من منطق القيم والوعود إلى منطق المصالح والتسويات


فئة :  حوارات

من منطق القيم والوعود إلى منطق المصالح والتسويات

 من منطق القيم والوعود إلى منطق المصالح والتسويات

حوار مع إبراهيم غرايبة ومعاذ بني عامر

(الجزء الأوّل)


أنس الطريقي: من الأسئلة المتكرّرة تكرار وضعنا: لماذا نتعثّر، نحن المسلمون، في تخطّي تأخّرنا التاريخيّ منذ بداية عصر النهضة إلى الآن؟

غرايبة: نحن ما زلنا في مرحلة جمع الثمار، ولم نعرف حتّى مرحلة الصناعة التي عرفها الغربيّون منذ القرن السابع عشرة.

بني عامر: يعني أنّ اللّه سخّرهم لنا! لِم نعمل ما داموا موجودين، أنا أمزح طبعًا؛ هذا المزاح المرّ الذي أسجّل فيه: أنّ سبب هذا التأخّر، هو أنّنا نستعذب وضع المستهلك لما ينتجه غيرنا من الأمم.

أنس الطريقي: ما المدخل، في نظركم، إلى البداية التي طال انتظارها، لنسقٍ من التقدّم الحضاري، علينا أن ننخرط فيه؟

غرايبة: ماركسيًّا، أعتقد أنّ تطوّر الموارد؛ أي المنظومة الاقتصاديّة والصناعيّة، هو الذي سيؤدّي إلى تطوّر منظومة الثقافة عندنا، ونحن الآن في مرحلة جمع الثمار، وحين نكون في مرحلة جمع ثمار، نكون في وضع قلق وتوتّر إزاء الحياة، يولّد ضرورة وضع تحفّز للتغيير.

أنس الطريقي: هل يعني كلامكم: أنّ جمع الثمار يولّد حاجات ماديّة جديدة، ستدفعنا، حتمًا، إلى الخلق والابتكار، بما أنّ الحاجة أمّ الابتكار؟

غرايبة: نعم، قد يحدث هذا، كما جرى، فكريًّا، مع الطهطاوي، حين كان جمعه وأفراد جيله لثمار الحداثة الغربيّة، نواة لإعادة إنتاج تجربة الدولة والثقافة الحداثويّة في مصر، إبّان عصر النّهضة. نحن جامعو ثمار؛ إذ نتعامل مع التقنية والمنتج الغربيّ، تمامًا، مثلما كنّا نتعامل مع بني البشر في مرحلة جني ثمار الطبيعة، دون التفكير في الإنتاج والابتكار، ولكن لهذه الكلمة بعد ماركسيّ؛ فأنا أقصد بها، أيضًا، أنّ النّاس يتشكّلون حول مواردهم، وكلّما سدّت الفجوة بين النّاس ونظامهم الاقتصاديّ حصل التطوّر، هذه الفجوة تسدّ بالابتكار والإبداع، وهو ابتكار ماديّ، ولكن، أيضًا، تطوّر قيمي مصاحب للتقنية المبتكرة، ومقابل هذا؛ إذا لم تتشكّل قيم حول التقنية، نبقى في وضع جمع الثمار.

أنس الطريقي: وما هي الوسيلة للمرور إلى هذه المرحلة؟

غرايبة: الوسيلة هي النّخبة؛ فمن الأخطاء التي نقع فيها، هي أنّ هذه النّخبة تنشغل بالوعي، ولا تلاحظ أنّ الوعي هو محصّلة وضعيّة اقتصاديّة واجتماعيّة، فعلينا أن ندرك جميعنا، المهووسون بالإصلاح؛ أنّه علينا أن ننتبه إلى البيئة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي ينتج فيها هذا الوعي.

نحن ننشغل، كلّنا ودائمًا، في محاضراتنا عن الديمقراطيّة، وعن الدولة، والحريّات بالأفكار، ونظنّ أنّ إقناع الناس بها هو الحلّ، ولكن هذا جزء بسيط من العمل الذي علينا إنجازه مع النّاس، فعلينا، أيضًا، أن نربط مصالحهم وحياتهم بهذه المفاهيم؛ فالدعوة إلى الديمقراطيّة، والحريّة، والعدالة، تشغل نسبة ضعيفة من النّاس في العالم، يجب أن تحوّل مصالح النّاس إلى حريّة وديمقراطيّة، ويجب أن تكون هذه القيم مصالح لهم.

إنّ نسبة المثقّفين والمبدعين والشعراء في كلّ مجتمع نسبة قليلة، وهؤلاء يحوّلون هذه القيم إلى منظومة قيم جميلة؛ من الأفكار، والموسيقى، والشعر، والفنّ عامّة، ولكنّ الكثرة الباقية من أفراد المجتمع، يجب أن يلمسوا علاقة بين هذه القيم، وحياتهم، ومصالحهم.

فماذا يفعل الجائع بالحريّة والديمقراطيّة، إن لم يجد فيها غذاءه الذي يحتاج إليه قبل كلّ شيء. هكذا فقط، تصبح هذه القيم مؤثّرة في الواقع؛ أي عندما تجد لها صدى بين القيم الأساسيّة المحرّكة للإنسان في حياته، وهي الغرائز المتمثّلة في؛ حبّ البقاء، واتّقاء المهدّدات، وبعدها في المرتبة؛ تأتي قيم تحسين البقاء؛ فهو لا يفكّر في تحسين البقاء، إلّا بعد أن يضمن البقاء.

بني عامر: ولكنّ الحفاظ على البقاء، قد ينتج ديكتاتوريّة؛ فسيظهر من يحافظون على غرائزك ويستجيبون لها، ولكنّهم، مقابل ذلك، يمتلكون حريّتك، ويسلبونك إيّاها؛ فتكون الحريّة، مثلًا، ثمنًا للبقاء، وهذا ما تفعله بعض الأنظمة السياسيّة في البلدان العربيّة، فمن يمنع أن يتحوّل الأمر إلى هذا الوضع، هي هذه النخبة التي تمثّل الأقليّة؛ إذ عليها أن تمنع حدوث هذه المقايضات.

غرايبة: هذا هو دور من يملكون التأثير في قواعد اللّعبة، لم يعد تعريف البنك الدوليّ للمفقّر، يعتمد على معيار الدخل الماديّ، المعيار الجديد: هو القدرة على التأثير في القرار السياسيّ. والفقير ليس هو من يفتقر إلى المال؛ إنّما هو: من لا يستطيع أن يسمع صوته، ولا يؤثّر على السياسة الحكوميّة وعلى الأسواق لأجل مصالحه، والاستجابة لشكواه من مشاكله مع التعليم ومع الصحّة.

المقصود بإسماع الصوت التأثير في القرار السياسيّ واتّجاهات الإنفاق؛ فالسياسة دورها جلب الموارد والإنفاق، هذه هي وظيفة السلطة، وإسماع الصّوت: هو أن يتوصّل الفقير إلى جعل جمع الموارد يجري بطريقة صحيحة؛ بأن نأخذ أكثر من عند الأغنياء، وأن نعطي أكثر للفقراء. عندما نستعيد خطاب الرئيس الأمريكي الجديد (دونالد ترامب)؛ نجده يقول: إنّ الأموال تجمع من الضرائب، ولكنّها لا تنفق على المواطنين؛ فالمدارس، والمستشفيات، والطرقات، لا يحظى بها المواطنون، على الرغم من كونهم الدافعون الفعليون للضرائب، واليوم؛ ستعود إليكم هذه المرافق جميعًا. هذا الخطاب المثاليّ، قادر على الإقناع؛ لأنّه يخاطب النّاس في مصالحهم، وإن تحقّقت وعوده بنسبة سبعين في المئة، سيكون الرئيس الجديد ناجحًا؛ فإن كانت النسبة أقلّ من ذلك؛ سيسمّى فاشلًا.

أنس الطريقي: هناك مثلّث إذن، هو: السلطة، وحاجات المجتمع، والسياسة. والسؤال: كيف نجعل السياسة تصيّر السلطة أداة لتحقيق الحاجات الماديّة للمجتمع، وتوجّه هذه الحاجات نحو تعميم الخير.

غرايبة: هناك إرادتان متقابلتان في كلّ اجتماع إنسانيّ؛ الأولى: كيف نوفّر السلطة لصالح النّاس. والإرادة المقابلة هي: كيف نوظّف السلطة لصالح الأوليغارشيّة. هذا أمر موجود في كلّ مجتمع، والمطلوب أن تصل الإرادتان إلى تسويات؛ إذ لا تستغني إرادة عن الأخرى، وأصحاب الإرادتين في حاجة إلى بعضهما البعض، والصراع بينهما لا ينتهي.

من أخطاء الربيع العربيّ والثورات المصاحبة؛ السعي إلى الإلغاء، بينما لا يمكن الاستغناء عن الأغنياء السابقين، وأصحاب البنوك والشركات، وعمومًا، كلّ ما كان يمثّل أعمدة للنظام القديم، ما نريده منهم، هو أن نصل معهم إلى تسويات.

أنس الطريقي: الصراع، إذن: هل هو صراع من أجل الوصول إلى تسويات؟

غرايبة: هناك أشياء محدّدة يجب أن تكون هدفًا للتسوية، ضريبة الدخل، مثلًا، على البنوك وشركات الاتّصال، يجب أن ترفع فيها ضريبة المبيعات التي يدفعها جميع النّاس، هذه يجب أن يكون تنزيلها، وهذا من أهداف التسويات، في ضريبة المبيعات؛ الكلّ يدفع ويشتري، الغنيّ والفقير، أمّا في ضريبة الدخل؛ فالأغنياء هم الذين يدفعون المال. والنضال يجب أن يكون من أجل أن ترفع ضريبة الدخل، وتخفض ضريبة المبيعات.

أنس الطريقي: هل معنى ما تقول: أنّ سعي الثورات إلى تغيير الأنظمة القديمة بأنظمة جديدة، هو سعي خاطئ، بما أنّه لا يمكن أن نتخلّص من أصحاب المصالح القدامى؛ بل الممكن الوحيد: هو الوصول إلى تسويات جديدة، والدليل، ربّما، تقدّمه تونس؟

غرايبة: نعم، أنت لا تغيّر في الثورات، أنت تعثر على تسويات، وتوازنات كانت معدومة قبل الثورة. هناك الكمال والمثال، ولكنّ الواقع مختلف؛ فالكمال نعتبره حاصلًا في اليوم الآخر، وهو فكرة واقعيّة دنيويّة، والمثال: هو كيف نقترب منه.

بني عامر: النّظام الجديد يستعين بالنّظام القديم؛ لأنّه لم ينجز مشروعًا تغييريًّا على مستوى البنية والقاعدة. اليوم، لا نجد اختلافًا بين الرئيس السابق والرئيس الجديد؛ لأنّ البنية نفسها، والمطلوب هو دولة مثاليّة. ما الذي يختلف بين دولة ديمقراطيّة ودولة ديكتاتوريّة في تصريف الموارد، وفي حالة العالم العربيّ؛ قضينا ما يقارب القرن ونصف القرن في البحث عن النهضة، وعن طريقها، ولكن ما الذي حدث؟ لم نصل إلى وضعيّة الإنتاج، ومازلنا في طور جمع الثمار، ولم نصل إلى مرحلة تركيم هذه الثمار لنحوّلها إلى خمرة معتّقة.

القوانين الحضاريّة قوانين تتحرّك حركة (سلحفائيّة)؛ أعني بطيئة، وهي لا تقفز قفزات (أرنبيّة)، إن صحّ التعبير، فالمسألة في حاجة إلى تراكمات، يجب أن تحدث عمليّة إزاحة حضاريّة، ولا تنقصنا الكفاءات لذلك، ولكنّ البيئة العربيّة بيئة طاردة، والعالم لا ينتج التقدّم إلّا في بيئة حاضنة، تهيّأت فيها الظروف المنتجة للوعي.

عمليًّا، الآن، مفهوم الجنّة الموعودة: هو صيرورة سيصل إليها النّاس، لكنّ ذلك في حاجة إلى تراكمات.

الأمر بنفس الشاكلة في القوانين الحضاريّة؛ فهي تعمل ببطء شديد، والإنسان، أو المثقّف، أو المصلح، يصاب بنوع من الإحساس بالغضب أو الغبن، ويتساءل: لماذا لا تتحقّق على يديه هذه الجنّة الموعودة، وهذا التطوّر المأمول. المسألة، في الواقع، ليست بهذه السهولة؛ فما يتحقّق الآن في العالم العربيّ: هو سبات حضاريّ من ألف عام، ونحن في حاجة إلى عمل كبير في المستوى الذهني، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ.

غرايبة: اللّيبراليّون؛ الذين كانوا آخر تطوّر للديمقراطيّة الغربيّة كانوا محافظين؛ لأنّ الأرستقراطيّة أعادت إنتاج نفسها ديمقراطيًّا؛ فالنخبة، نفسها، بقيت لكنّها صارت ديمقراطيّة، وتقود المجتمع بالديمقراطيّة، واللّيبراليّة صارت مثل الطبقات الجديدة البرجوازيّة، التي تريد أن تنافس الأرستقراطيّة ديمقراطيًّا. ولمّا نجحت هذه الطبقات لأوّل مرّة في بريطانيا، عقب ثورتها سنة 1688م، وفي أمريكا سنة 1776م، وفي فرنسا عام 1789م، ما الذي وقع معها؟ هل وقع، فعلًا، نسف للسابق؟ طبعًا لا، لهذا؛ يقول أحد المعلّقين على ما وقع: رحلت الديكتاتوريّة اللّعينة بامتيازاتها، ونسائها، و(الشمبانيا)، وجاءت الديمقراطيّة، ومعها الامتيازات والنساء و(الشمبانيا). ما الذي تبدّل؟ لا شيء، الوجوه تغيّرت، لكنّ نظام الامتيازات بقي على حاله.

لهذا؛ نعتبر أنّ هدف كلّ تغيير: أن يقع تعديل نظام المصالح، وذلك بأن يتحقّق فيه نوع من العدالة، وهذا يحتاج إلى نخب تعمل من أجله؛ أي تعمل من أجل تعديل اللّاتوازن في تحقيق المصالح، بخلق وضع توازن فيها.

إنّه خلق تنظيم عادل للّامساواة؛ فاللامساواة باقية ولن تزول، ومن يدّعي عكس ذلك واهم؛ فالمصلحة تحرّكنا جميعًا، وربّما بمنطق غرائزيّ نسعى فيه إلى التميّز على الآخر.

روسو لم يكن مخطئًا، وكذلك هوبز عندما وصفانا في حالتنا الطبيعيّة؛ في أنانيّتنا التي تخلق فينا حبّ التملّك، الذي منه نشأت اللّامساواة، أو في ذئبيّتنا، وحالة صراع الكلّ ضدّ الكلّ. روسّو قال: يلزمنا تحوّل أخلاقيّ ضميريّ إلى شكل من الإرادة العامّة، وقانون عمليّ تكون فيه هذه الإرادة العامّة؛ هي المشرّعة للقوانين. هوبز كان أقسى علينا، عندما قرّر حاجتنا إلى هذا الوحش الذي لا يقاوم، ولكنّه الوحش الحامل للعقل.

بني عامر: نعم، إنّ وضع اللامساواة نتشارك فيه جميعًا، نحن شركاء بالخطأ، وبنفس المسافة، وبالتساوي أيضًا.

غرايبة: نتشارك، نعم، في المحاسن، لا في المساوئ، واللاّمساواة مسألة عاديّة، ويجب أن يكون التنافس من أجل الوصول إلى الأعلى، ولا يمكن أن يزول هذا التراتب بين النّاس، والأجدر بنا، واقعيًّا، أن ننافس من أجل أن لا نحتلّ المرتبة الدنيا.

سيكون للوزير، حتمًا، راتب أعلى من الموظّف، هذا أمر عاديّ، وعلينا أن ننافس من أجل الوصول إلى منصبه.

أنس الطريقي: فعلًا، فحتّى الديمقراطيّة، في أصلها اليونانيّ، لم تكن مساواتيّة، كما نتخيّل؛ فهي تصنّف النّاس، وتحرم العبيد، والنساء، والغرباء من التداول في الشأن العام.

غرايبة: ليس هناك ديمقراطيّة قبل القرن السابع عشر، أوّلها؛ كان في بريطانيا، ثمّ أمريكا، ولم تنتج فرنسا ديمقراطيّة، إلّا سنة 1848م، في ثورة التصحيح بعد بونابارت. وإذا اعتبرنا التجربة اليونانيّة ديمقراطيّة؛ فكلّ الحضارة الأراميّة ديمقراطيّة، في فترة تجربة المدن العشرة أو "الديكابوليس"، ودولة المدينة ظهرت هناك، قبل أن يعمّمها (الإسكندر المقدونيّ) على المنطقة المتوسّطيّة، وكان لهذه المدن نظام تلتزم فيه مع الإمبراطور الرومانيّ على الدفاع المشترك، مقابل دفع مقدار معيّن من الضرائب.

الديكابوليس: هي مدن عشر لا يزيد قطرها عن سبعين كيلومتر، وعمّان كانت واحدة منها، وفي أقصى الشمال منها دمشق، والمسافة بينهما لا تتجاوز المائة كيلومتر، وهناك مدن لها إدارة ذاتيّة، وما حصل؛ هو أنّ البتراء، المدينة التي في الجنوب، صارت تهيمن على التجارة والطرق، وهذا مخالف لقواعد الصراع بين المدن الآراميّة؛ فهذه كانت تتصارع صراعًا لا تستغني به عن بعضها البعض، وكان هناك توازن ما في ذلك، والبتراء هيمنت وعزلت تلك المدن عن مكاسب التجارة، والحال؛ أنّها، كسائر مدن المنطقة الكاملة، من الفرات إلى المتوسّط، قائمة على التجارة، فنشأ؛ لذلك تحالف المدن العشرة، ليكوّنوا قوّة ضدّ البتراء، ليعيدوها إلى كنف التوازن المحدّد لمصيرهم، والبيزنطيّون والرّومان، لم يغيّروا في البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة تلك، حفاظًا على ذلك التوازن.

أنس الطريقي: يستشفّ من كلّ حديثكم: أنّكم تفسّرون التاريخ برؤية ماركس، وكذلك، ترون طريق الإصلاح.

غرايبة: نعم ماركس كان فيلسوفًا فذًّا، وحتّى موقفه من الدين، فهم على عكس قصده، ونزع نزعًا من معناه المقصود عنده؛ إذ حذفوا نصف مقولته، بإزالة كلماتها الأساسيّة، وقد قال: إنّ الدين ترنيمة الفقراء.

بني عامر: هو ترنيمة بما في الترنيمة من معنى؛ إيجابيّ حيويّ؛ فالدين، هنا، يبجّل بوصفه مصدرًا للمعنى، بينما المسلمون لا ينتبهون لهذا؛ بل يأخذون عليه تناقضه، في نظرهم، لمّا يروى عنه، أنّه مارس طقس الاعتراف.

غرايبة: مثال الديكابوليس، يجسّد الصراع البشريّ على تحسين موارد العمل، لا أحد يريد أن يهيمن، أو يدمّر الآخر، والمطلوب: هو إعادة التوازن.

أنس الطريقي: معنى كلامك: أنّ المطلوب في كلّ حياة اجتماعيّة؛ هو استعادة التوازن، أو توفير شروط التوازن، على مستوى الوطن المصغّر، وعلى مستوى الدول. داخل الوطن المصغّر، نحن نسعى إلى استعادة توازن مفقود بين كلّ النّاس الموجودين في الوطن، وهذا ما نريده، أيضًا، بين الدول. هذا لا يختلف عن فكرة التعايش التي تسعى إليها الدولة العلمانيّة الحديثة، والعمل الذي ينتظرنا يجب أن يكون، إذن: تحييد كلّ من يدّعي ملكيّة الحقيقة فكريًّا؛ فكلّ واحد يدّعي امتلاك حقيقة الحياة، يقلب التوازن ويفسده.

كلّ من يعتقد نفسه مالكًا للحقيقة، سيصنع الاستبداد بالآخرين، ويكتسب سلطة أعلى منهم، والعلمانيّة التي جاءت مع الدولة المدنيّة، هدفها التعايش بعد فترة الحروب الدينيّة التي قضت على التوازن. في نهاية المطاف؛ نحن في الفكرة نفسها بالتوازن الماديّ الاقتصاديّ، العلمانيّة اعتبرته توازنًا فكريًّا.

غرايبة: فكرة ماركس هذه الفكرة الماركسيّة الجميلة، شاءها الواقع الاقتصاديّ، ولم تأت من السماء، وكونت ولوك، وكلّ الوضعيّين لم ينزل عليهم وحي.

بني عامر: حتّى داخل هذه المنظومات، أعملوا الشرط العقليّ في المادّة الإنسانيّة، فأنا أفرّق بين؛ العلمانيّة، والدولة العلمانيّة، والسرديّات الكبرى، وأنا أقابل بينها، هي تمظهرات للعقل؛ فعندما يقولون: سؤال العقل في قوانين تصبح الدولة مدنيّة، ولكن هذه العلمانيّة، إذا أخذناها في معناها الجوهريّ؛ فهي لا تستهدف الفكر الدينيّ فقط؛ بل تريد أن تقضي على المنظومات الكليّة: نظام الإقطاع، والنظام الاقتصادي المصاحب، والديكتاتور، فالديكتاتور عمليًّا، لا يختلف عن رجل الدين، في النهاية، ولديه سرديّة تفسّر كلّ شيء.

العلمانيّة تريد أن تفتّت هذه المنظومات، من أجل البحث عن عدالة بين البشر، بحيث لا يوجد أعلى وتحت، وإعادة رسم الأفق الذي تتحكّم بهذه المنظومات، على مستوى اقتصادي واجتماعيّ، من أجل تحقيق، ما يسمّى بالعدالة الاجتماعيّة، التي تتمظهر في النهاية، في إنسان قادر على أن يتعايش مع الآخرين، بعيدًا عن فكرة الإقصاء والإبعاد، وأعلى وأسفل؛ لأنّ هذه تخلق نوعًا من الحزازات، التي ستؤدّي، بالضرورة، إلى مذبحة، أيًّا كان تشكّلها، لذلك؛ نلاحظ دائمًا، تحالفًا اقتصاديّا، ودينيًّا، وسياسيًّا.

وفي العالم العربيّ الإسلاميّ، تتواشج، دائمًا، السلطة السياسيّة مع السلطة الاقتصاديّة، ومع السلطة الدينيّة؛ فلديهم، جميعًا، الرؤية نفسها، ولكن من بؤر مختلفة، فهناك، دائمًا، تحالف ثلاثيّ من قبل هؤلاء، من أجل السيطرة على الآخرين، ودائمًا هناك، في هذه المنظومات، مواضعات اقتصاديّة وسياسيّة ودينيّة، تصرف لصالح فئة على حساب باقي الفئات.

- انتهى الجزء الأوّل من الحوار -