التَّنوُّع البشريُّ المذهِل


فئة :  ترجمات

التَّنوُّع البشريُّ المذهِل

التَّنوُّع البشريُّ المذهِل[1]

برنار سابلونيير

ترجمة: محمد أحمد طجو

ما مصدر اختلافاتنا الَّتي تدلُّ على التَّنوُّع البشريِّ؟ مصدرها الحمض النَّوويُّ الرِّيبيُّ منقوصُ الأكسجين dan بالطَّبع، وهو مخزون هائل للحظوظ -أو للمصائب؟- الجينيَّة. والمسؤول الطَّفرات الَّتي تُسمَّى اختلافات أو مُتغيِّرات، وهي تغيُّرات طفيفة في رسالة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين الَّتي نعرف منها الآن قائمة بعشرات الملايين. لنبدأ في اكتشاف بعض هذه الاختلافات، لاستكشاف آثارها ومحاولة العثور على أصلها، في عصور ما قبل التَّاريخ البعيد. هل تجدُ البيولوجيا مُمِلَّةً؟ تمتَّعْ إذن بالمفاجآت. سوف تجد، وأنت تُقلِّب صفحات هذا الكتاب، توضيحات مذهلة لهذه الاختلافات والخصائص الَّتي تُميِّز بعضنا عن البعض الآخَر، في حين أنَّنا مع ذلك، نساءً ورجالاً، ننتمي إلى النَّوع نفسِه، الإنسان العاقل homo sapiens، الَّذي يُعَدُّ نتيجةً لتطوُّر مُشترَك منذ 300 ألف سنة.

*******

«إنَّ لَفِي التَّنوُّع متعة كبيرة: نحن جيِّدون كما نحن. أعطِ العقلَ نفسه للبشر،

فتُزيل كلَّ حِدَّة المجتمع. لقد ولد الضَّجَر يوماً من الرَّتابَة».

أنطوان هودار دو لا موت antoine houdar de la motte، الأصدقاء المُتَّفِقون جدَّاً

[1] - مقتطف من كتاب الحمض النووي الريبي، تأليف برنار سابلونيير، ترجمة محمد أحمد طجو، صدر عن دار مؤمنون للنشر والتوزيع، بيروت.

ما مصدر اختلافاتنا الَّتي تدلُّ على التَّنوُّع البشريِّ؟ مصدرها الحمض النَّوويُّ الرِّيبيُّ منقوصُ الأكسجين dan بالطَّبع، وهو مخزون هائل للحظوظ -أو للمصائب؟- الجينيَّة. والمسؤول الطَّفرات الَّتي تُسمَّى اختلافات أو مُتغيِّرات، وهي تغيُّرات طفيفة في رسالة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين الَّتي نعرف منها الآن قائمة بعشرات الملايين. لنبدأ في اكتشاف بعض هذه الاختلافات، لاستكشاف آثارها ومحاولة العثور على أصلها، في عصور ما قبل التَّاريخ البعيد. هل تجدُ البيولوجيا مُمِلَّةً؟ تمتَّعْ إذن بالمفاجآت. سوف تجد، وأنت تُقلِّب صفحات هذا الكتاب، توضيحات مذهلة لهذه الاختلافات والخصائص الَّتي تُميِّز بعضنا عن البعض الآخَر، في حين أنَّنا مع ذلك، نساءً ورجالاً، ننتمي إلى النَّوع نفسِه، الإنسان العاقل homo sapiens، الَّذي يُعَدُّ نتيجةً لتطوُّر مُشترَك منذ 300 ألف سنة.

*******

«إنَّ لَفِي التَّنوُّع متعة كبيرة: نحن جيِّدون كما نحن. أعطِ العقلَ نفسه للبشر،

فتُزيل كلَّ حِدَّة المجتمع. لقد ولد الضَّجَر يوماً من الرَّتابَة».

أنطوان هودار دو لا موت antoine houdar de la motte، الأصدقاء المُتَّفِقون جدَّاً

تعدُّد السِّمات الجسديَّة؛ أي: علامات التَّعرُّف المُميَّزة، نتيجة التَّكيُّف الطَّويل للنَّوع البشريِّ مع البيئة. فبعد انفصال أسلاف البشر عن القِرَدة العليا منذ 6 ملايين سنة؛ ظهرت العديد من الأنواع البشريَّة، وتمكَّنَت من التَّعايش طوال عصورِ ما قبل التَّاريخ. يمكننا أن نذكر الإنسان المنتَصِب قبل 2 مليون سنة، وإنسان دينيسوفان dénisovien قبل 450 ألف سنة، وإنسان نياندرتال neandrtal قبل 400 ألف سنة، ثمَّ الإنسان العاقل قبل 300 ألف سنة (انظر الرَّسم البيانيَّ، ص 18). فعندما عدَّلت المجموعات البشريَّة مكانَ سكنها؛ واجهت ظروفاً بيئيَّة مُتنوِّعة، وتكيَّفت معها. وقد أدَّى ضغط الانتقاء إلى انتقالِ آلاف الاختلافات الجينيَّة الَّتي أثَّرَت في عدد كبير من ملامح شكلنا وقدراتنا واستعداداتنا ونَوَّعَتْها. فإذا كان لكلِّ إنسان رأس، وجذع، وأطراف، وأعضاء؛ فإنَّنا نتميَّز بعدد لا يُحصى من التَّفاصيل المُتنوِّعة الَّتي أشرنا إليها في المقدِّمة، والَّتي يُميِّزنا بعضها في بيئة معيَّنة. وعلى الرَّغم من كبرياء النَّوع البشريِّ الَّذي يعتقد أنَّنا مُتفوِّقون؛ فإنَّ تنوُّع هذه التَّفاصيل يعتمد على التَّأثير العشوائيِّ للظُّهور المفاجئ للاختلافات الجينيَّة وانتقائها تحت تأثير البيئة. فأثناء الانقسام الخلويِّ، يمكن أن تحدث أخطاء أو طفرات في الرِّسالة الوراثيَّة؛ فهي مُحايدة أو غير مُواتية في معظم الأحيان، وتبدو الإيجابيَّة منها مُفيدة، فتمنح الفردَ فرصاً أكثر للبقاء، وللإنجاب ولنقل الطَّفرة الَّتي تمَّ انتقاؤها إلى أحفاده. وبمرور الوقت؛ تنتشر الطَّفرة المفيدة بين السُّكَّان، وتصبح مُتكرِّرة بما يكفي ليُطلَق عليها اسم الاختلاف. وهكذا؛ إن أفراد مجموعة مُعيَّنة لم يتكيَّفوا خلال حياتهم: لقد ولدوا مُتكيِّفين أو غير مُتكيِّفين مع بيئتهم اعتماداً على ما إذا كانوا قد تلقَّوا عند الولادة أم لا الاختلافَ الجينيَّ المُفيد. وإنَّنا نتكلَّم على ضغط الانتقاء للإشارة إلى الدَّور الَّذي تلعبه البيئة: الاختلاف مُفيد أو غير مُفيد في بيئة مُعيَّنة. فميزات الفرد المرئيَّة الَّتي تُسمَّى «الملامح» تدلُّ على خصائص شكلِنا، ومظهرنا الجسديِّ، أطلق عليها العلماءُ اسمَ «النَّمط الظَّاهريِّ» phenotype، وأصلها اليونانيُّ phainein، يظهر montre، ونمط typos. فتنوُّعُ الأنماط الظَّاهريَّة البشريَّة يمتدُّ خارج الجسد، ويتعلَّق أيضاً بطبعنا، وقدراتنا العقليَّة أو قابليَّتنا للأمراض. فهذا التَّنوُّع إذن نتيجة فترة تطوُّريَّة لنوعنا على مدى أكثر من 10 آلاف جيل، ناجمة عن عمليَّات التَّكيُّف والانتقاء، استجابة للظُّروف البيئيَّة المادِّيَّة، وللتَّغيُّرات الثَّقافيَّة أيضاً. وأصبح بالإمكان، منذ أن بدأنا نفهم هذا التَّكيُّف التَّطوريَّ، رؤية أنَّ ما تعنيه كلمة «عِرق» غير موجود. في الواقع؛ لا توجد معايير تُتيح تصنيف جميع الأفراد في مجموعات أو أعراق مُتجانِسة، طالما أنَّ التَّنوُّع بين الأفراد كبير. وإنَّنا ننتمي جميعاً للنَّوع نفسه، وإنَّ اختلافات تراثنا الوراثيِّ هي الَّتي تمنحنا خصائصنا، وصفاتنا، وعيوبَنا الصَّغيرة، وتبني شخصيَّتنا. ولم يقم تشارلز داروين charles darwin بدراسة علميَّة نوعيَّة عن التَّنوُّع البشريِّ، لكنَّ الإنسان مثل أيِّ نوعٍ آخَر يستجيب لنظريَّة الانتقاء الطَّبيعيِّ.

تشارلز داروين يرصد التَّنوُّع

لم يكن داروين عالمَ مُستحاثَّات، لكنَّه كان يهتمُّ بآليَّات تنوُّع الأنواع الحيوانيَّة. ولاحظ أنَّ أفراداً من النَّوع نفسِه يُظهرون أعداداً كبيرة من الاختلافات الصَّغيرة المرئيَّة ولكن الدَّقيقة جدَّاً، في بعض الأحيان، في المظهر والتَّشريح. يمكن أن تنتقل هذه الاختلافات من جيل إلى آخَر، وأن تكون بالتَّالي وراثيَّة. ويمكن تصنيف هذه الاختلافات القابلة للانتقال في ثلاث فئات: الاختلافات الضَّارَّة، والاختلافات المُفيدة، والاختلافات المُحايدة في البيئة الَّتي تظهر فيها. ووفقاً لداروين؛ سوف يُسهِّل الانتقاء الطَّبيعيُّ حفظَ الأفراد الأكثر ملاءمةً لهذه البيئة وبقاءهم. وهذا درس ثمين في عِلم الوراثة قدَّمه لنا داروين قبل وقت طويل من اكتشاف الجينات؛ لأنَّنا نعلم الآن أنَّ الآلاف من هذه الاختلافات مُسجَّلة في جيناتنا في شكل تغيُّرات دقيقة من الرِّسالة الوراثيَّة، تُسمَّى المتغيِّرات.

اكتشفَ الباحثون في عام 2004، منذ توضيح الجينوم البشريِّ بأكمله، عدَّة ملايين من المُتغيِّرات. وأصبح تأثير العديد منها واضحاً الآن. فهذه المتغيِّرات غالباً ما تتوافق مع تغيُّر حرف واحد من الرِّسالة الوراثيَّة، وتُعدِّل معنى كلمة من الرِّسالة الَّتي يمكن مقارنتها بجين. لنأخذ مثالاً؛ كلمة rose «وردة/ ورديُّ اللَّون»: عندما نُغيِّر حرف العلَّة نحصل على كلمة ruse «حيلة، خديعة»، الَّتي لها معنى مختلف. فما هي هذه الحروف في رسالتنا الجينيَّة؟ يحتوي الحمض النَّوويُّ الرِّيبيُّ منقوص الأكسجين على رسالة جينيَّة مُكوَّنة من وحدات كيميائيَّة مرتبطة ببعضها البعض، وتُسمَّى القواعد. فهناك 4 تسميات مختلفة تُسمَّى اختصاراً a (أدنين) وc (سيتوسين) وg (غوانين) وt (ثايمين). ويحتوي الجينوم البشريُّ على تسلسل حوالي 3 مليارات زوج من هذه القواعد أو «الحروف». ففي كلِّ موقع مُحدَّد من هذا النَّصِّ الضَّخم المكوَّن من 3 مليارات حرف؛ نقرأ واحداً من الأحرف الأربعة الممكنة: هكذا تكون "رسالة" كلِّ فرد فريدةً من نوعها. وما يُسمَّى الجين يتكوَّن من ارتباط بضعة آلاف من الحروف، في مكان مُحدَّد من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين: غالباً ما يُقارن بنصِّ تملُّك الخليَّة وسيلةً لفكِّ شفرته أو ببرنامج يمكنها تنفيذه.

إنَّ تأثير مُتغيِّرٍ جينيٍّ في ميزة أو سِمة مرئيَّة أو قابلة للقياس مُقسَّم بالتَّساوي مع تأثير البيئة. وهكذا؛ جمعَت تينكا بولدرمان tinca polderman، عالمة الوراثة في جامعة أمستردام الحرَّة، نتائج أكثر من ألفَي دراسة تقوم على قابليَّة توريث[1] أكثر من 17 ألف سِمة بشريَّة. ويُساهم عِلم الوراثة في جميع هذه السِّمات، بنسبة 49% من تعبيرها. ويمكننا تصنيفها في 3 فئات: الخصائص الخارجيَّة المرئيَّة (القامة، والخَصْر، ولون البشرة...)، والتَّكيُّف مع البيئة (القدرة على مقاومة الحرارة أو البرودة، والمرتفعات؛ التَّكيُّف مع النِّظام الغذائيِّ)، أو القابليَّة للأمراض المختلفة أو لمقاومتها. ومن الميزات الأكثر وضوحاً في نمطنا الظَّاهريِّ؛ نجد ما يتعلَّق بلون الجِلد والشَّعر والعينين، والخصر، القامة القصيرة أو القوام الفارع... إلخ. وفيما وراء ذلك؛ سنهتمُّ بالتَّفاصيل المُتعدِّدة لوجهنا، وتناظره، ومكان الشَّعر وكثافته في الجسم أو في الرَّأس أو شكل الأنف والأذنين. ويذهب تنوُّع الأغطية أبعد من ذلك: شكل الشَّعر، وثخانته، ومظهره، والظُّهور المبكِّر قليلاً للشَّعر الأبيض، وشعر السَّاقين... هذا صحيح؛ فقد تمَّ تحديد العديد من الجينات المسؤولة عن هذه التَّفاصيل في شكلنا، وسيتمُّ شرح آليَّة تأثيرها في الفصول المقبِلة -عندما تكون معروفة. ففضول الباحث فيما يتعلَّق بهذه التَّفاصيل الدَّقيقة لا حدود له. فالعديد من الأعمال المنشورة حديثاً تُشير إلى تحليل الانتقال الوراثيِّ لخصائص المظهر هذه أو القابليَّات لدى المواطنين. ويُمكننا أن نذكر هنا حالة الشَّعر الَّذي يستحيل تمشيطه، وشحمة الأذن المتَّصلة أو المنفصلة، ولون العيون، ووجود خصلة بيضاء على الجبين، وحجم الثَّدي، أو أيضاً مَيْلَنَا إلى أن نكون نشيطين في الصَّباح أو في المساء.

لفُّ اللِّسان: وراثيٌّ أم لا؟

يقوم هذا التَّمرين الَّذي يكون في بعض الأحيان موضوع خصومات شرسة بين تلاميذ المدارس على تبديل شكل اللِّسان إلى شكل حرف u بالمحافظة على الشَّفتين مُستديرَتين. ويفعل ذلك 65% تقريباً من البشر بشكل طبيعيٍّ. ففي عام 1940؛ زعم عالِمُ الوراثة الأمريكيُّ ألفريد ستورتفانت alfred sturtevant أنَّ الأمر يتعلَّق باستعدادٍ وراثيٍّ، ينتقل بطريقة مهيمنة من الآباء لأطفالهم. فلماذا لا نبحث عن الجين المسؤول؟ وفي عام 1975 أظهر نيكولاس مارتن nicolas martin، عالِمُ الوراثة في جامعة أديليد adélaïde؛ أنَّ 53% من التَّوائم الحقيقيَّة والكاذبة وُهِبُوا القدرة على لفِّ اللِّسان، وهي نتيجة ليست في صالح تأثير الجين المسؤول. في الواقع؛ يُمكن اكتساب هذه المهارة بعد تعلُّم متكيِّف يُقدِّمه أحد الوالدين لأطفاله. وهي تعتمد على مرونة عضلات اللِّسان، ويمكن للجميع تدريبها بالصَّبر والتَّحفيز. وهذا صحيح، فليس كلُّ شيء مُسجَّل بالضَّرورة في جيناتنا.

الإنسان والشَّمبانزي: أبناء العمومة الوراثيَّة

يُمكن مقارنة جينوم الإنسان المعاصِر بجينوم الشَّمبانزي؛ أحدِ أبناء العمِّ القريبين من حيث التَّطوُّر. ومع ذلك، ليس لدينا حمضٌ نوويٌّ ريبيٌّ منقوص الأكسجين له جودة كافية لمقارنة كامل الحمض النَّوويِّ للإنسان العاقل مع الأنواع الأُخرى من أسلاف البشر الَّتي تعاقبت قبله. فعندما نُقارن الرَّسائل الجينيَّة لدى البشر والشَّمبانزي؛ نلاحظ حوالي 1% من الاختلافات، وهي نسبة تبدو ضئيلة، ولكنَّها يمكن أن تُفسِّرَ الكثير من التَّباعد بين هذين النَّوعين. فمن إجمالي حوالي 20 ألف جين؛ خضعَ ألفُ جين لانتقاءٍ إيجابيٍّ لدى الإنسان العاقل، اتَّضح أنَّ أقلَّ من مائة منها على الأرجح خضعَت لتعديل كافٍ لتُميِّزَنا عن الشَّمبانزي. ويتعلَّق العديد من هذه الجينات الَّتي تُميِّز مجموعة الاختلافات بنموِّ الدِّماغ وعمله، والقدرة على اللُّغة المُتقَنة والتَّواصل. وقد تطوَّرت بعض الجينات، وكشفت عن اختلافات مُتعلِّقة بتأثير البيئة: تفتيح البشرة أو تناقص الشَّعر، على سبيل المثال. وخضعت جينات أُخرى لاختلافات مفيدة، مثل الجين foxp2، أحد الفاعلين الأساسيِّين في تطوير اللُّغة. كما خضعت جينات أُخرى لانتقاءٍ سلبيٍّ مثل الجين myh16؛ الَّذي قلَّلَ من القدرة على المضغ لدى البشر، ولكنَّه أتاح تكبير حجم الجُمجمة عن طريق زيادة حجم الدِّماغ على حساب حجم العضلات الَّتي تُحرِّك الفكَّ.

غير ناضج لفترة أطول: نجاح الرَّجل العاقل

عُرِف الإنسان باستدامة المرحلة اليرقيَّة؛ الأمرُ الَّذي يعني أنَّه يحتاج إلى فترة نموٍّ طويلة للوصول إلى النُّضج، مقارنةً بالرَّئيسات. ويلاحظ ذلك على وجه الخصوص في الدِّماغ؛ الَّذي ينتهي نضجُه في عمر 25 سنة. وهكذا؛ تصل كثافة الاتِّصالات بين عصبونات القِشرة الأماميَّة المسؤولة عن القدرة على التَّجريد والتَّأمُّل حدَّها الأقصى بعد شهر من ولادة الشَّمبانزي، وفي عمر 5 سنوات فقط عند البشر. فالجين mef2a المنظَّم بشكل مُختلف لدى الإنسان والقرد؛ مسؤول عن عدم نضج أطول، وعن إمكانيَّة متزايدة لاكتساب وصلات عصبونيَّة أكثر عدداً. ويرى علماء الإحاثة أنَّ إنسان نياندرتال استفادَ من النُّضج المبكِّر للدِّماغ. ووفقاً لشيلينج ليو xiling liu، عالمِ الوراثة في جامعة شنغهاي؛ تمَّ انتقاء اختلاف للجين mef2a منذ حوالي 300 ألف سنة لدى الإنسان العاقل، ولم يحدث ذلك لدى إنسان نياندرتال.

الإنسان العاقل: جينات الغزو

ما الَّذي حدث للإنسان العاقل منذ ظهوره؟ هناك حدثان: تكيَّفَ الإنسان العاقل مع بيئته الأصليَّة، أفريقيا وزادَ عددُه، في حين أنَّ عدد إنسان نياندرتال الَّذي وصل إلى ذروتَه فبلغ 70 ألف شخص؛ قد انخفض تدريجيَّاً، ليموتَ منذ حوالي 30 ألف سنة. فالهجرات الَّتي يعود تاريخها إلى أكثر من 200 ألف سنة؛ أي: هجرات الإنسان العاقل الأولى خارج أفريقيا، قادَته إلى مناطق مختلفة من العالم، لا سيما أوربا. وزاد عددُ الإنسان العاقل بعد هذه الفترة، وقادته هجرات أُخرى إلى المناطق الباردة من الكرة الأرضيَّة، مثل سيبيريا ومنطقة القطب الشَّماليِّ.

الإنسان العاقل ضدَّ إنسان نياندرتال: معركة جينيَّة؟

تزاوج الإنسان العاقل مع إنسان نياندرتال على الأرجح لمدَّة 10 آلاف سنة تقريباً. لكنَّ إنسان نياندرتال اختفى في نهاية المطاف، لماذا؟ هذا السُّؤال يؤرق دائماً علماء الأنثروبولوجيا. ووفقاً لسيلفانا كونديمي silvana coindemi، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة إيكس-مرسيليا aix-marseille؛ يتعلَّق الأمر قبل كلِّ شيء بمعركة وراثيَّة، فقد كان الإنسان العاقل عموماً أكثرَ خصوبةً، ولكنَّ تكاثُرَ الأزواج المكوَّنين من رجلٍ نياندرتاليٍّ وامرأةٍ عاقلة؛ كثيراً ما انتهى إلى الإجهاض، بينما كانت ذرِّيَّة المرأة النياندرتاليَّة والرَّجل العاقل أكثرَ إخصاباً. ويُشير باحثون آخَرون إلى عدائيَّة أكثر وضوحاً لدى الإنسان العاقل. تدريجيَّاً؛ زاد عدد الإنسان العاقل، ووجدَ إنسانُ نياندرتال نفسَه خاضعاً، لكنَّ حدوث اختلاط في الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين أتاح للإنسان العاقل حفظَ المتغيِّرات الجينيَّة الآتية من جينوم إنسان نياندرتال ونقلها.

تُمثِّل الزِّيادة السُّكَّانيَّة المتنامية للإنسان العاقل بالنِّسبة لعلماء الوراثة؛ أحدَ الأسباب الرَّئيسة لظهور عدد كبير من المتغيِّرات الجينيَّة وانتقائها واختلاطها. وقد ازداد النُّموُّ السُّكَّانيُّ خاصَّةً في بداية العهدِ الهولوسينيِّ[2]؛ أي: قبلَ 10 آلاف عام. فبداية التَّدجين والاستخدام التَّدريجيُّ لاستهلاك الحبوب خَلَقَا نويَّات للتَّوسُّع السُّكَّانيِّ في العديد من مناطق العالم، لا سيَّما في مصر، والشَّرق الأدنى والصِّين. وقد تتابعت خلال 6 آلاف سنة انطلاقاً من هذه النُّويَّات عدَّة هجرات إلى غرب أفريقيا والشَّمال وأوروبا وجنوب شرق آسيا وأستراليا. ويمكن بالتَّالي تقدير عدد السُّكَّان قبل 4 آلاف سنة بحوالي 4 ملايين نسمة في أفريقيا، و20 مليوناً في أوراسيا.

مُخطَّط تفرُّع الجنس البشريِّ

يُبرِز هذا الغزو لمختلف مناطق العالم آليَّات الانتقاء الطَّبيعيِّ المرتبطة أوَّلاً بالظُّروف البيئيَّة المناخيَّة. فزيادة الكثافة السُّكَّانيَّة وتنوُّع المناطق الجديدة -حيث ينبغي على الإنسان العاقل التَّكيُّف- أدَّيَا إلى تسريع الانتقاء الإيجابيِّ للعديد من المُتغيِّرات الجينيَّة. وقد درسَ روبرت مويزيس robert moyzis، عالمُ الجينوم في جامعة كاليفورنيا في ايرفين irvine، تواترَ الاختلافات الجينيَّة الَّتي حدثت في الإنسان العاقل بالتَّتابع منذ هجراته من العصر الحجريِّ القديم الأوسط حتَّى العصر الحجريِّ الحديث؛ أي: ما بين 100 ألف و8 آلاف سنة قبل عصرنا. فقد كان عدد السُّكَّان من الإنسان العاقل منذ 100 ألف سنة ضئيلاً؛ لذلك، يعتبر انتقال المتغيِّرات الجينيَّة المنتقاة ظاهرةً نادرة. وقد ظهر في تلك الفترة على الأرجح ما بين مُتغيِّر واحد وخمسة مُتغيِّرات جديدة كلَّ عشرة أجيال. وبدءاً من العصر الحجريِّ القديم الأعلى؛ أي: منذ حوالي 40 ألف سنة، وحتَّى العصر الحجريِّ الحديث، كان عدد السُّكَّان من الإنسان العاقل يزداد ويتوزَّع، من خلال غزو مناطق جديدة في آسيا وأوروبا أو أمريكا. وخلال هذه الفترة؛ كان تكرار ظهور المتغيِّرات الجديدة الَّتي انتقاها تكيُّف الإنسان مع بيئته يزداد بشكلٍ ملحوظ. ومن المحتمل أنَّ حوالي خمسين اختلافاً أساسيَّاً قد انتشرت في جماعات عِرقيَّة مختلفة ما بين 8 آلاف و3 آلاف سنة قبلَ عصرنا، وهي اختلافات سنقوم بعرضِها بالتَّفصيل في هذا الكتاب. وأمَّا في العصر الحجريِّ الحديث؛ فقد زاد تحضُّر الجماعات البشريَّة الَّتي طوَّرت الزِّراعة، ورَبَّت الحيوانات، ونظَّمَت نفسَها في مجموعات اجتماعيَّة أكثرَ استقراراً. وفي نهاية العصر الحجريِّ الحديث؛ أي: منذ حوالي 3 آلاف سنة، انخفض العدد التَّقديريُّ لظهور متغيِّرات جديدة إلى حوالي واحد كلَّ عشرة أجيال. وهذا لا يعني عدمَ وجود تكيُّف خلال ثَّلاثة آلاف سنةٍ مضَت. ووفقاً لجوناثان بريتشارد jonathan pritchard، من جامعة ستانفورد، يوضح التَّحليل الجينيُّ لمتغيِّرات أسلاف البريطانيِّين استمرارَ الانتقاء الجينيِّ المتعلِّق بالجينات المشارِكة في التَّصبُّغ، والمناعة والتَّكيُّف مع تغيير عادات الأكلِ لدى الإنسان العاقل. فَمِن إجماليِّ حوالي 400 مُتغيِّر تمَّ انتقاؤها تحت تأثير البيئة لأكثر من 100 ألف سنة؛ اتَّضح أنَّ عشرين متغيِّراً تقريباً كانت ضروريَّة للتَّكيُّف مع الظُّروف المعيشيَّة، وأنَّ متغيِّرات أُخرى أُضِيفَت خلال الاختلاط الجينيِّ. ويُمكننا هنا تقديم بعض الأمثلة لهذه المتغيِّرات الَّتي انتقاها الإنسان العاقل.

يُفسِّر تغيُّر الوضع البيئيِّ ثمَّ التَّحوُّلات الثَّقافيَّة (التَّدجين، والزِّراعة، والمسكَن الجماعيُّ) بشكل إجماليٍّ ظهورَ انتقاءٍ جديد للمتغيِّرات. وتُفسِّر الهجرات الأوراسيَّة الضَّغطَ الانتقائيَّ على الجينات الموجودة في لون البشرة، والقامة، والتَّكيُّف مع البرد ونمط التَّغذية أيضاً. ومن وجهة نظر ثقافيَّة؛ كان أقوى ضغطٍ انتقائيٍّ مُحدَّداً بالانتقال إلى الزِّراعة. وأخيراً؛ تمَّ، وفقاً لمناطق العالم، انتقاءُ جينات مقاوِمة للأمراض المُعدِية والوبائيَّة. فبعض الجينات مثل dock3 وeph1b وhesx1 مسؤولة عن القامة القصيرة للأقزام والصَّيَّادين-القطَّافين للثِّمار الَّذين يعيشون في الغابات شبه الاستوائيَّة والاستوائيَّة في أفريقيا وأمريكا. فهذه الجينات الثَّلاث تؤثِّر في ازدياد نموِّ الإنسان ومُدَّته. وتُعزِّز انخفاض سطح الجسم والتَّكيُّف بشكل أفضل مع الحرارة الرَّطبة. وتمَّ انتقاء جينٍ آخَر؛ أي: الجين fads، المسؤول عن قِصر القامة لدى شعب الإسكيمو inuits. فهذا الجين يُتيح للكَبِد التَّكيُّف مع نظام غذاء الإسكيمو الغنيِّ بالدُّهون غير المشبَعة لتحويلها إلى دهون مُشبَعة. ويؤثِّر هذا التَّعديل في النُّموِّ في الحدِّ من الطُّول ومن وزن الجسم. وردَّاً على القيود البيئيَّة دائماً؛ طوَّرَ سُكَّان إثيوبيا والتِّبِت وجبال الأنديز تكيُّفاً مع الارتفاع ونقص الأكسجين في الهواء. وقد تمَّ انتقاء مُتغيِّر للجين epas1 لدى سكَّان التِّبِت tibet الَّذين يعيشون على ارتفاع 2500 متر فوق مستوى سطح البحر. ويُنظِّم مُتغيِّر هذا الجين السَّائد لدى سُكَّان التِّبِت إنتاجَ خلايا الدَّمِ الحمراء، ويُنشِّط عمليَّة الاستقلاب الغذائيِّ لأعضاء الجسم؛ فيمنحها، من أجل الجهد البدنيِّ، تحمُّلاً يعادل تحمُّل السُّكَّان الَّذين يعيشون في مستوى سطح البحر. فوفقاً لهاي لو haiyi lou، عالم الوراثة في أكاديميَّة شنغهاي للعلوم؛ ظهرَ هذا المُتغيِّر حديثاً جدَّاً؛ أي: منذ حوالي 3 آلاف سنة، بعد انتقال المهاجرين الهان hans إلى التِّبت. ويُعَدُّ هذا المُتغيِّر المثالَ الأكثر حداثةً لانتقاءٍ جينيٍّ مُرتبط بالبيئة.

البَشَرة الفاتحة أو الدَّاكنة: تكيُّف مع الشَّمس

ترتبط لوينات البشرة المختلفة بتعبير عشرات الجينات الَّتي سوف ندرس تأثيرَها بشكل مُفصَّل في مجموعة الألوان لاحقاً. يتكيَّف لون البشرة مع شدَّة التَّعرُّض للأشعَّة فوق البنفسجيَّة. ويُنتِج الجلدُ تحت تأثير الشَّمس كمِّيَّة متزايدة من الصِّباغ الأسود؛ أي: الميلانين، والغرض منه حماية الخلايا من التَّأثير الضَّارِّ للأشعَّة فوق البنفسجيَّة. وتزيد المتغيِّرات الجينيَّة المشاركة أو تُقلِّل من إنتاج الميلانين؛ الأمر الَّذي يؤدِّي إلى بشرة داكنة بشكلٍ طبيعيٍّ في المناطق الاستوائيَّة، وإلى بشرة فاتحة في مناطق خطوط العرض العالية؛ الأمر الَّذي يُسهِّل اختراق الأشعَّة فوق البنفسجيَّة واصطناع الجلد لفيتامين د. وإذا كان منشأ هذه المتغيِّرات قديماً جدَّاً؛ فإنَّ تنوُّعَه تسارَعَ بقوَّة في العصر الحجريِّ الحديث، قبل حوالي 7 آلاف سنة.

مقاومة البرد

إنَّ تكيُّف الإنسان العاقل المُعرَّض لدرجات حرارة جليديَّة؛ هو الَّذي انتقى مُتغيِّرات لدى سُكَّان سيبيريا. ووفقاً لسارة تيشكوف sarah tishkoff، عالمة الوراثة في جامعة فيلادلفيا؛ تتعلَّق هذه المتغيِّرات الَّتي تمَّ انتقاؤها على إثر هجرات بشريَّة في شمال أوروبا وآسيا بالجينات cpt1a وlrp5 وthada وprkg1. ولا يعني اسمها شيئاً لغير المتخصِّصين، ولكنْ يمكننا أن نشرحَ، بالنِّسبة إلى كلٍّ منها، تأثيره في التَّكيُّف مع درجات الحرارة المنخفضة. فالجين cpt1a مُفيد للكبد لإنتاج الطَّاقَّة، إذ تمّ لدى السُّكَّان المُعرَّضين للبرد القطبيِّ والمُتكيِّفين مع نظامٍ غذائيٍّ مناسب غنيٍّ بالدُّهون وفقير بالسُّكَّريَّات، انتقاء متغيِّرات لهذا الجين الَّذي يُحفِّز إنتاج الطَّاقة انطلاقاً من الدُّهون، ويُقلِّل من مخاطر نقص سُكَّر الدَّم. ويشارك الجين lrp5 والجين adhd في زيادة الوزن وإنتاج الكَبِد للسُّكَّر، ويُحسِّنان بالتَّالي إنتاج طاقة الجسم. وأخيراً؛ يشارك الجين prkg1 في تكيُّف القلب مع توزيع حرارة الجسم أثناء درجات الحرارة الجليديَّة؛ إذ إنَّه يحدُّ مِن مخاطر تجمُّد القدمين واليدين بفضل تمدُّد الأوعية الدَّمويَّة بشكل أفضل.

ثمَّةَ تكيُّف آخَر مُرتبط بالانتقاء الجينيِّ: زيادة قدرة اللُّعاب البشريِّ على هضم النَّشاء بواسطة إنزيم الأميلاز[3] amylse، الَّذي يُحوِّل جزيئات النَّشاء إلى الجلوكوز؛ أي: الوقود الَّذي تحرقه خلايانا بسرعة. وتعتمد كمِّيَّة الأميلاز الَّتي تفرزها الغدد اللُّعابيَّة على نشاط الجين amy1. فمن أجل التَّكيُّف مع الاستهلاك المتزايد للنَّشاء، بعد أن أضاف الإنسان العاقل الحبوبَ لنظامه الغذائيِّ، حدث اختلاف جينيٌّ يقوم على زيادة عدد نسخ الجين amy1 خلال التَّطوُّر. فالشمبانزي لديه نسختان من الجين، والإنسان المعاصر لديه حوالي 6 نسخ. هذا العدد المُرتفِع من النُّسخ ربَّما تمَّ انتقاؤه بفعل ظهور الزِّراعة، منذ حوالي 7 آلاف سنة. ما ميزة مثل هذا الانتقاء الجينيِّ؟ استفادت بدايات استهلاك النَّشاء المطبوخ، الَّذي يتمُّ هضمه معويَّاً بشكل رئيس، من زيادة كمِّيَّة الأميلاز اللُّعابيَّة الَّتي تُنشِّط إفراز الجلوكوز في الفم والمعدة. وقد سهَّلَ ذلك الإنتاج الهضميَّ بعد الوجبات مباشرة، فزاد إنتاج الطَّاقة. وفضلاً عن ذلك؛ قلَّلَت هذه الميزة من الخطر المرتبِط بنقص التَّغذية السَّريع خلال العدوى الطُّفيليَّة المعويَّة المصحوبة بالإسهال.

هضمُ الحليب بشكل أفضل

إنَّه مثال رائع على الانتقاء الجينيِّ المرتبِط بتطوُّر ثقافة الإنسان - نتكلَّم على "التَّطوُّر المشترك" جين-ثقافة. في الواقع؛ لقد ساعد تطوُّر تدجين الماشية في العصر الحجريِّ الحديث قبل 10 آلاف سنة على انتقاء مُتغيِّر للجين lct، لدى التَّجمُّعات السُّكَّانيَّة الَّتي كانت تمارس تربية الماشية وتستهلك حليب الحيوانات المُجترَّة (الأبقار، والماعز، والأغنام، والإبل). ويتحكَّم الجين lct في إنتاج اللَّاكتاز، وهو إنزيم معويٌّ مفيد لهضم اللَّاكتوز في الحليب. ويكون هذا الجين عادةً نشطاً في البشر حتَّى الفطام، ثمَّ يتوقَّف عن العمل. وقد ظهر لدى الجماعات البشريَّة الَّتي تمارس تربية الحيوانات في مناطق مختلفة (أفريقيا، والشَّرق الأدنى، وأوروبا، وآسيا)، مُتغيِّر للجين lct جعلَه نَشِطاً دائماً لدى البالغ. فانتقاء هذا المتغيِّر كان ميزةً حقيقيَّة تُتيح لمجموعات الرَّعي التَّحرُّك مع قطيعهم بالاستفادة من مصدر للغذاء متاح دائماً، يتكوَّن من الحليب، الغنيِّ بالماء والبروتينات والدُّهون. وهكذا؛ ظهرت 5 مُتغيِّرات مختلفة تمنح هذا الثَّبات ما بين 6 آلاف و10 آلاف سنة قبل عصرنا في مناطق مختلفة من العالم، لدى السُّكَّان المناصِرين للاقتصاد الرَّعويِّ.

تُمثِّل الأمراض المُعدِية أو الطُّفيليَّة مُنشِّطاً قويَّاً للانتقاء الجينيِّ. فالاختلافات الجينيَّة عند بعض أفراد المجتمع الَّذين يعيشون في البيئة نفسها؛ تُتيح ظهور مقاومة للأمراض الَّتي تُهلِك بشكل منتظَم نسبةً منهم. ويشهد على ذلك مثال مقاومة الملاريا، وهو مرضٌ طفيليٌّ شائع في أفريقيا وآسيا، الأمر الَّذي يزيد بشكل كبير من معدَّل وفيَّات الرُّضَّع قبل سنِّ الخامسة. وقد تطوَّرت الملاريا خلال النُّموِّ الدِّيموغرافيِّ للسُّكَّان، المُنظَّمين في مجموعات صغيرة والمشاركين في تربية المواشي وزراعة الحبوب في العصر الحجريِّ الحديث. وربَّما ظهرت في الوقت نفسه تقريباً طفرة للجين bbb، الَّذي يُنتِج الهيموغلوبِّين غير الطَّبيعيِّ المُسمَّى hbs. وهذا الأخير مسؤول عن الكُريَّة المِنجليَّة، وهو مرض تتراكم فيه خلايا الدَّم الحمراء المُشوَّهة مُسبِّبةً ألماً شديداً. ينطلق المرض في حالة تماثل الزِّيجوت؛ أي: في حالة وجود جينيَن مُتغيِّرَين متماثلين في كلِّ خليَّة ينتقلان عن طريق كلٍّ من الوالدين. وفي المقابل، في حالة اختلاف الزِّيجوت (أي: في حالة وجود جين مُتغيِّر واحد فقط وجين آخَر طبيعيٍّ)، لا تُعاني حاملات الطَّفرة hbs من فقر الدَّم المنجليِّ، لكنَّها أكثرُ مقاومةً لخطر الوفاة من العدوى بالملاريا بعشرة مرَّات. وهكذا؛ تمَّ انتقاء هذه الطَّفرة، وانتشرت بكثرة بين سكَّان المناطق الاستوائيَّة، حيث تنتشر الملاريا.

الاختلاط الجينيُّ: بشريَّة جمعيَّة

البشريَّة جمعيَّة بسبب الانفجار السُّكَّانيِّ الَّذي أعقب انطلاق الإنسان العاقل، إذ دفعه فضولُه إلى الهجرة، والسَّفر، واكتشاف آفاق جديدة، والتَّكيُّف مع العديد من الظُّروف المعيشيَّة المختلفة، والمقاومة، والنَّجاح. وتبادل الأفراد اختلافاتهم وخصائصهم، حتَّى في أدقِّ التَّفاصيل. وعزَّزت الكثافة السُّكَّانيَّة اختلاط الجينات، وانتقاء العديد من المتغيِّرات. فمنذ عام 2010؛ نجح الباحثون في الاستفادة من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين ودراسة تسلسله في حفريَّات أسلاف البشر، منها عدَّة حفريَّات لإنسان نياندرتال وحفريَّة لإنسان دينيسوفان dénisovien تعود إلى حوالي 50 ألف سنة مضت. فأحد أنواع الأسلاف البشريَّة المشتركة، الَّذي عاش قبل مليون سنة، تفرَّع إلى 3 أنواع جديدة كانت قادرة على التَّعايش وعلى تهجين جَينومِها: إنسان نياندرتال، وابن عمِّه الآسيويُّ دينيسوفان dénisovien، والإنسان العاقل؛ أي: نوعنا الحاليُّ. فقد أظهرت مقارنة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين لهذه الأنواع الثَّلاثة وجودَ تزاوج بين هذه الأنواع؛ أي: اختلاط الرَّسائل الوراثيَّة وتبادلها. فلم يستمرَّ لدى الإنسان المعاصر سوى حوالي 1 إلى 2 % من الحمض النَّوويِّ الموروث من إنسان نياندرتال، والموجود لدى أغلب الجماعات العِرقيَّة الحاليَّة في آسيا وأوربا. وبالمقابل؛ يكاد الحمض النَّوويُّ للدِّينيسوفان يكون غائباً لدى السُّكَّان الأوربيِّين والأفريقيِّين، ولكنَّنا نجده لدى السُّكَّان الميلانيزيِّين في الجزر الأوقيانوسيَّة، ولا سيَّما لدى سكَّان بابوا papous، حيث يُمثِّل ما يصل إلى 6% من الجينوم. وتُفسِّر النِّسبة المنخفضة من الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين المهجَّن من إنسان نياندرتال في جينومنا بانتقاءٍ جينيٍّ قويٍّ لدى الإنسان العاقل لعدد كبير من المتغيِّرات الجينيَّة الَّتي انتقلت عن طريق إنسان نياندرتال، والَّتي استُبعِدَت بالانتقاء السَّلبيِّ بسبب تأثيرها المحايد أو غير المواتي لتكيُّف الإنسان العاقل مع بيئته.

نزهة نيكولاي بيريستوف المُثمِرة

إنَّها قصَّة مدهشة يبحث فيها الصَّيَّاد نيكولاي بيريستوف nikolaï peristov عن أنياب الماموث العاجيَّة على ضفاف نهر إرتيش irtysh في غرب سيبيريا، في صيف عام 2008. وقد عثر الصَّيَّاد على عظم فخذ مُتحجِّر، اتَّضح أنَّه لإنسان عاقل عاش قبل 45 ألف سنة. وتمَّ، بفضل بصيرة عالِم البيولوجيا السُّويديِّ سفنتي بيبو svante p?abo، اكتشاف سلسلة الحمض النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوص الأكسجين لهذا الأحفوريِّ بالكامل في عام 2014، وبعض الأسرار حول التَّزاوج بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل، والجينات الموروثة من نياندرتال الَّتي انتقلت إلى الإنسان العاقل. ومن الحفريَّات الَّتي درسها الإنسان واحدة من تلك الَّتي تمَّ الحفاظ على حمضها النَّوويِّ بأفضل شكل، وفقاً لمجتمع علماء الأنثروبولوجيا.

لقد حلَّلَ مايكل دانمان michael dannemann، عالمُ الوراثة من معهد الأنثروبولوجيا في لايبزيغ، البصمة الوراثيَّة الموروثة من إنسان نياندرتال لدى أكثر من 110 آلاف شخص من خلال ربطها بالتَّحليل التَّفصيليِّ لأكثر من مائة سِمَة شكليَّة. ولاحظ، فيما يتعلَّق ب 11 سمة، وجودَ ارتباط كبير مع المتغيِّرات الجينيَّة القديمة المنقولة من إنسان نياندرتال إلى الإنسان العاقل، والمحفوظة في حمضنا النَّوويِّ. ويؤثِّر بعضها في القامة، والخَصْر، وشكل الجمجمة، وسماكة العِظام. والأمر المثير للفضول أنَّ غالبيَّة المتغيِّرات تؤثِّر في لون البشرة وسرعة التَّأثُّر بالشَّمس. فقد امتلكَ إنسان نياندرتال بالفعل متغيِّراً للشَّعر الأصهب والعديد من المتغيِّرات المرتبطة بالبشرة البيضاء أو الدَّاكنة قليلاً. تدلُّ هذه المتغيِّرات المُنتقاة على هجرات «خارج أفريقيا» كانت منتشرة بالفعل بين السُّكَّان البدائيِّين. ومع ذلك؛ أُضِيفَ إلى آثار هذه المتغيِّرات الموروثة من إنسان نياندرتال في لون البشرة؛ تأثيرُ المتغيِّرات الأُخرى الَّتي انتقاها الإنسان العاقل منذ حوالي 10 آلاف سنة. ومن هذه المتغيِّرات؛ لوحِظ لدى الإنسان العاقل أنَّ الجينين asb1 وexoc6 يشاركان في النَّمط الزَّمنيِّ؛ أي: في القدرة على تحديد أولويَّات النَّشاط البدنيِّ صباحاً أو مساءً إلى حدٍّ ما. وهكذا؛ نقل إنسان نياندرتال متغيِّراً للجين asb1 مرتبطاً بوضوح بتفضيل الأنشطة المسائيَّة. وتدلُّ هذه الاختلافات، مرَّةً أُخرى، على إرث السُّكَّان الَّذين هاجروا من خطوط العرض المختلفة، والذين تكيَّفوا بشكل مختلِف مع تناوب اللَّيل والنَّهار والتَّعرُّض للشَّمس. وأخيراً؛ لُوحِظَ متغيِّر للجين cdh6 المرتبط بشكل مُهمٍّ بنقص الحماس والمزاج الكئيب في الحمض النَّوويِّ القديم الَّذي نُقِلَ إلى الإنسان العاقل.

الاختلاط الجينيٌّ: مُوَاتٍ أم غيرُ مُوَاتٍ؟

سهَّلَت وراثة المتغيِّرات الجينيَّة من إنسان نياندرتال أو من أسلاف البشر القدماء الآخَرين تكيُّف الإنسان العاقل وقتَ حدوث هذا الانتقاء؛ أي: قبل 40 ألف سنة تقريباً. فمعظم المتغيِّرات الَّتي تمَّ انتقاؤها إيجابيَّاً تتعلَّق في الواقع بتأثير البيئة: أشعَّة الشَّمس ودرجات لون البشرة، ومناعة الأغشية المخاطيَّة، والاتِّصال بالبكتيريا والطُّفيليَّات، وربَّما أيضاً ندرة الغذاء، والتَّكيُّف مع تخزين الدُّهون. وإذا كانت بعض هذه المتغيِّرات في العصر الحجريِّ إيجابيَّة بالنِّسبة للإنسان العاقل؛ فإنَّ انتشارها وتفاعلها مع بيئة مختلفة يُساهمان اليوم في ظهور الأمراض الأرجيَّة الجديدة، والالتهابات، وزيادة الوزن كما سنرى لاحقاً.

خاتمة

ينطوي تُراثنا الجينيُّ على كثير من المتغيِّرات الَّتي تؤثِّر في نمطنا الظَّاهريِّ. فالمتغيِّرات الأكثر فعالية لبقاء النَّوع وتكيُّفه تمَّ انتقاؤها بشكلٍ إيجابيٍّ، ولم تختفِ. وتمَّ انتقاء متغيِّرات أُخرى منذ عهد أكثر قُرباً، وتمَّ تبادلها بشكلٍ عشوائيٍّ قليلاً؛ وفقاً للهجرات البشريَّة، والحفاظ عليها أيضاً عندما كان لها تأثير مُحايد أو غير ذي أهمِّيَّة، أو غير معروف أحياناً. ونكتشف الآن المتغيِّرات المسؤولة عن العديد من الخصائص الَّتي تجعل كلَّ واحد منَّا فريداً، والَّتي تنطوي على تفاصيل مُضحِكة أحياناً. ومع ذلك؛ ليس علم الوراثة الفاعل الوحيد في التَّنوُّع، الَّذي يرتبط أيضاً بالبيئة وتأثيرها في وظيفة الجينات.

[1] - قابليَّة التَّوريث héritabilité قياس نسبة تغيريَّة النَّمط الظَّاهريِّ الَّتي ترتبط لدى مجموعة سكَّانيَّة معيَّنة بالاختلافات الجينيَّة بين أفراد هذه المجموعة.

[2] - (هو أحد عهود الحقبة الرُّباعيَّة. المترجِم)

[3] - (الأميلاز هو أحد الإنزيمات الَّتي تعمل على هضم وتكسير المركَّبات الكربوهيدراتيَّة الكبيرة مثل النَّشاء، وتحويلها إلى جزيئات كربوهيدرات أصغر مثل المالتوز الَّذي يتكوَّن من جزيئين جلوكوز فقط، ويوجد نوعان من إنزيم الأميلاز هما: ألفا وبيتَّا، ويختلف هذان النَّوعان في الطَّريقة الَّتي يعملان بها لتكسير الرَّوابط الموجودة بين جزيئات النَّشاء، ويتمُّ إفراز إنزيم ألفا أميلاز بواسطة الغدد اللُّعابيَّة، بينما يُفرز إنزيم الأميلاز البنكرياسيُّ بواسطة البنكرياس في الأمعاء الدقيقة، والبنكرياس هو عضو يوجد خلف المعدة يُفرز عدداً من الإنزيمات المختلفة الَّتي تساعد على هضم وتكسير الطَّعام في الأمعاء، وعند حدوث تلف أو التهاب في البنكرياس؛ فقد يؤدِّي ذلك إلى تغير نسبة الأميلاز إمَّا بالزِّيادة أو بالنُّقصان، وبالتَّالي قد يساعد اختبار نسبة الأميلاز في الدَّم في تحديد ما إذا كان هناك خلل في البنكرياس، وعادةً ما يطلب الطَّبيب إجراء اختبار نسبة الأميلاز في الدَّم إذا اشتبه في إصابة المريض بالتهاب البنكرياس. لمعرفة المزيد، انظر: «أسباب ارتفاع إنزيم الأميليز»، الرَّابط: سطور كوم.https://sotor.com المترجِم)