نيتشه والفن؛ أو كيف يمكن توكيد الحياة من مدخل ديونيزيسي؟


فئة :  مقالات

نيتشه والفن؛  أو كيف يمكن توكيد الحياة من مدخل ديونيزيسي؟

نيتشه والفن؛

أو كيف يمكن توكيد الحياة من مدخل ديونيزيسي؟

 عبد الغاني الهيداني

لئن كان تحمل الحياة بآلامها وتناقضاتها ومعاناتها يحتاج إلى مكابدة وإصرار وإقبال شجاع على تراجيديتها[1]، فإن ثمة ما يكسب هذا التحمل استقواء واستقدارا بما يجعل معاناة الإنسان تشف عن فيض حياة، ونضح قوة، وعن رغبة في أن يغطي على الوجه القاسي الفظ للحياة؛ وذلك بخلق فن ضد الأمر الفظيع، لا غطاء ضعف ومواراة وتفاد، وإنما غطاء إقبال جريء على "حب القدر Amor Fati"، بما هو عرض امتلاء واكتمال وقوة متراكمة: إنه الفن الذي يسميه فريدريك نيتشه Nietzsche Friedrich (1844م- 1900م) "فنا ديونيزيسيا" شأنه أن يعكس رؤية تراجيدية للحياة تتجشم عناء اقتحامها والإقبال عليها[2] بحب وفرح عميقين.

بيد أن تحوّلاً عميقا سيحصل في منظورية نيتشه للفن الديونيزيسي؛ ففي "ميتافيزيقا الفن" تحدد هذا الفن، باعتباره تعبيرا عن نوع من المعرفة العليا تروم تحقيق "عزاء ميتافيزيقي" لآلام الإنسان ومعاناته، غير أن "فيزيولوجيا الفن" لن تحتفظ من الفن الديونيزيسي إلا ببعده العضلي، والحسي دون أن تحتفظ بأي محتوى تراجيدي[3]. أو لنقل، إن "فيزيولوجيا الفن" لم تعد تهتم بإبراز مصير الإنسان الكامن في أنه منذور للموت، وإنما صارت، كما حددت الفقرة عشرون من أفول الأصنام، تبحث عن الجمال[4].

هكذا، ستنتظم عودة ديونيزوس[5] في إشكالية جديدة هي "فيزيولوجيا الفن"؛ وذلك انطلاقا من تغير حاسم في رؤية نيتشه لوظيفة الفن عامة، وموقع الموسيقى ووظيفتها خاصة[6]؛ فالفن الذي يبحث عنه نيتشه، في طوره المتأخر، مرتبط بالجسد وبالصحة، ومعيار تقويمه هو درجة تأثيره على الجسد من جهة، ومدى تحقيقه للعافية من جهة أخرى[7]. لذلك، بات نيتشه يعرف الموسيقى بمفاهيم علاجية[8]، وينظر للفن الموسيقي من جهة علاقته بالنشاط العضلي والحسي[9].

فما مكانة الفن الديونيزيسي في تجميل الحياة؟ وما طبيعة التحول الذي حصل في منظورية نيتشه للفن؟ وما علاقة هذا التحول بالتحولات التي وقعت على صورة ديونيزوس في فلسفة نيتشه؟

احتفى نيتشه في طوره الثاني بالفن أساسا لمنطلقات الحياة، لذلك أراده فنًّا عظيما محررا للحياة، وفكرا مناهضا للغباء، ومحفزا للإرادة، لا فنا من أجل الفن، كأفعى تعض ذيلها[10]؛ فالفن الذي بدأ يبحث عنه نيتشه ذا قوة علاجية هائلة نمتلكه لكي لا تقتلنا الحقيقة القبيحة[11]: إنه الفن الديونيزيسي الأصيل الذي يسعى إلى تجميل الوجود وتزيينه، بما التجميل والتزيين دالان على تنامي قوة[12].

ليس هناك، إذن، فن أصيل يمكن أن يكون منكرا أوعدوا للحياة[13]: الفن الحقيقي موافقة ومباركة وتأليه للوجود[14]، بينما الفن العدو للحياة ليس فنا حقيقيا[15]؛ لأنه يسعى إلى تدميم الوجود وتشيينه، بما التدميم والتشيين دالان على انحطاط طراز بشري معين، وعلى تناقض وفوضى رغباته الداخلية، ووهن إرادته[16].

ولما كان تقدير الفن عند الفيلسوف هو المكان الذي يتجلى فيه، وبطريقة أصيلة، معنى فكره، وهذا هو الدرس الأهم لفيزيولوجيا الفن[17]، فإن انتقال الفن من "نشاط ميتافيزيقي" إلى "فيزيولوجيا الفن" يترجم التحول الجذري في مشروع نيتشه الاستطيقي، وفي خصوصية تحليله للثقافة[18]، حيث سيتخلى نيتشه، في هذه المرحلة، عن آماله في إحياء الحضارة الألمانية من خلال المواساة الميتافيزيقية.

وقد ترتب عن اهتمام فيلسوف الفن والحياة بالأبعاد الإنسانية وحدها تغير مفهوم "الحياة" عنده؛ فلم تعد الحياة تدرك ميتافيزيقيا أو صوفيا بمثابة حياة كلية تعمل خلف صنوف الظهور جميعا، بل يعتبرها نيتشه حياة إنسانية من ورائها مفهوم بيولوجي[19].

هكذا، اتسمت المرحلة الثانية من فلسفة الفن عند نيتشه بتغير أفكاره[20]، ورؤاه الأولى عن الفن، حيث قدم نقدا ذاتيا لمؤلفه الأول "مولد التراجيديا من روح الموسيقى"؛ ففي مقدمة طبعة عام 1886م لهذا المؤلف، كتب نيتشه "محاولة للنقد الذاتي"، حيث اعترف بأن مؤلفه الأول المثير للتساؤلات وقع في عدة أخطاء، وذكر أن تلك الأخطاء نتجت عن وقوعه تحت سحر موسيقى ريتشارد فاغنر Richard Wagner (1813م-1883م) الباحثة عن "الخلاص"[21]، والتأثير القوي لفلسفة "التشاؤم"[22] كما بلورها أرتور شوبنهاور Arthur Schopenhauer (1788م-1860م).

كما وصف نيتشه نفسه بأنه كان رومانتيكيا ومتشائما ومؤلها للفن عندما كان يعد نفسه ثوريا، ويدعو إلى عصر جديد في الفن يستطيع، من خلاله، أن يصلح حياة الإنسان الغربي عموما والألماني على وجه التحديد، إلا أنه لاحظ بأن كتاب "محاولة للنقد الذاتي" وضع عددا من الأسئلة ذات الأهمية القصوى، وسار بضع خطوات تجاه معالجة ملائمة لها مثل "قيمة الوجود"[23].

بيد أن السؤال الأكثر أهمية الذي قاد صاحب "محاولة للنقد الذاتي"، وبنى عليه تصوره الجديد للاستطيقا هو السؤال الخاص بأهمية الفن في الحياة الإنسانية[24]: أي أن يكون الفن دافعا عظيما للحياة. لكن الأمر الجوهري هو ألا يكون هذا الفن مجرد وسيلة لتسهيل الحياة بل، بالأحرى، وسيلة تستهدف تدعيم الحياة[25]، وتوكيدها رغم فظاعتها وتناقضاتها.

لو أردنا التعبير عن هذه الفكرة بطريقة أخرى لقلنا: إن السمة المميزة للمرحلة الثانية من فلسفة الفن عند نيتشه هي نقل السؤال من: كيف يحقق الفن مواساة ميتافيزيقية؟ إلى التساؤل العميق عن مكانة الفن في تحقيق عزاء في هذا العالم/الآن-هنا.

على الرغم من نقد نيتشه الذاتي لتصوره الاستطيقي الأول، فإن حماس نيتشه للفن الديونيزيسي في "مولد التراجيديا" كان عظيما لدرجة أن أي تأمل آخر له يمكن أن يعد فقط تعديلا لرؤيته الأولى؛ فنيتشه لم يعد ذلك "المؤلّه للفن"، ولم يعد يعتنق تلك الحقيقة التي ذكرها من قبل "الفن ولا شيء آخر"، إلا أن أثرا من اتجاهه الأول بقي في تفكيره اللاحق، حيث كتب في مؤلفه "العلم المرح" عام 1882م، أنه حاول الدخول إلى العالم الحديث عبر بعض الأخطاء الفجة المتصلة بآرائه عن الفن بوجه عام، وبعض المبالغات المرتبطة بموسيقى فاغنر بوجه خاص.

بيد أن نيتشه ظل، في طوره المتأخر، مقتنعا بصحة وفعالية مفهوميه الذين أدخلهما إلى الاستطيقا وهما: "الأبولوني والديونيزيسي"، وذكر أنهما يفهمان كإشارة إلى "حالتين يظهر فيهما الفن في الإنسان كقوة للطبيعة"، وأن كليهما يحرر الطاقات الفنية فينا، وإن بطريقتين مختلفتين[26].

استمر نيتشه في النظر إلى الفن، كما يذكر في نقده الذاتي، من منظور الحياة؛ فقد ظل معنيا بوظائف الفن المختلفة، وبالضوء الذي يلقيه على طبيعتنا الإنسانية وإمكانياتها، وكذلك استمر في ترديد الفكرة الرئيسة في عمله الأول "مولد التراجيديا"، وهي أداء الفن لدوره الرائع في جعل الحياة محتملة ومستحقة للعيش؛ وذلك عن طريق فن”التجميل “ La transfiguration (فن تغيير المظهر أو الشكل الخارجي)[27]، باعتباره الإمكان الاستطيقي الذي يمنح للحياة الإنسانية آفاقا رحبة، ومعاني جديدة. وهذا ما حدا بنيتشه إلى القول إن فن "التجميل “ La transfiguration، بشكل أدق، هو الفلسفة[28] التي يتطلع إليها.

لكن، تبقى الشخصية المحورية في كل كتابات نيتشه هي ديونيزوس[29] الذي يعلمنا كيف نقوى على تحمل الآلام الكونية؛ وذلك بتبرير الصيرورة، وعبثية الوجود بوصفهما "لعبا جميلا بريئا أبديا لا ينتهي"[30]؛ فديونيزوس يولد دوما، وعلى نحو أبدي، ومن جديد، وهو في ذلك تحديدا يناقض تماما المسيح المصلوب؛ ففي الوقت الذي يهاجم المسيح المصلوب الحياة الأرضية، ويعد بعالم آخر، فإن ديونيزوس، إنما يعد بحياة مختلفة تماما. إنه يعد بعود أبدي: أي بأن الحياة لا تكف، وليست بعالم وهمي. وفي الوقت الذي يبشر المسيح المصلوب بنهاية العالم، وفشل الحياة الوثنية ضد الحياة المسيحية، يعدنا ديونيزوس بالحياة الدائمة المتجددة التي لا تكف عن العود الدائم[31].

اختار نيتشه ديونيزوس للتعبير عن إغريق عصر التراجيديا الأولى؛ فبالرغم من إدراكهم لآلام الوجود وعبثيته، إلا أنهم في الوقت ذاته كانوا ممتلئين بالحيوية والطاقة والقوة المحققة للسعادة الحقيقية بما هي "شعور بأن قوتنا في ازدياد وإحساس بأننا في طور تجاوز عائق من العوائق"[32]؛ فالإنسان عندما يتحلى بالديونيزيسية، إذن، لن يبقى إنسانا فنانا فحسب، بل يصير هو نفسه لوحة فنية: أي إنه يصير شاعر حياته في أدق التفاصيل، كما في أكثرها ابتدالا[33].

وحيث إن ديونيزوس هو المعبر عن استطيقا نيتشه الثانية، فإن التعارض (القائم على الوحدة) الذي أقامه نيتشه بين أبولون وديونيزوس في الاستطيقا الرومانسية سيختفي ليحل محله التوافق[34]: التوافق بين عالمي التعقل والمرح.

هكذا، يمكننا أن نعالج التحولات التي عرفتها استطيقا نيتشه من خلال التحولات التي عرفتها صورة ديونيزوس نفسه من جهة، والعلاقة بينه وبين أبولون من جهة أخرى؛ فحسب تحليلات كيسلر في كتابه "استطيقا نيتشه" يمكن أن نميز بين مرحلتين أساسيتين مرت منهما صورة ديونيزوس، ومرحلة وسطى/انتقالية، حيث مثلت "ولادة التراجيديا" المرحلة الأولى، بينما تقترن المرحلة الثانية بإعادة تعريف نيتشه لديونيزوس في الفقرة 295 من "ما وراء الخير والشر" بأنه "نابغة القلب Le genie du Coeur". أما المرحلة الانتقالية، فيمثلها "هكذا تكلم زرادشت"، عندما سيبلغ نقد نيتشه لشوبنهاور أقصى مداه[35].

إن تعريف نيتشه الجديد لديونيزوس بأنه "نابغة القلب" ليس من أجل أن يماهيه مع الحكيم البوذي كما هو الحال في "ولادة التراجيديا"، والذي كانت مهمته إقناع الإنسان بالعيش، ولكن من أجل أن يغوينا بالتخلي عن حياة العبيد والتبعية للنموذج المتعالي؛ فالغواية هنا دعوة لكي نكون أحرارا، وديونيزوس يغوي لأنه يقدم نموذج العيش الحر الأصيل ما دام يرفض كل ادعاءات الحكمة والتفوق الأخلاقي الذي ادعته باقي الآلهة؛ إنه إله قوي موجب يحث الإنسان على التحرر من موقعه كمخلوق وتابع لكي يصير حرا، ومبدع ذاته[36]. باختصار، إن موقف ديونيزوس الثاني من العالم هو موقف تأكيدي وإيجابي ومبدع للقيم[37].

تعد "الأصالة"، و"نفي المعنى" إحدى المفاهيم المركزية التي تعبر عن ديونيزوس الثاني. لذلك، تدل "استطيقا الأصالة ونفي المعنى" لدى نيتشه على أننا في عالم خال من المعنى؛ والإنسان المقتدر وحده من يستطيع أن ينظم العالم، ويمنحه معنى معينا؛ فيصير فنانا قادرا على تنظيم العالم وإبداعه. وعندما يصير مبدع ذاته يتحرر من وضعيته كعبد، ويصير سيد ذاته، تفقد المواساة الميتافيزيقية كل دلالتها ومشروعيتها[38]، لتفسح الطريق للضحك باعتباره مواساة الآن-هنا، كما عبرت عن ذلك "محاولة للنقد الذاتي".

أو لنقل، إن أفول "الاستطيقا الرومانسية" ارتبط بتحول حاسم في صورة ديونيزوس: من الإله القاسي أو إله المواساة الميتافيزيقية إلى الإله المغوي والضاحك؛ أو في ولادة ديونيزوس الجديد، باعتباره نابغة القلب[39].

إن هذا التصور الجديد عن ديونيزوس، باعتباره الإله الذي يرفض المتعالي، سيفقد المواساة الميتافيزيقية أساسها؛ لأنها غير ممكنة بدون علاقة خاصة مع المتعالي، ولأن وظيفتها تعويض الإنسان عن ضعفه وفشله في هذا العالم: يؤول الضعف والفشل على أنهما دليل هجران من طرف المتعالي، مما يخلق إحساسا بالضغط؛ هنا تتدخل المواساة الميتافيزيقية لتولد قناعة بأن الإنسان محاط بقوة عليا تحميه، وتعنى به.

إن هذا التعويض الميتافيزيقي أصبح غير ممكن ما إن يدمر ديونيزوس الثاني كل متعال، وما إن يصير كل تعال ضربا من الأوهام. هنا سيتخلى ديونيزوس عن طريق المواساة ليقدم بدلا عنها طريق الأصالة، حيث يغدو الإنسان القوي قادرا على تحقيق الذات من خلال التجاوز المستمر لها.

سيدفع نقد المواساة الميتافيزيقية نيتشه إلى البحث عن تعويض آخر مخالف للتعويض الذي قدمته "ولادة التراجيديا"؛ هذا التعويض فلسفيا هو تعويض "الآن- هنا/ المحايثة". إنه تعويض ناتج عن الفرح وقول "نعم" للحياة، وتأكيد إرادة القوة، وقول "نعم" لمصير الإنسان الفريد والمرعب في أفق بناء شروط حياة جديدة كان الإنسان يعتقد أنها مستحيلة.

أما استطيقيا، فهو يتم عبر الضحك[40]، بما هو تأكيد الاختلاف، وتعبير عن اللامتوقع غير المنظم والفريد، وتأكيد تفوق الضاحك عن المضحوك عليه[41]؛ وهذا ما أشارت إليه الفقرة السادسة من "هكذا تكلم زارادشت" عندما وضحت أن الضحك يجمع كل ما هو قبيح[42]: أي يجمع المخالف والفريد وغير المتوقع وغير المنظم[43].

إن قبح ديونيزوس الثاني ليس دعوة لنفعل ما نشاء، ونطلق جماح رغباتنا، وإنما هو دعوة للتحرر والانعتاق من أخلاق العبيد. أو قل: إنه قبح ضاحك لا يروم الانتقام من قدر تعيس، بل غايته التمتع بالكينونة كاملة. لذلك، فهو قبح إبداع وبناء، إعلان بداية الإنسان المتفوق، إنارة طبيعية لإرادة الحياة، وحث على المبادرة والمعركة والحرب.

من هذا المنطلق، تتضح ملامح التعارض بين القبح الضاحك، والقبح الحزين: قبح العبيد الذي يعبر عن فقدان الإنسان زمام حياته ومصيره؛ قبح الحقد الذي لا يصدر عن الضحك، وإنما مصدره التعاسة والارتكاس، ونفي الوجود، وإنكار الحياة. وبالقابل، فإن القبح الضاحك هو رمز الفلسفة التي تقول "نعم" للحياة[44].

هكذا، يريدنا ديونيزوس الضاحك أن نكون قبيحين: أي أحرارا مختلفين، وفاعلين أقوياء، سادة مصيرنا، وأن نتخلص من أحقادنا على الحياة[45]. وقد استخلص نيتشه نتائج القبح الضاحك في "محاولة للنقد الذاتي"، وخصوصا في الفقرة الأخيرة، حيث أعلن عن تحول جذري في استطيقاه: من "الاستطيقا السلبية"/"استطيقا الانتحار" إلى "الاستطيقا الموجبة"/"استطيقا الضحك"[46].

لو شئنا التعبير عن هذا التحول الذي طال استطيقا نيتشه، بشكل مكثف، لقلنا: إن ديونيزوس الضاحك لم يعد يعتبر الحياة لعنة أو ثقلا ينبغي التخلص منه سريعا عن طريق المواساة الميتافيزيقية، بل يسعى إلى إعادة تربية الإنسان لكي يمتلك زمام كينونته، ولكي يكون أكثر قبحا. أو قل: إن هذا التحول يعني أن صورة ديونيزوس كإله ضاحك وهادئ/مطمئن، وفيلسوف "نعم الكبرى" عوضت صورته كإله عدائي[47] صاحب الطباع المتوحشة الرافضة للحياة الأرضية.

إن عودة ديونيزوس في فلسفة نيتشه منذ 1885م - حيث سيتخلص من كل توافق مع المسيحية، وصار فيلسوف العود الأبدي-[48] ستتم عبر قلب جذري لمركز الثقل الفلسفي والفني. فإذا كان الفن في "مولد التراجيديا" هو الذي يتمحور حول الفلسفة، باعتبارها بحثا عن الحقيقة بكل ثمن، فإنه ابتداء من "إنسان مسرف في إنسانيته" باتت الفلسفة هي التي تتمحور حول الفن؛ فصار الفيلسوف ينظر إليه انطلاقا من نموذج الفنان، والعكس لم يعد ممكنا منذ قطيعة نيتشه مع فاغنر[49].

يتحصل، إذن، أن عودة ديونيزوس المشبع بالصفات الأبولونية ستؤدي إلى رؤية جديدة لوظيفتي الفلسفة والفن، والعلاقة بينهما[50]، حيث آخذ نيتشه على "مولد التراجيديا" تقديمها لتصور استطيقي يجعل من الفلسفة والفن شريكين، على قدم المساواة، في الكشف عن حقيقة الوجود التراجيدية. لكن، منذ 1876م بدأ نيتشه يؤكد أن الفن الأصيل مطالب بتحرير الإنسان من كل طموح لأية حقيقة مطلقة كيفما كانت، ومهما كانت[51]، مادامت الحقائق القطعية مجرد أوهم نسي الإنسان أنها كذلك.

حاصل القول في هذا المقال أنه أفضى بنا إلى الوقوف عند الخلاصات الآتية:

  • تعد "الديونيزييسية" ظاهرة استطيقية يتجرد فيها الفنان تماما داخل النشوة الاستطيقية من المرجعيات اللاهوتية والأخلاقية والميتافيزيقية ليشعر بأبدية المتعة الهائلة في الكون، رغم طابعه المأساوي المرعب، بحيث يغدو الفن الديونيزيسي عزاء أصيلا يشعرنا بالمتعة والنشوة في عالم الصراعات والتناقضات والآلام.
  • حصل تحول عميق في "منظورية" نيتشه للفن الديونيزيسي؛ ففي ميتافيزيقا الفن تحدد هذا الفن، باعتباره تعبيرا عن نوع من المعرفة العليا تروم تحقيق عزاء ميتافيزيقي لآلام الإنسان ومعاناته؛ غير أن فيزيولوجيا الفن لن تحتفظ من الفن الديونيزيسي إلا ببعده العضلي والحسي دون أن تحتفظ بأي محتوى تراجيدي.
  • إن انتقال الفن من "نشاط ميتافيزيقي" إلى "فيزيولوجيا الفن" يترجم التحول الجذري في مشروع نيتشه الفكري عموما، وفي منظوره الاستطيقي تحديدا، بحيث ستتغير علاقة الفن بالفلسفة؛ فإذا كان الفن في "مولد التراجيديا" هو الذي يتمحور حول الفلسفة، باعتبارها بحثا عن الحقيقة بكل ثمن، فإنه ابتداء من "إنسان مفرط في إنسانيته" باتت الفلسفة هي التي تتمحور حول الفن؛ فصار الفيلسوف ينظر إليه انطلاقا من نموذج الفنان، والعكس لم يعد ممكنا منذ قطيعة نيتشه مع ريتشارد فاغنر.
  • إن الفن الذي يبحث عنه نيتشه، في طوره المتأخر، مرتبط بالجسد وبالصحة، ومعيار تقويمه هو درجة توكيده للحياة من جهة، ومدى تحقيقه للعافية من جهة أخرى.

[1] تتركب كلمة "تراجيديا" في أصلها اليوناني من جزأين هما: "تراخوس" التي تعني العنزة، و"أوديا" التي تعني الأغنية. وبتركيبها ينتج المعنى الآتي: "الأغنية العنزية". وترى أم الزين بنشيخة المسكيني أن التراجيديا قصص أو أساطير جمع فيها الإغريق حكاياتهم مع الآلهة: يتعلق الأمر بقصص خلق العالم، وصراع آلهة الأولمب حول الألوهة والحياة والنفوذ والبشر بأقدارهم المشحونة بالعبثية والتناقض والآلام الكونية. ورغم أن تراجيديا الإغريق أبطالها الخرافيون آلهة، فإن شخصياتها ووقائعها الرمزية بشرية تماما. أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن يخرج عن طوره، جداول للنشر والتوزيع، لبنان، الطبعة الأولى، 2011، ص 126

[2] محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص 672

[3] Mathieu kessler, l’esthétique de Nietzsche, Paris. Puf. (coll. « Thémis philosophie »), 1998, P 111

[4] Ibid, P 112

[5] تدل لفظة "ديونيسيوس" على مبدأ "الصيرورة"، أي على مبدأ الرغبة المحمومة في الخلق والهدم؛ وقد تحدث نيتشه في أول كتاب له "مولد التراجيديا من روح الموسيقى" عن الإله "ديونيزوس" أو "باكوس"، وهو إله الخمر والمرح والحياة الصاعدة والبهجة والسرور في العمل والفتنة والعواطف والإلهام والغريزة والمخاطرة؛ إنه يصبر على الآلام ويتحمل المشاق بجرأة وبسالة؛ إنه إله الغناء والرقص والموسيقى والمسرحية.

[6] Ibid, P106 

[7] Ibid, P 141

[8] Ibid, P 188

[9] Ibid, P 193

[10] Nietzsche (F), Le crépuscule des idoles suivie de Le Cas Wagner , traduction d’Henri Albert, GF. Flammarion, Paris, 1985, P 144

[11] Patrick Wotling, Nietzsche et le problème de la civilisation, quadrige, puf, presses universitaire de France,. 1995, P184

[12] محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، مرجع سابق، ص 672

[13] Patrick Wotling, Nietzsche et le problème de la civilisation, op cit, P 184

[14] Ibid, P 184

[15] Ibid, P 184

[16] محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، مرجع سابق، ص 673

[17] Patrick Wotling, Nietzsche et le problème de la civilisation, op cit, P 183

[18] Ibid, P 160

[19] يسري إبراهيم، نيتشه عدو المسيح، سينا للنشر، القاهرة، 1990، ص 72

[20] حدث تحول عميق في فكر نيتشه، كان له بالغ الأثر في منظوره الاستطيقي؛ فابتداء من "إنسان مسرف في إنسانيته" سيسجل انعطاف جديد في فكر نيتشه، بما هو بداية تصفية الحساب مع "فاغنر"، والتخلي عن تطلعانه التنويرية، وعن الاعتقاد في القوة الخلاقة، والقدرة الخلاصية للفن والأسطورة. كما أنه بدأ من "انسان مسرف في إنسانيته" سيطرأ تحول في نظرة نيتشه التشخيصية إلى مرض العصر بما هو علة انحطاط الحداثة؛ فلم يعد نيتشه يستنجد بالقوى المفارقة للتاريخ كقوة الأسطورة، أو قوة الأوبيرا الفاغنيرية، أو الإرادة الزهدية الشوبنهاورية، بل سيعمل على تفكيك قيم الحداثة عبر تعميق وتجذير الميولات العدمية التي تخترقها: أي عبر الدفع بالعدمية إلى حدودها القصوى. راجع محمد أندلسي، أفول المتعالي وأزمة الميتافيزيقا الغربية، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2014، ص ص 175- 176

[21] ننبه إلى ضرورة التمييز بين دلالة "الخلاص" عند الفنان، والزاهد؛ فالفن ليس هروبا أو خلاصا من الحياة، بل هو اتجاه يتضمن الخلاص من إرادة الحياة؛ أي إنه خلاص من كل رغبة تعكر علينا صفو التأمل الهادئ؛ فالفن ليس طريقا خارج الحياة، بل هو طريق للخلاص، داخل الحياة نفسها؛ فالفن راحة أو واحة مؤقتة في الحياة. وعلى الرغم من أن الفنان والزاهد يسيران معا في طريق الخلاص من إرادة الحياة، فإن غايتهما مختلفة: الفنان لا يتخذ من "الخلاص" طريقا له، إلا بما يتيح له رؤية استطيقية نزيهة؛ وإذا ما بلغ ذلك، فإنه يكون قد بلغ غايته، وهو إذ يتحرر من إرادة الحياة، فإنما يتحرر منها لكي يعود إلى الحياة نفسها، ويراها بذات نزيهة عارفة؛ وبالمقابل، يكمل الزاهد طريق الخلاص إلى أبعد مدى؛ فهو لا يريد أن يتحرر من إرادة الحياة لتحقيق غاية أخرى؛ فليست غايته سوى الخلاص نفسه من إرادة الحياة. راجع، سعيد محمد توفيق، ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص 99

[22] حاولت العديد من الدراسات الحديثة الاقتراب أكثر من معنى "التشاؤم" عند شوبنهاور، لتثبت أن فلسفة شوبنهاور لا تنطوي على روح تشاؤمية بالمعنى اللاهوتي أو الأخلاقي، مثل ما تنطوي عليه البوذية والبراهمية والمسيحية من تشاؤم، بل إن تشاؤم شوبنهاور هو بمعنى ما نوع من "اتفاؤل"؛ لأنه يبصر الإنسان بتراجيديا الحياة، ويعده في نفس الوقت إلى أن يتلقى الألم بشجاعة، وأن يتعلم ضرورة الشر في الوجود، فيعد نفسه لتقبل أسوأ شيء في هذا العالم الذي هو عند شوبنهاور "أسوأ العوالم الممكنة". راجع، سعيد محمد توفيق، ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور، مرجع سابق، ص ص 301-302

[23] آيات ريان، فلسفة الموسيقى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010، ص 98

[24] Schacht Richard, Nietzsche, Law Book Co of Australasia. 1982 , P 416

[25] آيات ريان، فلسفة الموسيقى، مرجع سابق، ص 99

[26] المرجع نفسه، ص 98

[27] Schacht Richard, Nietzsche, op, cit, PP 508-515.

[28] le Gai savoir, Deuxième Edition. Traduit par HENRI ALBERT. Paris. P 11 .(Nietzsche (F),

[29] سنا صباح آل خالد، نيتشه والميتولوجيا اليونانية، مجلة أبحاث البصرة، المجلد 63، العدد 1، ص 328

[30] P. Ricoeur, Philosophie de la volonté, (Paris, Aubier), 1988, Tome 2, « La symbolique du mal », P 40 .

[31] Mathieu Kessseler, Nietzsche ou le dépassement esthétique de la métaphysique. Presses universitaires de France. Puf. 1999, P 232

[32] Nietzsche (F), L’Antéchrist, traduction et présentation de Dominique Tassel, Union générale d’éditions, 1985, P 16

[33] Nietzsche (F), Le Gai Savoir, op, cit, P 277

[34] Mathieu kessler, l’esthétique de Nietzsche, op, cit, P 14

[35] Mathieu kessler, l’esthétique de Nietzsche, op, cit, PP 57-58

[36] Ibid, PP 57-58

[37] Ibid, P 56

[38] Ibid, P 56

[39] Ibid, P 5 .7

[40] Ibid, P 57

[41] Ibid, P 63

[42] يتناول نيتشه مفهوم "القبيح" بعيدا عن التفسيرات اللاهوتية والأخلاقية؛ فليس هناك ما هو قبيح في ذاته، بل القبح خاضع لمنظوراتنا. ويرى نيتشه أن "القبيح" ليس مقابل الجميل، بل هو المخالف والفريد وغير المتوقع وغير المنظم؛ إنه ما لا يخضع للمعايير السائدة، ولا لتمثلاتنا؛ ومن ثمة، فديونيزوس، وزرادشت، والداعي لنظام أخلاقي أو سياسي جديد هم قبيحون، بل حتى الحيوانات قد تكون قبيحة. وعلى هذا الأساس، ينبغي فهم معنى أن كل ما هو قبيح يجتمع في الضحك.

Mathieu kessler, l’esthétique de Nietzsche, op, cit, PP 61-62. راجع

[43] Ibid, P 61

[44] Ibid, P 64

[45] Ibid, P 64

[46] Ibid, PP 67-68

[47] Ibid, P 71

[48] Ibid, PP 91-94

[49] Ibid, P 98

[50] في الاستطيقا الثانية، ستتغير رؤية نيتشه لعلاقة الإلهين الإغريقيين أبولون وديونيزوس، حيث سيتحول الانقسام بين الإلهين كما تبلور في "مولد التراجيديا" إلى انقسام داخل ديونيزوس نفسه؛ أي بين ديونيزوس الفنان، وديونيزوس الفيلسوف؛ فأصبحت معايير تقييم الإلهين مع فيزيولوجيا الفن" واحدة؛ لأنه لم يعد هناك من عالمين للفن، وإنما عالم واحد، عالم الحياة الأرضية بما هو عالم الظاهر. والأساس الأنطولوجي المشترك بين الإلهين سيأخذه نيتشه عن أبولون، حيث باتت الصفات الأساسية لأبولون (الإثارة، والحماية، والتحريض، وإرادة الحياة) من صفات الفن الديونيزيسي.

Mathieu kessler, l’esthétique de Nietzsche, op, cit, P 117.للتوسع أكثر، راجع

[51] Ibid, P 119.