حكمه شديد الحرص على ألا يتولّى سفلة القوم دراسة الدين وتأويله، حتى لا يقلِبوا موازين القوى لصالحهم في غفلة من الجميع.

هذه هي حصيلة التجربة السياسية التي راكمها المأمون كحاكم لولاية خراسان، وبعد توليه أمور الخلافة بعد صراع دام مع أخيه الأمين، قرر العودة إلى بغداد، والاستمرار في نفس النهج الذي سار عليه أسلافه، فاتخذ من سياساتهم أساسا لحكمه، لكنه عدلها قليلا حتى يستقيم على جذورها نهج جديد؛ فقد أخذ بالإيديولوجية الإمبراطورية الساسانية الزراديتشية القائمة على مركزية الحكم، واكتفى باستبدال النزعة الزراديتشية بالإسلام وذلك لسببين؛ الأول أن المأمون ضمن ولاء وتأييد النخبة الفارسية على نحو لا يمكن الرجوع عنه. والثاني، أن الإسلام انتشر انتشارا واسعا، وأصبح له موقع الصدارة في الدولة، نتيجة لسياسة الأسلاف في التشجيع على اعتناقه. وبناء عليه، اتضح للمأمون أن المستقبل للإسلام، وبالتالي فمن الأجدى والأجدر أن ترتكز إيديولوجية الدولة عليه. وللمضي قدما، وضمان النجاح في جهوده، وعملا بالحكمة الساسانية لأردشير، خاض المأمون حملة دعائية مكثفة، ترتكز على أن الإسلام هو دين الدولة وأسّها، لكن تعدد التفسيرات التي تعطى له ضارة بشؤون الدولة. إذن، وتفاديا لأي انزلاق لا تحمد عقباه، سارع الرجل لتحصين الحقل الديني، وارتأى أن يكون تفسير النصوص الدينية مبنيا بالدرجة الأولى على العقل، وأي تأويل يستوفي هذا الشرط يجب أن يحسم بالمناقشة والحوار المنطقي. وفوق هذا كله، يجب أن يكون لرأيه الشخصي القول الفصل، ومن يعارض ذلك يعاقب بالجلد أو السجن، وبهذه الطريقة سيج المأمون الممارسة الدينية، وألجم العوام والفقهاء الواقفين على حرفية النصوص والرواية والإسناد عن التقرير في القضايا الدينية.

لم يفت "ديمتري غوتاس" الإشارة هنا، أن المأمون لم يكن غرضه الأساسي أن يبني القول الفصل في الأمور الدينية على أساس شخصي، بل كان همه أن يقيم أرستقراطية دينية لمجاراة الأرستقراطية السياسية، ليكون في مقدوره الاعتماد عليهما معا للقيام بالمزيد من الحملات الدعائية لصالح توجهاته الإيديولوجية الجديدة، ولإسدال ثوب الشرعية على سلطته السياسية، وتبرير قتله لأخيه الأمين. وهذا ما تم له بالفعل، عندما عمل أتباعه على إعادة كتابة "عهدة مكة" التي وضعها هارون الرشيد، والتي كانت تنص صراحة على أن الخلافة يتولاها أولا الأمين، دون قيد أو شرط، ثم يتولاها من بعده المأمون. لكن النص المعدل، تضمن إمكانية الثورة على الأمين، إذا لم يتقيد بالشروط المطلوبة.

وفي سبيل تعزيز الهدف الأول -الداخلي، الديني والسياسي- أعلن المأمون عن حرب توسعية ضد البيزنطيين وأيديولوجيتهم النصرانية، واستولى على جزء من أرضهم وأسكن المسلمين بها، وبرر ذلك بكون البيزنطيين يستحقون هذا، ليس لكونهم كفار فقط، بل لكونهم جهلة ثقافيا وغير جديرين بتراث أجدادهم اليونانيين؛ فهم مجرد صنَّاع أخذوا كتب اليونان لقرب الجوار وتداني الدار. أما الورثة الحقيقيون والشرعيون لليونان، فهم العرب؛ لأن "يونان" -على حد قول "الكندي"- وهو الجد الرمزي لليونان هو أخ "قحطان" الجد الرمزي للعرب، وبذلك، فإن علوم اليونان القدماء يمكن اعتبارها عربية أصلا، واحتضانها في المجتمع الإسلامي، عبر الترجمة، لم يكن سوى إعادة تأهيل لهذه العلوم في بيت أصحابها الأول (ص من: 151 إلى 159).

وبناء على هذا النسب المفتعل، نازع المأمون البيزنطيين في الإرث الفلسفي اليوناني، وسارع إلى افتكاكه منهم ونقله إلى العربية، حتى يقتلهم ثقافيا بعد أن قتلهم سياسيا. وهذا هو السبب الحقيقي في نظر "غوتاس" الذي زاد من وثيرة الترجمة بشكل غير مسبوق، إلى درجة أن جهود المأمون في هذا الإطار غطت على جهود كل الخلفاء والرعاة من قبله، وأصبح ينظر إليه على أنه الخليفة المسلم الوحيد في تاريخ الدولة العباسية الذي اهتم بالترجمة وبالنشاط العلمي والفلسفي بشكل عام. والحال أن اهتمامات المأمون الثقافية وإغداقه بسخاء على الترجمة، لم يكن أمرا مطلوبا لذاته، بل أملته الحسابات السياسية كما هو الحال دائما؛ فهو لم يجترح شيئا جديدا بالقياس إلى أجداده، هو فقط أخذ مواقفهم الإيديولوجية، وأعاد تدويرها لتتلاءم مع التحديات الجديدة. (ص: 166).

القسم الثاني: الترجمة والمجتمع

خصص "ديمتري غوتاس" هذا القسم من الكتاب للحديث عن الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي فرضت على الخلفاء العباسيين تبني سياسة رسمية للترجمة، والإسراع بنقل دائرة المعارف والعلوم القديمة إلى اللغة العربية، حيث أكد في الفصل الخامس، أن العباسيين حرصوا على إعطاء الأولوية في الترجمة للعلوم التطبيقية؛ أي تلك التي تخدم الحاجات المادية المباشرة، كالحاجة إلى، بناء الجسور والسدود، وتطوير الزراعة، والحاجة إلى الاستشفاء، وحل المشاكل المتعلقة بالإرث ومواقيت العبادة والعمل، دون نسيان الحاجة إلى تكوين نخبة مهنية مؤهلة لتدبير شؤون الدولة.

هذه الحاجات وغيرها، انبرى العباسيون للإجابة عنها، بترجمة كتب العلوم الحسابية، وكتب الطب، ككتب "أبقراط" و"جالينوس"، وحتى الكتب التي تعنى بالتشريح، تشريح العروق والأوردة والأعصاب. بالإضافة إلى عنايتهم بترجمة علوم أخرى، كالكمياء، الذي وصل إلى علم المنصور أن فائدته تكمن في تحويل المعادن الخسيسة كالرصاص والنحاس إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة. وكذا علم التنجيم، الذي أقر "ديمتري غوتاس" أن الاهتمام به كان أقدم وأشد وأقوى من بين كل العلوم الأخرى، لاعتبارات تتعلق بإيديولوجية الدولة العباسية. فالمنصور كان يعتقد أن النجوم لها علاقة بحياة الإنسان ومصيره، وبناء على هذا الاعتقاد، كان الطلب على ترجمة التاريخ التنجيمي كبيرا جدا، إلى درجة أنه استنفد كل ما كتِب وترجِم إلى الفهلوية (اللغات الفارسية)، مما اضطر المترجمين لمواصلة هذه العملية العودة إلى اليونانية، ويحكى أن أول كتاب ترجم منها في هذا المجال هو "المجسطي" لبطليموس، وترجم للمرة الثانية على يد "إبراهيم ابن الصلت" وراجعه "إسحاق بن حنين".

أما الفلسفة، وبحكم أنها لم تكن تخدم حاجات عملية مباشرة، فإن دخولها إلى المنظومة الثقافية العربية، جاء متأخرا إلى حد ما، مقارنة بالعلوم العملية، وارتبط دخولها كما هو معلوم بالكندي وجماعة من العلماء والمتعاونين، الذين أمّنوا الحصول على ترجمات متعددة للكتب الرئيسة في الميتافيزيقا اليونانية، ككتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو، وبعض المختارات الاخرى ك "تيولوجيا أرسطو" و"الإيضاح في الخير المحض"(ص: من 185 إلى 204).

إن الاهتمام الغزير بعلوم الأقدمين في الفترة العباسية المبكرة، خلّف في نظر "غوتاس" علماء وباحثين كبار، انتقلوا في ممارستهم الفكرية من مستوى "الترجمة الحرفية" و"التحليل" و"التلخيص" والاقتباس.... إلى وضع أعمال علمية وفلسفية أصيلة، باهتمامات نظرية جديدة، لتطوير البحث فيها، اضطروا في رأيه إلى الانفتاح على لغات جديدة كاللغة اليونانية، التي أصبحت المنهل الأول للترجمة في عهد المأمون.

ولما كانت هذه الحركة ممأسسة -أو صارت كذلك على الأقل في عهد المأمون- وجزءا من السياسة الرسمية للدولة.

ولما كانت مدعومة من قبل كل فعاليات المجتمع العباسي (الفصل السادس)، فقد أدى ذلك إلى إحداث حركية ثقافية واسعة، استنزفت بالترجمة كل الأعمال العلمية والفلسفية المهمة، التي كتبت باللغات الأخرى، بما في ذلك اليونانية، التي لم يعد لها ما تقدمه؛ لأن أغلب النصوص الأساسية في أكثر الحقول طلبا، كانت قد ترجمت من قبل ودرست ووضعت لها الشروح.

وهذا الأمر، على حد ما يذكر "ديمتري غوتاس" في الفصل السابع، كان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى تباطؤ حركة الترجمة، إلى أن انتهى بها المطاف إلى التوقف التام بعد مسيرة دامت لأكثر من قرنين من الزمن (ص: 251). ولا علاقة لتوقُّفها بانطفاء الحماس والرغبة في العلوم المترجمة، أو بنقص عدد العلماء الذين يمكنهم مواصلة حركة الترجمة بنفس الروح، بل على العكس من ذلك تماما، فالساحة الثقافية العربية كانت في القرنين (10م و11م) حافلة بالعلماء والفلاسفة، الذين أنجزوا رسائل علمية وفلسفية أصيلة، تجاوزوا فيها الأفق الفكري الذي رسمته الأعمال اليونانية، ومن الأمثلة التي يستدعيها "ديمتري غوتاس" لتأكيد هذا الأمر، كتاب ابن الهيثم "الشكوك على بطليموس" وكتاب الرازي "الشكوك على جالينوس" وكتاب ابن سينا "الحكمة المشرقية" الذي فضل تسميته، "الشكوك على أرسطو" (ص: 254).

لكن، هذه الإسهامات المضيئة في الثقافة العربية، لم تلق استحسان الكثيرين، بدعوى أنها مجرد تمييع وتحريف لتعاليم علماء اليونان المعصومة عن الخطأ، ودافعوا في المقابل عن العودة إلى الأعمال اليونانية- الأصيلة، ومن أبرز الأسماء التي مثلت هذا التوجه، يذكر "غوتاس" الفيلسوف المغاربي "ابن رشد" الذي عارض بشدة تطوير الفلسفة على يد "ابن سينا"، و"عبد اللطيف البغدادي"، الذي رفض بدوره البحث العربي الأصيل في كتابه "النصيحتين"، وشدَّد على ضرورة العودة إلى أرسطو وأبقراط وجالينوس (ص: 256).

إن الطبيعة الرجعية لهذه المحاولات المضادة للتقدم، هي التي أعجزت الباحثين والعلماء المسلمين، وفرملت جرأتهم الفكرية، وأثرت سلبا على طبيعة الإنتاجات العلمية والفلسفية في الثقافة العربية، حتى أصبح الإبداع فيها يقاس بالقرب والولاء لأرسطو، لا بالبعد عنه والتجرؤ عليه.

الطرح الذي بسطه "ديمتري غوتاس" ها هنا، طرح مختلف، تميز فيه الرجل عن الكثير من المستشرقين. فهو فضلا عن أنه لا ينفي الأصالة والإبداع عن العرب، ولا يردد أن الإنتاج الفكري توقف في الثقافة العربية بموت "ابن رشد". فإنه لا يربط، مثلهم، تراجع أو انكماش -وليس توقف- الفكر العربي بالعقيدة الإسلامية، فهو لا يعتبرها أبدا السبب الرئيس الذي أعاق تقدم العرب وأعوزهم عن تقديم شيء جديد في الفلسفة، بدعوى أنها كانت تقاوم بشدة الاشتغال على العلوم العقلية. فهذه الدعوى ناهضها "غوتاس" بشدة، واعتبرها مجرد أسطورة! شاعت وسط الباحثين، ورسخت في أذهانهم، بفضل كتابات المستشرق المجري "إجناتس جولتزهير"، وخصوصا مقالته الشهيرة: "موقف الأرثوذوكسية الإسلامية القديمة من العلوم القديمة"، الصادرة بالألمانية، سنة 1916م (ص: 273)

وعلى الرغم من وجود أدلة قطعية[7]تؤكد ما جاء في هذه المقالة، إلا أن "غوتاس" اعتبر محتواها مضللا، وينطوي على مغالطات كثيرة، سعى الرجل إلى تفنيدها بتوجيه انتقادات مهمة، يمكن تلخيصها في العناصر التالية:

أولا: بدأ "غوتاس" نقده لمقالة "جولدزيهر" بالترجمة الإنجليزية التي صدرت سنة 1986م تحت عنوان جديد مضلل، ورأى أن ذلك أدى إلى سوء فهم كبير، طبع تفكير الكثير من الباحثين المتعجلين في التراث العربي، وجعلهم يضعون في سلة واحدة كل المذاهب والتيارات الإسلامية ويحكمون عليها بالرجعية، وبمعاداة العلوم القديمة، وحتى هذه الأخيرة استخدموها دون تخصيص أو تركيز.

ثانيا: لاحظ "غوتاس" أن "جولدزيهر" تعمد انتقاء أسماء معينة، عاشت مثلا في ظل حكم البويهيين أو الفاطميين، اشتهرت بعدائها للعلوم القديمة، وقدمها على أساس أنها تمثل شعور الأكثرية. والحال أنه إذا وجد أشخاص بعينهم يكيدون العداء للعلوم القديمة، فإنهم لا يمثلون خلاصة عصرهم، وقد لا يعزى سبب رفضهم لهذه العلوم لأسباب دينية أو إيديولوجية (ص: 277).

ثالثا: تعامل "جولدزيهر" مع التراث الإسلامي بشكل انتقائي سافر، حيث استشهد بشخصيات معينة، تنتمي إلى المذهب السني تحديدا وحصرا، واقتبس عنها جملا محددة ومبتورة من سياقها، من دون أن يكلف نفسه عناء تحليل الأحوال التاريخية والاجتماعية التي احاطت بأصحابها.

بعد هذه الانتقادات التي حاول من خلالها "غوتاس" أن يفند مزاعم "جولدزيهر" بخصوص خصومة أهل السنة المزعومة لعلوم الأقدمين التي ضل فيها وأضل، خطا الرجل خطوة أخرى، ودقق في أسماء الأشخاص الذين اقتبس عنهم "جولدزيهر" فوجد أن أغلبهم من كبار العلماء الحنابلة والشافعيين، الذين عاشوا في بغداد ودمشق ما بين (ق 13م - ق 14م) فذكر منهم ابن الجوزي (ت 1200م) والسهروردي (ت 1236م) وابن الصلاح (ت 1245م) والذهبي (ت 1348م) وتاج الدين السبكي (ت 1370م) والحنبلي الذائع الصيت ابن تيمية (ت 1328م)؛ فهؤلاء جميعا عاشوا في ظل دولة المماليك، التي واجهت خطرين داهمين؛ هددا وجودها في الصميم، وهما الصليبية المسيحية والغزو المغولي؛ فبربرية المسيحيين واعتداءاتهم وإلحاحهم لاغتصاب أرض إسلامية باسم الدين، خلق في نظر "غوتاس" رد فعل عنيف من سكان فلسطين وسورية، جعلهم يرتدون نحو صيغة من الإسلام أقل تسامحا. وحملات المغول على سورية، وحصارهم لدمشق (1300م) هو ما أدى بابن تيمية إلى إصدار فتاواه سيئة السمعة، ظنا منه، أنه بهذه الطريقة سيشد عضد الأمة ويقوي جبهتها الداخلية (ص: 280).

ويرى "غوتاس" أنه حتى ولو صرفنا النظر عن هذه الاعتبارات، وسلمنا مع "جولدزيهر" بأن هذه الأسماء هي التي شيدت القلاع الحصينة للأرثوذوكسية الإسلامية، فإن قراءة بسيطة للمدوّن التاريخي، ستطلعنا أنه حتى في البلاد المملوكية، معقل الأرثوذوكسية الإسلامية المزعوم، ازدهرت العلوم العقلية، وبرز علماء كبار أمثال: الطبيب "ابن النفيس" (ت 1288م) الذي كان إنجازه الكبير وصفه للدورة الدموية الصغرى. والفلكي "ابن الشاطر" (ت 5137م) الذي حاول تنقيح فلك بطليموس، وصاغ نماذج لمدارات الكواكب السيارة التي ظهرت بعده بقرنين في أعمال كوبرنيكوس (ص: 281).

الأمر نفسه يلاحظ حتى في الفلسفة، فخلال القرون الثلاثة التالية لتوقف حركة الترجمة، كان تمة نظام فكري جديد يصاغ على أسس من الفلسفة اليونانية، على نحو ما أعاد فيها النظر "ابن سينا" والكلام المعتزلي والتصوف؛ فأعمال ابن سينا أدت إلى فيض من البحث والمناظرة، والمناظرة المضادة على أيدي المسلمين شيعة وسنة، فالأرسطية مثلا، كما ارتآها كانت تُدمج في الفكر الشيعي الاثني عشري السائد، هذا الفكر الذي تطور على نحو خاص في إيران أيام الصفويين في القرنين: 16م و17م، وإذا أتيح لهذه الفترة من تاريخ الفلسفة الإسلامية أن يتولى البحث العلمي أمرها، فقد تصبح العصر الذهبي الجديد لهذه للفلسفة (ص: 283).

يتبين من هذه الأمثلة والاستشهاديات أن "ديمتري غوتاس" أراد منّا، أن نخفف من حدة مقاومة الفقهاء المتشددين للعلوم العقلية، فمهما كان ضلوعهم في الأمر، لا يجب أن نحملهم وحدهم مسؤولية التضييق على الفكر الحر لنستريح؛ فمسؤولية السياسي، وحتى الفيلسوف! ثابتة أيضا. وألا نسلم أيضا بأن الإنتاج العلمي والفلسفي في الثقافة العربية (على الأقل من ق: 8م إلى ق: 16م) توقف تماما، فقد يسجّل أنه تراخى أو انكمش بهذا القدر أو ذاك، في هذه الفترة أو تلك، لكن معينه لم ينضب، فقد استمر في التطور، لكن كل ما في الأمر أن هذا التطور سار بوتيرتين متفاوتتين، حيث استمرت العلوم العملية في التطور بوتيرة أسرع من غيرها؛ لأنها كانت تفيد الجميع، ولم تكن تخالف فقها ولا شرعا، فضلا عن أنه كانت لها مراصد تعنى بها وتطورها. أما الفلسفة، وبحكم أنه لم تكن لها أية مؤسسة تعنى بها أو تدافع عنها، فإن تطورها ظل في مجمله محدودا، ومرهونا بالاجتهادات الفردية.

خاتمة

نستخلص مما سبق، أن "غوتاس" كان من المستشرقين القلائل الذين كانت لديهم أياد بيضاء على التراث الإسلامي. فقد وسم حركة الترجمة اليونانية - العربية بالظاهرة، وأقر أن هذه الظاهرة مركبة وتتداخل في إنتاجها مجموعة من العوامل، وهو لم يتوقف في معالجته لها، عند حدود عدِّ وصفِّ هذه العوامل الواحد تلو الآخر، بل عيَّن وحدَّد بدقة العوامل الأساسية والثانوية المنتجة لها، حيث قاده تحليله إلى اعتبار المعطى السياسي، العامل المفسر الأول، يليه العامل الاقتصادي ثم العامل الاجتماعي فالثقافي...؛ فحركة الترجمة التي تمت في بغداد والمجتمع العباسي لم تكن ترفا فكريا، وجدت لإرضاء الجموح الفكري لمثقفي الحضارة الإسلامية، بل كانت وسيلة من بين وسائل اخرى لجأ إليها العباسيون لتثبيت أيديولوجيتهم السياسية، نظرا لما كانت تزوِّدهم به من أسلحة فعالة لمواجهة الخصوم الداخليين والخارجيين.

وعلى الرغم من أن هذه الحركة، وجدت في البداية لخدمة أغراض سياسية صريحة، إلا أنها انعكست إيجابا على باقي المجالات الأخرى، خصوصا على المستوى الفكري، حيث سجل "غوتاس" أن العقل العربي بفضل الترجمة، تطور بشكل ملفت للنظر مقارنة مع ما كان عليه من قبل، وانتقل في تفاعله مع الفكر اليوناني الوافد من مستوى الأخذ والتقليد إلى مستوى التشرب والاستيعاب، وصولا إلى مستوى التجاوز والإبداع. فالمسلمون باعتراف "غوتاس" خلفوا إنتاجات علمية وفلسفية مهمة، تجاوزوا فيها الأفق الفكري الذي رسمته الأعمال اليونانية، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من التأسيس لبراديغم علمي جديد. لكن ولاعتبارات مختلفة نبه غوتاس إلى بعض منها، أفل نجم الحضارة العربية - الإسلامية، وتواضعت منجزاتها العلمية والفلسفية، وتوقف المنتسبون إليها عن كتابة التاريخ، وسلموا المشعل لغيرهم. وانشغلوا بلعب وتوزيع الأوراق المذهبية والأيديولوجيةّ، فكانت النتيجة التخلف والانحطاط المزمن. فما السبيل إلى للنهوض مرة اخرى؟ وما هي ميكانيزمات العملية النهضوية؟ وإذا استقرأنا النهضات التاريخية، على الأقل تلك التي لدينا عنها معطيات، فهل يمكننا أن نعثر فيها على قانون عام، يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور والأوطان؟

[1]- باحث مغربي

[2]- للوقوف بالتفصيل على مختلف الأخطاء التي شابت ترجمة هذا الكتاب، يمكن العودة بهذا الخصوص إلى مقالة فؤاد ابن أحمد: "الفكر اليوناني والثقافة العربية لديمتري غوتاس، قراءة نقدية في الترجمة العربية" مركز أفكار للدراسات والأبحاث2020

[3]- أستاذ المنطق وتاريخ العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط -المغرب-

[4]- أشار الدكتور بناصر البعزاتي إلى هذا الأمر في هوامش مقالة له تحت عنوان: "أطروحة جولدزيهر عن مكانة العلوم العقلية في الثقافة الإسلامية"

[5]- لمزيد من الفائدة، يمكن الرجوع بهذا الخصوص على سبيل المثال إلى كتاب: "التاريخ العام للغات السامية ونسقها المقارن" لأرنست رينان. وكتاب: "تاريخ الفلسفة الإسلامية" نهاية الفصل الثالث (ص: 75-76) للمستشرق الهولندي دي بور، وكذا كتاب: "تاريخ الفلسفة الغربية" الفصل العاشر، للفيلسوف الويلزي برتراند راسل...

[6]- ترجم نيقولا زيادة الطوبيقا بالمقولات، وكرر ذلك في الصفحات (119-121-129-131-136-229)، في حين أن الأمر لا يتعلق بكتاب المقولات كما ظن، بل بكتاب المواضع أو المواضع الجدلية أو الجدل كما هو معروف عند الدارسين والشراح في السياق التداولي الإسلامي.

[7]- توجد نصوص وفتاوى فقهية صريحة تعادي العلوم العقلية، وتنهى عن النظر في كتب القدماء، وعلى رأسها كتب المنطق والفلسفة. فابن الصلاح مثلا أفتى بتحريم المنطق قائلا: "الفلسفة شر، والمنطق مدخل الفلسفة، إذن مدخل الشر شر".