محمد بوعمامه: اللسان والعمران؛ أزمة المعنى ومسالك الدلالة


فئة :  حوارات

 محمد بوعمامه: اللسان والعمران؛ أزمة المعنى ومسالك الدلالة

محمد بوعمامه: أستاذ علوم اللغة في قسم اللغة والأدب العربي في جامعة باتنة1، حاصل على؛ ليسانس جامعة باتنة، حزيران/ 1984م، وماجستير جامعة عين شمس في القاهرة (ج. م. ع)، آب/ 1989، ودكتوراه الدولة من جامعة قسنطينة، حزيران/ 1997. التحق بسلك التدريس في قسم اللغة والأدب العربي، في جامعة باتنة، في 1 أيلول 1989م. يدرّس مختلف المقاييس اللغوية في مراحل؛ الليسانس، والماجستير، والدكتوراه.

يشارك في ندوات وملتقيات وطنية ودولية، ويؤطر طلبة الماجستير والدكتوراه في جامعة باتنة، وفي جامعات جزائرية، وله عدد من المؤلفات في مجال اللغويات، منها:

  • الصوت والدلالة، (بين التراث وعلم اللغة الحديث)، 2003م.
  • اللغة والفكر والمعنى، 2007م.
  • التراث اللغوي العربي، (بين سندان الأصالة ومطرقة المعاصرة)، 2008م.
  • المعنى (ترجمة)، 2012م.
  • قضايا لغوية، (تراث ومعاصرة)، 2016م.

شراف شناف: كيف تأسست علاقتكم بالدراسات اللغوية؟ ما ضرورتها؟ وما رهاناتها؟

محمد بوعمامه: عندما التحقت بالجامعة، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لم أكن أعرف شيئًا اسمه اللسانيات، أو علم اللغة، أو فقه اللغة، وغاية ما كنت أطمح إليه؛ هو أن أدرس الأدب؛ لأنني كنت مولعًا بالشعر، والشعر الجاهلي، على الخصوص. ولكن بعد اطلاعي على مقررات السنوات الأربع؛ لفت انتباهي تسميات لم أعهد سماعها من قبل، مثل: اللسانيات العامة، واللسانيات التطبيقية، وفقه اللغة، وعلم الأصوات، وعلم النفس اللغوي، إلى غير ذلك من هذه التسميات، فما كان مني إلا أن أتصل بمكتبة المعهد آنذاك، وأستعير كتاب: مفاتيح الألسنية لــجورج مونان، ترجمة: الطيب البكوش، وبما أنه كان كتابًا مترجمًا، صعب عليَّ فهمه، ولم أستطع حل مغاليق مصطلحاته؛ فأصبت بخيبة أمل كبيرة.

درست السنتين الأولى والثانية، جذع مشترك، استمتعت خلالهما بمحاضرات الأستاذ الدكتور: عبد الكريم الشريف، في مواد: الأدب الجاهلي، وعلم النفس الأدبي، والآداب الأجنبية القديمة. ومحاضرات الأستاذ الدكتور: صاحب جعفر أبو جناح، في مادتي: النحو والصرف، ومصادر اللغة والأدب. ومحاضرات الأستاذ الدكتور: رضوان البارودي في الحضارة العربية، وغير ذلك من المحاضرات لأساتذة أجلاء، وفي مواد متنوعة.

كل ذلك الزخم، جعلني أقول: وجدتها وجدتها. المغرم بالأدب وجد ضالته، فما شأنه وشأن اللسانيات؟ ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

مقياس اللسانيات مقرر علينا في السداسي الثالث، كنا ندرس بنظام السداسيات في ذلك الوقت، ومن ثم؛ كان لزامًا علينا أن نفهم هذه المادة، ومن حسن حظنا أن الله ساق إلينا أستاذة تخرجت في جامعة قسنطينة، وهي الأستاذة الدكتورة: نور الهدى لوشن، وإليها يعود الفضل في تكويننا في هذه المادة.

وابتداءً من السداسي الخامس، تخصصت في الدراسات اللغوية مع الدكتورة نور الهدى، وبخاصة في مادتي اللسانيات العامة واللسانيات التطبيقية، وكذا المرحوم الأستاذ الدكتور: خليل إبراهيم العطية؛ الذي ألقى علينا محاضرات في حلقة البحث، والمدارس النحوية، دون أن أنسى الأستاذ الدكتور: عبد الباقي الخزرجي، الذي درّس لنا مادة فقه اللغة المقارن.

وهكذا تحولت من الولوع بالأدب، إلى الولوع باللغة، وبشكل خاص، عندما نعلم أن مكتبة المعهد، آنذاك، كانت تزخر بمصادر ومراجع كثيرة ونفيسة، باللغة العربية واللغات الأجنبية.

ابتداءً من هذه المرحلة؛ تشكلت لدي قناعة راسخة، وهي: أن الدرس اللساني، بمفهومه الغربي، سيكون بديلًا لأطروحات القدماء؛ لما فيه من عمق في الفكر، ودقة في الطرح، وصرامة في المنهج.

ولقد شاءت الأقدار أن أحصل على منحة للتكوين بالخارج، فالتحقت بقسم اللغة العربية بجامعة عين شمس (جمهورية مصر العربية)، وهناك كان لي تكوين آخر مع العالم الجليل الأستاذ الدكتور: رمضان عبد التواب، رحمة الله تعالى عليه، كنا نجلس إلى هذا الأستاذ كل سبت، من الخامسة مساءً وحتى التاسعة ليلًا، ويشهد الله أن الأربع ساعات، كانت تمر وكأنها دقائق معدودات، فدرسنا على يديه: اللغات السامية؛ (عبري، حبشي، سرياني)، وفقه اللغة العربية، ومناهج تحقيق التراث، وأود أن أشير، هنا، إلى أن الأستاذ خريج جامعة ميونيخ في ألمانيا، في أوائل الستينيات من القرن الماضي، ومن ثم كان من الطبيعي، أن ينقل إلينا فكرًا وتفكيرًا جديدين، ومنهجية جديدة، وصرامة لا نظير لها.

هكذا تأسست علاقتي بالدرس اللغوي، وأعتقد أن ذلك تم على أسس سليمة، والفضل في ذلك يعود إلى الذين ذكرتهم من الأساتذة الأجلاء. كل ذلك كان له، فيما أزعم، انعكاس إيجابي على مساري في التحصيل والبحث العلميين، فلم أكن من المناوئين للقدماء، كما لم أكن من المحبين للمحدثين، والغربيين بشكل خاص؛ بل حاولت جهدي، أن أكون منصفًا في كلتا الحالتين؛ أعني التراث والمعاصرة، ومن ثمّ، كان الموضوع الذي نلت به شهادة الماجستير من جامعة عين شمس سنة 1989م، هو: أصول النظرية التوليدية التحويلية والنحو العربي، وكان الموضوع الذي قدمته، سنة 1997م، إلى جامعة قسنطينة لنيل شهادة دكتوراه الدولة، هو: علم الدلالة (بين التراث وعلم اللغة الحديث)، وهو النهج نفسه الذي سرت عليه في سائر أبحاثي، وهو ما أقوله لطلبتي في محاضراتي، وهو ما أجهر به في ندواتي ومناقشاتي، آملًا أن أؤسس لمبدأ، يقوم على أن وضع العينين وراء القفا، والنظر إلى الخلف عشرين قرنًا، مبدأ فاسد، وأن طرح القلنسوة، ووضع الطربوش بدلها، مبدأ فاسد كذلك، وأعتقد، أخي الدكتور شراف، أن هذا الكلام الأخير، يفسر كل شيء، وفي التلميح ما يغني عن التصريح.

شراف شناف: يشكل سؤال التراث هاجسًا معرفيًّا كبيرًا، بالنسبة إلى كل الباحثين في العلوم الإنسانيّة بشكل عام، وقد تباينت المواقف تجاه هذا التراث الممتد في الزمان والمكان؛ بين داع إلى القطيعة، وبين متمسك بتلابيبه، ومعتصم بمتونه. هل استطاع العقل التراثي اللغوي، أن يقدم نظرية لغوية ألسنية خاضعة للشروط العلمية ومستوفية للخصائص الإبستيمولوجية؟ وكيف يجب أن تتحدد علاقة الباحثين الألسنيين المعاصرين بتراثهم؟ وما هو المطلب منهم اليوم؟

محمد بوعمامه: لقد تباينت نماذج القراءات المسلطة على التراث اللغوي، بوصفه رسالة لسانية قائمة، وهذا التباين له أسبابه ودواعيه؛ فدعاة الأصالة، وباسم المحافظة على الموروث، ألفيناهم يدعون إلى عدم الاكتفاء بغلق الأبواب؛ بل يطلبون سد النوافذ، حتى لا يتسرب إلينا بصيص من نور أو نسمة من هواء. وأما دعاة الحداثة، وباسم الانفتاح والعالمية؛ فيدعون إلى عدم الاكتفاء بفتح النوافذ واسعة، والأبواب على مصاريعها؛ بل إنهم يدعون، صراحة، إلى نزع السقوف أيضًا.

بيد أنه غدا مقرر؛ أن الأصالة في المعارف المتصلة بالعلوم الإنسانية، لا يمكن أن تعني الاكتفاء بنفسها، والانغلاق على الذات، دون السعي من أجل التطور، كما غدا مقرر؛ أن الحداثة لا تعني الانسلاخ عن التراث، وإهدار ما بناه الأقدمون.

وفي هذا الإطار؛ تتنزل علاقة اللسانيات الحديثة بالتراث اللغوي العربي؛ إذ فرضت عليه حركة جديدة نحو اكتساب مزيد من المعارف، وتصحيح بعض أساليب الفكر، على أن يتم ذلك في نطاق حركة ذاتية، تسعى إلى بلورة المناهج والممارسات، وإلى حمل التراث على المنظور المتجدد، حتى يتسنى لها تأصيل البحث اللساني المعاصر في الموروث اللساني العربي.

ومن هنا؛ أصبحت قراءة التراث بالنسبة إلى اللغويين العرب المعاصرين، تأسيسًا للمستقبل على أصول الماضي، وإبرازًا لنصيب حضارتهم في إثراء الفكر اللغوي الحديث، غير أن قراءة التراث، بهذا التصور، لا تعني، بالضرورة، تبني أحكام مستوحاة من مناهج النظر اللغوي الحديث، ثم محاولة إسقاطها على التفكير اللساني القديم، ليفضي ذلك إلى الحكم على التراث بالفوضى المنهجية المطلقة، انطلاقًا من مبدأ الشمول وعدم التخصص.

وعليه؛ فإن أول حقيقة يجب إدراكها، في هذا السياق: هي أن الاختلاف بين التفكير اللساني العربي القديم، والتفكير اللساني المعاصر، هو أصلًا؛ اختلاف إبستيمولوجي، ومن ثم؛ فإن إعادة القراءة، يجب أن تنطلق من أن الفكرين نمطان مختلفان، وعلينا، بادئ ذي بدء، أن نؤكد على أن اختيارنا لهذا النمط أو ذاك، له دوافع علمية صرفة، فتقديس مقولات الأقدمين موقف خاطئ، والانطلاق من فرضيات البحث العلمي المعاصر، موقف خاطئ أيضًا، ذلك أن التأكيد على صحة مقولات الأقدمين، أو مقولات المعاصرين، يجب أن تكون، دومًا، تأكيدًا نسبيًّا، وإلا أصبح خطاب الباحث خطايا إيديولوجية.

وانطلاقًا من فرضية التأكيد النسبي لصحة مقولات الأقدمين، ومقولات المعاصرين، يتوجب على الباحث العربي عبور الزمان؛ للنشر عن العرب الأقدمين، وعبور المكان؛ للنقل عن الغربيين، وذلك بمحاورة الفكر اللساني العربي القديم والبحث اللساني المعاصر، أملًا في اكتشاف ما هو جدير بالاكتشاف في هذا الفرع من العلوم الإنسانية.

غير أن هذه المحاورة لا نجدها، إلا عند قلة قليلة من الباحثين، الذين يتوفرون على إلمام واسع بالتراث، وعلى دراية واسعة بمعطيات البحث اللساني المعاصر، وأما الباقي؛ فإما ناشر لقديم غارق فيه، وإما ناقل لحديث مولع به، حتى يخيّل إلينا أننا إزاء مدرستين متصارعتين، على الرغم من أن كل فريق منهما، يدّعي أنه حامل لواء العربية والعروبة على حد سواء.

إذا كان الدرس اللساني الحديث، قد عرف طريقة إلى العربية، ترجمة وتأليفًا، ووجد من يمهد له السبيل، ليكون علمًا خالفًا، يقوم على أنقاض القديم؛ فإنه، بالمقابل، وجد من يواجهه ويرفضه، على اعتبار أن هذا الجيل اشتدت فتنته بالحضارة الغربية، وبكل ما يصدر عنها من علوم ومعارف، وأنماط في الفن والثقافة والسلوك؛ فصغر في عيوننا ما خلف أسلافنا من تراث، وما جروا عليه من آداب وتقاليد، وصار كل ذلك، في وهمنا، من سمات التخلف، وعظم في عيوننا ما نرى أهل الغرب عليه، فاختلط علينا الأمر، وصرنا لا نفرق بين النافع والضار، وبين ما تميزوا به، مما كان سبب رفعتهم، وعلو شأنهم، وما خالطه من عناصر الضعف والانحلال، التي أخذت تتسرب إلى حضارتهم في القرن الأخير.

هذا هو إذن، أخي الدكتور شراف، فهم أنصار القديم، لكل علم أو فن وافد من الغرب، وهذا هو موقفهم؛ فقد ناصبوا العداء لكل شيء مجتلب من الغرب، على الرغم من إيمانهم، بأن تعارف الناس، وتبادل الحضارات حقيقة واقعة، وسنة جارية، ولكن إذا تعلق الأمر بعلوم الأدب أو علوم اللغة؛ فإن نقل مناهج النظر الحديث، ومحاولة إسقاطها على التراث، يعني؛ انحلال الأمة التي تحاوله، وذوبانها في الأمة التي تقلدها، إن نجحت في هذا التقليد، وسقوطها في هوة الضياع والعدم، إن فشلت فيه.

وهكذا، راح هؤلاء، أعني أنصار القديم، يطعنون في كل محاولة جادة لإعادة قراءة التراث، وفي كل الجهود التي بذلها باحثون أكفاء، تخرجوا في أكبر وأعرق الجامعات العالمية؛ بل إنهم يعتبرون مثل هؤلاء الباحثين، نقمة على التراث العربي عامة، وعلى التراث اللغوي خاصة؛ فهم، في زعمهم، مجرد غربان ناعقة، يرددون ما لا صلة له بتراثنا؛ بل هم أذناب المحافل الماسونية، التي لا ترى للعرب أية منقبة حميدة.

وإذا جئنا إلى الباحثين العرب المعاصرين، الذين اتصلوا بالدرس اللغوي الحديث، إن عن طريق التتلمذ على أيدي كبار الألسنيين في الجامعات الغربية، وإن عن طريق الترجمة، وقراءة المترجم من الكتب والأبحاث الأكاديمية في المجلات المتخصصة؛ فإننا نجدهم يقرّون بأن درس العربية، بمعزل عما أفرزته اللسانيات؛ من مناهج، وطرائق في الدرس والتحليل، يشكل عائقًا أمام تطور الدرس اللغوي العربي، ويظل تردادًا لما هو موجود في بطون المدونات القديمة.

ومن هنا؛ راح هؤلاء يتتبعون أبرز معالم واتجاهات الدرس اللساني الحديث، شارحين كيفية الاستفادة منها في إعادة قراءة التراث اللغوي، وخاصة إذا عرفنا أن هذه الاتجاهات، قد لحقها تطور كبير، ومن ثم؛ فإن مواكبة هذا التطور، صارت حاجة ملحة بالنسبة إلى الباحث العربي المعاصر.

وتحفل الجامعات العربية بكثير من هؤلاء الباحثين، الذين شقوا طريقهم نحو الحداثة عن وعي ودراية، كما تحفل المكتبة العربية بمئات الأبحاث، التي نهجت هذه السبيل، على الرغم من التباين الواضح بين باحث وآخر، ومدرسة وأخرى، ولكن ذلك سيسهم، ولا شك، في إرساء دعائم مدرسة لسانية عربية حديثة، موحدة من حيث الفكرة، والمصطلح، والمنهج.

شراف شناف: لا جرم أن الدراسات الألسنية الغربية، مع مطلع القرن العشرين، شكّلت سلطة معرفية كبيرة، ومنعطفًا علميًّا بارزًا غير مجرى البحث العلمي في العلوم الإنسانية ككل، ولفت الانتباه إلى خطورة اللغة وأهميتها في الحياة البشرية، بكل مستوياتها، ولكن في الوقت ذاته، جعل البحوث تتجه اتجاهًا شكلانيًّا بنيويًّا، سعيًا وراء العلمية والموضوعية والأمبريقية، مما أسس لمقولات: موت التاريخ، موت الإنسان، موت المؤلف، ...إلخ.

ومع الترجمات العربية لهذه الدراسات الغربية المتخلقة في مناخ معقد، ازداد البحث العلمي، في جامعاتنا، قلقًا وارتباكًا. في رأيك دكتور، وبناء على خبرتكم، ما هي الاستراتيجيات، المعرفية والمنهجية، التي يحتاجها العقل البحثي العربي اليوم، للتواصل الإيجابي مع هذه المكتسبات؟

محمد بوعمامه: بداية؛ لا بد من الإشارةإلى أن الدرس اللساني، منذ ظهوره لدى الأمم القديمة، وتطوره عبر التاريخ، جاء متنوع المناهج ومتعدد النظريات؛ فأحيانًا يعتمد على الفلسفة، فيكون العقل والمنطق؛ هما أساس البحث والدراسة، وأحيانًا أخرى، تكون التجربة والملاحظة؛ هما عماد البحث ووسيلته. وفي نهاية القرن التاسع عشر، حققت أعمال الباحثين نتائج قيمة، مما ضمن تقدمًا حيويًّا متميزًا، منذ ذلك الحين؛ فلقد بدأ علم الفيزياء العصر العظيم لنظريته في الكم، وطور علم الأحياء نظرية الطفرة، على حين كان علم النفس، يؤسس نظرية الأبنية العامة والأساسية (الجشطالت)، وغير ذلك من الإنجازات.

وأثرت العقود الأولى من القرن العشرين معارفنا بمفاهيم، مثل؛ النسبية، والتحليل النفسي، والسلوكية، وعرفنا، أيضًا، منذ الحرب العالمية الثانية، مزيدًا من المفاهيم العلمية، مثل؛ علم الذرة، وعلم التحكم أو التوجيه (السبرنطيقا)، ونظرية الاتصال، وبذلت في هذه المجالات جهود كبيرة، أوصلت هذا العلم إلى درجة عالية من النضج، سواء من حيث موضوعه، أو منهجه، أو مصطلحاته، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، وتميزت فروعه بعضها من بعض، وبرز في كل فرع منها عدد كبير من العلماء، إلى درجة أن مراجع هذا العلم، أصبحت من أكثر مراجع العلوم عددًا، وأوسعها نطاقًا، وأدقّها بحثًا، وأجلّها قيمة.

لقد كان المفهوم المميز لباحثي القرن العشرين؛ هو أن العمل العلمي، ينبغي أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنظرية المعرفة، ولما كان مفهوم البنية، يقع في مركز البحوث المعرفية؛ فقد بحث الدارسون إمكان إيجاد أكثر الإجراءات فعالية، لوصف البنية بمصطلحات علمية، ولما كان الكلام البشري غير ملائم لمثل هذه الأغراض، من حيث أنه ليس منضبطًا ومنطقيًّا؛ فقد وحد الدارسون جهودهم، كي يضطلعوا بتأسيس قواعد (اللغة الواصفة)؛ أي لغة التحليل العلمي، التي هي أوفر اللغات حظًّا من المنطقية، وقد أنجز هذه المهمة؛ علماء الرياضيات، والمناطقة، واللسانيون، وهم الأكثر أهلية له، وهكذا، صار القرن العشرون عصرًا للتعاون بين المجالات المعرفية المتداخلة الاختصاص.

هذه الأمور مجتمعة، لفتت انتباه الباحثين العرب في العصر الحديث، وجعلتهم يتأكدون من أن البحث اللغوي، قد تشعبت مسالكه، وتعددت مدارسه واتجاهاته، ومن ثم، كان لزامًا عليهم مجاراة هذا التيار الجديد، وذلك بتمثل مصطلحاته، واستيعاب أفكاره ومناهجه، لعلّهم يصلون إلى تأسيس بحث لساني عربي معاصر، قوامه التراث؛ من حيث المادة. والمعاصرة؛ من حيث المنهج، وأفضى ذلك إلى بروز أربعة اتجاهات: اتجاه أول؛ يرى أن أفكار القدامى عقيمة، وبالتالي؛ يحسن تجاهلها، ويمثل هذا الاتجاه؛ ريمون طحان. واتجاه ثان: يرى أنه؛ لكي نؤسس درسًا عربيًّا معاصرًا، لا بدّ من إعادة قراءة التراث، وفق معطيات الدرس اللساني المعاصر، ويمثل هذا الاتجاه؛ عبده الراجحي، ومحمود فهمي حجازي. واتجاه ثالث: يدعو إلى تبني استراتيجية، ومنهج جديدين لإعادة القراءة، ويمثل هذا الاتجاه؛ أحمد المتوكل. واتجاه رابع: يذهب إلى أنه يجب القيام بقراءة انتقائية، انطلاقًا مما أفرزه الدرس اللساني المعاصر، ويتزعم هذا الاتجاه؛ عبد القادر الفاسي الفهري.

هكذا، إذن، عرف البحث اللساني في البيئة العربية المعاصرة، قلقًا وارتباكًا كبيرين، وخاصة إذا علمنا؛ أن جل الباحثين العرب، ألفوا البحث فيما يعرف باللسانيات التقليدية، متناسين أن هناك اختلافًا واضحًا بينها وبين اللسانيات المعاصرة، وذلك في الجوانب الآتية: اختلاف في التنظيم المنهجي للمعرفة، وفي تفسير الحقائق المعروفة على نحو جديد، وفي توسيع مجال اهتماماتها توسيعًا ملحوظًا، وفي انغماس دارسيها في تعاون، يتسم بتداخل التخصصات، لإنجاز مهمات واسعة النطاق، وفي نقل إجراءات منهجية من فروع العلوم الأخرى، وإعادة غرسها في مجال اللغة لتحليل الظواهر اللسانية.

وعليه، يجب على هؤلاء الباحثين؛ أن يعلموا بأنه لكي نؤسس لدرس لساني عربي معاصر، لا بدّ من الاقتناع بأن اللسانيات، بمفهومها التقليدي، لم تستطع أن تسهم، بمفردها، إسهامًا واضحًا في تقدم التفكير العلمي، وأن الملاحظة العميقة للحقائق؛ هي التي تقود الباحثين إلى اقتناع لا يتزعزع، بأن هذا العالم ليس خليطًا مشوشًا من التفاصيل؛ بل هو نظام؛ أي كلٌّ منظم، ومن ثم؛ فإن البحث العلمي في القرن العشرين، جعل من القاعدة الآتية شعارًا له: (لكي نستكمل معرفتنا عن العالم، ينبغي أن نبحث عن بنية النظام؛ أي العلاقة بين مفردات النظام)، ولعل هذا ما أدى إلى ظهور البنيوية في البحث العلمي. ولا شك أن لا أحد ينكر أن الدراسات اللسانية، قد عرفت أكثر الفترات ازدهارًا، حين تسلم البنيويون زمام القيادة؛ إذ امتاز أنصار اللسانيات البنيوية، بوعي دائم بالتيار الصاعد الذي تسير فيه المعرفة البشرية إجمالًا، وكانوا يتطلعون إلى معالجات منهجية جديدة، وأظهروا، بذلك، قدرتهم على اللحاق بالاتجاهات العامة، التي سار فيها تطور العلم، وعلى اتخاذ مكان لهم في مقدمة الصفوف، ثم تلا هذه المرحلة، تطورات رهيبة جعلت اللسانيات، بمفهومها الكلاسيكي، تكاد تكون في خبر كان.

شراف شناف: يعد ابن خلدون نموذجًا للعقل البحثي الإبستيمولوجي المركب، الذي لا يفصل القضايا المعرفية عن سياقاتها؛ الاجتماعية، والتاريخية، والعمرانية، بشكل عام؛ إذ ربط تجربة اللسان بالوعي العمراني ككل. كيف يمكن أن نستأنف، اليوم، هذا النوع من الوعي العلمي الجدلي؛ بين اللغة وبنية العمران العربي؟

محمد بوعمامه: فعلًا، يعزى النجاح الضخم الذي أحرزه الفكر العلمي العربي، ونظرياته الاجتماعية في القرن الرابع عشر، إلى المفكر عبد الرحمن بن خلدون؛ الذي بسط هذه النظريات في كتابه (المقدمة)؛ فلأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني، يبتدع ابن خلدون علم الاجتماع البشري، والقوانين المنظمة للحياة وتطور المجتمع.

ولقد انطلق ابن خلدون من فكرة مفادها؛ أنه إذا كان موضوع علم التاريخ، هو الأحداث الأساسية، وعوامل الارتباط بين أسبابها ونتائجها؛ فإن (العلم الجديد) الذي هو بطبيعة الحال: علم الاجتماع، يجب أن يكون مركز الاهتمام فيه؛ القوانين الأساسية، وأشكال الحياة الاجتماعية للناس؛ العمران البدوي، والعمران الحضري، وعلاقتهما المتبادلة، والأسس المادية لحياة الناس؛ كالزراعة والصناعة، كوسائل لضمان الحياة، ووسائل تنظيم المجتمع الإنساني وإدارته، والعلوم والفنون، واللغة والأدب، والدين ودوره في حياة المجتمع البشري، وهكذا.

ولما كانت اللغة؛ هي لسان حال المجتمعات البشرية، وأداة للتعبير عما يدور في المجتمع؛ من حضارة، ونظم، وعقائد، واتجاهات فكرية، وتيارات اجتماعية، وثقافية، وفنية، واقتصادية، أفرد لها ابن خلدون، في مقدمته، فصولًا أحاط فيها بالظاهرة اللسانية، إحاطة أكاد أقول: إنها تفوق، في بعض جوانبها، ما توصل إليه الدرس اللساني الحديث، وفي الشق الاجتماعي، بشكل خاص. واللغة، عنده، ترتبط بشروط اجتماعية، وجغرافية، وتاريخية، ودينية، وقد أفاض في الحديث عن هذه الشروط، شارحًا ومعللًا، إلى درجة أن كلامه في هذا الجانب، يمكن أن نعده نظرية قائمة بذاتها؛ فلقد أدرج ابن خلدون مسألة اللغة، في السياق العام؛ الذي هو العمران البشري، وأكد أن اللغة، بوصفها ظاهرة اجتماعية، ترقى برقي المجتمع، وتنحط بانحطاطه. فاللغة العربية، مثلًا، عرفت تقلبات وتطورات عبر تاريخها الطويل، وخاصة في العصور المتأخرة، وذلك عن طريق الاحتكاك باللغات الأخرى، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الحضاري المادي (العمراني)؛ فتسربت إليها تعابير جديدة، وأساليب جديدة، ومن ثم؛ وجدنا ابن خلدون، يدعو إلى دراسة اللسان العربي عبر مراحله التاريخية المختلفة؛ لأن لكل مرحلة سياقًا، اجتماعيًّا وتاريخيًّا، مغايرًا.

مثل هذا الوعي بطبيعة المجتمعات البشرية، (والمجتمع العربي على وجه الخصوص)، هو الذي ينقص الباحثين العرب المعاصرين؛ فبنية المجتمع بنية متكاملة، لبناتها بعضها متصل ببعض، يجب على هؤلاء تشريح كل لبنة، وفق معطيات حضارية، واجتماعية، ونفسية، ودينية، وبمعنى آخر؛ القيام بالتفكيك لتسهل، بعد ذلك، عملية إعادة البناء، ومثل هذا العمل لا يقوم به، بطبيعة الحال، الباحث اللساني فحسب؛ بل يشارك فيه باحثون من تخصصات مختلفة، أعني بذلك؛ علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والأنثروبولوجيين، والسياسيين، وغيرهم.

شراف شناف: يعيش العالم اليوم أزمة حادة في المعنى، إلى أي حد يمكن للدراسات الدلالية؛ أن تفك الحصار على المعنى، ومن ثم، تحرر الوعي البشري من كل أشكال الدوغمائيات؟

محمد بوعمامه: بداية أود أن أشير إلى أن قضية (المعنى)، لم تشغل الفكر اللغوي فحسب؛ بل بحث في جوانبها المختلفة علماء من تيارات مختلفة؛ ففلاسفة اللغة، مثلًا، يعد موضوع المعنى عندهم، من أهم موضوعات اللغة، ومن ثم؛ وجدنا أسئلتهم، كلها، تنصب حول هذا الجانب، وذلك في مثل: كيف يتعلم الأطفال معاني الكلمات؟ ما العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ كيف تتغير معاني الكلمات حين تتطور اللغات؟ هل لاسم العلم معنى غير مسماه؟ هل لكل كلمة معنى واحد محدد، أم لها عدة معان؟ كيف نميز بين العبارات أو الجمل التي لها معنى من تلك التي لا معنى لها؟ متى نسمي المعنى غامضًا؟ وما المقصود بالجمل الغامضة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.

وهكذا سلكت دراسة المعنى عند الفلاسفة طرائق عدة، أهمها طريقتان: ترتبط الأولى بالنظريات الصورية، التي اقترحها فريجه، وفتجنشتاين، وكواين، وتشومسكي. وترتبط الثانية بنظريات الاستعمال، التي نجدها عند؛ أوستن، وجرايس، وسيرل؛ ففي حين تهتم النظريات الصورية بالبنية الصورية للغات والعلاقات المتبادلة بين الجمل، نجد نظريات الاستعمال، وخاصة عند بول غرايس، تؤكد على دور المتكلمين في فهم المعنى، ومن ثم أعطى غرايس المتكلمين في مقاصدهم، مكانة محورية عند تفسير المعنى. ولا يخفى عليكم المسار الذي اتخذته قضية المعنى في بيئة الفلاسفة والمناطقة، إلى درجة أننا وجدنا أنفسنا أمام نظريات متعددة، لا ندري بأيها نأخذ، وهذه النظريات هي:

- النظرية القائلة بأن المعاني: هي النماذج الخالدة أو المثل.

- نظرية جون لوك، التي تقول: إن المعاني؛ هي الأفكار التي تدل عليها الكلمات.

- النظرية القائلة: إن المعاني؛ هي الأشياء ذاتها التي نجدها في العالم، أو إن معنى الاسم هو مسماه.

- نظرية فتجنشتاين، التي تقول: إن معنى الكلمة؛ هو مجموع استخدامات الناس لها في اللغة العادية.

وأما علماء النفس؛ فنجدهم يفرقون بين المعنى، والمدرك الحسي، والصورة الذهنية. وسبب ذلك، في نظرهم: أن المدركات الحسية مقيدة بالحالة التي هي عليها في الواقع، أما الفكرة؛ فهي مجردة من هذه القيود. والشيء نفسه ينسحب على الصورة الذهنية؛ فهذه الأخيرة، تختلف عن الأصل، من حيث خصائصه العامة، ذلك لأنه؛ لو حاولنا معرفة الفرق بين معنى الكلمة، وبين التصور الذهني، لاتضح أن هذا الأخير، لا يمثل إلا جزءًا بسيطًا من المعنى الموجود في ذهن الفرد، وبمعنى آخر؛ التصور الذهني لا يعد ترجمة حقيقية للمعنى.

فتجارب المرء وخبراته الماضية، التي ترتبط بكلمة أو جملة سمعها، ليست سلسلة من المدركات الحسية تحضر في ذهنه صورًا، كما أدركها في الماضي؛ وإنما تثار في ذهنه معان لهذه الكلمة أو الجملة، هي مزيج بكل ما له صلة بهما من تجاربه الماضية.

وأما إذا جئنا إلى اللغويين؛ فإننا نجدهم يتحدثون عن شيء اسمه: علم الدلالة؛ وهو علم معاني الكلمات وأشكالها النحوية، وكان تأسيسه ثمرة لعمل اللساني الفرنسي (ميشال بريال)، غير أن هذا العلم، لم يبدأ في التطور على نحو جدي، بوصفه فرعًا مستقلًّا من فروع اللسانيات، إلا في السنوات الأخيرة؛ حيث تزايد عدد المهتمين بمشكلاته، واكتسب آفاقًا نظرية أكثر رحابة، واستخدم إجراءات منهجية أكثر كفاءة.

ولكي يحرروا المعنى من قيود الفلسفة، وعلم النفس، وغير ذلك من التيارات، لجأ علماء الدلالة إلى طرح بديل، يكون بمثابة المعين على فهم المعنى، وكيفية استخلاصه من الكلمات، والعبارات، والجمل، وهذا البديل؛ هو بنية اللغة ذاتها. فعوض اللجوء إلى البحث عن المعنى، من خلال المنطق الموغل في التجريد، أو من خلال التأويل، محموده ومذمومه، يجب اللجوء إلى اللغة نفسها؛ لأن هذه الأخيرة، ليست مجموعة من العناصر المتنافرة والمبعثرة؛ بل هي نظام يبرز عند تحليل مستوياته المتعددة، أنه على درجة عالية من الاتساق والانسجام.

وبناء على هذا؛ فالمعنى عند الدلاليين، يظهر من خلال بنية اللغة: الصوتية، والصرفية، والتركيبية، والمعجمية، ومن وراء ذلك المعنى الصرفي، والمعنى الصوتي، والمعنى التركيبي، والمعنى المعجمي، ولا يسمح المقام، هنا، بإيراد أمثلة على كل نوع من المعاني المذكورة، خشية أن يتحول الكلام إلى محاضرة.

هذا، وقد استعار الدّلاليون من فلاسفة اللغة، تعبيرين على غاية كبيرة من الأهمية، وهما: لا تبحث عن معنى الكلمة، ولكن ابحث عن استعمالاتها (فتجنشتاين)، والكلمة خارج السياق لا معنى لها (هياكوا). وهنا؛ برز نوع آخر من المعنى، سموه: المعنى السياقي، ذلك لأن؛ الكلمة في الكلام المنطوق أو المكتوب، تظهر دائمًا في سياق ما، يحدد معناها ويعطيها أبعادًا جديدة، ترتبط بمعنى هذا السياق ككلٍّ، أكثر مما ترتبط بمعنى الكلمة، قبل استعمالها في السياق.