ما الإيمان؟ من ضيق الأنساق إلى رحابة التجربة


فئة :  مقالات

ما الإيمان؟ من ضيق الأنساق إلى رحابة التجربة

في جذريّة الإيمان:

من الطبيعيّ لكلّ متحدّث عن تعريف ما، أن يأتي بالمعرّف به في بداية الجملة ثمّ يلصق إليه الضمير "هو"، ليمضي واضعًا لَبناتٍ من الأخبار المصاحبة لهذا الضمير. ومن الطبيعيّ -وربما البديهيّ- أن يكون التعريف مُقاربًا للمعرّف، حتى لا يقع انزياح ما، فتختلّ الدلالة. كيف يمكن تعريف الإيمان في ظلّ احتواء مفهوم الإيمان نفسه لأبعاد كثيرة، ذاتيّة وتاريخيّة وثقافية واجتماعية، إذا نظرنا إليه من المنظور السوسيولوجي؟ إنّ استحالة التعريف لا تعني نفي الوجود، بل يظلّ دائمًا تعريف "ما هو كبير" ممتنعا، تمامًا كالسؤال عن "من نحن"، فإنّها أسئلة تربك اللغة وتضغط على مفاصل القول حتى ينفجر.

في رأيي، إنّ الإيمان لا يحتاج إلى أيّة مقدّمات برهانيّة فلسفيّة، أو مقدّمات كلاميّة كتلك المشهورة في مدارس علم الكلام الإسلامي. إنّ الإيمان شيء والعقيدة شيء آخر. يمكن القول إنّ ما تقدّمه المدارس الكلامية هو "كلام في العقيدة" وليس كلامًا في الإيمان. الكلّ مؤمن، أيًّا كان، بموجب المعيّة الأزليّة لله على هذا الكون وهذا الإنسان. إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينفكّ عن إيمان أزلي هو مكنون فيه ولا بدّ، وما الدخول في الدين سوى امتداد لهذا الإيمان الأزلي فينا لإكمال مسيرة الفطرة على طريقها. لذا، فإنّ قابلية الدين بالنسبة إلى الإنسان منشؤها بالأساس هذا الإيمان الأزلي الذي هو مشترك عمومي بين الناس. هذا بالطبع سيجرّنا إلى الفطرة، وما ماهيّتها وتعريفها، لكنّني لا أجد تعريفًا ناجزًا، وأحبّ أن أقاربها كـ"فضاء مشترك أزلي بين الناس يمكن التأسيس عليه لاحقًا".

إنّ عبارة "أن تؤمن يعني..." تفترض مسبقًا أن ندخل في الإيمان. إنّ الإيمان كامن فينا، وما التعبير عن الإيمان سوى صيغ متعدّدة لهذا الكامن أصلًا. وإنّ الاعتراف بهذا الإيمان الجذري هو اتساق لكي نفهم لماذا بعث الله أنبياءه عبر التاريخ. فإنّ الكفر بجذرية الإيمان يجعل هذا البعث للرسل لا معنى له، لأنّ إرساله إيّاهم يعني أنّ هناك ما هو مشترك بين هذه الأجساد الحيويّة لأنْ يدخلوا في الدين. وفضاء "الدعوة" الذي وفّره الدين الخاتم يحتّم بنقاء الجذر، حتى وإن ضعف الإيمان تاريخيًّا.

"عندما يكون الإلحاد ممكنًا، فسأكون أوّل الملحدين"، يقول بول ريكور. إنّ هذه العبارة توضّح الكثير حول الإيمان؛ فإن الإيمان قدر يلازم الإنسان أنّى كان ومتى كان، وما الإلحاد سوى صيغة مهترئة وانتحار مبكّر للعقل وقد زُلزل أمام التاريخ، فقرّر أن يلغي ذاته عبر صيغة مرضيّة تعني الارتكاس إلى الأرض. إنّ الإلحاد، في رأيي، هو إلحاد بالدين، وليس إلحادًا بالإيمان؛ لأنّ الإنسان مؤمن لا ينفكّ عن ذلك، ويمكن الحديث عن المقولات الدينيّة والإيمانيّة في داخل ما يقدّمه الإلحاد، مما يعني أنه متلبّس بالإيمان، وإن ظنّ الكفر.

من الإيمان إلى العقيدة، أو علم الكلام بوصفه نسقًا للإيمان:

يوفّر الإيمان معقوليّة مناسبة لنا كذوات داخل التاريخ والزمان، ويعطي للفعل الإنساني رمزيّة ما، ويمنح الذات فضاءً للاجتهاد والتجربة داخل أفق التاريخ، فليس الإيمان ارتكاسًا للإنسان على ذاته وانغلاقًا عليها، بل هو "تجربة مفتوحة" عبر الزمان حتى يقطع هذا الشوط منه إلى اللهعبر هذا الجسر المسمّى: دنيا. ومن المؤسف تاريخيًّا، أنّ الإيمان تحوّل إلى "عقائد" تلقّى في صيغ كلاميّة، مما أفقد الإيمان حرارته الأولى ووهجه الأبيض الذي يعمل في النفس. إنّ المتكلم مهووسٌ بإنشاء "نسق" ما للإيمان يعمل الإنسان من خلاله، والإيمان -في جوهره- يعمل على هدم النسق لكي يفرشَ الأرض بجبّته، المتكلّم يهيّئ معقولية ما لمعنى أن تؤمن، لكنّها معقوليّة نظريّة وصلبة، لذا دائمًا ما يضفي عليها صلابة تاريخية وشرعنة، مما يجعل نسقه في ما بعد يتحوّل إلى أيديولوجيا مغلقة على ذاتها، وغير قادرة على التعاطي المفتوح مع الإيمان ومع النصّ القرآني الذي يرجع إليه، فإن الإنسان في الزمان يتكلّم عن ذاته بصيغ مختلفة، وليس الإنسان واحدًا عبر التاريخ، فالنسق الذي يبنيه المتكلّم هو قول ضمني بأنّ ما يقوله النصّ القرآني هو هذا النسق ولا نسق سواه، ومن هنا وقعت كل الحروب الكلامية قديمًا وحديثًا.

يقوم علم الكلام بالأساس على ضرورة مفهمة الإيمان بصيغ عقليّة واضحة كي يمنح معقوليّة للإيمان بالنسبة إلى الذات، وهذه المفهمة ناتجة عن استراتيجية تأويليّة معيّنة للنصّ القرآني، وما الخروج عن علم الكلام إلّا علم كلام مقابل، لأنّ الإنسان كذات تأويليّة -بدءًا وانتهاءً- لا ينفكّ عن التعامل مع النصّ القرآني ضمن فضاء تأويلي ما، حتى ولو ظنّ أنه يكسّر ما هو قبلي. ولا يمكن فهم الحركات التأويليّة الخارجة على علم الكلام إذا وُضعت كطرف في ثنائية حادّة مع علم الكلام "الرسمي" في التراث الإسلامي، وهذا ناتج من تضييق الاستعمال لمفهوم "علم الكلام" بقصْره على متكلمة الإسلام الذين نعتهم الخطاب الرّسمي والمصدّر بوصفهم علماء كلام. أمّا إذا حاولنا توسيع علم الكلام كمفهوم، فيمكننا فهم كلّ حركة نشأت في التراث الإسلامي بوصفها حركة تأويليّة بالأساس للنصّ الأساس (القرآن الكريم).

برأيي، يمكن اقتراح مفهوم لعلم الكلام بوصفه: العلم الذي تقوم عليه كلّ حركة تعمل على تأويل معيّن للنص القرآني ضمن استراتيجيّة معرفيّة تتّخذها هذه الحركة، وذلك آتٍ من وعيها بضرورة مفهمة الإيمان حتى تكون للإيمان معقوليّة ما ضمن التاريخ. بهذا التعريف الموسّع، سيتمّ النظر إلى كلّ "خروج" على علم الكلام "الرسّمي" بوصفه علم كلام، حتى وإن لم يتوسّل بأدوات هذا العلم الرسميّة، والتي اتفق عليها منظّرو ذلك العلم ومقعّدوه.

لا بدّ في التعاطي مع الحركات الخارجة على علم الكلام باستخدام التأويل التاريخي لا التأويل المعرفي، لأن"الكلام" هو وصف لازم لكلّ حركة تأويليّة في الإسلام، فكلّ محاولة لفهم آيات الإيمان والصفات وغيرها، ما هو إلاّ "كلام" عن النصّ وعما قاله، سواء أكان ذلك من الحنابلة أم من الفلاسفة. إنّ كثيرًا، مثلًا، يظنّ أنّ الفلاسفة هم البرهانيّون الذين لا يخوضون في علم الكلام "الجدلي" و"البياني"، كما يرسّخ ذلك ابن رشد مثلًا، إلّا أنه بالنظر المعرفي والمنهاجي يتّضح أنّ فلاسفة الإسلام انخرطوا في علم كلام، ولا أدلّ على ذلك من تعاطيهم مع مسائل كلامية -كالصفات- تعاطيا جدليّا بيانيّا.

بهذا المعنى، إنّ التصوّف ليس ضدّ علم الكلام، لأنّه في جوهره علم كلام مقابل، ولا يعني اختلاف الآلية المعرفية الاختلاف في العلم نفسه: ضرورة فهم هذا النص القرآني وصياغة معقوليّة ما للمؤمنين به. وإنّه لمن الخطإ، الوقوع في ثنائية: أنّ المتكلمين يستخدمون العقل في حين أنّ المتصوّفة يستخدمون الحسّ والوجدان، فما هذه الصياغات الثنائية، سوى تفويت مبكّر على المتعاطي مع الإشكالية لمعرفتها ومحاولة مقاربتها وفهم أبعادها.

إنّ النّفري مثلًا، وهو من كبار المتصوّفة، يتعاطى الكثير معه (وأنا هنا حين أقول "معه"، فأعني النفّري المفهومي المتمثّل في كتابه: المواقف والمخاطبات) بوصفه قائل حِكم وجدانيّة، إلاّ أنّ بالقراءة المتأنيّة للكتاب، نجد أنّه كتاب في الكلام، حتى ولو اتخذ صيغة الموعظة سبيلًا. ولقارئ النفّري أن يقف على موقف "القرب" نموذجًا، ليجد كيف يصيغ النفّري القرب والبعد كمفهومين مكانيين بالنسبة إلى الله، فإن الله يخاطبه بأنّ لا شيء قريب أو بعيد عنه، وما هذا القرب والبعد سوى أسماء سمّاها الإنسان ككائن لغوي يدرك ذاته والآخرين من خلال ابتكار مفاهيم، بوصفه الكائن المطعون بالمسمّى منذ أن نزل آدم.

الإيمان كفضاء للتجربة، في فلسفة "الفعل" التي وفّرها الإسلام:

كيف يمكن إذن، أن نحرّر الإيمان من الأنساق، صوفيّة كانت أم كلاميّة؟ هذا يجعلني أدلف إلى الحديث عن الإيمان الذي رأيت أنّ الإسلام - كدين الإنسان الأخير، الدين الخاتم- وفّره للإنسان الذي استخلفه في الأرض، ووعده بأن لا قول من السماء سيأتيه بعد اليوم بعد هذا القرآن. كيف يكون الإيمان في ظلّ خاتمية الدين الأخير؟

هو الإسلام إذن، وإذا اتفقنا أنّ الإسلام يمثّل تجربة مفتوحة دائمًا، فإنّنا سنصل إلى أنّ الإسلام يتجاوز الأنساق التي يشيدها الإنسان دائمًا من خلاله. فالإسلام -بموجب خاتميته- يحتضن كلّ الممكن البشري الذي يصنعه هذا الإنسان "الناقص"؛ لأنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان بوصفه فاعلًا في التاريخ، بوصفه مسؤولًا ومكلفًا، وهذا يعني أنّه مُطالب دائمًا -أي الإنسان- بتحقيق المُثل ضمن إطاره التاريخي والوجودي الذي يعيش فيه.

الإسلام ضدّ فكرة الأنساق الجاهزة تمامًا، لأنّ فكرة النسق الجاهز تُجهض الإنسان وفاعليته من حيث أرادت أن تُحييه، وذلك لأنّه وحيٌ وليس نصًّا، وتحويل الإسلام إلى "نصّ" قتله، وجعله شيئًا تاريخيًّا، بل وجعل من يؤمنون به يؤمنون إيمانًا تاريخيًّا لا إيمانًا مسؤولًا حرًّا.

وأظن أنّ الإيمان التاريخي هو الذي جعل المؤمنين بالإسلام يتلبسون بأحكامه العملية دون أعماله النظريّة؛ فالصلاة والزكاة والحج وغيرها من الأحكام العملية موجودة بالفعل في حياة المسلمين، لكن على مستوى النظر،فإنّه صار تصوّرهم "قابلًا كل صورة".

ولذا أظن أنّ النبي -عليه السلام- كان يؤكد دائمًا أنّ من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة، ولا يعني هذا أنّه لا يولِي الأحكام العمليّة اهتمامًا، لا، بل يعني هذا أنّ المؤمن على مستوى الإتيان بالأحكام العمليّة الخاصة بالجوارح الخارجة غير كافٍ إيمانه ليعوّضه عن إيمانه النظري.

وإذا أيقنّا أنّ الإسلام هو الخاتم، فذلك يعني أنّه يتجاوز دائمًا كلّ حزب ونسق، لأنّه أرحب من أن تحتضنه مؤسّسة أو أن يشمله حزب، لأنّ الإنسان ليس واحدًا في جدليّته مع التاريخ والوجود، الإنسان لا يمكن أن يقف عند لحظة ما. وهذه الخاتميّة للإسلام لم نفهمها فلسفيًّا، وفهمناها في الأغلب على نحو دعائيّ وأيديولوجيّ، ولم نربط بينها وبين مقوّماتها التي وضعها الإسلام سلفًا من رشد الإنسان وانتهاءً باستعمار الأرض ماديًّا، وعمارتها روحيًّا، ضمن اجتهاد مفتوح وضعه دين قال إنّ لا رسول بعد نزوله، فانفتح التاريخ أمام (العمل) الإنساني، لتبدع فيه الذات من خلال مقوّمات وجودها،ِ منشِئة تجربة (حيّة) دينية، تقوم على الذات لا على الأيديولوجيا، وتنطلق من إرادة حرّة كشرط لدخول الدين مسبقًا، فضلًا عن دخولها في تجربة دينيّة. هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، فإنّ الإنسان كذلك مُطالب بأن يحقّق هو المُثل لا أن يستنسخ ما حقّقه غيره من المثل، فموجب الإسلام في كلّ أبعاده هو أن يخلق إنسانًا يُجرِّب، وليس إنسانًا يقلّد، لأنّ الدين نفسه هو تجربة، ونحن عندما لم نفهم ذلك -كون الدين تجربة بالأساس- حوّلناه إلى تقليد. فلقد غلطنا كذلك في فهم الإسلام (كمثال) فلسفيّ تطابق يومًا في التاريخ، فنستحثّ كلّ مقوّماتنا التاريخيّة لإرجاع هذا التاريخ المطابق، ولم نعلم أنّ المُثل التي حدّدها الإسلام لم تتعيّن من خلال (مثال) ما تاريخيّ كاملًا، لأنه لو تعيّنت كاملة لانتهت، وما عادت مُثلًا، ولم نفرّق بين المُثل، خلقيّة كانت أم روحيّة، والأمثال:فإذا كانت هذه المثل قد تعيّنت – بشكل غير كامل – تاريخيًّا فهي تعيّنت من خلال أمثال تحاكي المُثل، لا أنّ الأمثال صارت هي المُثل، حيث صارت الدعوة للعودة للأمثال لا إلى المُثل.

إنّ المعتزلة عندما حوّلوا أفكارهم إلى نظام سياسيّ، أو تمّ تحويلها من قبل نظام، وحملت هذه الأفكار على السيف، كانت رَدًّا على أصحابها قبل غيرهم. وهذا الموقف -موقف المعتزلة- خير دليل على أنّ الإسلام لا يقبل الواحدية إطلاقًا، ولا يقبل أن يبقى "نسقًا مغلقًا" كالأيديولوجيا.

غالبا ما حدث في التاريخ -ويحدث اليوم- هو عملية تنميط الدين وأدلجته، وتحويله من وحي إلى "نصّ" تشريعي محض دون النظر إلى أبعاده الرمزية التي يوفّرها للفعل الإنساني، وتحويل الدين من التجربة إلى المؤسسة، حيث يُسيّس الدين، لا أن تُديّن المؤسسة، وحيث يغلق النسق فيتحوّل الإنسان إلى رِقّ بالٍ يتلقّى الدين بلا معقوليّة له ولا معرفة، فيغدو الدين تقليدًا لا اجتهادًا، وأيديولوجيّة تكريسيّة مغلقة على ذاتها.