منصف المحواشي: الطقوس تحقّق إشباعات متعدّدة لحاجات رمزيّة وكامنة تتجدّد باستمرار


فئة :  حوارات

منصف المحواشي: الطقوس تحقّق إشباعات متعدّدة لحاجات رمزيّة وكامنة تتجدّد باستمرار

بسّام الجمل: حضرة الأستاذ منصف المحواشي، كيف تقدّمون سيرتكم الفكريّة والبحثيّة للقارئ؟

منصف المحواشي: للجواب، دعني - لو تفضلتم - أعرّف نفسي ذاتًا مفردة وجماعيّة تنتمي إلى جيل له خصائصه الفكريّة والمعرفية. فأنا بدأت دراستي الجامعية منذ المنتصف الثاني للثمانينات، ودخلت قسم علم الاجتماع في الجامعة التونسيّة. نلت الأستاذيّة في علم الاجتماع، وأمكن لي ممارسة مهنة التدريس في التعليم الثانوي. وخلال ذلك، حصلت على شهادة الكفاءة في البحث، فشهادة الدكتوراه سنة 2000، واتصلتْ الأطروحة بالقضايا الثلاث التالية: الأسرة والفرد والمقدّس، من خلال حركة التحديث الاجتماعي.

ومنذ الحصول على الدكتوراه التحقتُ بالتدريس الجامعيّ. لي اهتمام كبير ومخصوص بعلم اجتماع الأسرة والتربية. فضلاً عن أنّي أشتغل وأنتج نصوصًا بحثيّة في الأنتربولوجبا والنظريّات السوسيولوجيّة والبراديقمات. وأتبنّى في تناولي للمسائل التمشيَّ السوسيو-الأنتربولوجي. فَبَيْنَ الاختصاصيْن تقارب وتداخل كبير، وأيضًا ثمّة اختلاف في الموضوع وفي المنهج. الجامع بينهما هو دراسة الإنسان والمجتمع. أمّا الاختلاف بين التخصّصيْن فيتّصل بحدود الموضوع ومنهج التناول. السوسيولوجيا تنشغل بالاجتماعي والمحلّي أساسًا، أمّا الأنتربولوجيا فتنشغل بما هو كوْنيّ.

تتلمذتُ على مدرِّسِين تونسيّين أغلبيّتهم الساحقة متخرّجون من الجامعات الفرنسية أو الإنجليزّية، ومثّلوا الرعيل الأوّل منذ الاستقلال ممّن درسوا في أوروبّا وخاصّة في فرنسا والذين عوّلت عليهم الدولة التونسيّة بُعَيْد الاستقلال في تأمين التكوين الجامعي للأجيال. وقد ترك هذا الجيل الوسيط بصماته في جيلنا من حيث التكوين الأكاديمي ومن حيث الشواغل البحثيّة.

من جهة أخرى، كانت الجامعة التونسيّة في الثمانينات مجالاً رحبًا لصراعات فكريّة وإيديولوجية محتدّة، ولكن لم يكن ليُسمح لتلك الصراعات أن تُعبّر عن نفسها بذاك الحجم والعلنية خارج أسوار الجامعة إلاّ بشكل خافت، بحكم إمساك نظام "بن علي" لاحقًا بكلّ فضاءات التعبير السياسي والفكري. وكانت الجامعة التونسيّة على طول عشْرِيتيْ السبعينات وخاصّة الثمانينات الفضاء الأهمّ الذي تربّت ونشأت فيه زعامات طُلاّبية وقادة سياسيّون من مختلف التوجّهات السياسيّة وخاصّة من اليساريين والإسلاميين، أغلبهم أصبحوا الآن يملؤون الفضاء السياسي ويقودون الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني الناشطة. إذن، في هذا الجوّ الموسوم بالحركيّة الفكريّة والشبابيّة خاصّة تشكّل الجيلُ الجامعيُّ الذي أنتمي إليه، وحمل معه أحلامًا فكريّة كبيرة.

وفضلاً عن ذلك، لئن كان أغلب أساتذتنا في الجامعة قد ترعرعوا في بيئة فكريّة وعلميّة وضعيّة (positiviste) سواء في وجهها المحافظ (الدوركايمي والبنيوي) أو الثوري (الماركسي والنقدي)، فإنّ الوضعيّة بوصفها فلسفة وخلفيّة نظريّة للعلم (وأقصد السوسيولوجيا أساسًا)، لم تعد تستهويني لنزعتها الموضوعانيّة والحتميّة، وصارت بحسب ما أرى لا تفي بالحاجة عندما تواجه أسئلة المعنى والتأويل وقضايا الرمز والفعل، ولا تقدّم أيضًا معاول ناجعة لتناول قضايا مثل قضايا الثقافة والرمز والمعنى، ولا تشبع نهمي المعرفي في مقاربة مسائل مثل الدين والعنف والمقدّس، وصراعات المعنى التي تتمظهر في اليومي (le quotidien)، وفي بيئاته كالأسرة والمدرسة والشارع والإعلام وملاعب الرياضة والسوق والفضاءات العامّة، ومن خلال مجال العلاقات الأكثر حميميّة وإنسانيّة كالزواج والحياة الجنسيّة.

في السوسيولوجيا الكلاسيكيّة يبدو ماكس فيبر (Max Weber) فاتحًا كبيرًا لمجالات مهمّة في مباحث الفكر الجديدة، وكان له الفضل في نحت مفاتيح منهجيّة في مقاربة الأفعال والممارسات في ارتباطها بالمتخيّل (l’imaginaire) الاجتماعي وقراءة الممارسات الثقافية والرموز ودلالات الفعل وتفكيك الرموز الثقافية. وفي الحقيقة لطالما استفادت مباحث الثقافة والمتخيّل من أطروحات ماكس فيبر ومن المدارس الفينومينولوجية، وكان لها الأثر البالغ في تبلور ما يسمّى بالسوسيولوجيات الجديدة، وهي المسائل نفسها التي ننخرط في أطروحاتها من حيث الاهتمام بالفعل والرموز الثقافية والخطاب، مضمونًا، وردم المسافة الوهميّة الفاصلة بين الذات والموضوع منهجًا.

في هذا الإطار الفكري النظري العام تشكّلت أسئلة بحثنا في المتخيّل والمقدّس، وفي الممارسات الثقافية باعتبارها مجالات لتجلّي المتخيّل والمقدّس بـ"عُقَدِهِمَا" وثِقَلهما الأنتروبولوجي، وكانت هذه الأسئلة في جانب كبير منها ذات منحى أنتربولوجي مضمونًا ومنهجًا وخيارات تقنيّة، وفي جانب آخر ذات منحى سوسيولوجي بروحه العلميّة والمنهجية. فمن الجانب السوسيولوجي تركزت اهتماماتنا على قضايا التغيّر الاجتماعي والتحديث والبنى الذهنيّة، كما تركّزت على خطابات التحديث الاجتماعي وعلى الأسرة وطرق التنشئة والتربية وطرائق توظيف الفضاء والسكن فيه والممارسات الزواجية والاحتفالية والحياة الجنسية، فاهتمامات السوسيولوجيا هي أكثر تقيّدًا بالمجتمعي وبسجلاّت المحلّي واليومي، أمّا اهتمامات الأنتروبولوجيا فهي أكثر انفتاحًا على الكونيّ وعلى المكتسب الإنسانيّ الأعمّ. ولهذا كان تمشّينا في أغلب بحوثنا ينهض على المقاربة السوسيو-أنتربولوجيّة.

بسّام الجمل: اعتنيتم في أطروحتكم للدكتورا بالعلاقة المتينة بين العائلة والمقدّس في سياق عمليّة التحديث الاجتماعي من ناحية ومن خلال دراسة حالة بعينها من ناحية أخرى. فما هي أبرز الملاحظات والاستنتاجات والنتائج التي انتهيتم إليها خاصّة أنّ البحوث ما بعد الوضعيّة ـ والتي تتغذّى من السوسيولوجيّات الحديثة فاسحة مجال النظر في الفاعلين الاجتماعيّن ومساعيهم ومختلف استراتيجياتهم ـ قليلة التطبيق والإجراء في مجالات بحثية متأثّرة بالأطر النظرية الكلاسيكية الدوركايمية منها والماركسية والبنيوية؟

منصف المحواشي: العائلة، الفرد، المقدّس، ثلاثيّة من القضايا يشد أطرافها رباط موضوعي واحد، هو انتماؤها إلى أقرب المجالات التي نعيش فيها: الجماعة الأهلية والمجال المنزلي، حيث تنهض أدقّ العلاقات ويتقاسم الأفراد أدقّ المصالح ويحققون في ما بينهم الاتصال الإنساني الأشدّ عمقًا وحميميّة. وخلال إثارتنا لهذه القضيّة تأطّر سؤالنا السوسيولوجي ضمن واحد من أهمّ شواغل علم الاجتماع: إشكالية التغيّر الاجتماعي. ويتخذ هذا السؤال أهميّة من راهنيّته حيث يعرف مجتمعنا أسرع التحوّلات وأعمق التغيّرات. وبإثارته فإنّنا نُسائلُ سياسات التحديث الاجتماعيّ وحركة الدنْيَوَة (sécularisation) في خصوصيتها المحليّة التونسيّة ومن خلال قضاياها الأشدّ حساسيّة: كيف نغيّر وفي الآن نفسه نبني؟ وعندما انشغلنا بالعائلة والفرد والمقدّس، كنا نتطرّق إلى مسائل سوسيولوجيّة عدّت ضمن مباحث السوسيولوجيا التقليديّة بمقارباتها الشموليّة (holistes) ثانويّة، على اعتبار أنّ جوهر الاجتماعي (le social) ماثل في الكلّي، وفي البنى الموضوعية، أمّا ما هو من قبيل "المعنى" و"الرمز" و"المتخيّل" فليس إلاّ انعكاسًا وتعبيرة لما هو "جوهري": البنى الموضوعية والأنساق الكلّية في لحظة من لحظات تشكّلها.

لكن يجب القول، إنّ السؤال الذي اشتغلنا عليه وبالأبعاد التي أشرنا إليها، قد تأطّر نظريًّا ضمن منعطف الأنتروبولوجيا الثقافيّة الجديدة وضمن هاجسها المنهجي، فنحن إنّما انخرطنا ضمن اشتغال منهجيّ تم خلاله إفساح المجال وعلى نطاق واسع أمام أنشطة الأفراد وممارساتهم ضمن سيرورة الاكتساب الثقافي، تبعًا للحاجات والدوافع الظاهرة وخاصّة منها الثاوية، وربط ذلك بالمتخيّل الثقافي والجمعي وبأشكال الوعي.

من ضمن ما اشتغلنا عليه تركّز جانب كبير من اهتماماتنا على مراقبة حقل المقدّس والمتخيّل الديني المتّصلين بالحياة العائلية، لنتبيّن الوظائف الظاهرة والكامنة التي ينهضان بها في حياة الجماعة الأهلية والعائليّة. ففي المجتمع التقليدي، مثّل المقدّس الدينيّ والطقوسيّ ركيزة متينة استندت إليها السّلطة الباترياريكيّة عمومًا والسّلطة الأبويّة داخل العائلة خصوصًا. وكان المتخيّل الديني يؤمّن للإنسان التقليدي نوعًا من الاستقرار ويمدّه بتمثل خاصّ لنفسه وجسده ومحيطه المادّي والطبيعي مشحون بالقداسة. وكان المقدّس إلى جانب ذلك يسوّغ للعلاقات القائمة بين الأجيال ويؤسّس لنوع من التراتبيّة بين الذكور والإناث، وبين الكبار والناشئين. في المجتمع التقليدي كان كلّ ما هو اجتماعي يكاد يكون دينيًّا، وكانت الكلمتان شبه مترادفتيْن. ومع تركّز الدولة الفتيّة التي ستقود مشروع التحديث وحركة الدنيوة، بدأت الوظائف الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافية تتكوّن على حدة وتتخلّص في الظاهر من القداسة التي كانت تتغذّى منها، لكن المتخيّل - ببناه العاتية والمتغلغة في الوعي الجمعي، ظلّ - بالرغم من فعل التغيير الذي نهضت به مؤسّسات عملت إلى حدّ واضح في تناسق - يشحن الوعي بصُوَره ونماذجه و"عُقَده"، وهو ما جعل التغيير فعلاً لا يمسّ إلاّ السطوح. ومن ضمن ما انتهينا إليه، في دراسة حول ظاهرة بمثابة مؤشّر حول مدى استقرار الروابط الزوجية (باعتماد مؤشّر "الطلاقية" divortialité)، تبيّن أنّ الروابط الزوجيّة المتوتّرة والتي تنتهي بالطلاق سببها نوازع و"عُقَد" تحكمها قيم نمطيّة كالذكورة والأنوثة والشرف والطهر والنبل العائلي وغير ذلك. ومثل هذه النوازع الماثلة بصورها في المتخيّل الجمعي، تغذّي التمثّلات والرؤى، وتُوضع في موضع العمل في كلّ لحظة من ممارسات الحياة العائليّة اليوميّة.

بسّام الجمل: في هذا السياق، خصّصتم جانبًا من شواغلكم البحثيّة لدراسة الصلات المتينة والمتداخلة بين الطقس والرمز، حتّى إنّكم أشرتم إلى الحاجة الملحّة إلى دراسة ما تسمّيه ماري دوغلاس (Mary DOUGLAS) بـ "النجاعة الرمزيّة". فكيف يمكن استثمار هذا المفهوم في تفهّم المنتجات الرمزيّة في المجال العربي الإسلامي المعاصر؟

منصف المحواشي: سؤالكم مركّب، لكن سأكتفي بالوقوف عند ما يُسمّى بـ "النجاعة الرمزيّة" للطقوس. فليست الطقوس في آخر الآمر سوى أدوات و"تقنيات" يتمظهر من خلالها المقدّس وبنى المُتَخيّل، وهي أيضًا لغة مشحونة بعلامات مختصرة لكن دلالاتها كثيفة المعنى، وتحضر في كل مجالات الحياة: الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وحتّى الرياضيّة وغيرها. وتتّخذ الممارسة الطقسية نجاعة عمليّة بحكم التأثير الرمزي والوجداني الذي تُحدثه في المنخرطين فيها. فبوسع الطقوس أن تحقّق إشباعات متعدّدة لحاجات رمزية وكامنة تتجدّد باستمرار، وتمكّن ممارسيها من وسائل للتحكّم في الأشياء والزمن، وتؤمّن أوضاعًا من التوازن النفس-اجتماعي المطمئنّ، وتسمح بتفادي ما قد تواجهه الجماعة من ارتباك وتشوّش خلال وضعيّات التغيّر الاجتماعي السريع. فممارسة الطقوس لها وظيفة ناجعة، ومثَلُها مَثَل مُسَرِّح الغازات الخانقة l’échappatoire لسيّارة يشتغل محرّكها في غليان مستمرّ. وهذا وجه من أوجه النجاعة الرمزيّة الكثيرة التي تصاحب ممارسة الطقوس.

بسّام الجمل: كيف ترون العلاقة بين العنف والمقدّس من منظور علم الاجتماع؟

منصف المحواشي: أعتقد أنّ الحديث في شأن العنف لوحده يستوجب عُدّة مفاهيميّة متينة، أمّا الاشتغال على ظاهرة العنف في علاقته بالمقدّس فإنّنا نفضّل الوقوف عند هذا الالتقاء وأن نقارب الأمر من مدخل أنتروبولوجيّ. نؤكّد أوّلاً أنّ العلاقة بين العنف والمقدّس هي علاقة وطيدة بامتياز! والأطروحتان الأنتروبولوجية والسوسيولوجية تؤكّدان كلّ على طريقته ذلك. ومن ضمن المقاربات الأنتروبولوجية للعنف وللمقدّس - واحدة نحسبها تفي بالحاجة، ألا وهي أطروحة "رينيه جيرار" (René Girard) حول "العنف والمقدّس". وتكشف هذه الأطروحة بكثير من التماسك النظري عن الترابط الوطيد بين العنف والمقدّس، وتقيم معمارها النظري على مفارقة تبدو للوهلة الأولى عجيبة ! فالاختلاف والتفاوت بين الناس ليس هو ما يولّد الصراع والعنف، كما تذهب إلى ذلك نظريّات الصراع السوسيولوجية، إنّما الأمر هو على العكس من ذلك تمامًا، فسبب العنف هذه المرّة هو التماثل والمحاكاة. فالصفعة تولّد الصفعة المردودة ولو "بعد قليل". بهذه الطريقة يَدخل العنفُ الموجَّه والمردودُ، في حركة دائريّة لا تنتهي. وههنا يأتي دور الأُضْحِية Le bouc émissaire التي سيوجّه إليها عنف الطرفين أو الأطراف المتصارعة. فالأضحية هي البديل المعوّض الذي لا يُثأر له حتّى يتوقّف - ولو مؤقّـتًا - فعل العنف المتبادل، أو على الأقلّ يُؤجّل استئنافه. وأغلب السرديّات الدينية المؤسّسة تؤكّد هذه الوظيفة. فالكبشُ عَوّض إسماعيل الذي كان سيذبحه أبوه، والمسيح قدّم نفسه بديلاً لن يُثأر له. ينطلق "جيرار" من قراءة نصوص أدبيّة مشهورة من ثقافات ولغات مختلفة ("دوستيوفسكي"، "سارفانتاس"، "ستاندال"، "بروست" و"شكسبير" و"راسين" وغيرهم) ليكتشف أنّ الشخصيّات والأبطال في هذه الروايات جميعها تشتغل وفق سيناريو متكرّر، وتعبّر عن رغبات متشابهة سمّى هذه الرّغبة "الرغبة المحاكاتيّة" le désir mimétique، وانطلاقًا من هذا "الاكتشاف" البنيويّ نحت "جيرار" مفهومًا أنتربولوجيًّا لـ"الرغبة" (متجاوزًا المضمون الغريزي ليُرْسِي هذه المرّة مفهومًا ثقافيًّا) سيجعل منه في كلّ أعماله حول العنف في علاقته بالمقدّس، مِعْوَله المفاهيميّ الأوّل بامتياز. والجديد في أطروحة "جيرار" أنّ رغبتنا في الأشياء ليست خطّية ومباشرة بين ذات راغبة وموضوع للرغبة، بل تقوم هذه الرغبة على وجود طرف ثالث نحاكيه في رغبته ويحاكينا في الرغبة وفي موضوع الرغبة، والمعادلة تصبح إذن: ذات راغبة، فطرف ثان نحاكيه يمثّل أنموذجًا وسيطًا بين الذات الراغبة وموضوع الرغبة، فموضوع للرغبة. فقد يصبح موضوع الرغبة ذا قيمة لا في ذاته، بل لأنّه مرغوب فيه من قبل الآخر، أو من قِبَلِنا بالنسبة إلى الآخر. فالآخر بالنسبة إلى الذات الراغبة يحدّد بشكل ما نرغب فيه، وهو ما يعني أنّنا لسنا أحرارًا في اختياراتنا، لأنّها محكومة بطرف ثالث سواء أكان موجودًا أم غائبًا. بهذا المعنى فإنّ الرغبة بقدر ما هي قوّةُ دفعٍ فهي أيضًا مصدرٌ للصراع، لأنّ المتنازعين عندما يرغبون في الشيء نفسه يتصارعون.

هذا الاكتشاف النظري سيحمل من قراءة النصوص الأدبية إلى قراءة النصوص والتراجيديات الكبرى في ذاكرة البشريّة (أساسًا، أسطورة "أوديب ملكا" والملك "ديونيزيوس" و"سوفوكل" و"أوربيد" وغيرهم. فالعنف ينهض على المحاكاة، وهذه الأخيرة تؤدّي إلى التصادم، فالعنف الذي يمارسه "أ" على "ب"، يجعل "ب" - المدفوع بالمحاكاة يعمل على ردّ العنف الذى تلقّاه. وبهذا العنف الموجّه والمُحاكَى بدافع الرغبة في التساوي، يتّخذ شكل الحركة المستديمة ويدخل في حلقات لا نهاية لها. بهذه الطريقة دخل الناس، ولا يزالون يدخلون، في صراعات دمويّة محمومة وحروب فتّاكة أتت على الأخضر واليابس، ومن خلال أعمال الثأر والثأر المردود الفرديّ منه والجماعيّ، وتحضرنا هنا أمثلة لا تنتهي، لعلّ أهمّها حرب البسوس وحرب "داحس والغبراء" والحروب الصليبيّة والحرب العالمية الثانية وحتّى أحداث الحادي عشر من سبتمبر الدامية. وأمثلة الثأر كثيرة أيضًا كالثأر للمسيح، والثأر لداحس وللحسين ولغيرهم.. وخلافًا لما يقتضيه العقاب القضائي الذي ينهي الأمر عند الفاعل الأوّل، فإنّ ردّ الفعل والثأر من القاتل لا ينتهي، لأنّ القاتل سيرمي على عاتق أحد أفراد جماعته وعلى جماعته بحثًا جادًّا وبلا كلل لثأر يشفي الغليل ويطفئ نار المحاكاة، قد يستمرّ عبر الزمن. وبهذه الطريقة سيبقى العنف عدوى بلا حدّ، ينتشر بين الجماعة ويهدّدها بالفناء (وهي الحالة التي سيسميها "جيرار" "أزمة المحاكاة") حيث سيؤدّى العنف إلى مذابح جماعية. لقد بيّنتْ قراءة "جيرار" (البنيويّة) للتراجيديات والسرديّات المؤسِّسة، أنّ البشريّة ـ ومنذ فجر التاريخ ومنذ معركة "قابيل وهابيل" التي قتل خلالها الأخ أخاه ـ شعرتْ بالحرج الوجودي، فسعتْ إلى البحث عن "مهدّئ" للمرض العضال. فابتكرت الجماعات البشريّة الأولى أوّل مؤسّسة أمنيّة في التاريخ: مؤسّسة الأضحية أو كبش الفداء! (le bouc émissaire)، والأضحية هي بشكل ما "عدوّ رمزي" اتّخذته الجماعة البشريّة الأولى لتصبّ فيه كلّ قواها وحقدها العنيف، و"الرغبة المحاكاتـيّة" كحقيقة ماثلة وملازمة للاجتماعي لم تكن لتبدّد، أو يتمّ صرفها - هذه المرّة - إلاّ على طرف ثالث وفي قناة مخصّصة له هي "الأضحيّة".

لكن، أيّ شيء يمكن أن يكون أضحية؟ كانت الأضاحي في البداية آدمية، ثم بدأت تكفّ على أن تكون ذلك عبر التاريخ، ثم ستصبح حيوانية. والشرط الأوّل في الأضحية أن تكون قابلة لأن يُضحَّى بها (sacrifiable). وتدلّ اللاّحقة "able" على معنيَيْن: "القابِليّة لِـ..." و"الأحقّية بـ...". ومهما يكن من أمر، فإنّ اللوحة التي تشكّل قائمة الأضاحي البشريّة (pharmacos) ثمّ الحيوانية في مرحلة متأخّرة من التاريخ البشري، تحتوي لائحة من الأشخاص المتشابهين في وضعهم، على الرغم ممّا يبدون عليه من تنافر. فالقائمة تحتوي الذكور من أسرى الحرب، والعبيد، والأولاد اليافعين، والمعوّقين والمنبوذين، والملك في بعض المجتمعات البدائيّة. والمشترك بين هؤلاء أنّهم يعيشون على هامش المجتمع وهم بالتالي أفراد لا يُثأر لهم. أمّا لماذا الملك؟ فلوضعه غير الطبيعي في المجتمع وتعاليه عنه. أمّا إذا كانت الأضحية حيوانًا فالمبدأ يكاد يكون نفسه: الذكورة والقرب من الإنسان والعيش معه، والوداعة والسلامة (في الدين الإسلامي، يُفضّل أن تكون الأضحية ذكرًا، بشرط أن تكون سليمة فلا هي نطيحة ولا مكسورة ولا مريضة). ونضيف إلى هذه الشروط شرطًا آخر له دلالة سياسية بامتياز هذه المرّة. ففي المدن القديمة كان المكان المخصّص للذبح وتقديم الأضاحي، يقوم في موقع ما، بين بناية مؤسّسة السلطة السياسية والعسكرية من جهة، والمعبد من جهة أخرى. "التوفاة" (Tophet) في قرطاج القديمة (مكان ذبح الأضاحي من الأطفال على ضريح الآلهة) مثال على ذلك.

بهذه الدلالات الإتنولوجيّة، يتبيّن أنّ العلاقة بين العنف والمقدّس علاقة وطيدة بامتياز. ونُتبيّن ثلاثة أمور أساسيّة في هذه العلاقة:

- أنّ المقدّس بحكم طابعه المتعالي وسلطته الرمزية والأخلاقية مدعوّ دومًا وفي كلّ المجتمعات إلى تأسيس الفوارق وإضفاء الشرعيّة على سلطة أو مؤسّسة لتستقطب أحقيّة فعل العنف، ومنعه عن أطراف أخرى.

- أنّ الدين يتّخذ دومًا وظيفة أساسيّة لازمة له، ألا وهي الوظيفة التصنيفيّة والمعياريّة، وذلك من خلال سحب صفة القداسة على أشياء وأشخاص وأزمنة وأمكنة بعينها.

- أنّ المقدّس يثبّت دومًا المعايير: الطاهر وغير الطاهر، الحلال والحرام، المقبول وغير المقبول.

بسّام الجمل: لقد كانت لكم مساهمة متميّزة في تفحّص مفهوم مركزي في كتابات عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (Bourdieu)، وهو مفهوم "التطبّع" (l’Habitus). فما هو الدرس الذي خرجتم به بعد عملكم هذا؟ وهل يمكن تفعيل هذا المفهوم من أجل تجاوز الثنائيّات التي ولعت بها السوسيولوجيات الكلاسيكية؟

منصف المحواشي: يمثل مفهوم التطبّع في سوسيولوجيا بيار بورديو مفهومًا جوهريًّا وتأسيسيًّا بكل امتياز إلى جانب مفاهيم أخرى كالحقل الاجتماعي والرساميل والهيمنة الرمزية والشرعية، بل لطالما دُعِيَت سوسيولوجيته بـ "سوسيولوجية التطبّع". فالمفهوم أعطى للمقـاربة فرادتها النظريّة والعمليـّة. وليس الأمر بغريب، فقد لامس ميادين متعدّدة وبِكْرًا، بدأت مع المسكن القَبَلي الجزائري، والحقل المدرسي والفنّي، مرورًا بالأزياء الراقية، وأنماط العيش ومشكلة النوع (le genre) وصولاً إلى بؤس المهمّشين ومؤسّسة الدولة ووسائل الإعلام والنظام العالمي. وقد أزالت هذه الطريقة في التناول، الحدود بين ما عُدّ اعتباطًا مواضيع نبيلة وشرعيّة، ومواضيع تافهة ولا شرعية، وضمّنت سوسيولوجيا "التطبّع" خلال هذه المباحث مراكمة نظريّة ومعرفيّة استمرت عقودًا، ومثّلت أطروحاته أرضية خصبة لإنجاز كثير من البحوث في قطاعات معرفية متعدّدة، تقف وراءها رغبة علميّة جموح في تأسيس أنتروبولوجيا حقيقيّة وجعل علم الاجتماع علمًا كلّيًّا قادرًا على فهم الوحدة الأساسية للممارسة الإنسانية عامة.

من جهة أخرى، يُتبيّن أنّ علاقة التجربة بالتاريخ علاقة قويّة، لكنها لا تعني أنّ الأعوان الاجتماعيّين هم مجرّد نتاجات تاريخيّة وانعكاس للظروف الموضوعية، لهذا يؤطّر بورديو تجربة الذات دومًا ضمن عمليات من التكوين (genèse) وبواسطة آليات استبطان نفس-اجتماعيّة تتشكّل عبر الزمن ويتمّ من خلالها استبطان intériorisationوقائع التجربة في الذهن والجسد. فالتطبّع إنّما يحصل من جدلية تفاعليّة بين التجربة والذات، وتُشكِّله عمليّات معقّدة من التدريب والتعلّم الذاتيّ في آن معًا، ويكون فيها العَوْن محور هذه التجربة. كما يؤسّسه النظام الاجتماعي عبر مختلف هيآته التنشيئيّة (كالعائلة والمدرسة، ومجال العمل، والكنيسة، والمسجد، ووسائل الإعلام، وغير ذلك)، ومن خلال آليّات معقدة من التأسيس (institutionnalisation) ينجزها أعوان اجتماعيّون منخرطون في لعبة التنافس والصراع، وينفّذون استراتيجيات تتوافق مع مواقعهم التي يحتلّونها في الفضاء، بحسب ما يمتلكونه من رساميل وثروات ماديّة ورمزيّة وبحسب آليات إعادة الإنتاج الاجتماعي. وبهذه الرؤية يزيل صاحب نظريّة "التطبّع" الطابعَ الميكانيكيَّ والانعكاسيَّ والحتميَّ الذي قد تندرج ضمنه ممارسات الأعوان الاجتماعيّين.

وهنا نؤكّد أنّ خضوع العون الاجتماعي لعمليات التهيئة والإعداد هذه، يكسبه خبرة التجربة وقدرات مهارية عالية، يسمّيها بورديو: "الحِسّ العَمَليّ" le sens pratique. وبما أنّ الأعوان الاجتماعيّين يتفاوتون في الحظوظ، فإنّهم لن يكتسبوا حسًّا عمليًّا متشابهًا، وهذا ما سيولّد عددًا غير محدود من التطبّعات المختلفة تتأطّر ضمن طبقات اجتماعية تشمل أعوانًا يتقــاربون في التطبع ويتشابهون في مسارات التجربة.