ليس الدين... الاستبداد... منبع التطرف والعنف


فئة :  قراءات في كتب

ليس الدين... الاستبداد... منبع التطرف والعنف

كتاب كارين آرمسترونغ، حقول الدم. الدين وتاريخ العنف، صدر عام 2014، وصدرت ترجمته العربية عام 2016 من طرف أسامة غاوجي، عن دار النشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر. يقع في 654 صفحة.

هل الدين مصدر حقيقي للعنف والتطرف؟

هي الإشكالية الرئيسة التي سعت المؤلفة البريطانية والراهبة السابقة، إلى الإجابة عنها، مستعينة في ذلك بسلسلة طويلة وغنية ومتنوعة من المراجع باللغتين الإنجليزية والعربية، قادتها إلى رحلة فكرية تاريخية، تنطلق من الحضارات القديمة إلى غاية "الدولة الإسلامية في العراق وسوريا"، ومتسلحة بخبراتها التي راكمتها لأزيد من عشرين سنة من تدريس علم الأديان، وتأليف أزيد من 25 كتابا في علم وتاريخ الأديان.

تأتي أهمية هذا الكتاب، من خلال سعي المؤلفة إلى مساءلة مدى علمية فكرة شائعة عن أن الأديان مصدر للعنف والتطرف، وكذا مساءلة صورة الإسلام في الغرب المرتبطة بكليشيهات الإرهاب.

أولا: الأطروحة المركزية للكتاب

إن العنف لا يرتبط بالدين، ومن الخطأ القول إن الدين عدواني دائما؛ فالدين الإسلامي لا يختلف عن اليهودية والمسيحية والهندوسية والتقاليد الصينية، والأديان جميعها تدعو إلى السلم والمحبّة والعدل، لكن توظيفها هو المسؤول عن هذا الخلط بين العنف والدين.

إن الدين ليس عنيفا بطبيعته، فكل الأديان فسرت وأولت بتأويلات مختلفة ومتناقضة، إذ تحت نفس الدين تجد التأويل العنيف، كما تجد التطبيق السلمي. وفي كل المجتمعات قبل القرنين السابع عشر والثامن عشر، وظف الدين بشكل جعله متورط في عنف الحكومات والمجتمعات. مع الثورتين الأمريكية والفرنسية خلقت المجتمعات الغربية دينا جديدا متمثلا في القومية، حيث أصبح العنف مقرونا بالدين الجديد، وكذا الدين القديم مع إحيائه من خلال الإسلام السياسي والحركات الإرهابية، لذلك فالعنف مرتبط بالدولة أساسا وليس بالدين، ولا يعود إلى سبب واحد، وإنما إلى جملة من العوامل الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية.

ثانيا: المجتمعات الزراعية والعنف البنيوي... الدين عنصر أساسي للتسويغ

تؤكد الباحثة أن الحروب كانت جزءا أساسيا وجوهريا في الدول الزراعية، التي تأسست واستمرت بفضل قوة الجيوش والعدوانية. ولكون الأرض شكلت مصدر الثروة الرئيس، فإن احتلال أقاليم جديدة، والدفاع عن الأراضي الزراعية، مثل الطريقة الوحيدة للممالك لزيادة دخلها. وقد كانت الحروب في حاجة إلى عنصر مقدس الذي لم يكن سوى الدين، وبذلك شكلت القوة العسكرية والدين مقومين أساسيين للدولة.

ظهر العنف البنيوي بظهور فائض الإنتاج لدى فئات من المجتمع في المجتمعات التي تنتج أكثر من حاجتها، حيث تقوم مجموعة صغيرة بتوظيف فائض الإنتاج لزيادة ثرائها وقوتها مستخدمة احتكار العنف المؤسسي من أجل السيطرة على الآخرين. وعم هذا النوع من العنف جميع الحضارات الزراعية، سواء تعلق الأمر بإمبراطوريات الشرق الأوسط أو الصين، أو الهند، أو بإمبراطوريات أوروبا التي اعتمدت اقتصادياتها على الزراعة؛ أي في جميع المجتمعات ما قبل الحديثة.

يعد المجتمع السومري أول مجتمع ابتكر نظام العنف البنيوي، إذ إن الاضطهاد الذي مارسته الطبقة الأرستقراطية على باقي الطبقات كان يحتاج إلى غطاء إيديولوجي، أوجده السومريون في الأساطير التي اعتبرت أن الآلهة انسحبت من بلاد ما بين النهرين إلى السماء بعد الطوفان الكبير، وعينت الأرستقراطيين السومريين ليحكموا المدن نيابة عنها. وأن كل شخص داخل المدينة- الدولة من الأرستقراطيين إلى الخدم يقوم بعمل مقدس تجاه الآلهة. فالدين شكل جزءا من الترتيبات الاجتماعية والسياسية.

وما فعله السومريون انتشر في جميع الحضارات الزراعية في الشرق الأوسط، وفي جنوب وشرق آسيا، وفي شمال إفريقيا وأوروبا والهند وروسيا، وتركيا ومنغوليا، وبلاد الشام والصين واليونان وإسكندنافيا، حيث استغل الأرستقراطيون الفلاحين لزيادة ملكيتهم الخاصة وثروتهم.

وأصبحت الحروب هي النمط السائد في الإمبراطوريات الزراعية، باعتبارها ضرورة اقتصادية واجتماعية، من أجل احتلال مزيد من الأراضي وزيادة فائض الإنتاج. لذلك، شكلت الحرب أداة مركزية وإستراتيجية للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

إن الأساطير والطقوس الهندية مجدت الحروب والطمع الإنساني، وأيدت العنف البنيوي والمادي في المجتمع، فالآريون الذين هاجروا إلى شبه القارة الهندية اعتمدوا الأسطورة لتشجيع المحاربين من خلال انخراطهم في جملة من الطقوس ليتوحدوا بالإله، الذي يقود الآريين في طريق الحروب والمعارك، إذ إن السرقة المنظمة والعنف أمران لا يحتاجان إلى تبرير. لذلك، اعتبرت الحروب والغزوات العسكرية عملين مقدسين.

وقد كانت للحرب وظيفة دينية إضافة إلى وظائفها السياسية والاقتصادية، ذلك أن استقرار الآريين بعد غزوهم لمناطق زراعية وتأسيس ممالك في مناطق هندية، وبروز طبقات داخل المجتمع الهندو- آري، لكل طبقة واجبها المقدس الخاص، سيقود إلى بروز العنف البنيوي، حيث الكهنة والمحاربون يحصلون على فائض الإنتاج ويمارسون العنف على الرجال العاديين والعبيد؛ عنف يصل في القانون الآري إلى حد السماح بقتل العبيد وذويهم إذا اقتضى الأمر.

وهو ما عرفته بدرجات أقل "الجمهوريات القبلية" الذي ظهرت على سفوح جبال الهملايا.

غير أن هذا التمجيد المسوغ برموز وطقوس دينية، لم يمنع من ظهور فئات اجتماعية نبهت إلى خطورة هذا العنف، واختارت طرقا لمواجهته ومعارضته، والدعوة إلى اللاعنف. فانطلاقا من القرن السابع قبل الميلاد، سيعرف المجتمع الآري إصلاحا في شكل تأويل للتقاليد الآرية القديمة، حيث تم نزع الشرعية الدينية عن العنف، كما برز النساك الذين اختاروا حياة العزلة والهروب والتسول للخروج من النظام الذي يحكمهُ العنف البنيوي، وأصبحوا منذ القرن الخامس قبل الميلاد قادة التحول الروحي وتحدي لقيم الممالك الزراعية، ورفضوا طقوس القربان. واختار البوذيون المشاركة في الحياة العامة من أجل تخليص الناس من العذاب والآلام عبر اتباع "الطريق النبيل". إن هذه الحركات المناوئة للعنف، اعتمدت كذلك الأساطير لدفع الآخر للاقتناع بدعواتها.

وفي الصين القديمة، كان الدين متغلغلا في الحياة السياسية "لدولة الشانغ"، التي كان فيها الأرستقراطيون يعتبرون الفلاحين نوعا وضيعا لا يصل إلى الآدمية، ولا يحق لهم المشاركة في القتال، وقد كان فائض الإنتاج الزراعي للفلاحين يعود إلى الأرستقراطيين الذين كانوا يساندون الملك بتكريس أنفسهم لثلاثة أنشطة مقدسة، تتضمن كلها نوعا من القتل؛ تقديم القرابين، والحروب والصيد.

لقد كان الوقت الكبير من السنة يكرس للحملات العسكرية المحاطة بالكثير من الطقوس، المسخرة للحفاظ على النظام الكوني والسياسي، ولأخذ الضرائب من الفلاحين ومحاربة الغزاة واسترقاق العبيد.

غير أن دولة شانغ ستهزم من طرف مملكة أقل تطورا هي "تشو"، التي دافع ملوكها على الالتزام بالعدالة وعدم تطبيق عقوبات قاسية على الطبقات الدنيا. إلا أن هذا التغيير لم ينف العنف البنيوي للنظام في الدولة الصينية، وإنما قلل من درجته فحسب.

وبالرغم من انتشار العنف البنيوي في الدول الصينية، ظهرت دعوات ضد العنف المدمر، على رأسها تلك التي قادها كونفيشيوس الذي حدد معالم الثقافة الصينية حتى ثورة عام 1911، شكلت تحديا جذريا للعنف البنيوي للدولة الزراعية الصينية، باعتباره دافع عن المساواة لكون كل إنسان كامل الإنسانية، وأعاد تعريف النبالة، وشدد على الكثير من التعاليم السلوكية لخصها في قاعدة "لا تفرض على الآخرين ما يمكنك أن تختاره لنفسك".[1]

وستبرز مثل هذه المسارات المختلفة عن العنف البنيوي للدولة في الثورات، التي طرحت مقولة فلسفية وسياسية مضمونها "كيف يمكن لأمة صغيرة أن تحافظ على حريتها وسلامتها في عالم تحكمه القوى الإمبراطورية القاسية؟".[2]

وقد كان الطريق إلى ذلك، لدى الإسرائيليين مقاومة عنف الدولة الزراعية من خلال جعل الأرض مملوكة للعائلات الممتدة، وابتكار قوانين إلزامية لتوفير القروض بلا فوائد للإسرائيليين المحتاجين ودفع الأجور فوريا، وجعل العبودية محدودة ومقيدة، ووضع أحكام خاصة للأيتام والأرامل والأجانب الغرباء.

وإذا كان بنو إسرائيل الأوائل أداروا ظهرهم للدولة الزراعية، فإنهم عجزوا عن العيش من دونها، فقد كانوا محكومين بالبقاء في الهامش دوما، وكانوا معرضين للخطر من قبل الدولة القومية، لكن وجودهم مرهون بها ومعتمدا عليها. هذه هي المعضلة العبرانية على حد تعبير الباحثة.

لقد قامت الفلسفة التوراتية على أن بناء الدولة يحتاج إلى حاكم مثالي يصحح أخطاءه، كما يحتاج إلى دهاء ومكر، ولكن كذلك إلى العنف والعدوان. لذلك، فالملوك الإسرائيليون الأوائل قبل التوحيد والإيمان بإله واحد، الذي لم ينتشر حتى القرن السادس قبل الميلاد، اعتمدوا على ممارسة وثنية للكنعانيين، تجيز القتل والعنف على الشعوب الأخرى كنوع من "الحرم" لإله معين.

لكن واجهوا معضلة عويصة متمثلة في الانحراف الأخلاقي وغياب إكراه داخلي يحد من النزوع نحو العنف، وكان السبيل لحل هذه المعضلة هو إيجاد ملك.

على عكس معظم الأديان التقليدية، "فإن بني إسرائيل رفضوا العنف البنيوي للنظام بشكل قطعي، غير أنهم فشلوا في تأسيس بديل قابل للتطبيق... واكتشفوا، مرة تلو الأخرى، أنهم لا يستطيعون الاستمرار من دون دولة قوية".[3]

لذلك، فالممالك التي أسسوها نزع أغلبها نحو العنف لاسيما مع الآخرين، وجل الأنبياء الذين أتوا بعد النفي كانوا أكثر عدوانية، ويتطلعون إلى "يوم المعجزة" الذي سيحكم فيه "يهوه" جميع العالم ولا يرحم يومها من يقاومه. ومن ثم، فإن العيش في ظل ملكية مطلقة لمدة قرن كامل ساهمت في ولادة فكرة عبادة الإله المتفوق الواحد "يهوه".

وهو ما يبين أنه ليس الدين فقط ما يؤثر في السياسة، بل أيضا السياسة يمكن أن تشكل الدين.

ونفس الصيرورة ستحكم الإنجيل، حيث عكس القسوة والعدوان السياسي الذي كان يعيشه سكان فلسطين اليهود تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، وقدمت تعاليمه كبديل عن العنف البنيوي للحكم الإمبراطوري.

وقد شكل الدين والسياسة في رسالة عيسى أمران لا يمكن الفصل بينهما، واعتمد عيسى تعاليم تنبذ العنف، إيمانا منه أن أية مواجهة مع طبقة الحكم اليهودية أو الرومانية سيكون خطرا. لذلك دعا إلى العدالة والمساواة، واختار حياة الفقر والتجوال القاسية، ومن الواجب على أتباعه خلق بديل عن العنف البنيوي للحكم الإمبراطوري. كما اعتبر الاستشهاد لا يتمثل في قتل الآخرين، بل في الموت في سبيل مواجهة الاضطهاد الإمبراطوري، باعتباره وسيلة لمواجهة وحشية الدولة وفضح قسوتها. فموت المسيحيين كان بمثابة تحد للإمبراطورية، والاستشهاد كان خيارا سياسيا ودينيا في نفس الوقت.

غير أن تعاليم الإنجيل ستكون أمام تناقض صارخ بعد تأسيس الإمبراطورية البيزنطية، إذ ستصبح المسيحية دينا معترفا به في القانون الروماني، وسيكون من حق الكنيسة المساهمة في الحياة العامة، وامتلاك العقارات وبناء الكنائس. كما أن الإمبراطورية تنعم بالثروات الهائلة، والإمبراطور قسطنطين يعيش حياة الترف والفخامة الاستثنائية، بشكل يتناقض مع مبادئ "مملكة الله".

إن المسيحية من خلال اتصالها بإمبراطورية زراعية قائمة على الاضطهاد والعنف البنيوي، تناقض المبادئ التي طرحتها. فهذا الاتحاد بين الكنيسة والإمبراطورية الذي بدأ في عام 312، بين أن الحروب تحتاج دوما إلى صفة مقدسة، وهو ما سيتأكد في كل الحروب البيزنطية، وكل الغزوات التي استعملت فيها الكنيسة أو خاضتها هذه الأخيرة.

وأصبحت العلاقة بين الإمبراطورية والكنيسة أكثر تداخلا، بسبب الحروب بين الإمبراطورية البيزنطية والإمبريالية الفارسية، حيث أضحت المسيحية في خطر بعد حصار القسطنطينية، والكثير من الانتصارات سوغت بمسوغات مسيحية، باعتبارها مباركة من مريم أم المسيح، وعناية إلهية، ولم يطرح المسيحيون نقد لطبيعة الدولة ودورها وعنفها.

وسيتم اعتبار الحروب التي عرفتها أوروبا منذ القرن الثامن الميلادي حروبا مقدسة، بالرغم من أن أهدافها كانت دنيوية محضة واقتصادية، ونال بعض الملوك صفة القداسة إيمانا من الكنيسة بأن الإمبراطور القوي يحمي الكنيسة. لذلك، أصبح العنف البنيوي للدولة أمرا مقبولا ومحبذا، وأصبح التراتب الاجتماعي الظالم مدعوما من طرف الكهنة الأرستقراطيين.

كما أصبح القتال منذ القرن الحادي عشر مهمة مقدسة طالما كانت في خدمة حرية الكنيسة، حيث ظهرت الدعوة إلى الحروب الصليبية لمحاربة أعداء الكنيسة، وإنقاذ المسيحيين من اضطهاد المسلمين في الشرق.

وإذا كانت الأهداف المعلنة دينية، فإن الحملات الصليبية كانت في العمق مناورة سياسية ضرورية لضمان حرية الكنيسة وتعزيز مكانتها، حيث نزع البابا حق إعلان الملوك للدفاع العسكري عن الأراضي المسيحية. وقد اعتبرت السيطرة على القدس في عام 1099 نصر ومعجزة من الله.

كما أن محاكم التفتيش منذ القرن 14 أصبحت علامة بارزة على التعصب الديني، لكن عنفها نشأ لاعتبارات سياسية أكثر منها دينية، وتمثل تدخلا للسلطة في شؤون الرعايا الدينية.

بالنسبة إلى الإسلام، قبل مجيئه، لم يكن العرب في الجزيرة العربية يعرفون فصلا بين التجارة والعبادة، واتخذ النشاط التجاري بعدا روحيا. وقد كان للنمو التجاري آثاره على العائلات، حيث الغنية منها أصبحت تتمتع بثرواتها وتستولي على مواريث الأيتام والأرامل، كما كان الغزو مقوما أساسيا لاقتصاد الجزيرة العربية كوسيلة للحصول على الماشية والعبيد والطعام، ولم يكن ممارسة مستنكرة، بل اعتبر نوعا من الرياضة الوطنية.

وقد كان محمد واعيا بغياب العدالة، وبخطر الجاهلية وقيمها المتمثلة في التفاخر المفرط، والحمية للشرف والنزوع القبلي. لذلك جاءت رسالته من أجل إقامة أمة بديلة عن الطمع واللامساواة والظلم البنيوي للرأسمالية الملكية، وعلى أساس تحريم تكريس الثروة، ومساعدة المحتاجين وتحرير العبيد، والرحمة، والصبر.

إن الرفض الصريح للآلهة المحلية من طرف الدين الجديد، سيكون السبب الرئيس لمحاربة المسلمين واضطهادهم، إذ إن القبائل كانت تضع أصنامها حول الكعبة وتأتي في الحج لزيارتها، ومن ثم محاربتها يعني موت مكة اقتصاديا، فمحاربة محمد في البداية لم يكن بسبب ديني، بل بسبب اقتصادي، وهو ما سيؤدي إلى الهجرة ليثرب المدينة الزراعية الصغيرة التي ستعرف لاحقا بالمدينة المنورة، التي لم تكن مدينة موحدة، بل كانت تشمل قبيلتين عربيتين كبيرتين هما؛ الأوس والخزرج إلى جانب عشرين قبيلة يهودية، وكانت كل القبائل تتقاتل فيما بينها. وعندما انتقل محمد إلى المدينة المنورة صحبة قرابة 70 عائلة من المسلمين، شكل الأنصار والمهاجرون شعب دولة لم يكن أمامها خيار سوى الحرب، ذلك أن المهاجرين ولقلة خبرتهم الزراعية، ولغياب أراضي زراعية غير مشغلة أصبحوا يستهلكون موارد المجتمع، لاسيما أمام غياب فرص تجارية، وهم التجار المحترفون.

وسيكون الحل في الغزو كأسلوب مقبول عربيا، وسيقود المسلمون بقيادة محمد سلسلة من الغزوات على القوافل التجارية، وسيقومون بانتهاك قاعدتين عربيتين عبر قتلهم بالخطأ تاجرا مكيا، وقتالهم في أثناء أحد الأشهر الحرم، ثم قتل أزيد من 200 رجل من قبيلة بني قريضة.

هكذا اقترن الدين الجديد كذلك بالحروب التي كانت لها أهداف اقتصادية وسياسية منذ البداية. لكن هذا لا يعني أن القرآن دين للعنف، إذ إن الجهاد ليس هو الموضوع الرئيس في القرآن، وليس فيه تعاليم أحادية المعنى عن العنف العسكري، وهناك آيات مختلفة ومتعارضة عن الحرب والقتل فسرت تفسيرات مختلفة، أهمها تلك التي تربط الآيات بسياقها المرحلي.

وما هو مؤكد "أن الجماعات الأكثر ميلا إلى الحرب قد سادت وربما كان السبب هو أن المسلمين في القرن التاسع، بعد وفاة النبي بمدة طويلة كانوا قد أسسوا إمبراطورية لا يمكن الحفاظ عليها إلا بالقوة العسكرية، فأصبحت الآيات الحربية أقدر على مجاراة هذا الواقع، وأصبحت "آية السيف" هي النص الأكثر حضورا".[4]

إن الحروب التي قادها المسلمون بعد وفاة الرسول، وانطلاقا من عهد عمر لم تكن حروبا دينية، بل كانت اقتصادية وسياسية، وكان الهدف منها الحصول على الموارد من الأراضي الغنية المجاورة للجزيرة، والتي كانت تعمها الفوضى بعد الحروب البيزنطية الفارسية. هذه الموارد التي كانت القبائل في حاجة إليها في أوقات الفاقة والجوع، وسوغت بمسوغات دينية، باعتبارها جهادا في سبيل نشر الإسلام.

وقد حاول الفاتحون في البداية مقاومة الاضطهاد البنيوي، وحافظ أهل الذمة على دينهم وإدارة شؤونهم بأنفسهم، ودفع الجزية في مقابل الحماية العسكرية. واستطاع المسلمون بناء إمبراطورية شاسعة تمتد من جبال الهملايا إلى جبال البرانس. وهو ما أفرز طول المسافة بين مركز الإمبراطورية وأطرافها، سيؤدي إلى بروز خلافات داخل البيت الإسلامي، أدت إلى اغتيال عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب.

هذه الفتن ستطبع الحياة الإسلامية إلى الأبد، حيث سيبرز بشكل واضح الاضطهاد البنيوي للدولة مع الأمويين، الذين أسسوا الحكم الوراثي، وحموا امتيازات الأرستقراطية، والتوزيع غير المتساوي للثروة، حيث تم الإعلاء من الملكية المطلقة، واحتكار الخليفة للعنف البنيوي، وأصبح له الحق وحده لإعلان الحرب ودعوة المسلمين إلى الجهاد. إن العنف البنيوي الذي يدينه القرآن، أصبح مع الأمويين ملموسا.

ثالثا: المجتمعات الصناعية والعنف البنيوي... القومية دين جديد

في المجتمعات الزراعية ما قبل الحديثة كان هدف الحكومات هو فرض الضرائب على السكان وليس خدمتهم، وشكلت الحروب وسيلة للدفاع أو السيطرة على ما ينتجه الفلاحون، أو لتوسيع القاعدة الضريبية أساسا. هذه المجتمعات المحافظة لم تكن تشجع حرية الإبداع والتفكير والتعبير، لأن الحفاظ على الاستقرار كان أهم منه، ولم تكن الحكومات بشكل عام تتدخل في الاعتقادات الدينية والعادات الاجتماعية لرعاياها. غير أن ظهور الدولة الحديثة، التي برزت بعض معالمها في القرن الخامس عشر، واستغرق بناؤها قرابة أربعة قرون في أوروبا، سيجعل الدولة تتجاوز مسألة الاعتماد على فائض الإنتاج الزراعي، حيث ستعتمد على الابتكار الدائم، وعلى التدخل أكثر فأكثر في الحياة الخاصة.

بحلول القرن 16 نوع جديد من الحضارة بدأ ينبثق في أوروبا يعتمد على إعادة استثمار رأس المال بشكل مستمر، حرر أوروبا من القيود التي فرضها النظام الزراعي، وتوالت الابتكارات في مجالات مختلفة، أدت إلى جعل التقدم مسارا لا يمكن التراجع عنه، وأصبح مفروضا على الدين التكيف مع التطورات، أو أن يصبح منفصلا عما يجري.

إن تطور اقتصاد السوق انطلاقا من القرن 17 جعل البنى الزراعية القديمة تنهار، وظهرت مؤسسات خارج سلطة الكنيسة، وأصبحت الطبقات التجارية أكثر نفوذا. "ولكن هل سيكون العنف البنيوي والعسكري للدولة أقل مما كان عليه في الدولة الزراعية؟".

إن الإصلاح الديني الذي دعا إليه مارتن لوثر ودافع عنه في القرن السادس عشر لم ينف العنف البنيوي، وإنما ذهب إلى اعتبار العنف والسيف أساسيا للحياة الاجتماعية البشرية، لكن هذا العنف يجب أن يكون على الشؤون الدنيوية، وعلى الكنيسة أن تبقى بمنأى عن سياسة الدولة وتتفاعل مع الشؤون الروحية، وبذلك فهو قدم تأييدا خطيرا لسلطة الدولة المطلقة.

إن الدولة الحديثة المبكرة لم تكن أقل عنفا بنيويا من الدولة الزراعية، حيث اعتبر عنف الدولة أمرا أساسيا للحفاظ على النظام العام. لذلك، اعتبر إعدام الهراطقة عملا قانونيا، وكان في العمق سياسيا وليس دينيا، كما اعتبر سيطرة الدولة على الكنيسة أمرا مهما في هذا الإطار.

قبل 1700 لم يكن الدين منفصلا عن المجتمع والسياسة، حيث لم يتم هذا التمييز حتى إعلان الفصل الرسمي للكنيسة عن الدولة، والذي قام به رجال الدولة، وفلاسفة الحداثة أمثال جون لوك الذي اعتبر الخلط بين الدين والسياسة خطأ وجوديا مؤلما وخطيرا. كما آمن مؤسسو الولايات المتحدة بنفس الفكرة، والتي ساهمت في الاتحاد الفيدرالي، باعتبار التوحيد يحتاج إلى نوع من الحياد الديني.

لقد قامت الحملات الاستعمارية في أمريكا الشمالية على نظام جديد من الاضطهاد البنيوي، ميز الغرب الليبرالي العلماني على حساب السكان المحليين في المستعمرات. كما أن تورط الكنيسة في فرنسا جعل علمانيتها تقوم على الهجوم العنيف على الكنيسة، وهو ما أظهر أن الحكم العلماني يمكن أن يمارس عنفا على نفس درجة العنف الذي يمارس باسم الدين.

على الرغم من أن الثورة الفرنسية غيرت العالم السياسي في أوروبا، إلا أنها لم تؤثر في الاقتصاد الزراعي، لذلك لم يبرز المجتمع الصناعي الحديث إلا مع الثورة الصناعية في بريطانيا منذ نهاية القرن 18، ولم تتضح آثاره الاجتماعية إلا مع بداية القرن 19، حيث أصبح التعليم منتشرا، وتزايد عدد السكان المطالبين بالتمثيل السياسي في الحكومات، وأصبحت الحرية الفكرية أمرا أساسيا للاقتصاد، فاندفعت الدول الأوروبية في الحملات الاستعمار من أجل الاستحواذ على خيرات الدول المستعمرة.

هكذا سيبرز نوع جديد من العنف البنيوي، ذلك أن الجمع بين التكنولوجيا الصناعية والإمبراطورية خلف نوعا عالميا من العنف البنيوي، لا يعتمد الدين، بل يعتمد قيم السوق العلمانية.

أضف إلى ذلك أن الثورة الصناعية أدت إلى ميلاد الدولة القومية في أوروبا، إذ انطلاقا من القرن 19 تشكلت دول أوروبية واضحة الحدود ومحكومة من قبل حكومات مركزية مارست عنفا بنيويا على الأقليات، وأصبحت الأمة القومية تجسيد للمقدس وبمثابة القيمة العليا، وما الحرب العالمية الأولى إلا تعبير عن أن المشاعر القومية أصبحت الدين الجديد للعصر العلماني، حيث "يقاتل البشر في سبيل السلطة، والمجد، والموارد النادرة، وفوق ذلك كله في سبيل أمنهم".[5]

ما بين 1914 و1945، ستقود المشاعر القومية إلى إبادة سبعين مليون إنسان في أوروبا والاتحاد السوفياتي بسبب العنف، وستستعمل القنابل النووية في الحرب، وأقر المجتمع الدولي بشرعية هذا العنف في سبيل حماية الأمة التي أصبحت قيمة مطلقة.

غير أن القرن العشرين سيشهد كذلك عنفا عبر عن نفسه دينيا، في إيران وأفغانستان ومصر ولبنان وفلسطين وإسرائيل والولايات المتحدة، سيتشكل ما يعرف بالإرهاب.

وتؤكد الباحثة في هذا الإطار، أن الحركات الإرهابية وعملياتها لا تتأسس كلها على العنصر الديني، إذ إن المنظمات الإرهابية، بالرغم من استخدامها للشعارات الدينية، ومصادر دينية للتحريض على الإرهاب، إلا أن هدف هذه المنظمات هو سياسي بالأساس، متمثل في الاستيلاء على السلطة أو إجبار الحكام على تغيير سياساتهم. ففي الكثير من الأحداث الإرهابية كانت القومية أكثر فعالية من الدين، مثل مصر ولبنان. كما امتزجت القومية بالدين لتنتج أفعالا إرهابية، مثل إسرائيل، والهند بالنسبة إلى الهندوس الذين آمنوا بأن الهوية الهندوسية لا يمكن أن تستعاد إلا بالعمل العنيف، وكذا في أفغانستان حيث جمعت حركة طالبان الأفغانية بين الشوفينية القبلية للبشتون والتشدد الديني للديوبونيين في مزيج هجين وغير مقدس.[6]

في بحث متميز خلص روبرت بيب (Robert Pape) الأستاذ في جامعة شيكاغو من خلال تتبعه للعمليات الانتحارية عبر العالم بين 1980 و2004 إلى أن "هناك القليل من الروابط ما بين الإرهاب الانتحاري والأصولية الإسلامية، أو أي دين بهذه المسألة".[7]

غير أنه يجب التنبيه إلى أن الإرهاب لا يمارس فقط من طرف المنظمات الإرهابية، وإنما الكثير من الأبرياء المدنيين سقطوا بسبب حروب قادتها دول باسم القومية والوطنية، وتؤكد الباحثة بموضوعية مستفزة أن الغرب الاستعماري قام بخلق تراتبية من مستويين تميز الغرب على حساب "البقية"، فالجنود القتلى في الحروب تقام لهم طقوس التمجيد، ولكن القتلى المدنيين الذين تسبب بهم هؤلاء الجنود لا يذكرون إلا نادرا. هذا ما يظهر على سبيل المثال في حرب الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب منذ أحداث 11 شتنبر 2001، التي سوغت بقناعة شبه دينية، بالرغم من علمانية سياستها، وسيسمع مرة أخرى صدى الحرب المقدسة في حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق، حيث اعتبرتها موجهة من الله، واستعملت نصوص إنجيلية في تبريرها.[8]

رابعا: ملاحظات

إن اعتماد الباحثة مقتربات اقتصادية وسياسية واجتماعية وتاريخية لتحليل ظاهرة العنف والدين يجعل تحليلها متميزا وعميقا، ذلك أن العنف البنيوي والعنف المضاد لم تكن بواعثها دينية محضة، بالرغم من تسويغها بالتفسيرات الدينية، وإنما سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى.

وعلى الرغم من المصادر الغنية التي اعتمدتها الباحثة كالأنثروبولوجيا وتاريخ الفن وخلاصات علم الآثار وعلم السياسة، إلا أنه تم تسجيل بعض الهفوات، من قبيل الإكثار من التفاصيل بالنسبة إلى بعض النماذج الحضارية كالهند والصين من خلال التوغل في تفاصيل الحكايات الأسطورية التي لا تعتبر كلها مهمة للبحث؛ والتفاوت في تحليل الحالات التاريخية، فمقابل الاستفاضة في تحليل بعض الحالات يسجل ضعف في تحليل حالات أخرى؛ والتحيز في بعض الأفكار، إذ بالرغم من الموضوعية الظاهرة للباحثة، فإنها عندما تناولت قتل المسيحيين للمسلمين واليهود بوحشية أثناء الاستيلاء على القدس عام 1099 مهدت تمهيدا تبريريا لذلك، بقولها بأن "ذهان ناشئ عن عدم القدرة على رؤية العلاقات" وأن الحملة الصليبية الأولى بالأخص كانت ذهانية، وأن الصليبيين كانوا نصف مجانين، غير أنها لم تعتبر الأمر كذلك بالنسبة إلى حروب المسلمين، وهو ما يعني تبريرا لنزع المسؤولية عن وحشية الحروب الصليبية.[9]

[1] كارين آرمسترونغ، حقول الدم.الدين وتاريخ العنف، ترجمة أسامة غاوجي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2016. ص. 142

[2] المرجع نفسه، ص. 169

[3] المرجع نفسه، ص. 179

[4] المرجع نفسه، ص. 286

[5] المرجع نفسه، ص. 454

[6] المرجع نفسه، ص. 563

[7] المرجع نفسه، ص. 542

[8] المرجع نفسه، ص. 597

[9] المرجع نفسه، ص. 325