مصطفى بن تمسّـك: الحداثة "المأزومة" ترتحل من المجال القارّي إلى الفضاء الأنغلوسكسوني


فئة :  حوارات

مصطفى بن تمسّـك:  الحداثة "المأزومة" ترتحل من المجال القارّي إلى الفضاء الأنغلوسكسوني

أنس الطريقي: كيف تقدّمون تجربتكم البحثية ومساركم العلمي للقارئ؟

مصطفى بن تمسك: أنا أستاذ مساعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، متخصّص في الفلسفة السياسية المعاصرة. أشتغل منذ أكثر من ربع قرن على قضايا التدبير السياسي من أفق فلسفي وإيتيقي في مسعى لفهم التحوّلات السياسية للعالم وتأثيراتها في البنى النفسية والذهنية والأنثربولوجية والمجتمعية للفرد والجماعة. بدأتُ مساري البحثي في منتصف التسعينات بالاشتغال على فيلسوفة السياسة الألمانية: حنا آرندت، وذلك في إطار الإعداد لشهادة التعمق في البحث. وقد انتهيت معها إلى النتائج التالية:

  • ليس التاريخ خطّة قبلية نجهل محرّكها (هيغل) وليس تطوّريًّا (فيكو) ولا حتميّاً (ماركس)، بل قد يكون منكسرًا متعرّجًا ودائريًّا، وعليه لا نستغرب من عودة الكليانيّة (الفاشية، والنازية، والستالينية) إلى قلب أوروبا.
  • إنّ عودة الكليانيات بهذا الشكل من شأنها أن تشكّك في أسطورة "التقدّم" الخطيّ للتاريخ. وبالتالي تدعونا إلى إعادة النظر في المناهج التاريخية المدافعة عن الحتمية والغائية على منوال الماركسية، والهيغلية، والوضعية.
  • ساهم العقل الأنواريّ في عودة التفكير الشمولي عندما انقلب إلى آلة حسابية وتقنوية.

أنس الطريقي: اشتغلتم فيما بعد وفي إطار شهادة الدكتوراه على الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، وقد نشرتم هذا العمل في شكل كتاب تحت عنوان: أصول الهويّة الحديثة وعللها: مقاربة تشارلز تايلور نموذجًا. ما هو الخيط الناظم بين فكر حنا آرندت وفكر تشارلز تايلور؟

مصطفى بن تمسك: ما تشترك فيه حنا آرندت مع تايلور وآخرين هو أمران:

الأوّل: ويتعلّق بالوضع المقلق والمحيّر الذي وصلت إليه الحداثة الأنوارية، لا سيما بعد عودة الأنظمة الشمولية إلى أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، وما ترتّب عليه من كارثتين عالميتين (الحرب العالمية الأولى والثانية). الأمر الثاني: ويتعلّق بالمخارج. يتّفق الفيلسوفان على أنّ أزمة الحداثة الغربيّة، تكمن في هيمنة النزعة الوضعية والتقنويّة على مساراتها (وهو ما سيتبلور أكثر مع روّاد مدرسة فراكفورت بالخصوص)، وهو ما أدّى إلى قطع حاضر الحداثة وزمانها عن بقية أزمانها الضاربة في القدامة. وبالتالي تحويل وجهتها من الأنوار العقليّة وحقوق الإنسان الكونيةّ، ومناهضة كلّ أشكال الاستبداد، إلى آليات ميكروفيزيائية للاستبداد الناعم (بلغة الكسيس توكفيل).

أنس الطريقي: إذا كان تايلور -كما تقول- واحداً من أبرز نقّاد الحداثة المعاصرين، فكيف نسوّغ شغفه بمسائل الهويّة. أليست هناك مفارقة بين نقد الحداثة والتفكير في الهويّة؟

مصطفى بن تمسك: مفارقة وجيهة بكلّ تأكيد. وهنا تحديدًا تكمن نقطة الغموض في المشروع التايلوري برمّته، لأنّ العلاقة المفترضة بين الحداثة وانبعاث مسائل الهويّة، أمر لا يخطر على بال. بيد أنّنا يمكن أن نكشف عن نقاط التمفصل الخفية بين المسارين.

يقترن مبحث الحداثة بمبحث الهوية من جهتين:

-الجهة الأولى: وتتعلّق بالنبش الجينيالوجي عن أصول الهويّة الحديثة سواء على مستوى الفرديات أو الجماعات، ويعود بنا تايلور إلى التراث اليوناني والتقليد اليهو-مسيحي والإرث الروماني، ومنه إلى حركات الإصلاح الديني الكنسي (لوثر وكالفن) وصولاً إلى الإرهاصات الأولى للنهضة ثمّ الحداثة. وينتهي بنا هذا الترحال الطويل إلى تشخيص علل الحداثة في إصرار الحداثيين من الطراز الوضعي على نسيان الأصول والروافد الأخلاقية والدينية التي رافقت وحضنت مسيرة التقدّم العلمي. يسعى تايلور إلى استعادة المصادر الأخلاقية العميقة التي تناست الحداثة الغربية أنّها ولدت من رحمها. فزعم روّاد الحداثة أنّها تخلّصت من ماضيها الثقيل دون رجعة، زعم عار من الصحة، لأنّ القاعدة البسيطة التي تقول إنّ "الماضي هو مفتاح الحاضر" تدحض بيسر هذه المزاعم. فالحداثة هي حداثة بالنسبة إلى ما قبلها. فما قبلها أو ما قبل-الحداثة هو وحده القادر على منح مشروعيّة ما بعده أي الحداثة. لا توجد حداثة إذن إلاّ بماض هو نقيضها وممهد لها.

من هذا المنظور ينبش تايلور–على الطريقة الجينالوجية- في التراكمات المعرفية والأخلاقية القادمة من الماضي والمترسّبة في جذور حداثة تصرّ على إنكار أصولها القيمية السامية الضاربة في القدم. يقول تايلور: "نحن بأمسّ الحاجة اليوم لاستعادة الماضي من أجل بلوغ الامتلاء" (مصادر الذات الحديثة، ص.580 النص الفرنسي). لا قيام لأيّ امتلاء حداثي بمعنى الرضاء والإشباع والاقتناع إلاّ بفهم ما سبق لأجل وصل أزمنة الحداثة وردهاتها المتباعدة في التاريخ. والهدف هو دائمًا التصدي لهيمنة اللّحظة الراهنة لهذه الحداثة وأعني بها لحظة العقل العلمويّ والاقتصادوي والتقنوي، وبالتالي رد الاعتبار لبقية الردهات الما-قبل عقلية لكونها جزءًا لا يتجزأ من تكوين العقلانية الحداثية ذاتها.

-الجهة الثانية: يقتضي الفهم التايلوري للحداثة التخلّي أيضًا عن الفهم الغربي للحداثة وكأنّ الحضارات الأخرى لم تشهد حداثات موازية. إنّ من شأن هذا الفهم الحصريّ أن يؤدّي بالوعي الغربي إلى ادّعاء التفوّق على بقيّة النماذج الكونيّة، ومن شأن هذا الوهم أن يقود إلى مزالق المركزيّة الحضاريّة العرقيّة واحتقار الآخر الحضاري، وبالتالي تغذية منابع التطرّف والأصولية والانكماش الهووي. في حين أنّ الاعتراف بأنّ لكلّ عصر حداثته الخصوصيّة، وأنّ لكلّ حضارة أنموذجها التحديثي الخاص بها، من شأنه أن يكرّس الفكرة القائلة بتعدّديّة العوالم والثقافات والهويّات، ويسمح بالتالي بقيام سلم كونية دائمة في إطار تسامح كوني قائم على التثاقف وحوار الحداثات.

أنس الطريقي: بهذه الطريقة يمكن أن ندرج النقد التايلوري للحداثة ضمن الموجات النقدية ما بعد الحداثية، لا سيما عندما نراه يدحض أوهام المركزيّة الغربيّة، ويدعو الى إعادة الاعتبار لشعوب الأطراف في إطار نظرية "التعددية الثقافية" التي كان تايلور واحدًا من أبرز روّادها في العالم الأنغلسكسوني.

مصطفى بن تمسك: بالفعل، يمكن أن ندرج هذا النقد في إطار المراجعات الغربية الكبرى لمآلات الحداثة، وهي مراجعات تنطلق من الداخل الغربي، لتنفتح على الخارج الكوني، هذا الذي نعتبر أنفسنا من أبرز ضحاياه. من المفارقات الغريبة أنّ الغرب الذي روّج طويلاً بكلّ الوسائل لكونيّته المجرّدة، كان قد حرم بقية الثقافات والشعوب من الشروع في تأسيس كونيّات مغايرة تُغني النسيج العالمي. وبالنتيجة أرغم الكلّ على الخضوع لمنظوماته الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية. يندرج النقد التايلوري للحداثة في إطار رؤية تصحيحية تميط اللثام عن المغالطات التي تعمل خلف الكونية الأحاديّة الغربية المزعومة، وتبيّن أعطابها وتفكّك محاذيرها وفخاخها. وفي المقابل تدافع عن مشروعية النقد والتجاوز الذي شرع فيه دعاة ما بعد الحداثة، بوصفه نقدًا يتم من داخل أسيجة العقل الغربي الواثق بنفسه وبقدراته. كما تدافع الرؤية التصحيحيّة عن مشروعيّة المقاومة الخارجيّة للحداثة، بوصفها قد تماهت بالخيارات الإمبريالية والاستعمارية للشعوب التي تخالفها المنوال الحضاري، بل نراها قد سعت بكلّ السبل إلى فرض منوالها الحداثي والتحديثي على شعوب ظلّت تقاوم كلّ اختراق لكيانها بكلّ الوسائل الممكنة.

أنس الطريقي: إذن هو جهد تصحيحي كما قلتم يسعى إلى إنصاف ثقافات "الأطراف" من خلال آليّتي التعدّدية الثقافية والاعتراف. هل لكم أن توضّحوا هذا الأمر أكثر؟

مصطفى بن تمسّك: يسعى الجهد التصحيحي التايلوري إلى وضع لبنات أوّليّة لسرديّة جديدة تقوم على الاعتراف بحقوق الشعوب اللا-غربية واللا-أوروبية في حداثات خصوصيّة تراعي سياقاتها التاريخية والثقافية. ويسعى من وراء ذلك إلى الاتفاق مجدّدًا على معايير حكم موضوعية تقوم على إنصاف الجماعات والأقليات والشعوب المضطهدة، بإدراجها ضمن خارطة حقوقيّة معترف بها من قبل الهيئات العالمية، وليس فقط مجرّد اعتراف رمزي ومناسباتي لا يلمس جوهر المشكل أو يقضي نهائيًّا على عوراضه الإقصائيّة والعنصريّة.

لا تتوقّف مطالب الاعتراف عند حدود التعويض المادي للضحايا أو الاعتذار الدبلوماسي المنمّق، بل يراد منها تشريع قوانين خاصّة وملزمة من قبل دول الاضطهاد تعترف بذاكرة الشعوب التي نكبتها وأخّرتها لعقود عن التطور والنمو الطبيعيين. يندرج شكل الاعتراف هذا ضمن ما بات يعرف في فقه القانون الغربي بـ "قوانين الذاكرة المضطهدة" Les Loismémorielles. بدأت أوروبا في التشريع لمثل هذه القوانين تحت ضغط مطالبة إيرلندا بريطانيا بالاعتراف بذاكرتها النضالية وتثمينها، وكذلك الشأن بالنسبة إلى المحرقة اليهودية والمجزرة الجزائريّة إبّان الاحتلال الفرنسي، وفي الآونة الأخيرة نتابع الضغوط الفرنسية على تركيا من أجل سنّ قانون يجرّم من ينكر المجزرة الأرمينية التي راح ضحيّتها زهاء المليون ومائتي ألف أرمنيّ بين سنة 1915 و1916 على يد القوات العثمانية. والقائمة لا تزال مفتوحة. إذن ضدّ سياسات الإنكار والتعتيم والتضليل أو ما بات يعرف بالنزعة "النفيية" Le Négationnisme تنتفض ذاكرة الشعوب وتطالب المؤرّخين والحقوقيين الغربيين بإنصاف الذاكرة الوطنية والنضالية للشعوب المنكوبة. ولا شكّ أنّ اعترافًا نوعيًّا كهذا من شأنه أن يؤسّس لسرديّة كونيّة تتّعظ من الماضي لأجل التسامح في الحاضر لا لأجل التقوقع الهووي أو الانتقام المؤجّل من الآخر. الاعتراف -بهذا الشكل- هو إصلاح للذاكرة الكونيّة وتنقية للتوترات التاريخية العالقة بين الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة وفتح لآفاق كونية متجددة.

أنس الطريقي: هل تكفي المخارج الثقافويّة التي يقترحها علينا الفلاسفة الجماعتيون من أمثال تايلور وساندال وولتزار وماك انتاير للخروج من الأزمات الهيكلية لعالم لا يفتأ في التعولم؟

مصطفى بن تمسك: لا شك في أنّ هذه المخارج تبقى مجرّد أفكار معروضة على النقاش العام، وبإمكان دوائر النفوذ والقرار اعتمادها والاستئناس بها، وهو ما نراه قد حصل فعلاً في الولايات المتحدة الأمريكية عندما استطاعت "القوة السوداء" Black Power سنة 1967 وعلى رأسها مارتن لوثر كنغ، أن تفرض أجندا ما بات يعرف بـ "سياسات الهوية" Identity Politics على الحكومات الأمريكية وأجبرتها على الاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الغزاة في حق الشعوب الأصلية وفي حق السود الأفارقة. تجسد هذا الاعتراف "الرسمي" في إدماج السود في مؤسّسات المجتمع الأمريكي ونسيجه التربوي والثقافي "وإدراج المقررات الأفرو- آسيوية في المدارس التي يؤمّها التلاميذ السود" تايلور: (التعددية الثقافية، ص. 89 بالفرنسية) فضلاً عن حق المشاركة في الحياة السياسية.

يتضح الآن أنّ التوجّهات الجديدة للسياسات الأنغلوسكسونية في أمريكا وكندا باتت لا تمانع قرن الدفاع عن حقوق الأقليات بالاتجاه العام للدولة الليبرالية. أضحت الدولة الليبرالية مطالبة إذن بالحدّ من حياديّتها ولامبالاتها إزاء القضايا الهوويّة. ويتمثل تدخّلها هنا في مجال تشريع الاعتراف بالواقع الثقافي التعدّدي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من واقع التعددية السياسية. وبذلك تحوّلت مسألة الاعتراف بحقوق الهويّات الثقافية داخل النسيج التعددي للمجتمعات الديمقراطية إلى مقوّم من مقومات العدالة والتسامح. لكن هذا الاعتراف يفترض أن تنخرط الأقليات الثقافية داخل النسيج التعدّدي وأن تحافظ على وحدته بإغنائه لا بتمزيق عراه وأواصره أو بادعاء التفوّق الثقافي أو العرقي.

من تداعيات هذا الاعتراف توسعة مفهوم المواطنة حتّى يستوعب الأنماط الجديدة من المواطنين القادمين بطرق الهجرة أو المعترف بهم حديثًا ضمن ما يسمّيه تايلور بـ "المواطنة متعدّدة الثقافات". ويفيد هذا بداية التخلّي عن مفهوم المواطن الغربي الأصيل (الرجل الأبيض)، ومن ثمّ الاعتراف بأنماط أخرى من المواطنة ظلّت إلى زمن بعيد في عداد النسيان والاحتقار.

أنس الطريقي: هل تعتقدون أنّ هناك صراعًا غير معلن بين النزعة الثقافوية والعولمة، أم هو مجرد واجهة لصراعات أخرى لا تعلن عن اسمها؟

مصطفى بن تمسك: منذ نهاية التقاطب الثنائي مطلع تسعينات القرن الماضي، وإعلان "النظام العالمي الجديد" المتمثل في الثالوث الإمبريالي الجديد: أمريكا واليابان والاتحاد الأوروبي (حلف الناتو)، وبعد افتعال حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 لغزو العراق وأفغانستان لأسباب طاقية بحتة، بدأت الإدارة الامريكية وحلفاؤها في الترويج لمسوّغات فكريّة تزعم: أنّ الصراع الكوني الراهن يجري بين "محور الخير" الذي تمثله هي وحلفاؤها و"محور الشر" أي "الدول المارقة"، لأنّها إمّا أن تكون رمزا للأرتودوكسيّة الدينية الإسلاميّة (أفغانستان وإيران) أو رمزا للأرتودوكسيّة القوميّة العربية (العراق وسوريا وليبيا). تعيدنا السياسة الأرتودوكسيّة الأمريكية إلى ما يسمّيه ماكس فيبر بـ "حرب الآلهة" أي حرب الأديان والإيديولوجيات في الوقت الذي يدّعي فيه منظّرو الليبرالية الجديدة وخاصة فوكايما وهينتغتون أنّ عصرالإيديولوجيات قد ولّى ومضى بعد زوال الإيديولوجيا الماركسية. وبالتالي وصلت الإنسانية اليوم إلى "نهاية التاريخ" حيث انتهى الصراع الإيديولوجي، وبدأ "صراع الحضارات" (هنتغتون). وبالفعل ومنذ 11 سبتمبر وإعلان خطة "الحرب الاستباقية أو الوقائية" (حسب تعبير فوكايما) لا يفتأ "محور الخير" في تأجيج "حرب الآلهة" واستفزاز الهويات "النائمة" وتحريك الصراعات القبلية والعشائرية وتشجيع الجماعات والأعراق على الانفصال والاستقلال بذاتها (أنموذج دول الاتحاد السوفيتي: أوكرانيا والشيشان والعراق وسوريا واليمن وليبيا). وفي الواقع فالرهانات الاقتصادية-السياسية ظلت هي نفسها سواء في عهد التقاطب الثنائي أو في عهد الأحادية العولمية. ونحن نميل إلى القول إنّ ما تسمّيه السياسة الأرتودوكسية الأمريكية "مروقًا" و"إرهابًا" و"شرًّا" ليس سوى تغييرات شكلية بل "ساذجة" في عناوين القوة الكونية ومراكزها. وقد يدلّ ذلك على الضحالة المعرفيّة لإيديولوجيا العولمة.

أنس الطريقي: هل تعتبرون حركات الإسلام السياسي طيفًا ثقافويًّا مهددًا للعولمة؟

مصطفى بن تمسك: ليس هناك حركات إسلام سياسي مناهضة للعولمة والاستعمار، بل إسلاموفوبيا مصطنعة ابتكرها الغرب واستخدمها لأسباب جيو-سياسية محضة.

لقد كانت بريطانيا واليوم أمريكا الراعي الرسمي الدائم لكلّ حركات الإسلام السياسي في العالم بدءًا بحركة الإخوان المسلمين في مصر، حيث دعمتهم في حربها ضد عبد الناصر، وفي أفغانستان، أوجدت أمريكا حركة طالبان لمقاومة الغزو السوفياتي، ودعمت أمريكا آيات الله في إيران ضد الحركة القومية الإيرانية التي كان يتزعمها آنذاك محمد مصدق (لمزيد من التوسع في هذه المسألة. يستحسن النظر في: روبرت دريفوس، لعبة الشيطان: دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الديني، ص.110) وبالمحصلة وجدت أمريكا وبريطانيا في الإسلام السياسي الأداة المثلى لمقاومة المدّ الشيوعي والقومية العربية. وبعد أن انتهى الخطر الشيوعي والقومي على المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، تقرّر الانتهاء من حركات الإسلام السياسي وتصفيتها. ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وانقلب الطرفان من حليفين إلى عدوّين، وبدأت حرب الاتهامات.. وهكذا اختلق الأمريكان وحلفاؤهم في حربهم الإعلامية على الحركات المذكورة عبارة: "الإرهاب الإسلامي"، وأسسوا جماعات من المرتزقة تدعي باطلاً وبهتاناً انتماءها للإسلام "الجهادي" والسلفي، وفوضوا لها مهام تأجيج الفتن الدينية والطائفية بين المسلمين، وتدمير الأوطان وهدر الدماء.. كل هذه الفظاعات كانت وما تزال تجري تحت أنظار عدسات الفضائيات الغربية الكبرى، وكبار مخرجي الأفلام الهوليودية، وتروج إعلاميًّا على مدار الساعة حتى يترسخ في ذهن المشاهد وعقله الباطني القران الخطير بين الإسلام مطلقًا والإرهاب.

أنس الطريقي: ما هي مشاريعكم المستقبلية؟

مصطفى بن تمسّك: أستعدُ الآن لإصدار كتاب جديد حول الحركات المناهضة للعولمة، في مسعى يستشرف عهدًا جديدًا من التضامن الإنساني أو عولمة بديلة لعالم آخر ممكن، وهو شعار المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي كان أوّل تجمّع عالمي يعارض سياسات العولمة البيئية والتجارية والمالية. سأتحدث أيضًا عن مشروع "الحشود" La Multitude بوصفها التشكيلة البديلة عن مفاهيم الطبقة والشعب والعرق والقومية والطائفة الدينية لعصر ما بعد العولمة. الحشود -كما يعرّفها كل من نيغري وهاردت- "هي ذات اجتماعية متعددة، لا يقوم تركيبها وعملها على هوية أو وحدة أو على حياد، وإنّما هو مشترك جديد)" (انظر: نغري+هاردت، الحشود: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية، ص.190). سأعود أيضًا في هذا الكتاب إلى دحض التعارض المزعوم بين حركات الإسلام السياسي والنظام النيو-ليبرالي المتعولم، للتأكيد على تحالف المشروعين وإصرارهما على تدمير مقومات الدولة الأمة.