مسألتا الوجود والقيم في الفلسفة اليونانية


فئة :  مقالات

مسألتا الوجود والقيم في الفلسفة اليونانية

مسألتا الوجود والقيم في الفلسفة اليونانية

تمهيد:

من الشّائع التّمييز في الفلسفة بين مباحث يُرجعها الدّارسون والمتخصّصون إلى ثلاثة كبرى هي الأنطلوجيا (مبحث الوجود)، والإبستمولوجيا (مبحث المعرفة)، والأكسيولوجيا (مبحث القيم)، غير أنّ حضور هذه المباحث وما يرتبط بها من إشكالات جزئيّة لا يكون بالأهمّيّة نفسها في كلّ المراحل التّاريخيّة. ففي الفلسفة اليونانية، هيمنت المسائل المتعلقة بالوجود (مرحلة الحكمة الطبيعية) في المرحلة الماقبل سقراطية، قبل أن يُحوّل سقراط اهتمام الفلسفة من السّماء (الوجود والعالم) إلى الأرض (المجتمع البشري ومسائله الأخلاقية)، ويجعل من المسألة العمليّة (الحياة الطّيبة والعدالة والخير والجمال...) الموضوع الفلسفي بامتياز. وبالرغم من أنّ المسائل الأخرى من قبيل المعرفة كانت تحضر في ثنايا الأنساق الفلسفية الكبرى، إلا أنّني أدّعي أنّها لم تكن الموضوع الرّئيس، طالما أنّ الإنسان الذي يعرف، لم يكن مشكلة فلسفيّة ولا موضوعا للنّظر الفلسفي. نتناول في هذا المقال القصير هذه الدعوى، ونبيّن –مستشهدين بنصوص فلسفية من التراث الإغريقي نفسه- أنّ الموضوع الرئيس للفلسفات القديمة كان ذا طابع عملي محض، يجيب عن تطلعات البشر إلى تحقيق الحياة الطيبة، ومواجهة الموت.

  1. الحكمة الطبيعية باعتبارها بحثا في الوجود

يكاد يُجمِعُ المؤرخون على أنّ الفلسفة خطاب رأى النور حوالي القرن السادس قبل الميلاد في بلاد الإغريق، وقد جرت العادة على تسمية ذلك بالمعجزة اليونانية[1] بسبب النَّقلة الفكرية التي أحْدَثَها المُفكّرُون الطّبيعيون الأوائل الذين أُطلقَ عليهم "الحكماء الطّبيعيون ". كانت نهاية القرن السابع وبداية القرن السادس قبل الميلاد لحظة حاسمةً في تاريخ الفكر البشري؛ إذ جرى فيها تَحَوّلُ الفكر البشري من طريقة التّفكير الميثولوجي التي كانت تُفسر نشأة العالم بناء على قصص تتعلّق بصراعات الآلهة وحروبها وشهواتها[2]، فتنسبُ ظواهر العالم ووقائع الطبيعة إلى قوى غيبية وخرافية خارقة للمألوف، إلى طريقة تفكير وُصِفَت بالعقلانية؛ لأنها باتت تُفسّرُ ظواهر الطبيعة ووقائعها استنادا إلى الطبيعة وعناصرها المادية فقط. لقد تَمَّ هذا التّحوُّلُ على يد هؤلاء الحكماء الطبيعيين الذين ارتبطت اهتماماتهم وانشغالاتهم بالبحث في القضايا المتعلقة بأسرار الظواهر وعلل الطبيعة؛ كان التّغيُّر الذي يُصيبُ هذه الظّواهر وما يطرأُ على العالَم من تبدّل، وما يَمسّ المادة من تحوّلات تنقُلُها من هذا الشّكل إلى غيره، ومن هذه الصورة إلى تلك مشكلةً بالنّسبة إلى العقل البشري الذي كان تَوّاقا إلى تجاوُز مظاهرِ هذه الفوضى والاختلال والكثرة والتّعدّد، وهو تَوقٌ لم يكن هناك من سبيل لإرضائه إلا بالسّعي نحو التّوحيد وتجاوز التّناقض.

أَدّعي - مستندا إلى هذا التّمهيد البسيط- أنّ مشكلة هذا النّوع الجديد من التفكير، والذي اصطُلِحَ على تسميته بالحكمة الطبيعية، كانت متعلقة بمسألة الوجود وما يطرحه من تساؤلات كبرى تتعلق بأصل الظواهر وعِلَل ما يجري في هذا الكون من وقائع، كانت عيون هؤلاء الحكماء تتطلّع بلهفة إلى السماء، وكانت أعناقهم تشرئبُّ إلى معرفة سرّ هذا الكون، ولم يكن بحثهم عن هذا السّرّ إلا علامةً على حيرة العقل البشري، وهو يواجه ظواهر متعددة وكثيرة أَخَذَ على عاتقها مسؤولية تنظيمها وإضفاء المعقولية عليها؛ ولهذا السبب فإنه لم تكن لديهم نظرية في المعرفة أو انشغال بها وبطبيعتها وبمعاييرها، اللهم إذا استثنينا ما كانوا يوردونه لِماماً بصددها من أفكارٍ لم تكن في الحقيقة إلا امتدادا لنظرياتهم في الطبيعة والكون.

  1. الوجود بين الثبات (بارمنيدس) والصيرورة (هيراقليطيس)

يمكننا تَلَمُّسُ الدّليل على معقولية هذا الافتراض / الادّعاء الذي انطلقنا منه من خلال الوقوف عند اتّجاهين فكريين طَبَعَا الفكر الفلسفي الذي تلاهما لاحقا، وكان لهما كبير الأثر على التّقاليد الفلسفية التي ستتبلور فيما بعد. يُنسَبُ التّوجُّهُ الأول إلى الحكيم الطبيعي هيراقليطيس الذي كان يرى أنّ البحث عن الوحدة والثّبات في الكون ليس إلا محاولة للإمساك بوهم غير موجود، لأنّ الكون بالمُحصّلة ليس إلا صراعا بين أضداد ومتناقضات لا تَستقِرُّ على حالٍ واحدٍ. لهذا انتهى به المطاف إلى القول إنّ الوجود لا يختلف من حيثُ طبيعته المتحوّلة دائما عن النّهر الجاري الذي لا يستطيع المرء أن يسبح في مائه مرتين على التوالي؛ لأنّ ماءه لا يلبثُ أن يجري ويتغير[3]، بل أكثر من ذلك يذهب إلى الاعتقاد بأنّ ما يطرأُ على هذا الوجود من تغيُّرات، يتمُّ بسرعةٍ شبيهةٍ بسرعة التّقلّبات التي تُميّزُ طبيعة النار الملتهبة، إذ تتّخذُ في اللحظة الواحدة ألوانا وأشكالا عدة؛ من هنا ستصبح الحكمة في نظر هيراقليطيس هي اكتشاف قانون الأضداد لتفسير التّغيّر.

على خلاف هذا التّصوّر الهيراقليطي، قام الاتّجاه الفكري الثاني الذي يُنسَبُ إلى الحكيم الطبيعي "بارمنيدس" -الذي اشتُهِرَ بقوله "الوجود موجود، واللاوجود غير موجود"[4]- على الاعتقاد بأن ما يوجد فعلا هو الوجود الذي يتّصف بالوحدة والثبات والأزلية والامتلاء، وعدم القابلية للقسمة والتّغيير والتّحول، إنه في حاضر دائم لا ماضيَ له ولا مستقبل، ومن أزليته هذه يتم استنباط مبدأ رئيسي عند بارمنيدس مؤدّاه أنّ الوجود لا يمكن أن يتولّد من اللاوجود، ممّا يعني أنه لم يُخلَق وليس حادثا. إنّ التّحول والتّغيّر يقتضيان بالضرورة تغيرا في طبيعة الشيء الذي يعتريانه، ولا يمكن نسبتهما إلى الوجود ما دام أنه لا ضد له ولا نقيض يتحول إليه؛ وهو ما يترتّب عنه أنّ القول بالتّغير في الوجود، أو الاعتقاد في وجود الفراغ والعدم قول مُجانِبٌ للصواب واعتقاد باطل ينتُجُ عن اكتفاء النّظر الفكري بالمظاهر الخارجية للأشياء، تلك المظاهر التي يبدو أنها معرّضة للتّغيّر باستمرار.

  1. مسألة المعرفة بوصفها امتدادا لنظرية الوجود

يقتضي إدراك الوجود الحقيقي - حسب بارمنيدس - تجاوز ظاهر الموجودات والأشياء والنّفاذ إلى جوهرها الخفي الذي يظل ثابتا، ولا يمكن النّفاذُ إلى هذه الحقيقة إلا باستعمال العقل، وليس التّعويل على الحواس التي تكتفي بالمظاهر. في هذا السياق (المسألة الوجودية) يمكننا العثور على بعض الومضات ذات الارتباط بموضوع المعرفة، والتي يجري الحديث عنها عَرَضاً وبوصفها امتدادا لمسألة الوجود.

يتعلق الأمر هنا بتمييز بارمنيدس بين المعرفة الظنية القائمة على الحواس، والمعرفة الحقيقية التي دَيْدَنُها العقل. وتكمن الحكمة في الأخذ بالثانية (العقلية) ونبذ الأولى (الحسية) التي تبقى معرفة عامية يُقبل علها العامة.[5] وإذا كانت " المعرفة " كما تصوّرها بارمينيدس محاولة من النظر العقلي لاستكناه حقيقة الوجود وتطابقه مع ذاته، فإن المعرفة كما ترتّبت عن التّصوّر الهيراقليطي للوجود كانت على النقيض تماما مع الخلاصات التي رصدناها آنفا من التصور البارمنيدي؛ فبما أنّ الوجود بأكمله في تغير دائم وحركة مستمرة، فإنّه يستحيل تماما بناء معرفة أكيدة وثابتة به، لهذا تبقى معارف الإنسان نسبية ومتغيرة تبعا لتغير الموضوعات المعروفة. ولنْ نُجانب الصواب إذا قلنا إنّ التّصوّرين اللذَيْنِ أتينا على ذكر بعض أفكارهما ومبادئهما العامة كانا سَلَفَين أساسيين لعديد الاتّجاهات الفلسفية التي تَلَت مرحلة الحكمة الطبيعية، خاصة منها الحركة السّفسطائية وخصمها الفلسفي سقراط / أفلاطون.

  1. مــيلاد الفلسفة العملية

دائما ما نُسِبَ إلى سقراط أنه الرجل الذي " أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض"، ويُقصَدُ بذلك أنه حوّل وجهة النّظر الفلسفي من الاهتمام بقضايا الطبيعة والوجود وما يرتبط بالكائنات العلوية، إلى الاهتمام بالأرض وأهلها؛ أي الاهتمام بالإنسان. وهكذا انْضاف إلى الانشغال القديم بالوجود مبحث جديد يُشارُ إليه باسم " الفلسفة العملية " التي ستحظى باهتمام الفلسفة منذ سقراط. غير أنّ اهتمام الفلسفة بما هو عملي لا يعني تخلّيها النّهائي عن الاهتمام بالوجود، بل إنّ الفكر الفلسفي -بدلا من ذلك- سيجعل من دراسة الوجود مدخلا ضروريا لمعالجة القضايا العملية المرتبطة بالوجود الإنساني وخاصة منها مسألة "الحياة السعيدة أو الطيبة " وسبُل تحصيلها وتحقيقها داخل المدينة،[6] وهي غاية سنرى أنّ تحقيقها يقتضي بناء الحياة الاجتماعية والسياسية على هيأة تحاكي تنظيم العالم (الوجود) وتراتبية أشيائه ومكوناته. وخير شاهد على هذا الاهتمام الجديد الذي بات الشّغل الشّاغل للفلسفة، تلك الموضوعات التي كان سقراط يجعل منها محور مناقشاته مع محاوريه من السفسطائيين أو السياسيين، والتي كانت عبارة عن قضايا أخلاقية / عملية من قبيل الفضيلة والعدالة والجمال والسعادة؛ ولا يمكننا ملامسة أبعاد هذا الفكر العملي إلا إذا استحضرنا أهم مبادئ الخطاب السفسطائي الذي كان خصما نظريا حاوره وواجهه سقراط / أفلاطون بشدة.

5. تداعيات الأفكار السفسطائية

على غِرارِ الحكماء الطّبيعيين الأوائل، لم يكن لدى السّفسطائيين نظرية في المعرفة ولا انشغالٌ بها؛ لكنهم - وعلى خلافهم - لم يهتمّوا بالطبيعة وظواهرها وما يرتبط بها من تساؤلات. فقد باتت الحياة المدنية وما يرتبط بها من قضايا عملية أهمّها " الحياة السّعيدة " موضوعا جديدا ينشغل به خطباء ومفكّرو أثينا الذين لم يَعُدْ تأمُّلُ الكون في عزلةٍ عن النّاس والعالَم يُغريهم كما كان شأن الحكماء الأوائل؛ بل إنّ التّقاليد الفكرية التي حملها السّفسطائيون وهم يجولون في أهمّ المدن اليونانية (خاصة أثينا المزدهرة) كانت مختلفة تماما؛ فقد انخرطوا في الحياة العمومية ونقلوا الجدال الفكري بصدد القضايا العملية إلى السّاحات العمومية مستغلّين هامش الحرية الذي وفّرته الدّيمقراطية التي كانت تنعم بها مدينة أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. تجد التّعاليم السّفسطائية جذورها في نظرية هيراقليطيس القائلة بتغيّر الوجود وخضوعه للصّيرورة الدّائمة من جهة، وفي العقيدة الذّرّيّة (نسبة إلى الذّرّيّين) القائلة إنّ أجسام الكون في حركة دائمة نتيجة لتفكُّك الذّرّات وارتباطها بشكل مستمر، وليس الفكر البشري إذن إلا حصيلة تأثُّر الحواس بهذه الحركة الدّائمة، فالإحساس هو المصدر الوحيد للمعارف البشرية.[7]

يترتّب عن هذا المبدأ المزدوج أنه لا يمكن الإمساك بحقيقة الأشياء ولا بجوهرها، أولا لأنها لا تستقرّ على حالٍ واحد، وثانيا لأنّ تأثيرها في إحساسات الشخص وطريقة إدراكه لها وحكمه عليها ليست بالضرورة شبيهةً بالكيفية التي يتلقّاها بها غيره من الأشخاص. إذن، فالأشياء ليست إلا ما يراه كل إنسان، وطالما أنّه لا يوجد مبدأٌ أو معيارٌ واحد وثابت يسري على جميع الناس، " فإنّ الإنسان معيار كل شيء".[8] إنّ الهواء مثلا في ذاته لا يقبل التّعريف والتّحديد، فهو باردٌ بالنّسبة لشخصٍ ما ودافئٌ لغيره، وقارسٌ عند غيرهما، فمعرفة الشخص به تتوقف على كيفية إحساسه به، فالمحسوس وحده هو الموجود الحقيقي، وما ليس محسوسا فهو غير موجود.

يَلزَمُ عن هذا القول أنه لا توجد حقيقة واحدة وثابتة يأخذُ بها كل النّاس، أو تفرض نفسها على جميع العقول، فلا وجود لخيرٍ في ذاته أو شرٍّ في ذاته، بل إنّ لكل شخصٍ حرّية التّقرير في ما يبدو له خيرا أو شرا. لم تقتصر تداعيات هذه الأفكار السّفسطائية على ما هو معرفي؛ بل إنّ أثرها الكبير مَسّ الأخلاق، ووضع الحياة العملية/الاجتماعية على المحك، عندما وضع المبادئ الأخلاقية الضرورية (العدل، الفضيلة، الخير، الواجب، الحب...) في موضع الشك، وربطها بمعيار المنفعة الخاصة، فباتت عُرضة للتّغيّر والتّبدُّل تبعا لتغير مصالح الناس التي لا تنتهي. فَجَّرَ السّفسطائيون أزمة أخلاقية كبرى سيعكف الفلاسفة لاحقا على محاولة إيجاد حلول لها من خلال أنساق نظرية ستحظى فيها المسألة العملية باهتمامٍ أكبر.

6. نــظــرية المعرفة عند أفلاطون

يمكن العثور في فلسفة أفلاطون على أول نسق فلسفي متكامل يَصدُرُ في كل المجالات والقضايا عن خلفيةٍ نظريةٍ موحّدة مبدؤها الأساس هو "الأنطلوجيا". صاغَ الرّجل أفكاره على شكل حوارات كان سقراط الفيلسوف الحاضر فيها في مواجهة مجادلٍ أو خطيب أو سياسي، ويبدو أنه (أفلاطون) قد وجد في الحوار طريقة مناسبة للتفكير الفلسفي الذي يقتضي استعمالا للحجاج والاستدلال والبرهنة والفحص والتساؤل وغيره من الخصائص التي ستميز هذا النّمط من التفكير عن التفكير الميثولوجي القديم. وعلى عكس السّفسطائيين الذي كان همّهم الأول هو الإقناع والتأثير في المخاطَب، فإنّ أفلاطون سيحدّد غاية الفلسفة في " البحث عن الحقيقة اليقينية والثابتة" التي لا يخالطها الظّنّ والخطأ ولا يطالُها الشّكّ؛ غير أنه وإن كان يَظهَرُ لنا بدءا أنّ موضوع الفلسفة هو معرفة الحقيقة، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الانشغال بمسألة المعرفة هو هاجس الفلسفة الأول، بل إنّ اهتمام أفلاطون بهذا الموضوع لا يأتي إلا في سياق تمييزه الأنطلوجي بين عالم المثُل والحقائق الثابتة والأزلية من جهة، وعالَم الظلال والمحسوسات والأوهام من جهة أخرى.

لقد وجد أفلاطون نفسه أمام تراث فلسفي شقَّ لنفسه طريقين مختلفين، يُفضي أحدهما إلى القول بثبات الوجود ووحدته وامتلائه وعدم قابليته للانقسام والتّغيّر والفناء والتّولُّد، ومن ثمة ينكر إمكانية حدوث أيّ تغيّر يمس هذا الوجود (بارمنيدس)؛ بينما ينطلق الآخر من مظاهر التّغيّر التي تظهر على الأشياء، والتي لا يمكنُ إنكارها ما دام بوسع الإحساس رصدها وإدراكها، ليؤكّد أنّ الصّيرورة التي تطبع الوجود ليست شذوذا ينبغي عقلنته وتنظيمه، بل هو القانون (صراع الأضداد) الذي يسري في الكون ويفرض على الظواهر والموجودات والأشياء أن تنتقل من الحال إلى نقيضه، ولا يخرج الوجود عن هذا القانون، ولهذا من الطبيعي أن لا يكون الوجود جامدا أو ثابتا طالما أنّ كل ما فيه يتغير ويتبدّل. أمام هذين التوجّهين اللّذَيْنِ اقتسما الهيمنة على الفكر الطبيعي السابق على سقراط، شقّ أفلاطون طريقا ثالثا يمكن اعتباره بمثابة لحظة جدلية يتجاوز فيها الفكرة (ثبات الوجود) ونقيضها (الصيرورة في الوجود) نحو تركيبٍ جديد ينسجم مع غاية الرجل التي كانت مختلفة عن غايات سابِقَيْه.

كان أفلاطون على وعيٍ بأهمّ المفارقات والنّقائض التي ترتّبت عن المبدأ السّفسطائي الذي يجعل من الإنسان مقياسا لكل الأشياء، ومن بين هذه النقائض الكثيرة، نتوقف عند تلك التي تُنسَبُ إلى "جورجياس"، والتي مؤدّاها أنّ كل محاولة للبحث عن الحقيقة الثابتة ستكون عبثا لا طائل فيه، طالما أنّ هذا البحث لن ينتهي أبدا إلى هذه الحقيقة المرجوة، وحتى إذا اهتدى إليها فلن يستطيع التّعرّف عليها ما دام لا يوجد معيار ثابت يسمح بالتّمييز بين الصواب والخطأ من جهة، وما دامت الأسماء لا تُطابقُ على نحوٍ ثابت ودائم ما تشير إليه من أشياء[9] من جهة أخرى. خلافا لهذا الرأي، يؤكّد أفلاطون في محاورة "مينون" أنّ المعرفة ليست إبداعا يَصدُرُ عن عبقرية الشّخص، ولا هي دليلٌ على ذكائه، بل إنها حصيلةٌ مباشرةُ لفعلِ " التَذَكُّر الذي تقوم به النفس[10] عندما تعودُ إلى ذاتها فتُطَهّرُها ممّا يَعلَقُ بها من أهواء الجسد وشهواته، ما دام أنّ هذه الأخيرة تُمثّلُ عائقا أو عبئا يحول بينها وبين تحقيق هذا التّذكر؛ وتكمنُ أهمّيةُ / قيمة نظرية التّذكُّر في أنها كانت مَخرَجا تَمَكّن من خلاله أفلاطون من الاستغناء عن الحواس التي كَفّت عن أن تكون مصدرا من مصادر المعرفة.

لقد كان الاستناد إلى نظرية التذكر واعتبارها سبيلا إلى المعرفة الحقيقية بمثابة انقلابٍ في نظرة الفيلسوف إلى الحقيقة وآليات التّوصّل إليها، ويتجلّى ذلك في أنّها أَظهَرَت أنّ الفضاء العمومي (الساحات والأسواق العامة) ليس المكان المناسب للبحث عنها، بل يقتضي تحصيلها تأمُّلا عقليا تتَجَرَّدُ فيه النفس تماما من كل رباطٍ يجمعها بالجسد، وتترفَّعُ تماما عن الاهتمام بالمظاهر الخارجية أو الانشغال بالجزئيات، وتجعلُ من إدراك ما هو " كُلِّيٌّ " وواحدٌ وعامٌّ غايتها القُصوى. من هذا المنطلق، يبدو واضحا ما تُمثّلُه نظرية "التّذكّر" داخل النسق الأفلاطوني، فهي واحدةٌ من دعاماته الأساسية، ولا يمكن فهمها إلا بوضعها داخل هذه المنظومة الغنيّة التي تتشابك فيه خيوط نظريات الوجود والأخلاق والمعرفة والسياسة والجمال.

يُبيّنُ أفلاطون في محاورة " فيدون " أنّ " النّفس " الإنسانية من طبيعةٍ مختلفةٍ عن طبيعة الجسد. فإذا كانت ماهية الجسد تكمن في أنّه جسمٌ مادّيٌّ يخضع للتغير ويُصيبُه الفناء والتّحلُّل؛ فإنّ النّفس على خلافه تتّصفُ بالوحدة والبساطة اللتين تجعلان تكوينها خالصا من كل ما هو مادّي، مِمّا يترتّبُ عنه أنها غير قابلة للفناء، إنها خالدة " لا تموت بانفصالها عن الجسد، وإنما تعود إلى موطنها الأول الذي كانت تسكُنُه قبل اتّصالها بالجسم. وإذا كان التّذكُرُ واقعة حقيقية يسهُلُ إثباتها (عبد مينون مثلا)، فإنه ما كان ممكنا لو لم تكن النّفس على علمٍ مسبقٍ بهذه الحقائق، ممّا يجعل من الممكن اعتبار فعل التذكر دليلا استنباطيا على خلود النفس.

يتضمّن هذا التّمهيد البسيط فصلا حاسما بين النفس والجسم، فإذا كان الجسم من طبيعةٍ مادية تجعلُهُ نهما إلى الشّهوات واللذّات الحسية والرغبات الحيوية، فإنّ طبيعة النّفس الخالدة تجعلها تتطلّعُ دائما بشغف إلى عالَمها الأصلي الذي هو عالَمُ الحقائق المفارق لعالَم الجسد والحواس. هكذا يتحوّل الجسم إلى سجنٍ تشقى به النّفس، ما دام يبطئ حركتها بأثقال أهوائه ويضلّلُها عن رؤية الحقائق كما هي في ذاتها عندما يُغرقها في جزئياته وتناقض أحاسيسه وتغيرها المستمر.

نتجَ عن الاعتقاد في خلود النّفس وانفصالها عن الجسد، تبعاتٌ ونتائج ذات طبيعة معرفية وأخلاقية، يتجلّى الجانب المعرفي منها في أنّ "الجسم عائق لا يسمح للنّفس أن تفكّر أو تستعيد الحقائق التي كانت تعرفها جيدا قبل اتّحادها به"،[11] ولمّا كان الجسم متّصلا بالواقع من خلال الحواس، فإنّ تأثُّرَ هذه الأخيرة بما تتلقّاه من صور الأشياء ومظاهرها الزّائلة والمتغيّرة، يُرسّخُ فيه تدريجيا الاعتقاد بأنّه لا شيء في ثبات، ولا وجود لحقيقة أو معرفة أكيدة وثابتة؛ وهذا هو المظهر الخادع الذي أسقَط السّفسطائيون وقبلهم هيراقليطيس في الاعتقاد بأنّ الحقيقة الثّابتة غير مودوذة. لهذا السّبب يُميز أفلاطون – في محاورة تياتيتوس – بين المعرفة الحقيقية التي يسمّيها (العلم) من جهة، والآراء الشائعة التي يسميها " المعرفة الظّنّية أو الدوكسا ".[12] فإذا كان الظّنّ هو الرّأي الذي يُكوّنُه الشّخص معتمدا على الشواهد الحسية والوقائع الجزئية، فيظل تبعا لذلك مطبوعا بالنّسبية والقابلية للتغير، فإن العلم الحقيقي لا يجعل من المحسوسات والمظاهر والجزئيات موضوع نظره، بل يبحث عن الكلّي الذي يتوفّر فيه وحده شرطا الوحدة والثبات: وليس هذا الكُلّي إلا الفكرة / المِثال الذي هو الوجود الحقيقي.

أمّا البعد الأخلاقي فيها، فيمكننا تلمُّسُه في التّعريف الجديد الذي قدّمه أفلاطون للخير (الفضيلة) والشر (الرذيلة)، وهو تحديد كان يسعى من ورائه إلى سدّ الثّغرة التي فتحها السّفسطائيون، عندما جعلوا من الإنسان مقياسا لكل شيء، فلم يعد هناك معيار للتمييز بين الحقيقة والوهم أو بين الخير والشّر، فكان في قولهم هذا ما يمكن اعتباره مدخلا للفوضى والاختلال في المدينة. خلافا لهذا الرأي، يؤكّد أفلاطون أنّ "الفضيلة علمٌ والرّذيلة جهلٌ ". ومقتضى هذه العبارة أن لا أحد يكون شرّيرا أو يُقدِمُ على القيام بالشّرّ بإرادته،[13] ولا أحدَ يجعلُ من رغباته ومصالحه الخاصة معيارا للتمييز بين ما هو خير وعدل، وما هو شرّ وجور، بل إنّ ذلك يحدثُ في الغالب عن جهل النّاس بطبيعة الخير والعدل، إذ غالبا ما يختارون ما هو فاسد وسيء، من منطلق اعتقادهم بأنّه صحيح وسليم. لهذا، فإن الشّخص الفاضل والعادل الذي يقوم بأعمالٍ فاضلة هو شخصٌ لديه معرفة صحيحة بماهية الفضيلة. فكيف تَأَتّى له الإمساك بهذه المعرفة الصّحيحة؟.

يجد هذا السؤال جوابه الأكيد في نظريّة التّذكر، فالرّجل الفاضل هو الذي استطاعت نفسه أن تستعيد في ذاتها ما كانت تراه وتعرفه معرفة أكيدة قبل أن تَحُلُّ في الجسم (إنه الفيلسوف الذي نجح في مقاومة شهواته وأخلص الطاعة للنفس وانقاد لها وطهّرها فتمكّنت من تذكّر الحقائق)؛ أمّا الشّرّير فهو الذي استولت رغباته وشهواته الحسية على نفسه فأسرَتها وأخضعتها وحالت بينها وبين التّذكّر؛ وهكذا فإنه لن يكون بوسعها القيام به (التذكر) ولن تستطيع تحصيل هذه المعرفة الصحيحة إلا بعد الخلاص من هذا الأسر الذي لا فكاك لها منه إلا بالموت.

فما الموت؟؛ إنّه اللحظة التي يتوق إليها الفيلسوف، إذ هي التي ستشهد خلاصَهُ النّهائي عندما ستتحرّرُ نفسه نهائيا من مختلف العوائق التي يضعها الجسد (نقص الحواس وخداعها، ثقل الشهوات والملذات...) في طريقها نحو المعرفة بالمُثُل.[14] إننا هنا أمام منظومتين أخلاقيتين متعارضتين، ترتبط أولاهما بالجسد وما يتبعه من ملذاتٍ حسية، وهي قيم تستهوي عامّة الناس ممّن هيّأتهم الطبيعة ليعملوا بأجسادهم، ولينهضوا بحاجاتِ من هيأتهم ليفكّروا ويتأمّلوا ويسودوا، ومن الطبيعي ألا يرضى ذووا الطبائع الشريفة (الفلاسفة) إلا بقيم النّفس التي فضيلتها الحكمة وطلب الحقيقة، وهذا مضمون الأخلاقيّة الثّانية التي تغري ذوي الطّبائع الشّريفة. لهذا السبب كانت الفلسفة بالنسبة إلى أفلاطون / سقراط تدرُّبٌ على الموت واستعداد له وشغفٌ به، وهذا ما نلمسهُ في الكثير من مقاطع محاورة " الدّفاع " التي لا يكُفُّ فيها سقراط عن تمجيد الموت والاحتفال به، خاصة في اللحظات الأخيرة التي تسبق شربه للسّم امتثالا للحكم الصّادر ضده بالإعدام.

هكذا يتّضح لنا التّلاحُم الشديد بين نظرية أفلاطون في المعرفة وموقفه الأخلاقي. فالأخلاق الفاضلة ليست وصفةً جاهزة أو تعاليم يتوجّب على المرء التّقيّد بها، بل إنها علمٌ صحيح (معرفة) بماهية الفضائل (الخير والعدل مثلا)، وما الفضلاء إلا علماء تطهَّرت نفوسهم من أسْر شهوات الجسد، وتطلّعت بحرية إلى الحقائق، وكفّت عن أن تظلّ حبيسةَ المحسوسات والمظاهر الزائلة. ونستطيع الآن أن نُخمّن سبب استخدام أفلاطون للطريقة الحوارية والجدالية بدلا من العرض العادي للأفكار؛ فالحوار وسيلة مناسبة تُيَسّرُ على النّفس أن تتيقّظ، وتدفعها إلى التّذكّر عندما تُنبّهها إلى تناقض المعارف والآراء التي تأخذ بها وابتعادها عن الحقيقة الأكيدة، فتقودها بذلك إلى التّخلّص من هذه الآراء والظنون (بادئ الرأي)، وترفعها تدريجيا إلى اكتشاف المُثُل التي كانت تعرفها إبَّان استقرارها في هذا العالَم جنبا إلى جنبٍ مع هذه الحقائق. إن هذا النّشاط الحواري هو الذي سمّاه سقراط بـــ" فن التّوليد "، وهو نشاط شبيه بنشاط القابلة التي تُولّدُ النساء أجِنّتهن، مع فارق بسيط يكمن في أنّ سقراط كان يولّدُ النفوس أفكارها، غير أنّ بسطَ هذا الارتباط الوثيق بين المعرفة والأخلاق عند أفلاطون، لا يخفي أنّ المجالين معا ليسا إلا امتدادا لنظرية الرجل في الوجود، تلكم النّظرية التي أوردنا الكثير من خصائصها وعناصرها بطريقة عَرَضية، وسنحاول في الفقرة الموالية بسط أهمّ مبادئها وكشف علاقتها مع نظرية المعرفة.

7. الــــــوجود والمعرفة عند أفلاطون

يخصّصُ أفلاطون الكتاب السابع من الجمهورية لمناقشة نظريته في الوجود، وينطلق في ذلك من أسطورة " الكهف " [15]الشهيرة التي يستعرضُ فيها بأسلوب أدبي بديع ورصانة مثيرة للعجب حالة سجناء حُبسوا في كهفٍ ورُبطوا جنبا إلى جنبٍ حيث حيلَ بينهم وبين النّظر إلى الخلف. وخلفهم توجد توجد نار مشتعلة يفصلُهم عنها جدار، يمرُّ خلفه مجموعة من الناس، يرفعون تماثيل إلى الأعلى ويرفعون أصواتهم بكلمات فيما بينهم. ولمّا كانت ظلالُ التّماثيل المرفوعة إلى الأعلى تنعكس أمام السجناء الذين لا يسعهم أن يستديروا إلى الخلف، فإنهم يتوهّمون تلقائيا أن تلك الظلال تتحرّك بذاتها وتتكلّم، ومع مرور الزمن تترسّخ بينهم هذه القناعة ويتشبّثون بها إلى حدٍّ يجعلهم مستعدّين لإبعاد كل من يُشكّكُ في معتقدهم أو حتّى قتله. وهذا ما تبين الأسطورة ذاتها أنه سيحدث لو سُمِحَ لأحدهم بالاستدارة إلى الخلف (التّحقّق من أنّ الظلال المنعكسة على جدار السجن ليست هي الحقيقية) أو الخروج من الكهف (اكتشاف العالم ومعرفة الأشياء بوضوح تحت ضوء الشمس وليس في عتمة الكهف).

يشرح أفلاطون ذاته دلالات هذه الأسطورة عندما يبيّنُ أنّ سجن الكهف يحيلُ على الواقع الذي نعيش فيه، وهو واقعُ الظلال والأشباح والموجودات المتغيرة والفانية التي نتعرّف عليها بحواسّنا، فنتوهّمُ أنها حقائق، ونسقط أسرى الأوهام، بينما يرمز العالَم الذي يوجد خارج الكهف إلى عالَمُ المُثُل والحقائق الأزلية والثابتة، والتي يقتضي إدراكها تَجَرُّدَ النّفس من كل ما يربطها بالجسد والمحسوسات؛[16] أما الفُرصة التي تُتَاحُ لأحد سجناء الكهف بمغادرته والصّعود خارجه واكتشافه للعالَم الحقيقي، فيشير من خلالها أفلاطون إلى جُهد الفيلسوف الذي لا تَشغَلُهُ اهتمامات الحياة وملذّاتها، بقدر ما يسعى إلى معرفة الحقائق كما هي في ذاتها، وهذه هي صورة الفيلسوف سقراط.

يتّضح لنا الخيط الرابط بين مبحثي المعرفة والوجود، عندما نفهم أنّ الحديث عن مسألة المعرفة وخصائصها وطبيعتها والتّمييز فيها بين الصحيحة والباطلة، إنما يأتي كامتداد للتمييز الوجودي بين العالَمين؛ وهو التمييز الذي يقتضي تمايَز شكلي المعرفة وتطابق كل واحد منهما مع العالم الذي يتكوّن فيه. أكثر من ذلك يبدو أنّ الإمساك بمعقولية الموجودات والأشياء يتطلّب الاستناد إلى سببية مكانية مؤدّاها أنّ الوجود العلوي يحكُمُ الوجودَ السّفلي وينظّمُه ويضفي عليه المعقولية؛ وذلك بدليل أنّ وجود المثل هو الذي يوحّد وجود الجزئيات والمحسوسات ويسمح للعقل بتجاوزها صعودا نحو مثلها.

وإذا كان من الصّحيح أنّ كل فكرة تلعب دورا داخل النّسق الذي تتشكل فيه، فإنّ فكرة "التّمييز بين العالمين" كانت بمثابة جواب قدّمه أفلاطون لتجاوز الشّقاق الذي خلّفه التّناقُضُ بين تصوّر كل من بارمنيدس وهيراقليطيس للوجود. فإذا كان أفلاطون يقبلُ من هيراقليطيس أنّ الوجود متغير ومتناقضٌ دوما، فإنّه يعتبر مع ذلك أنّ هذا التّناقض ظاهريٌّ فحسب، ولا يُقرُّ به أو يَعْترف به بوصفه واقعٌ حقيقي إلا من اكتفى بالمعرفة الحسية. أمّا من يتلمّسُ حكمة العقل، فسيتجاوز ظاهر الأشياء وجزئياتها المتقلّبة، ويبحثُ عن ماهياتها الثابتة التي تتجلّى فيها حقيقة الوجود الثابت. وهنا يلتقي مع بارمنيدس.

8. المذهب الأبيقوري وأهمّية الإحساس

إذا كان أفلاطون وقبله سقراط قد وجدا في تعاليم السفسطائيين وأفكارهم ما يمكن اعتباره تهديدا لأمن المدينة وأخلاق المواطنين، ودعوة إلى الفوضى والانتهازية والأنانية الضّيّقة، وحاولا تقديم بدائل نظرية زعما أنها ستحمي المدينة من الاضطراب، وتصنع مواطنين على درجة عالية من المسؤولية والالتزام، حيث يتولّى كلّ واحد منهم مهمته التي هيّأته الطّبيعة لينهض بها بإتقان، ممّا سيؤدّي إلى انسجام المدينة وكمالها ويحقّق العدل فيها؛ فإنّ الوقائع التي تلت وفاتهما معا أَظهرَت أنّ المدينة التي حلما بها كانت ضربا من الخيال، يصعب أن يجد طريقه إلى التّحقّق الفعلي في الواقع. فسرعان ما سقطت مدن اليونان تحت الاحتلال المقدوني الذي آل إلى الزّوال غداة وفاة الإسكندر الأكبر وتنافس خلفائه على إمبراطوريته المتفكّكة.

خَلَقَ سقوط المدن الإغريقية بيد الغزاة وتعرُّضُ أهلها للاستعباد نوعا من التّشكيك في القيم والغائيات (رعاية الآلهة للمدينة مثلا) التي لطالما رسّختها التّقاليد الأفلاطونية، ولهذا كان من الطّبيعي أن تتمّ إعادة صياغة التّساؤلات العملية المتعلّقة بالحياة السعيدة وسبل نيلها وتحصيلها. في هذا السياق ظهرت "التّعاليم الأبيقورية " التي ستُقدّم فهما جديدا للحياة الأخلاقية / العملية مختلفا تماما عن ذلك الذي صاغته الحكمة الأفلاطونية. لقد بَيّنَ أبيقور أنّه لا وجود لنظامٍ خفي أو إلهي يحكم ظواهر الطبيعة، ولا وجود لتناغمٍ يسري في الكون أو عناية إلهية تُشرف عليه، بل أكثر من ذلك إنّ الآلهة كشفت للبشرية في غير ما مرة أنها لا تهتمُّ بالعالَم ولا تتدخّل فيه ولا تكترث لأحوال النّاس ومشاكلهم.[17] وإذا كان الأمر على هذا النّحو، فإنه لا يوجد ما يبرر خوف البشر من مصيرهم بعد الموت ولا تَضرّعهم للآلهة ورغبتهم في نيل رضاها. لهذا السبب سعت الأبيقورية إلى الاهتمام بالإنسان وجعلت من تحريره من قلقه الوجودي الناتج عن تناهيه هدفا لها.

إنّ تحقيق السّعادة الإنسانية يتوقف على شرطين أساسيين هما وقاية الجسم من الألم، وتخليص النّفس من كل مظاهر الخوف والقلق،[18] خاصة منها الخوف من الآلهة ومصير الإنسان بعد الموت، وهما شرطان لا يسمح التّصوّر الأفلاطوني للطبيعة ببنائهما؛ لأنه يجعل من الطبيعة نموذجا تنبغي محاكاته اجتماعيا لنيل السعادة وتحقيق الانسجام والعدالة. لهذا كان من الضروري بناء تصور جديد للطبيعة تكفُّ بموجبه عن أن تكون مصدرا للتشريع أو غاية يُهتدى بها. فإذا كان الكون عبارة عن ذرّاتٍ متصادمة ببعضها، وكانت كل الأجسام الطبيعية تتكون من ذرات، فإنّه لا يوجد ما ينظّم حركة هذه الذّرّات ويدفعها نحو هدف محدد، وإذن فإنّ الوجود بكامله في حركة دائبة ينتج عنها تَكَوُّنُ أجسامٍ وتحَلُّلُ أخرى من دون أن يتعرّض هذا الوجود إلى الزيادة والنّقصان.

إنّ الوجود الوحيد الذي تأخذُ به الأبيقورية وتراه حقيقيا هو وجود العالم الخارجي الذي نُدركه حسيا. وهذا هو السبب الذي جعل أبيقور يُمجّدُ الإحساس ويعتبره أكثر مصادر المعرفة مصداقية وبداهة.[19] إنّ الحواس هي نوافذ الإنسان على العالم الخارجي، وهي التي تنقلُ له بكل أمانة ما يوجد في الواقع، وإذن فإنه لا فرق بين القول "إن هذا الشيء حقيقي، والقول إنّ هذا الشيء موجود، فالشيء الحقيقي هو الموجود". تكمن الحقيقة في الواقع المحسوس الذي لا يوجد خارجه واقعٌ آخر، والإحساس هو الذي يسمح باستحضار هذا الواقع واكتشافه. من خلال هذه المعطيات العامة يبدو لنا حجم التناقض القائم بين تعاليم أبيقور والنّسق الأفلاطوني. يتّخذُ هذا التّناقضُ وجها معرفيا عندما يرفض أبيقور وصاية العقل على الحس أو اعتباره الوسيلة الوحيدة للحقيقة، وعندما لا يقبل تشكيك أفلاطون في الحس ووصف معارفه بالظّنّية، بل يذهب عكس ذلك إلى إعلان ثقته المطلقة في الحواس واعتبارها أداة تنقل بأمانة الحالة التي يوجد عليها الواقع، وما العقل إلا تابع لها يهتدي بها. وإذا كان أفلاطون يعزو الأوهام والشرور إلى المعارف الحسية، فإن أبيقور يؤكد عكسه أن الإحساس في ذاته لا يمكن أن يكون كاذبا أو خاطئا، فالذّوق يخبرنا في حالة المرض أن العسل ليس حلوا، وهذا لا يعني أن الإحساس كاذب، بل يعني فقط أن حاسة الذوق المتأثرة بالمرض لا تستقبل الإحساس كما ينبغي.

لم يقف اختلاف أبيقور مع أفلاطون عند حدود المعرفة، بل تعدّاه إلى مجال الأخلاق. فإذا كان أفلاطون يقرّرُ أنّ السّعادة الحقيقية هي سعادة النّفس التي لا تتحقّقُ لها إلا بقهر الجسم وشهواته والتّطهّر منها ومن كل ما له ارتباط بحاجات الجسد المحسوسة، فإن أبيقور سيجعل من الإحساسات الطبيعية دَيْدَنا ينبغي الاهتداء به لتحقيق العيش السّعيد. ففي غياب المعايير الأخلاقية التي يمكن الاستناد إليها للتمييز بين الخير والشر، بات الإحساس الذاتي (الانفعال) هو الذي يقودنا في حكمنا على الأشياء، فكل إحساس هو مناسبة للشعور باللذة أو الألم، وهذا الشّعور وحده هو ما ينبغي أن يرشدنا إلى ما ينبغي أن نقدم على فعله، وما يتوجب علينا أن ننفر منه ونتجنبه.[20]

إنه ليس مطلوبا في الإحساس أن يقدّم لنا معرفة حقيقية بالأشياء كما هي في ذاتها، بل يقتصر عمله على أن يمنحنا معرفة بهذا الشيء في علاقته بوجودنا فحسب. وبما أنّ طبيعة الأشياء والأجسام مطبوعة بالتغيّر، فإن إحساساتنا تتغير تبعا لها فتبقينا بذلك في حالة اتّصال وارتباط مباشرين مع الطبيعة التي ينبغي أن نعيش مع تقلباتها وألا نطمع في معرفة ما لا نملك بِصَدَدِه إحساسا. إنّ الغاية من نظرية الإحساس هذه هي التّخلّص من الإرث الأفلاطوني القائل بوجود عالم مفارق للعالم الحسي، وحصرُ الوجود الإنساني داخل هذا العالَم الذي هو وحده الوجود الحقيقي.

خـــــــــلاصة :

يمكننا القول إنّ الأبيقورية كانت بمثابة رِدّةٍ فلسفيةٍ إلى الفكر "ما قبل السّقراطي " في مرحلةٍ كانت فيها التّقاليد الفلسفية الأفلاطونية ذات تأثير يتجاوز بلاد الإغريق إلى الأُمم الكبرى آنذاك (بلاد مصر وفارس). وتتَمَظْهَرُ عناصر هذه العودة في استعادة الأبيقورية لبعض الأفكار التي تجد جذورها في فلسفة الاتّجاه الذَّرِّي، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى نظرتهم إلى العالَم.

فعلى خلاف فلسفة أفلاطون التي جَعلَت من البحث عن الوحدة والنّظام في الكون غاية لها، وهي الغاية التي تحقّقت عندما وجدت في المُثل الثابتة ما يُرضي نُزُوعها هذا، استعادَت الأبيقورية تَصَوُّرَ الذّرّيّين الذين لم يجدوا في "الكثرة والتّنوّع والاختلاف" في الوجود مشكلة ينبغي على العقل اختزالها وتوحيدها، بل اعتبروها وجودا طبيعيا ينبغي أخذه كما هو؛ فالعالَم عبارة عن ذرات مادّية متناهية الصّغر، تسبح فيه بحركة دائبة وتتصادم مع بعضها و"تَتَخَلْخَلُ وتتَكاثَفُ"، فينتج عن تكاثفها وانجذابها لبعضها تَكَوّن أجسام جديدة، بينما يؤدّي تخلخُلُها وانفصالها إلى تَحَلُّلِ أجسام أخرى. ومن الواضح أن يتلقى الجسم الإنساني في هذه الحالة تأثيرات العالَم الخارجي على شكل إحساسات تَمَسُّ جسمه وأطرافه، وهذا هو السّبب الذي جعل أبيقور يعتبر أنّ الإحساس مصدر أساسي وأمين للمعرفة.

تَرَتّبَ عن هذه النّظرة إلى الوجود واعتباره أزليا لا شيء يفنى فيه ولا شيء يُولَد قيم أخلاقية جديدة هَمّت أساسا نظرتهم إلى الحياة السّعيدة وإلى العالم الآخر. فبينما كانت السّعادة فضيلة عقلية يتوقّف تحصيلها على مدى تَجَرّد النفس من شهوات الجسم ولَذّاته الحسية وقمعهما والتّطلُّع بدلا من ذلك إلى المُثل العقلية المفارقة التي ستكون موطِنا للنفس التي استطاعت أن تَتَطهّرَ من دوافع المحسوسات؛ ستذهب الأبيقورية إلى أنه لا توجد سعادة أخرى غير تلك التي يمكن للذات تحصيلها في هذا العالَم. يتعلّق الأمر بسعادة أرضية / دنيوية يمكن للمرء أن يُحقّقها عندما يعيش وفقا لطبيعته، وطالما أنّ لطبيعته هذه حاجات ورغبات حسية، فإنّ السعادة ليست إلا تحصيل تلك اللذات الحسية الضّرورية التي لا ينجُمُ عن الإفراط فيها أو فقدانها ألم. أمّا العيش الزّاهدُ الذي تدعو له الأفلاطونية، فهو لا يعدو أن يكون عقابا وألما لا فائدة من ورائه، ما دامَ أنه لا وجود لعالم آخر أو حياةٍ أخرى. ولعلّ هذا الموقف بالذات هو ما جعل من الفكر الأبيقوري العدو الأول للمسيحية التي وجدت في مبادئه إنكارا لبعض أركانها الضرورية كقولها بالخَلْقِ من عدم، والبعث والحياة الأخرى بعد الموت، والنعيم / الجحيم الأبديين.

 

. مصادر المقالة ومراجعها:

  1. لوك فيري، تعلم الحياة، سأروي لك تاريخ الفلسفة. ترجمة: سعيد الوالي، مراجعة زهيدة درويش. أبو ظبي للثقافة والتراث. 2011
  2. جان بيير فرنان، أصول الفكر اليوناني : ترجمة سليم حداد. بيروت، المؤسسات الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2008
  3. نجيب بلدي، دروس في تاريخ الفلسفة،أعدّها للنشر الطاهر واعزيز وكمال عبد اللطيف. دار توبقال للنشر.الطبعة الثانية 2004
  4. يوسف كرم. تاريخ الفلسفة اليونانية. مؤسسة هنداوي، 2014
  5. أفلاطون، في الفضيلة (محاورة مينون). ترجمة وتقديم عزت قرني. القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، 2001
  6. أفلاطون، محاورة فيدون أو في خلود النفس. ترجمة عزت قرني. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة)، الطبعة الثالثة 2001
  7. أفلاطون، محاورة تياتيتوس لأفلاطون أو عن العلم. ترجمة : أميرة حلمي مطر. القاهرة، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2000
  8. أفلاطون، في السفسطائيين والتربية (بروتاجوراس). ترجمة وتقديم عزت قرني. القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 2001
  9. جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، راجعها عن الأصل اليوناني محمد سليم سالم.
  10. أبيقور، الرسائل والحكم، دراسة وترجمة جلال الدين السعيد. الدار العربية للكتاب.

 

1. لوك فيري، تعلم الحياة، سأروي لك تاريخ الفلسفة. ترجمة: سعيد الوالي، مراجعة زهيدة درويش. أبو ظبي للثقافة والتراث. ص. 45

2. جان بيير فرنان، أصول الفكر اليوناني : ترجمة سليم حداد. المؤسسات الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. ص. 96

3. نجيب بلدي، دروس في تاريخ الفلسفة،أعدّها للنشر الطاهر واعزيز وكمال عبد اللطيف. دار توبقال للنشر.الطبعة الثانية 2004. ص. 25

4. المرجع نفسه. ص. 28

5. المرجع نفسه. ص. 22

6. لوك فيري. مرجع سابق. ص. 59

7. يوسف كرم. تاريخ الفلسفة اليونانية. مؤسسة هنداوي، 2014، ص ص. .46-47

47. 8. المرجع نفسه. ص.

9. المرجع نفسه. ص. 48

10. أفلاطون، في الفضيلة (محاورة مينون). ترجمة وتقديم عزت قرني. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. الفقرة 81. ص. 106

11. محاورة فيدون أو في خلود النفس. ترجمة عزت قرني. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع (القاهرة)، الطبعة الثالثة 2001. ص. 35

12. محاورة تياتيتوس لأفلاطون أو عن العلم. ترجمة : أميرة حلمي مطر. دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع. ص. 18

13. أفلاطون، في السفسطائيين والتربية (بروتاجوراس). ترجمة وتقديم عزت قرني. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. ص. 164

14. محاورة فيدون. مرجع سابق. ص ص.124-125

15. جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد زكريا. راجعها عن الأصل اليوناني محمد سليم سالم. ص. 246

16. المرجع نفسه. ص. 250

17. أبيقور، الرسائل والحكم، دراسة وترجمة جلال الدين السعيد. الدار العربية للكتاب. ص. 35

18. المرجع نفسه. ص. 58

19. المرجع نفسه. 45

20. المرجع نفسه. 54