كيف تُشكِّلُنا الجينات والبيئة؟


فئة :  ترجمات

كيف تُشكِّلُنا الجينات والبيئة؟

كيف تُشكِّلُنا الجينات والبيئة

ينطوي تُراثنا الجينيُّ على كثير من المتغيِّرات الَّتي تؤثِّر في نمطنا الظَّاهريِّ. فالمتغيِّرات الأكثر فعالية لبقاء النَّوع وتكيُّفه تمَّ انتقاؤها بشكلٍ إيجابيٍّ، ولم تختفِ. وتمَّ انتقاء متغيِّرات أُخرى منذ عهد أكثر قُرباً، وتمَّ تبادلها بشكلٍ عشوائيٍّ قليلاً؛ وفقاً للهجرات البشريَّة، والحفاظ عليها أيضاً عندما كان لها تأثير مُحايد أو غير ذي أهمِّيَّة، أو غير معروف أحياناً. ونكتشف الآن المتغيِّرات المسؤولة عن العديد من الخصائص الَّتي تجعل كلَّ واحد منَّا فريداً، والَّتي تنطوي على تفاصيل مُضحِكة أحياناً. ومع ذلك؛ ليس علم الوراثة الفاعل الوحيد في التَّنوُّع، الَّذي يرتبط أيضاً بالبيئة وتأثيرها في وظيفة الجينات.

***

«ليس الجسد سُمَّ النَّفس فحسب: إنَّه قبرُها. بصراحة، كيف يمكنك مشاهدةَ خلقِك من دون أن تيأس؟ أيَّة رغبة مُلحَّة شغلتك عن تشكيل مثل هذا العالم غير المكتمل؟»

باسكال بروكنر pascal bruckner، الطِّفل الإلهيُّ.

الرَّابحون أو الخاسرون في اليانصيب الجينيِّ

لقد قدَّم عالم البيولوجيا الدَّنماركيُّ فيلهلم يوهانسن wilhelm johanson مفهومَ 'الجين' في عام 1909: إنَّه عنصر غير مادِّيٍّ يساعد في شرح وراثة الصِّفات المرئيَّة للفرد. واعتبر الجين، على أثر أعمال غريغور مندل gregor mendel الَّتي تصف قوانين الوراثة، وحدة مُجرَّدة وقابلة للانتقال تُفسِّر أوجه التَّشابه الجسديِّ بين الوالدين والأطفال. هذا المفهوم المتوافِق مع مفهوم مندل للجين، تمَّ استكماله بمفهوم جديد، هو الجين 'الجزيئيُّ' عند اكتشاف التَّركيب اللَّولبيِّ المزدوَج للحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين في عام 1953. ومع ذلك، تجابَهَ العديد من علماء البيولوجيا للوصول إلى أفضل تعريف للجين. وتبنَّوا في عام 2006 التَّوافق التَّالي: 'الجين منطقة قابلة للتَّحديد في حمضنا النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين، تُوافق وحدة قابلة للانتقال والتَّوريث'[1]. واقترحت المنظَّمة الدُّوليَّة لمصطلحات الجينوم مؤخَّراً تعريفاً أكثر بساطة: 'يُمثِّل الجين جزءاً من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين يُساهم في وظيفة يُعبَّر عنها في نمطنا الظَّاهريِّ'.

كيف تنتقل هذه الجينات؛ أي: القطع الصَّغيرة من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين؟ ولماذا يُسبِّب التَّكاثر الكثير من الاختلافات بين الوالدين والأبناء؟ إنَّ انتقال هذه السِّمات المتعدِّدة؛ أي: هذه الصِّفات الوراثيَّة المُخزَّنة في جيناتنا، يعتمد على يانصيب يتتابع فيه سحبان متتاليان لكرات مُرقَّمة. يجري اليانصيب الأوَّل أثناء تكوين الخلايا التَّناسليَّة؛ أي: البويضات عند المرأة والحيوانات المنويَّة عند الرَّجل. يحتوي كلُّ مشيج 23 كروموسوماً من الأُمِّ x و23 من الأب y. في الواقع، بعد الإخصاب، تحتوي كلُّ خلايانا على نسختين من كلِّ كروموسوم، واحدة من الأب والأُخرى من الأُمِّ. وهكذا، يمكن أن يصنع الرَّجل 23 2 حيواناً منويَّاً مُختلفاً، وأن تصنع المرأة 23 2 بويضة مُختلفة. ويبلغ بالتَّالي عدد التَّركيبات combinaisons المقترحة في كلِّ إخصاب حوالي 8 ملايين تركيبة. وبما أنَّ الكروموسوم يحتوي مئات الجينات؛ فإنَّ هذه التَّركيبات المحتملة تضمن تشكيلة وراثيَّة أولى. ينتج الإخصاب بويضة بها 46 كروموسوماً، وتُقرِّر الصُّدفة، انطلاقاً من البويضة ومن حيوان منويٍّ اختارهما هذا اللِّقاء، التَّشكيلة الجينيَّة النِّهائيَّة. من النَّاحية النَّظريَّة، يُمثِّل هذا 23 2 ضرب 23 2 احتمالاً من التَّركيبات الجينيَّة؛ أي: أكثر من 70 مليار تركيبة. لقد انتهى الأمر، وتمَّ إجراء السَّحب الثَّاني لليانصيب! وأصبح كلٌّ مِنَّا فريداً وأصليَّاً.

غريغور مندل يُملي قوانينَه

غريغور مندل راهب كاثوليكيٌّ وعالِم نبات نمساويٌّ، اهتمَّ بالمشكلة الَّتي يثيرها تهجين النَّبات. ولذلك عمل منذ عام 1854 على البازلَّاء الَّتي يمكن زراعتها بسهولة في البيوت المحميَّة. ونشرَ في عام 1866 نتائج هذه الدِّراسات، وأسَّس بالتَّالي للقوانين الشَّهيرة الَّتي ستحمل اسمَه. تؤكِّد هذه القوانين ثلاثة مبادئ عامَّة لانتقال الصِّفات المرئيَّة من جيل إلى آخَر. فقانون مندل الأوَّل وقانون مندل الثَّاني دُرِسَا على نطاق واسع في صفوف علم البيولوجيا. ينصُّ القانون الأوَّل (أو قانون انعزال الصِّفات) على تماثل المُهجَّنِين في الجيل الأوَّل، وينصُّ القانون الثَّاني (أو قانون التَّوزيع الحُرِّ) على نقاء الأمشاج[2]. لكنَّنا ننسى في كثير من الأحيان القانون الثَّالث، والأهمَّ في الواقع؛ الَّذي يؤكِّد الانقسام المستقلَّ للصِّفات الوراثيَّة. ويُصِرُّ مندل في الواقع على إثبات أنَّ ما ينتقل ليس الصِّفات الوراثيَّة نفسها، وإنَّما شيء آخَر يُشير إليه باسم 'العوامل الوراثيَّة'، وهي عنصر مادِّيٌّ لا يزال مجهولاً في الخليَّة، أطلقَ عليه فيلهلم يوهانسن لاحقاً اسمَ 'الجين'.

داروين ولامارك: لماذا نحن مختلفون؟

جان-باتيست لامارك jean-baptiste lamark وتشارلز داروين charles darwin هما المؤسِّسان التَّاريخيَّان لنظريَّات تطوُّر الأنواع. نشر الأوَّل نظريَّتَه في عام 1809 في كتاب بعنوان فلسفة علم الحيوان، ونشر الثَّاني نظريَّته عن تحوُّل الأنواع في عام 1859، في كتاب أصل الأنواع.

لامارك: مُدافِع عن البيئة

جان- باتيست لامارك، عالم الطَّبيعة الفرنسيُّ، هو أحد العلماء الأوائل الَّذين طوَّروا رؤية طبيعيَّة وميكانيكيَّة للكائنات الحيَّة، أساس نظريَّته التَّحويليَّة للتَّطوُّر. تقوم هذه النَّظريَّة على مبدأين: التَّعقُّد المتزايد للأفراد، وتنوُّع الكائنات الحيَّة في أنواع، على أثر تكيُّفها مع البيئة. بالنِّسبة إلى لامارك؛ تحدثُ الاختلافات القابلة للملاحظة الَّتي تُميِّز أفراد نوعٍ ما بفعل تأثير البيئة الخارجيَّة، وهي بالتَّالي غير موروثة منذ البداية. ومع ذلك، إذا كانت هذه الاختلافات قادرة على تحويل النَّوع، فينبغي أن تكون وراثيَّة. بالنِّسبة إليه، تنتقل هذه الصِّفات المكتَسَبة بفعل تأثير البيئة إلى الأبناء، إذا كانت هذه التَّغيُّرات المكتسَبَة مشتركة لكلا الجنسين اللَّذين أنجبا هؤلاء الأفراد الجدد.

يرى لامارك أنَّ الاختلافات الملحوظة بين الأفراد في الكائنات الحيَّة تُمثِّل مُحرِّكَ تطوُّر الأنواع الَّذي حدث بفعل تأثير الضُّغوط الخارجيَّة. مثال: الزَّرافة لها عنق طويل؛ لأنَّها أُجبِرَت باستمرار، بسبب التَّنافس على الموارد، على بذل جهد بدنيٍّ للوصول الأوراق العالية جدَّاً في الأشجار. عدلت هذه العادة جسمها، وحثَّت على صفة مُكتَسبة -رقبة طويلة - كان يُعتقد آنذاك أنَّها قابلة للتَّوريث. ويعتقد لامارك أنَّه ليس هناك، أو هناك مساحة ضئيلة للعشوائيَّة في تحوُّل الأنواع.

يعترض داروين بشدَّة على الدَّور المنسوب لتأثير الظُّروف الخارجيَّة لدى علماء الطَّبيعة. ويرى أنَّ تأثيرها محدود، وأنَّ المحرِّك الرَّئيس لتطوُّر الأنواع هو حدوث اختلافات عفويَّة، وعَرَضيَّة، ووراثيَّة يجري من خلالها الانتقاء الطَّبيعيُّ للأفراد الأكثر ملاءمةً للبقاء في بيئة مُعيَّنة. فالزَّرافات الَّتي تُظهِر عند الولادة اختلافاً يُترجَم برقبة أطول قليلاً؛ كان ميزة صغيرة في المنافسة على الموارد الحيويَّة في بيئتها. وأمَّا الَّتي كانت محظوظة، وتولد 'مُتكيِّفة بشكل أفضل- مُستفيدةً من الاختلاف المفيد- فكانت أكثر عدداً في البقاء والتَّكاثر ونقل جيناتها من أمثالها الأقلِّ حظَّاً؛ ما أدَّى إلى التَّعميم التَّدريجيِّ للصِّفة 'رقبة طويلة'، واختفاء الصِّفة المتلازمة 'رقبة قصيرة' لدى الزَّرافات، ومن هنا جاء تطوُّر الأنواع.

لم تكن لدى داروين أيَّ فكرة عن الآليَّات الجزيئيَّة للانتقاء الطَّبيعيِّ الَّذي صاغ مفهومه. فمع الظُّهور المعاصِر لعِلم الوراثة الجزيئيَّة واكتشاف الحمض النَّوويِّ؛ بدأنا نتكلَّم على الدَّاروينيَّة الجديدة: الأسس الجزيئيَّة للتَّطوُّر المرتبطة بظهور التَّغيُّرات العشوائيَّة للرِّسالة المحفوظة في الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين الَّتي تخلق اختلافات وراثيَّة يُعبَّر عنها اختلاف قابل للملاحظة في الفرد. لكنَّ النِّقاش أرَّق مجتمع علماء البيولوجيا التَّطوُّريِّين. والواقع أنَّ تواتر ظهور طفرات جينيَّة جديدة مُفيدة للغاية، منخفِض بالمقارنة مع حدوث الاختلافات في النَّمط الظَّاهريِّ، ولا سيَّما في ظلِّ ظروف ضغط البيئة الانتقائيِّ القويِّ. وهكذا، يرى العديد من علماء البيولوجيا أنَّ الاختلافات الجينيَّة لا يمكن أن تُشكِّلَ المحرِّك الوحيد لتطوُّر الأنواع وتنوُّع الأنماط الظَّاهريَّة. فهذا التَّناقض بين تطوُّر النَّمط الظَّاهريِّ السَّريع في بعض الأحيان وندرة الطَّفرات؛ يُمكن أن يُفسَّر جزئيَّاً بتأثير آليَّات التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب.

التَّخلُّق الجينيُّ المتعاقِب شَكَّلَ الجينات

عِلمُ التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب فرعٌ من علم البيولوجيا، يدرس آليَّات تؤثِّر في حياة الكائن الحيِّ، وتُعدِّل، بطريقة قابلة للانعكاس ولكن قابلة للنَّقل، وظيفةَ الجينات من دون تغيير رسالتها. وثمَّة آليَّات عديدة للتَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب، لن نفصلها هنا، وتُؤثِّر بالتَّالي في التَّعبير عن جيناتنا، وتشرح لماذا تكون خلايا أعضائنا مختلفة في حين أنَّ لها التُّراثَ الجينيَّ نفسَه في حمضها النَّوويِّ. ويمكننا مقارنةُ تأثير التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب بتفسير النَّصِّ الَّذي قرأه شخصان مختلفان: الكلمات مُتطابقة، ولكنَّ تفسيرَ النَّصِّ مختلِف. فأحد مؤسِّسي عِلم التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب؛ هو كونراد هال وادينجتون conrad hal waddington، عالم البيولوجيا والوراثة البريطانيُّ في القرن العشرين؛ رأى وادينجتون أنَّ وراثة الصِّفات المُكتَسَبة، وهو افتراض يُنسَب عادةً إلى لامارك، يمكن ملاحظته أثناء التَّطوُّر؛ لأنَّ الضَّغط البيئيَّ يُمكن أن يحثَّ جينات التَّطوُّر على استجابة تكيُّفيَّة يمكن أن تنتقل إلى الذُّرِّيَّة.

إنَّ سرعة التَّغيُّريَّة وتنوُّعها اللَّذين ميَّزا التَّطوُّرَ البشريَّ، وفقاً لكيفين لالاند kevin laland، أستاذ علم البيولوجيا في جامعة سانت أندروز st andrews في اسكتلندا، لا يتبعان بدقَّة قوانين مندل، ويصعب تفسيرهما بالتَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب. فهو يرى أنَّ التَّخلُّق الجينيَّ المتعاقِب يُمثِّل الحلقة المفقودة الَّتي تؤثِّر بقوَّة في تأثير جيناتنا في نمطنا الظَّاهريِّ. وهكذا؛ هناك العديد من التَّناقضات في النَّمط الظَّاهريِّ وسلوك التَّوائم الحقيقيَّة.

اختبار التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب في الفضاء

قارنَتْ وكالة ناسا nasa في عام 2015 عملَ الجينات في خلايا توأمين حقيقيَّين، سكوت scott ومارك كيلي mark kelly. فبينما بقي مارك على الأرض، أمضى سكوت ما يقرب من عام واحد في محطَّة الفضاء الدُّوليَّة. وقد ظهرت تغيُّرات التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب في التُّراث الجينيِّ لسكوت، وتمَّ تحليلها بواسطة مُعدَّل مثيلة الحمض النَّوويِّ، ولم تظهر لدى شقيقه. فالتَّغيُّرات الملحوظة مُرتبطة بتأثير انعدام الوزن. وقد غيَّرت وظيفة عدَّة جينات مشاركة في الدِّفاع المناعيِّ، وإصلاح الحمض النَّوويِّ، وتجديد النَّسيج العظميِّ. وظهر أنَّ مُعظَم التَّغيُّرات الملحوظة قابلة للانعكاس بعد 6 أشهر من عودة سكوت إلى الأرض.

تتراكم منذ حوالي 30 سنة البيانات العلميَّة حول آليَّات التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب؛ أي: تغيُّرات التَّعبير الجينيِّ الَّتي تحثُّ عليها البيئة وتنتقل إلى الذُّرِّيَّة. ومع ذلك؛ فإنَّ تحديد إسهام الجينات والبيئة في قدراتنا مُشكِلة مُعقَّدة؛ لأنَّ كلَّاً منهما يساهم في ذلك. والسُّؤال هو ما إذا كان طول المستطيل أو عرضه هو الأكثر تأثيراً في سطحه، وهذا ليس بالأمر السَّهل.

البيئة تنحت النَّمط الظَّاهريَّ

إذا كان التَّخلُّق الجينيُّ المتعاقِب يتحكَّم في وظيفة الجينات ويُعدِّلها؛ فما هو الدَّور الحقيقيُّ للظُّهور العشوائيِّ للمتغيِّرات الجينيَّة في تكيُّف الإنسان مع بيئته؟ هذا السُّؤال أكثر سهولةً للدِّراسة الآن، منذ أن قام علماء البيولوجيا بالتَّدقيق في الاختلافات المُتعدِّدة للنَّمط الظَّاهريِّ. يمكننا إذن أن نُفسِّرَ تأثير آليَّات التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب من خلال تأثير الغذاء أو تأثير مُحرِّكَين أساسيَّيَن من مُحرِّكات الحياة الحديثة: الإجهاد أو نمط الحياة، والتَّلوُّث بجميع أشكاله. إذا كانت تأثيرات الوراثة والتَّخلُّق الجينيِّ المتعاقب مُتعايشةً في الواقع؛ فما هو الدَّور الحقيقيُّ الَّذي يجب أن يُعزى لتأثير انتقاء المُتغيِّرات الجينيَّة في التَّنوُّع البشريِّ منذ أكثر من 50 ألف سنة؟ نستطيع الإجابة عن هذا السُّؤال ببساطة إلى حدٍّ ما عن طريق الاقتراح التَّالي: إنَّها تؤثِّر في المستوى التَّطوُّريِّ الجمعيِّ macro-évolutive لآلاف الأجيال. في المقابل، إنَّ التَّغييرات الطَّفيفة في نمطنا الظَّاهريِّ استجابة لضغوط بيئيَّة منذ بضعة قرون، أو حتَّى أقلَّ، وهي بالتَّأكيد أكثر صِلَةً بتأثير آليَّات التَّخلُّق الجينيِّ المتعاقِب. ويتعلَّق أحد الأمثلة الجيِّدة بالاختلافات في متوسِّط طول الإنسان. يعتقد علماء المستحاثَّات البشريَّة، من دون الدُّخول في التَّفاصيل المتعلِّقة بالجينات المشاركة، أنَّ متوسِّط طول الإنسان العاقل الأوَّل في العصر الحجريِّ القديم كان قريباً من 1.80 متر. وأمَّا في العصر الحجريِّ الحديث، فقد انخفض متوسِّط طول الإنسان ليصل إلى حوالي 1.65 متر حتَّى منتصف القرن التَّاسع عشر، ربَّما بسبب تنوُّع الغذاء وانخفاض استهلاك اللُّحوم الَّذي أدَّى إلى انخفاض الوارد من البروتين، ثمَّ زاد طول متوسِّط طول الإنسان خلال فترة قصيرة تصل إلى قرن ونصف تقريباً، حوالي 1 سم لكلِّ عقد، ما يدلُّ على الأرجح على تأثير جودة الغذاء في الطِّفل، وتحسين الظُّروف الصِّحِّيَّة والمعيشيَّة الَّتي حدَّت من حالات الإجهاد الفيزيولوجيِّ خلال الطُّفولة، وعزَّزَت النُّموَّ.

الشَّمس تُشكِّل بشَرَتنا

لقد مثَّل تأثير أشعَّة الشَّمس، ودرجة الحرارة الخارجيَّة، ومستويات الرُّطوبة، العوامل الرَّئيسة في الضَّغط الانتقائيِّ على تطوُّر أسلاف البشر منذ 2 مليون سنة على الأرجح. وقد بدأ هذا التَّطوُّر بتغيُّرات مناخيَّة عدلت النَّباتات ونمط السَّكن في أفريقيا؛ حيثُ سمحت الغابات الرَّطبة ثمَّ السُّهول كثيرة العُشب، ثمَّ السُّهول الجافَّة بانتقاء مُتغيِّرات مشاركة في القوام، والتَّكيُّف مع الحرارة، والشَّعر وبُنيته أو حتَّى تصبُّغ البشرة.

لقد كان لتأثير الشَّمس أثر حاسم في الانتقاء الإيجابيِّ للعديد من المتغيِّرات الجينيَّة، إمَّا بتفتيح البشرة وإمَّا بجعلها داكنة، إذ تشير العديد من الدِّراسات الجينيَّة إلى انتقاء المتغيِّرات الجينيَّة الَّتي عدَّلت لون البشرة منذ أكثر من 200 ألف عام في أفريقيا. وثمَّة جينات مشاركة في اختلاف طفيف في لون البشرة السَّوداء تمَّ انتقاؤها في أفريقيا، بتأثير التَّكيُّف المحلِّيِّ مع المناخ. وتمَّ، كما سنرى لاحقاً، انتقاء عدَّة عشرات من المتغيِّرات المسؤولة عن أنواع البشرة الفاتحة المختلفة بعد الهجرات البشريَّة الأولى خارج أفريقيا إلى خطوط العرض المختلفة (انظر الفصل الثَّالث). وما يثير الفضول أنَّه بينما تمَّ انتقاء معظم هذه المتغيِّرات الَّتي رافقت هجرات الإنسان العاقل قبل أقلَّ من 40 ألف سنة؛ فإنَّ واحداً منها على الأقلِّ يتعلَّق بمحتوى الجين edn3 تمَّ انتقاؤه على الأرجح منذ أكثر من 300 ألف سنة؛ أي: منذ أصل الإنسان العاقل تقريباً. وقد عزَّز هذا الجين محتوى البشرة من الميلانين. وأتاح للإنسان العاقل الأوَّل، بفضل بشرة أكثر دكانة، تحمُّلاً أفضل للبيئة الجافَّة الَّتي وُجِدَ فيها بعد مغادرة الغابات إلى السُّهول كثيرة العُشب. وقد وجد نفسَه أكثر تعرُّضاً للشَّمس، ولا سيَّما أنَّ كثافة شَعره قد انخفضت. فتأثير هذه الاختلافات الجينيَّة كان كبيراً بسبب نتائجه على تصنيع الفيتامين د في البشرة، الَّذي يضرُّ نقصه بقوَّة الهيكل العظميِّ. وقد تمَّ لاحقاً انتقاء متغيِّرات أُخرى لدى سكَّان القطب الشَّماليِّ: إنَّها تُتيح التَّكيُّف مع المناخ البارد، وتشارك أيضاً في التَّكيُّف مع النِّظام الغذائيِّ، وفي تخزين الدُّهون، وخطر السُّمنة.

الغذاء: صيَّادون - جامعون للثِّمار، ومزارعون

اكتشاف النَّار وممارسة طهي اللُّحوم ثمَّ الخضروات كانا متلازمَين على ما يبدو، ويعودان إلى حوالي مليون سنة لدى الإنسان المنتصِب. ففي ذلك الوقت؛ أي: عندما كان اللَّحم المورِدَ الغذائيَّ الرَّئيس، كان الغذاء فقيراً بالسُّكريَّات والنَّشاء. وتمَّ، منذ العصر الحجريِّ القديم إلى العصر الحجريِّ الحديث، انتقاء جينات تُسهِّل هضمَ الدُّهون وتُصعِّب هضم السُّكَّر. فالانتقال بين الصَّيد-القِطاف في العصر الحجريِّ القديم وظهور الزِّراعة وتدجين المُجترَّات؛ سوف يُغيِّر إلى حدٍّ كبير العادات الغذائيَّة. في الواقع؛ تمَّ انتقاء جينات أساسيَّة لتكيُّف البشر مع نظامهم الغذائيِّ بدءاً من العصر الحجريِّ الحديث؛ أي: منذ حوالي 12 ألف سنة. وقد أدَّى تطوُّر الزِّراعة إلى وفرة نسبيَّة للأطعمة ذات السُّعرات الحراريَّة العالية الَّتي تتكوَّن من النَّشاء بنسبة 60% تقريباً. وربَّما تمَّ خلال هذه الفترة انتقاء المُتغيِّرات الجينيَّة الَّتي تجعل الإنسان عرضةً لمرض السُّكَّري؛ لأنَّ هذا الاستعداد لم يكن له تأثير يُذكَر في بقاء الأفراد وتكاثرهم، كما سنرى في الفصل الثَّاني عشر.

جين المذاقِ المُرِّ

ظهر مُتغيِّر جينيٌّ للجِين tas2r16، المسؤول عن اكتشاف اللِّسان للطَّعم المُرِّ، لدى الإنسان العاقل ربَّما قبل أكثر من 100 ألف سنة. هذا المتغيِّر غير الموجود لدى الشَّمبانزي، ربَّما انتقاه الإنسان العاقل الأوَّل الَّذي انتقل من الغابات المحضَة إلى السُّهول المُشجَّرة. ويتيح المتغيِّر الكشف بدقَّة عن المذاق المُرِّ النَّموذجيِّ لِلَّوز الطَّازج أو اللَّوز الموجود في الفاكهة ذات النَّواة: المشمش أو الخوخ على سبيل المثال. ويتيح بذلك التَّعرُّف على العديد من الأنواع النَّباتيَّة السَّامَّة الَّتي لها هذا الطَّعم، والَّتي تُسمَّى النَّباتات المُنتِجة لسيانيد الهيدروجين، لأنَّ لها خاصِّيَّة إطلاق السِّيانيد عند إدخالها في المعدة. فهذا المُتغيِّر المفيد الَّذي ظهر في أفريقيا لدى الصَّيَّادين - الجامعين للثِّمار في العصر الحجريِّ القديم انتقل إلى الإنسان العاقل عبر عشرات الآلاف من الأجيال.

تشهد جينات أُخرى على التَّغيُّرات في الغذاء لدى الإنسان العاقل. وأحد هذه التَّغيُّرات هو الجين enam، المسؤول عن إنتاج بروتين أساسيٍّ في مينا الأسنان. وثمَّة مُتغيِّرات لهذا الجين تمَّ التَّعرُّف عليها لدى الرَّئيسات وأسلاف البشر. فمنذ بداية هجرات الإنسان المنتصِب؛ انتشر مُتغيِّر يُعزِّز سماكة المينا، ويُسهِّل تكيُّف نظام أكلِ الثَّمر في الغابات مع مكان إقامةٍ أكثرَ جفافاً؛ حيث زاد استهلاك الجذور والبذور واللُّحوم. وتمَّ بعدئذ، على الأرجح بعد الهجرة إلى آسيا وأوربا والتَّكيُّف مع طبخ الأغذية، انتقاء مُتغيِّر يجعل المينا أقلَّ رِقَّةً لدى الآسيويِّين والأوربيِّين.

المسكن: من العدوانيَّة إلى التَّنشِئة الاجتماعيَّة

أدَّى التَّحضُّر التَّدريجيُّ للصَّيَّادين- الجامعين للثِّمار، عندما كان المناخ المحلِّيُّ مواتياً، إلى تكيُّف الإنسان العاقل مع الاستخدام المتزايد للأدوات والاختلاط، والتَّنشئة الاجتماعيَّة، والعيش في تجمُّعات عشائريَّة، ثمَّ مع تنويع الطَّعام من خلال تطوُّر الزِّراعة والتَّدجين. فمنطقة الهلال الخصيب؛ أي: الضَّفَّة الغربيَّة ولبنان وبلاد ما بين النَّهرين دجلة والفرات وساحل بلاد الشام، تحتوي على الآثار الأكثر دلالةً على التَّحضُّر. وقد انتقل الإنسان العاقل من حالة المفترِس إلى حالة المُنتِج، ورافق هذا التَّطوُّر انتقاءُ مُتغيِّرات سوف تؤثِّر في سلوكه. فقد طوَّر الإنسان العاقل بالتَّدريج، بعد بدايات التَّدجين واستهلاك الموادِّ الغذائيَّة الَّتي تمَّ الحصول عليها أو المُنتِجة في بالقرب من موطنه، سلوكاً مُحابياً للمجتمع. وتمَّ تحديد جينات كانت مُتغيِّراتها مُنتقاة وتشارك في تنظيم السُّلوك. فبعضها يُشارك في التَّحكُّم بالعدوانيَّة، مثل المُتغيِّر الَّذي يُنظِّم أنزيم الأوكسيداز maoa، الَّذي يُستخدم لتنظيم إنتاج الإشارات الكيميائيَّة في الدِّماغ؛ الَّتي تُطلق فرط النَّشاط، والاستجابة للضَّغط والعدوان. وثمَّة مُتغيِّر للجين maoa يرتبط بصعوبة التَّحكُّم في الاستجابة الفرديَّة في مواجهة وضع مُجهِد، ويُعزِّز سلوكاً عدوانيَّاً غير مُتكيِّف في بعض الأحيان. وإذا تمَّ انتقاء هذا المُتغيِّر على الأرجح بشكلٍ إيجابيٍّ لدى الإنسان العاقل الَّذي كان صيَّاداً - قاطفاً للثِّمار؛ فإنَّ التَّكيُّف بالمقابل مع الحياة الجماعيَّة في بداية العصر الحجريِّ الحديث أدَّى إلى انتقاء المُتغيِّرات الجينيَّة الأُخرى الَّتي تُشجِّع سلوك الإيثار.

الانفتاح على الآخرين: التَّعاطُف مع الغير

تنطوي القدرة على الدُّخول في علاقة مع الآخَر بسهولة قليلاً على التَّنظيم المعقَّد لدارة العواطف الدِّماغيَّة الَّتي تستخدم رسولاً كيميائيَّاً هو الأوكسيتوسين. ويُقلِّل هذا الهرمون المنتَج في الدِّماغ من مستوى ردِّ الفعل على الإجهاد، ولا سيَّما في مواجهة لقاء شخص غريب، ويُعزِّز بالتَّالي الدُّخول في علاقة مع الآخَر، والثِّقة فيه، والتَّعاطف معه. فالمتغيِّرات الجينيَّة للجين oxtr الَّذي يتحكَّم في مستقبل هذا الهرمون تُسبِّب قدرة تلقائيَّة أو واضحة قليلاً على التَّعاطف والثِّقة في الآخَرين. وقد تمَّ انتقاء مُتغيِّر يُعزِّز تأثير الأوكسيتوسين في الدِّماغ لدى الإنسان العاقل على الأرجح بعد التَّجمُّعات البشريَّة الأولى في المساكن الحضريَّة، ويُطوِّر بالتَّالي مهارات الحياة المجتمعيَّة، ويحدُّ من العدوانيَّة.

لقد تطوَّرت القدرات المعرفيَّة للإنسان العاقل بشكل واضح، نتيجة تعديلٍ تشريحيٍّ رئيس: الزِّيادة الكبيرة في حجم الدِّماغ. وهذا مرتبط، كما سنرى لاحقاً، بتأثير العديد من الجينات الَّتي لم تُشكِّل فقط عدد العصبونات والوصلات، وإنَّما أيضاً قدرات التَّواصل العصبونيِّ وسرعتها، وكذا تطوُّر الفكر.

يمكننا أن نُقدِّمَ هنا مثال دور الجين glud2، الَّذي حدثَت فيه طفرة ويوجد منه نسختان منذ العصر الحجريِّ القديم. ويتحكَّم هذا الجين في إعادة تدوير الرَّسول الكيميائيِّ الَّذي يُثير العصبونات: الغلوتامات. فتضاعُفُ duplication الجين glud2 زاد من سرعة اتِّصال العصبونات وسهَّل القدرات التَّنفيذيَّة لدى الإنسان العاقل وتفاعله مع البيئة. وكلَّما تبنَّى الإنسان العاقل الحياةَ الجماعيَّة الَّتي يُحفِّزها التَّعلُّم المتعدِّد؛ تحسَّنَ التَّفاعل بين الأفراد وقدرات التَّواصل. ومن القدرات المكتسبة بشكلٍ تدريجيٍّ والقابلة أكثر للملاحظة؛ نذكر التَّعقيل mentalisation، الَّذي يُتيح للفرد تمثُّل نواياه ومواقف الآخَرين عقليَّاً، وكذا القدرة على التَّقليد، الَّتي سهَّلَتها قدرة ممتازة على التَّعرُّف على الوجوه، وهي قدرة يتميَّز بها الإنسان العاقل. وأخيراً، نتجت قدرات أُخرى عن هذا الضَّغط الانتقائيِّ الاستثنائيِّ للجينات وللبيئة؛ الَّذي أتاح ظهور الخلايا العصبونيَّة المرآتيَّة، الَّتي تُمكِّن من تخمين عقليَّة فرد آخَر أو نيَّته أو رغبته، واستباق سلوكه - يتكلَّم الفلاسفة على 'نظريَّة العقل'[3].

التَّحضُّر يُشكِّل ازدهار الإنسان العاقل

لقد قدَّم جان-بيير بوكيه-أبل jean-pierre bocquet-appel، عالمُ الأنثروبولوجيا في المدرسة التَّطبيقيَّة للدِّراسات العليا في باريس، البرهانَ على توسُّع سُكَّانيٍّ مُفاجئ للإنسان العاقل. فعندما درس نسبة الهياكل العظميَّة للأطفال في 133 مقبرة مُنتشرة عبر نصف الكرة الشَّماليِّ، لاحظَ نسبة 30% في بداية العصر الحجريِّ الحديث، الَّتي انخفضت إلى أقلَّ من 20% في نهاية العصر الحجريِّ القديم. ويُتيح ذلك تقدير قفزة ديموغرافيَّة للإنسان العاقل، إذ زاد عدد السُّكَّان من حوالي 1 مليون منذ 50 ألف سنة إلى أكثر من 6 ملايين في بداية العصر الحجريِّ الحديث. فمع التَّحضُّر، أتاح تنويع الغذاء المصاحِب لبدايات الزِّراعة والتَّكاثر زيادة الخصوبة إلى أكثر من 8 أطفال لكلِّ امرأة. وقد تعزَّز هذا النُّموُّ الدِّيموغرافيُّ بفضل التَّحضُّر، ثمَّ تباطأ لاحقاً فعوَّضته تدريجيَّاً زيادةُ مُعدَّل وفيَّات الرُّضَّع بسبب انتقال الأمراض المُعدِية وسوء النَّظافة في هذه القرى القديمة.

[1] -helen pearson, "genetics: what is a gene?", nature, 2006, 441 [7092], p. 398-401

[2]- (يقول القانون الأوَّل (قانون انعزال الصِّفات) في تهجين الأشخاص: كلُّ صفة وراثيَّة تُمثَّل بزوج من الجينات ينعزلان عن بعضهما عند تكوين الأمشاج، ويحتوي كلُّ مشيج على جين واحد فقط من هذا الزَّوج. ويقول قانون مندل الثَّاني: إذا تزوَّج فردان يختلفان في أكثر من زوج من الصِّفات المتضادَّة؛ فإنَّ كلَّ زوج من الجينات الخاصَّة بهذه الصِّفات يتوزَّع توزيعاً حرَّاً أو مُستقلَّاً عند تكوين الامشاج. المترجِم).

[3]- انظر برنار سابلونيير، مناطق الدِّماغ الجديدة، الرِّياض، دار جامعة الملك سعود، 2020.