مهنانة إسماعيل: التراث يعجّ بالقنابل الموقوتة


فئة :  حوارات

مهنانة إسماعيل: التراث يعجّ بالقنابل الموقوتة

إنّ التعاطي بإيجابية مع ما ينتج الآن في الزمن الثقافي الجزائري، وخاصة في صورته الفلسفية، هو الصورة الأفضل لكي نرتقي بالسؤال الفلسفي وما يدور في فلكه الواسع المدى إلى منزلة توقع انبثاق حركة فلسفية منفتحة على المنجز الفلسفي العالمي، وقادرة على مواكبة ما هو حارق وقلق فيه، ربما يكون قراءة المفكر التونسي فتحي التريكي صادقة عندما قال إنّ الفلسفة في الجزائر تعيش شبابها، ومنه يكون المنجز الذي يقدمه دوماً وباستمرار وبعزم أنطولوجي الباحث الشاب والمتفلسف بصدق، الدكتور مهنانة إسماعيل بحسبانه أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة قسنطينة / الجزائر، وهو من مواليد 1980، يهتم كثيراً بالدراسات حول الهويّة والفينومينولوجيا، وأيضاً بالدراسات السردية والأدبية، وخاصة من جهة الاشتغال على النصوص الكبرى في الفكر الفلسفي، مثل نصوص نيتشه ومارتن هيدغر، وانهمامه بما يقدّم على الساحة العربية، واجتهاده في تكريس الفعل الفلسفي، جزائرياً ومغاربياً وعربياً، بحيث يعمل على تفكيك البنى المختلفة للفكر العربي والذهاب صوب الأسئلة الجذرية دون خوف أو وجل من المخيال الإيديولوجي.

وقد تنزلت اشتغالاته المتعددة في المؤلفات التالية:

1-  "العرب ومسألة الاختلاف، مآزق الهويّة والأصل والنسيان"، منشورات اختلاف/ منشورات ضفاف، بيروت 2014

2-  الوجود والحداثة، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، 2011

3-  إدوارد سعيد، الهجنة والسرد والفضاء الإمبراطوري، بيروت، 2012

4-الإشراف على موسوعة "الفلسفة العربية المعاصرة" منشورات ضفاف/اختلاف، بيروت 2012، وهي الموسوعة الأولى من نوعها في الثقافة العربية، حيث تقدّم أربعين مفكّراً ومشروعاً فلسفياً في قراءات نقدية يقدّمها دارسون متخصصون من كلّ الدول العربية.

5-من الكينونة إلى الأثر، دار الروافد، بيروت، 2012، وهو مجموعة دراسات حول الحوار الفلسفي الذي نشأ بين مارتن هيدغر ومعاصريه من فلاسفة القرن العشرين.

أهلاً وسهلاً بك على منبر مؤمنون بلا حدود.

ربوح البشير: إذا كانت المنظورية الفلسفية هي مرآة المتفلسف في هذا العصر، كما تحدث عنها نيتشه، فهل يمكن اعتبار المسار الفكري للدكتور مهنانة إسماعيل، هو بتعبير دقيق ثمرة طبيعية لتمفصلات حياته؟

د. مهنانة إسماعيل: لا يمكن لأي متفلسف أن ينفصل عن الواقع، وعن طريقة معايشته لواقعه، وإلا فستتحول الفلسفة إلى مجرّد تهويمات مفاهيمية مجرّدة لا تحيل إلى أيّة واقعة. هذا التجريد والتهويم هو ما يطبع حالياً كلّ الفلسفة الجامعية في العالم العربي، كنتُ دائم الحذر من الانغماس في البحث الأكاديمي دون الالتفات إلى الواقع، ومن دعاة إخراج الفلسفة خارج أسوار الجامعة، وأعتقد أنني فشلت في ذلك على المستوى العام، لكنني نجحتُ في إنقاذ نفسي من الأكاديمية الصرفة رغم أنني تابعت تكويناً أكاديمياً صارماً. إنّ الفلسفة الأكاديمية لا تعطينا سوى الأدوات المعرفية والمنهجية التي نقارب بها واقعنا، وإذا توقّفنا عند هذا المستوى من التأمل فسوف نسقط بسهولة بالغة في المدرسية، أي تكرار مقولات الفلاسفة السابقين، وإعادة إنتاجها وتعليمها وترجمتها، وهذه وظيفة الأستاذ الجامعي وليست وظيفة المتفلسف. أحاول دائماً الاستفادة من أخطائي وأخطاء من سبقني، وأنطلقُ من هذا التشخيص لواقع الفلسفة في العالم العربي لكي أوجّه الفلسفة وجهة واقعية راهنة.

ربوح البشير: على أيّ جهة انهمّ الدكتور مهنانة إسماعيل بالقضايا الفلسفية، هل من جهة البحث في الكينونة بمختلف تشكلاتها: كالمعنى والدلالة والعالم والقصد أم من جهة التنقيب عن عالم ميتافيزيقي؟

د. مهنانة إسماعيل: نظرياً لا يمكن الفصل بين البحث في التشكّلات التاريخية للكينونة وبين الأساس الميتافيزيقي لهذه التشكّلات. إنّ سؤال الفلسفة هو سؤال واحد منذ مفكّري اليونان الأوائل، سؤال الأساس الميتافيزيقي للمعرفة والوجود والقيم، وبالطريقة التي طرحه بها هيدغر: "لماذا كان ثمّة موجود بدلاً من لا شيء؟" فهو السؤال نفسه الذي طرحه ليبنتز بطريقة أخرى: "لماذا تؤثّر العلّة في المعلول؟ وما طبيعة هذا التأثير؟ وأجاب عنه بمبدأ العلة الذي يؤسس كلّ العلم الحديث (لا شيء بدون علّة توجده)، وما معنى توجده؟ وقد ردّ دفيد هيوم على "مبدأ العلّة" هذا بريبية مزلزلة تنفي كلّ "تأثير" مزعوم أو متوهَّم بين العلّة والمعلول سوى هذا التسلسل والتعاقب في الزّمن والذي يولّد لدى "الذّهن" (وليس العقل) وهماً بوجود ارتباط ضروري بين الظواهر الطبيعية، لكنّ كانط المستيقظ من سباته الدُّغمائي على وقع هذا الزلزال الهيومي سرعان ما استعاد توازنه، بالتأكيد هذا "التعاقب في الزمن للظواهر" محكوم بمبدأ ترنسندتالي هو "الأنا" أو الذاتية المتعالية التي تقوم ككيان مانح للضرورة المنطقية بين الظواهر التجريبية للعلم. وهي الضرورة نفسها التي بنى عليها فيما بعد خلفه هيغل كلّ حركة الطبيعة والتاريخ والرّوح ضمن منطق جدلي صارم لا يترك للمصادفة أو الجزافية أو العبث أيّ هامش، إنّها ضرورة تستمدّ صرامتها من "حركة الزمن" نفسه. لكنّ السؤال بقي متوقّداً في الفلسفة الألمانية مع ورثة هيغل إلى غاية الإجابة التي قدّمها نيتشه في أنّ ثمّة إرادة ثاوية في تضاعيف العالم والحياة، إرادة تلحق المعلول بالعلّة إلحاقاً جبرياً بالقوة المنتقلة من حالة العلّة إلى حالة المعلول، سمّاها "إرادة القوّة"، مثل قولنا إنّ "النار تحرق الخشب" (وهو المثال نفسه الذي أورده أبو حامد الغزالي في نقد مبدأ العلة). فالعلم يكتفي بوصف هذه الظاهرة "النار تحرق الخشب" دون أن يفسّر لنا لماذا تحرق النار الخشب؟ وما هي قوة الحرق هذه؟ وكيف حدث الانتقال من حالة "أ" إلى الحالة "ب"؟ يكتفي العلم بتأكيد وتكميم العلاقة العلية بين الظواهر، لكنه لا يفسّر لنا هذه العلاقة، أي أنّه لا يجيب عن سؤال الأساس الذي هو سؤال الفلسفة.

منذ أمبادوقليس (القرن السادس قبل الميلاد) تنبّهت الفلسفة إلى هذا السؤال، وقد أجاب اليونان الأوائل بأنّ العلاقة بين ظواهر الطبيعة هي علاقة "تجاذب" أو "تنافر"، أي محبّة أو كراهية، وهو المفهوم الأصلي نفسه للحبّ عند أفلاطون أو الشّوق عند أرسطو، أي سؤال "وجود الموجود"، حركته في الزمن، انسحابه في الزمن كما يقول هيدغر. نلاحظ إذن أنّ سؤال الفلسفة التأملية سؤال واحد، وهو سؤال يصعب القبض عليه بمجرّد التعليم الفوقي للفلسفة الذي ينتشر هذه الأيام إذا لم يكابده المتفلسف بنفسه.

في مقابل ذلك، اتجهت الفلسفة في القرن العشرين، وخاصة ابتداء من منتصفه، نحو تحليل الخطاب بوصفه البنية السطحية للغة، الخطاب بوصفه أثراً للكينونة، وبكل تجلّياته مثل العلامة، والصورة، والمعنى والوجه، والنصّ، لقد انفصل الخطاب عن الوجود، والملفوظ عن حركة التلفّظ بعد الحرب العالمية الثانية، لأنّ الفلسفة لم يتبقَّ لها إلا الأثر أو شعرية الخراب بلغة موريس بلانشو.

ربوح البشير: ما هي المساحة التي يحتلها التفكر في الدين في كتابات الدكتور؟

د. مهنانة إسماعيل: لقد طرح التفكّر في الدين نفسه كضرورة ملحّة في السنوات الأخيرة بسبب الأحداث العالمية الراهنة المرتبطة بمسائل الدّين والتديّن والتسامح والحوار والتأويل والعلمانية، ولهذا فإنّي أولاً أسجّل تخوّفاً من انزلاق التفكّر في الدّين نحو ضرورات النقاش السياسي والإعلامي العاجلة والاستهلاكية والتداولية. إنّه دور الفلسفة والفيلسوف هنا لكي يحذّر من مخاطر الانسياق وراء الأطروحات الإعلامية الجاهزة حول الدّين، فحيث تسود الأطروحات ينتفي ويغيب التفكير، بل إنّ غياب التفكير هو سمة عصرنا الإعلامي بامتياز، فالجميع يتبادل الأحكام المسبقة تجاه الآخر المختلف، سواء على سبيل المجاملة المنافقة في ضرورة التعايش أو على وجه الإقصاء والشجب والوصم بميسم الهرطقة والكفر والإرهاب. في العمق يكشف غياب التفكّر في الدين عن التطرّف الخفي الذي يضمره الجميع ضد الجميع. ومن هذا الباب والمنحى أحاول توجيه تفكيري وكتاباتي حول الدّين والتديّن، وألفت الانتباه إلى الزوايا المنسية والأسئلة المقموعة حول المشكلة. لقد قدّمت تشريحاً وافياً لظاهرة غياب التفكّر في الدين واستفحال القناعات الجاهزة في كتاب "العرب ومسألة الاختلاف" (2014)، وأعكف حالياً على بحث مسألة القراءات المعاصرة للنصّ الديني (القرآن)، ومناقشة الأسس الإبستمولوجية في كتابة السيرة النبوية في جزء ثانٍ من الكتاب سيصدر مستقبلاً.

أعتقد أنّ شرط تحقيق التعايش العالمي بين الديانات حالياً هو أوّلاً الدفاع عن مبدأ الاعتراف، الاعتراف بالحقيقة النسبية لكل الأديان التي تسمح لها جميعاً بالحق في الوجود دون صراع أو نزعة تبشيرية، ثم الانخراط في ممارسة نقدية مفتوحة في تاريخية الأديان. إذا كان الديّن ظاهرة تاريخية تسم الوعي البشري في إحدى لحظاته، بلغة هيجل، فإنّ التديّن ظاهرة سوسيو- ثقافية تشهد على أزمة اعترت هذا الوعي. في كلّ مرّة يجد الفيلسوف نفسه مطالباً بتقديم التشخيص الأدق لأزمة مرحلته بوصفها حلقة من التاريخ العالمي. والنقاش الحالي حول مشكلة الديّن في العالم المعاصر لم يتجاوز مرحلة التشخيص التي ما تزال تراوح المكان بين "الفهم" و"الغضب" بلغة سبينوزا.

ربوح البشير: هل المخرج من المشكلات التي تفرزها التجربة الدينية في العالم العربي هو الإيمان بالاختلاف الفاعل؟

د. مهنانة إسماعيل: تاريخياً لم ينفصل يوماً الدّين عن السياسة في تاريخ العالم العربي، ولهذا يجب أولاً الاتفاق حول طبيعة الأزمة الراهنة هل هي دينية أم سياسية؟ هل نعاني من مشكلة دينية تلقي بسطوتها على السياسي، أم أنّنا نرزح تحت ديكتاتورية سياسية متلفّعة بنزعة دينية ظاهرة أو مستترة؟ لا يمكننا فهم الأزمة الراهنة وتشخيص مآزقها إذا لم نفكّ هذه الحلقة المفرغة بين الديني والسياسي في الثقافة العربية-الإسلامية. فالإسلام في تحققه التاريخي كان دوماً ظاهرة سياسية، كما أنّ الدولة الإسلامية منذ ظهورها إلى غاية اليوم ظلّت دولة كهنوتية ودينية، ومن خلال التمعّن في هذا الارتباط وحده سنكشف عمق الأزمة وثقلها التاريخي. فالسؤال الذي يطرح نفسه حالياً هو كالتالي: هل نستطيع فعلاً الانتقال إلى الديمقراطية وإحداث القطيعة بعصا سحرية مع الوعي المتراكم منذ أربعة عشر قرناً؟ وهو كما نعلم وعي ديني أساساً لا يؤمن بأيّ اختلاف أو ديمقراطية أو تعايش، وبالتالي هل يجب البدء بإرساء الثقافة الديمقراطية التي تسمح بقيام نظام سياسي ديمقراطي، أم البدء بإصلاحات سياسية تمهّد لظهور مجتمع ديمقراطي؟ حالياً هذه هي الحلقة المفرغة التي ندور فيها، فلا تسامح دينياً خارج دولة علمانية، ولا دولة علمانية خارج ثقافة التسامح. هل الثقافة ضد السياسة أم أنّ السياسة ضد الثقافة؟ إذا أجبت بالجواب الأول تُصنّف علمانياً، إذا أكّدتَ على الجواب الثاني تكون إسلامياً.

ربوح البشير: أليس من الممكن أن نبدأ في تعبيد درب فكري يكون منفتحاً على منجزات الحداثة وغير منقطع عن التراث؟

د. مهنانة إسماعيل: يقوم هذا السؤال على تعارض مصطنع بين "التراث" و"الحداثة". يكفي أن نضع التراث العربي- الإسلامي داخل سياقه التاريخي (اليوناني ـ الإبراهيمي - المتوسّطي) حتى تنتفي هذه الخصوصية المزعومة التي تقسّم الثقافة الواحدة إلى شرق وغرب. أضمُّ صوتي إلى صوت محمد أركون حين قال إنّ الشرّق الحقيقي لا المتخيّل هو الشرق الأقصى أي الهند والصين واليابان، أمّا الإسلام فهو جزء لا يتجزّأ من التقليد المتوسطي الذي يضمّ اللحظة اليونانية، كلحظة أساسية فريدة من نوعها في تاريخ الإنسانية ككل، واللحظة اليهودية كلحظة مؤسسة للتراث الإبراهيمي-التوحيدي، واللحظة "المسيحية-الرومانية" كانفتاح على عولمة سياسية ودينية في عصرها ما تزال لحدّ الآن أساساً تاريخياً للكونية والعالمية. لقد جاء الإسلام أصلاً كطريقة في الانتماء إلى أفق الكونية، وبما أنّ الطريقة الكونية الوحيدة التي كانت سائدة في عصره هي طريقة التوحيد لاهوتياً والإمبراطورية بوصفها الوجه السياسي للتوحيد، فقد انخرط الإسلام سريعاً في سياق التاريخ العالمي للتوحيد والإمبراطورية، واعتبر نفسه اكتمالاً لهذا النسق الهلنستي.

قلّة من المفكرين العرب يطرح الإسلام داخل تاريخيته بهذا الشكل، مثل أركون والعروي وهشام جعيّط، أمّا البقية فسرعان ما يسقطون في براثن "النموذج" القيمي البديل للكونية بدعوة الخصوصية المزعومة. لا يوجد انفتاح على معطيات الحداثة والعصر بدون المراجعة النقدية الشجاعة والجريئة لكلّ التراث، كما أنّ هذه المراجعة النقدية لا تتحقق إلا في ضوء المكاسب المعرفية الحديثة، فالتراث يقبل علينا على جهة المستقبل ولم نتركه خلفنا، ولذا يجب استباق هذا الإقبال المفاجئ، والذي قد يأخذ أشكالاً عنيفة وانفعالية، بالتفهّم والتفكيك. إنّ التراث يعجّ بالقنابل الموقوتة إذا لم نستبق تفكيكها فستنفجر يوماً لا محالة. كلّ العناصر التراثية التي تعرّضت للقمع والتهميش والتعنيف مؤهّلة للعودة بشكل عنيف وانتقامي إذا لم نستبقها بالمعرفة والوعي الحداثيين.

ربوح البشير: هل أصبح الفكر العربي قادراً على تشييد معمار فلسفي مخصوص به؟

د. مهنانة إسماعيل: هل يحتاج الفكر العربي أصلاً إلى معمار فلسفي؟ وهل "الخصوصية" ضرورية؟ لا أعتقد ذلك. يحتاج الفكر العربي حالياً إلى شحذ أدواته المعرفية لتفكيك كلّ البنى الثقافية التي أضحت عبئاً على التاريخ والمستقبل، لم تخطُ الثقافة العربية منذ قرون خطوة واحدة تجاه الحداثة والعصر والكونية، ماتزال تراوح مكانها، لأنّ الثقافة بنيوية ولا تتقدّم في الزّمن. البنى القَبَلية والدينية والذكورية نفسها ماتزال تغذّي الاستبداد السياسي والحروب الطائفية منذ قرون طويلة، ولهذا فإنّ الفكر حالياً بحاجة إلى معاول هدم قويّة في كسر هذه البنى وتفتيتها. أمّا دعاوى التشييد والتأسيس والتأصيل وغيرها من المفاهيم الرجراجة المنتشرة حالياً في الكتابة الفلسفية فهي تنمُّ أولاً عن عسر في هضم الفلسفات المعاصرة، وتطويعها بما يحتاجه واقع الثقافة العربية، كما تنمُّ عن مدرسية رثّة ونزعة أكاديمية مقطوعة التقاليد، الفلسفة هي صياغة المفاهيم التي تفتقد لمقابل واقعي سرعان ما تسقط في التجريد والمدرسية وتفقد قيمتها. لاحظ معي أنّ الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي نستعملها كأدوات في التحليل والفهم قد لا تمتلك مقابلاً واقعياً حقيقيّاً إنّما هي مجرد نقل أعمى لمقابلاتها في ثقافات أخرى، كأن نتكلّم عن "الشّعب" أو "المواطن" أو "الدولة الوطنية" أو "العلم" في الثقافة العربية كوقائع موجودة وناجزة بينما هي مفاهيم منقولة من ثقافة أوروبية لا تمتلك في الثقافة العربية أي مقابل موضوعي.

يجدر بالفكر حالياً أن يجد استراتيجيات في تفكيك وخلخلة البنى الثقافية التقليدية التي تئنّ تحتها المجتمعات العربية بدل الإغراق المجرّد في التهويمات النظرية والتأسيسات المجرّدة، لأنّها لا تنتج إلا أصوليات ثقافية أخرى. لنتأمّل المشهد السياسي الحالي للعامل العربي واللحظة التاريخية الحاسمة التي يمرّ بها، بما تشهده من انهيارات وتفكك للدولة الوطنية حتى ندرك حجم الهوّة الفاصلة بين الفكر والواقع. لقد انشغل الفكر العربي منذ قرن بمسائل نظرية بحتة مثل التنظير للتراث أو تلك المشاريع النهضوية الخاوية على حساب الواقع اليومي المعيش وعلى حساب النقد الفعال للسلطة الدينية والسياسية التي جرّت هذه البلدان إلى الهاوية.

ربوح البشير: انتشرت في الثقافة العربية المعاصرة ظاهرة الترجمة، كيف ينظر إليها الدكتور؟ هل هي ثمرة دوافع حضارية أم نتيجة مقاصد ربحية فقط؟ وما آفاقها في ظلّ غياب استراتيجية ناجعة للترجمة؟

د. مهنانة إسماعيل: ما تزال الترجمة في العالم العربي ضعيفة جداً مقارنة بما يُترجم يومياً في اللغات الأخرى، كما أنّ المترجم العربي لم ينفتح بعدُ على كلّ اللغات العالمية وما يزال منحصراً في اللغات الأوروبية الكبرى، (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية)، وقليلة جداً الترجمات العربية عن اللغات الصينية والهندية والروسية واليابانية وغيرها. الترجمة عمل مُجهد، ويحتاج إلى تشجيع مالي قويّ ومؤسسات كبرى تسنده، وسياسية ثقافية مدعومة من طرف الدول ومراكز البحث. صحيح أنّ الكثير من الباحثين يتّجه الآن نحو الترجمة لما تدرّه من أموال، ومع ذلك ما يزال المترجم العربي سّيء الحظ بسبب ضعف المقروئية. المترجم جسر ثقافي بين اللغات والمجتمعات والحضارات، والثقافة العربية تحتاج إلى جيش من المترجمين لكي تجد لها مكاناً في سماء اللغات العالمية.

ربوح البشير: ما الميادين التي تريد أن تنشغل بها في المستقبل؟

د. مهنانة إسماعيل: حالياً أعمل على توجيه أبحاثي نحو ثلاثة ميادين تبدو منفصلة لكنّها متكاملة، وهي ميدان السّرد وميدان السياسة وميدان القراءات المعاصرة للقرآن والسيرة النبوية، وهي أبحاث تطبيقية تشتغل على نصوص ووقائع ومشاريع أكثر منها تأملات نظرية، ففي ميدان السرد أقدّم قراءات فلسفية ونقدية للرواية من حيث هي فنّ حامل لأسئلة الهويّة والوجود والفرد والجماعة بطريقة ملموسة أقرب إلى الإنسان العادي أفضل ممّا تحمله النصوص الفلسفية النظرية والمغرقة في لغة المفهوم، ولهذا وجدت نفسي أشتغل على المنجز الروائي الجزائري خاصة، فأكتشف كنزاً وقارة مجهولة من طرف المتفلسفين. كنتُ دائماً أتساءل لماذا أنجبت الثقافة العربية روائيين عالميين أمثال نجيب محفوظ والطيّب صالح وأمين معلوف ومحمد ديب ولكنها لم تنجب فلاسفة بأصالة ثقافية محلية وصيت عالمي؟ هذا السؤال قادني إلى البحث في الرواية عن الطريقة التي قدّمت بها الرواية الأسئلة الفلسفية ومكمن الأصالة في الفن الروائي.

إنّ تاريخ الرواية العالمية يشهد بعمق على هذه الأصالة، فإذا صحّ أنّ الفلسفة والعلوم قد نسيت الكينونة الإنسانية، يبدو أيضاً جليّاً أنّ مع سيرفانتيس تشكّل فنّ أوروبي كبير ليس له إلا استكشاف هذه الكينونة المنسية. في الواقع كلّ الموضوعات الوجودية التي حلّلها هيدغر في "الكينونة والزمان" والتي يقول إنّ الفلسفة الأوروبية قد أهملتها نجدها مُبيّنة وموضّحة ومتجليّة بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية روائيٌّ بعد آخر تهتدي الرواية بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص إلى كشف الجوانب المختلفة للوجود. مع معاصري سيرفانتيس تساءلت ما هي المغامرة؟ ومع صامويل ريشاردسون بدأت تختبر ما يجري بالدوّاخل، بكشف الحياة السرّية للمشاعر، مع بلزاك كشفت تجذّر الإنسان في التّاريخ، مع فلوبير استكشفت قارّة اليومي التي ظلّت إلى ذلك الوقت مجهولة، (والتي سيستكشفها هيدغر نفسه في بقية الكتاب، بعد انحباس اللغة التصورية)، ومع تولستوي عكفت الرواية على الولوج إلى اللامعقول في القرارات والسلوكات الإنسانية: "لقد سبرت الزّمن، اللحظة الماضية اللامدركة مع مارسيل بروست، واللحظة الحاضرة الملغّزة مع جويس، ساءلت مع توماس مان دور الأساطير القادمة من عمق الزّمن ولا تزال تتحكم في خطواتنا... إلخ، كما يقول كونديرا. كما واصلت الرواية المعاصرة مسيرتها في كشف لغز الحياة مع كونديرا ووحشة الوجود وغرابته المقلقة، وعبثيته مع ألبير كامي، وانغراس الوجود تاريخياً في النصوص والكتابة في روايات أمبيرتو إيكو.

أمّا ميدان السياسة الذي أبحثه حالياً فهو مراجعة شاملة لمقولات الدولة الوطنية واستراتيجياتها ومطبّاتها وانزلاقاتها والأساطير التي تقوم عليها، وذلك باتخاذ نموذج الجزائر المستقلّة، وهو بحث في تشريح أزمة الدولة الوطنية بكشف حدودها وتحليل المقولات الشمولية التي قامت عليها، والتي أوصلتها إلى هذا المأزق. بحث يفتح باب التفكير الفلسفي في الأحداث السياسية والقرارات والقوانين والمواد الدستورية، أي الاشتغال على فلسفة سياسية ملموسة بدل التنظير السياسي.

فيما يخصّ الميدان الثالث الذي أتابع أيضاً بالتوازي، فهو الجزء الثاني من كتاب "العرب ومسألة الاختلاف"، ويعتمد أساساً على الأسئلة التي أثارها الجزء الأول، وهو عبارة عن مراجعة إبستمولوجية للأدوات التاريخية والاستشراقية والمصادر والوثائق التي تمّ اعتمادها في التأريخ للقرآن وكتابة السيرة النبوية، وهو بحث لا يبشّر بأيّة حقائق ثورية أو يقينيات حول هذا الحقل، الملغّز كما نعلم، بقدر ما يعمل على خلخلة بعض الحقائق الراسخة في هذا المجال.

ربوح البشير: هل يمكن أن نتحدث عن حياة بدون فلسفة؟

د. مهنانة إسماعيل: الحياة بدون فلسفة نعيشها ولا نتحدّث عنها، لأنّ كلّ حديث عن الحياة هو تفلسف بالضرورة، ربّما يكون أبيقور أول من طرح فكرة الحياة بوصفها تفلسف من خلال الانغماس في الهيدونية Hédonisme وحياة المتعة، وما تزال الفكرة تحظى بالكثير من الوجاهة إلى اليوم، تنتشر حالياً فلسفة ميشال أنفراي كدعوة لإحياء الأبيقورية والدفاع عن الحياة المتعوية بوصفها الخلاص الوحيد المتبقّي للإنسان المعاصر، وبوصفها طريقة في تحرير الفرد من سطوة الخطابات والإيديولوجيات الشمولية التي تصادر الفرد لحساب التقدّم المزعوم للتاريخ. لكنّ الدفاع عن الحياة والمتعة أيضاً يضعنا أمام خيارين: إمّا الاستقالة من التفكير والانغماس في الحياة، وهذا يهدّد الحياة في السقوط في الاستهلاكية ويجعلها عرضة لكلّ تلاعبات السلطة، وإمّا تنمية فكر دافع عن هذه الحياة، وهذا بدوره يجعلنا نتفلسف وننتج الفلسفة.

هل قلت لي "حياة بدون فلسفة"؟ في وضع عصرنا المتخم باليقينيات والإيديولوجيات الشمولية، لم تعد تعني الفلسفة شيئاً آخر غير تنمية الحاسة النقدية والشكوكية تجاه كلّ النزعات التبشيرية المتربّصة بالإنسان من كل جهة، والثاويّة في تلافيف الموضة والموجات الإعلامية العاتية التي لا تكاد تخبو واحدة حتى تخلفها أخرى. الفلسفة هي حسّ التريّث إزاء الانسياق الجماهيري في الوعود الزائفة بالخلاص الجماعي والنهائي التي تطلّ برأسها في كلّ مرّة، وكلّ استقالة للفكر عن التشكك في هذه الدعاوى يعني السقوط المريع في براثنها.

ربوح البشير: الشكر الجزيل لك على هذا الحوار المتحرر من استيهامات الإيدولوجيا.