ياسين عماري: في شروط إمكان ممارسة الفلسفة وبلوغ التفلسف


فئة :  حوارات

ياسين عماري: في شروط إمكان ممارسة الفلسفة وبلوغ التفلسف

يوسف بن عدي: مرحباً بكم دكتور ياسين عماري على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

ياسين عماري: شكراً لكم سيدي، وأشكر مؤسستكم التي تعمل بكلّ جد في نشر العلم، وتساهم بشكل كبير في النهوض بالمستوى العلمي والتعريف بالأبحاث الأكاديميّة، وأرجو لكم مزيداً من النجاح. لأنّ في نجاح مثل هذه المؤسسات العلمية نجاح للعلم وخدمة له، ومساهمة في نشر البحوث العلميّة والأكاديميّة والتعريف بالإشكالات الفلسفية وغير الفلسفيّة.

يوسف بن عدي: كيف تقدّمون مشروعكم الفكري للقارئ في الوطن العربي وخارجه؟

ياسين عماري: نحن اليوم أمام قراءة لما تمّ إنتاجه في الحقبة الوسيطة، إذ نعتقد أنّ أساس ما نصبو إليه فكرياً يتمثّل في إعادة قراءة هذه النصوص وتخليصها ممّا شابها من فكر إيديولوجي ابتعد بها عن مسار الأبحاث الأكاديميّة. إذ وجدنا أنفسنا أمام نوعين من الدراسات الإيديولوجيّة: إحداها مؤيّدة ومدافعة، والأخرى مهاجمة ومنتقدة.

لقد انحرفت هذه الدراسات عن المراد الحقيقي للفلاسفة وعلماء الكلام وغيرهم، فأصبحنا نعالج إشكالات مسقطة على النصوص، ونبحث عن تعلات وحجج وهميّة نبني عليها ما نريد نحن تبليغه مبتعدين بذلك عن المراد الحقيقيّ لعلماء تلك الحقبة.

إنّ ما نسعى إلى تحقيقه أساساً هو النظر أو لنقل إعادة النظر في تلك النصوص محاولين فهمها وتحليلها دون الوقوع في إسقاطات تاريخية ومواقف ذاتية تنحو بها منحى مغايراً للحقيقة. ذلك أنّ هذه الدراسات الإيديولوجيّة ساهمت في تضليل فكرنا، وأسقطتنا في مطبات مازلنا نعاني من آثارها السلبيّة، وهذا الأمر أبعدنا عن الأعمال الأكاديميّة التي من شأنها أن تكشف لنا حقيقة الأشياء وجواهر الأمور.

لا ننكر من جهتنا أنّ بلوغ الموضوعيّة في العلم ليس بالأمر اليسير ولا الهيّن، ولكنّنا كذلك لا نعتقد أنّه بالأمر الممتنع. وهذه الإمكانيّة والاحتمالية هي شرط إمكان إعادة النظر في العديد من الإشكالات. وهو ما خوّل لنا تبيّن التباين بين ما جاء في النصوص وما ورد في الدراسات. وهذا الأمر يُعدّ مغالطة ساهمت إلى حدّ كبير في طمس هذا الفكر الوسيط، ممّا حال دون الاستفادة منه. وضمّه ضمن الفكر اليوناني دون الاهتمام بما جاء فيه من خصوصيّة ودون مراعاة للأحوال التي نشأت فيها وخصوصيّة المرحلة والحقبة الزمانيّة.

إنّ إماطة اللّثام وتبيّن مراد الفلاسفة يُعدّ أهمّ نقطة انطلاق يمكن الاستناد إليها والارتكاز عليها. فالفهم الصحيح للإشكالات الفلسفيّة يجعلنا نلتمس سبل الكشف عن حقائق الأمور وتجاوز كلّ العثرات الفكريّة التي من شأنها أن تعيق وصولنا إلى مبتغانا، ألا وهو الانتقال من دراسة الفلسفة إلى ممارسة الفلسفة، ونقصد بطبيعة الحال التفلسف.

يوسف بن عدي: هل ما زال اليوم الحديث في الأوساط الفكرية العربية المعاصرة عن مشكل وسم الفلسفة بالطابع الديني لقولنا: "الفلسفة الإسلامية" وفلاسفة المسلمين بدلاً من فلاسفة الإسلام؟ أعني هل لهذا الارتباط والالتباس المفهومي والتصوري انعكاس سلبي على مسار البحث الفلسفي؟

ياسين عماري: يُعدّ هذا الأمر إشكالاً حقيقيّاً، ولعلّه مثّل أحد أهم أسباب ظهور هذا الكم الكبير والمخيف والمزعج من الدراسات الإيديولوجيّة. فبالعودة إلى تاريخ الفلسفة ككلّ نجد أنّ التصنيف التاريخي أفضل من التصنيفات الأخرى التي تضفي سمات أخرى قد تجعل من الفلسفة نفسها أحد ضحاياها. فالتصنيف الديني وربط الفلسفة بدين من شأنه أن يفضي في العديد من الحالات إلى دراسات إيديولوجيّة بشقيها اللذين سبق أن ذكرناهما في السؤال السابق. فربط الفلسفة بالحقبة التاريخيّة بغض النظر عن الديانة يساهم في نظرنا في تخليص الفلسفة، إلى حدّ ما، من هذا التناول الإيديولوجي العقيم. فلو استبدلنا هذا التحديد الذي أشرتم إليه، ونقصد "فلسفة إسلاميّة" و"فلاسفة المسلمين" بل وحتى "فلاسفة الإسلام"، بمصطلح "الفلسفة الوسيطة"، إذ من الممكن كذلك تخصيص هذه الفترة بالفترة الوسيطة المتقدّمة أو الفترة الوسيطة المتأخّرة، لأمكننا تجنّب هذا الجدل العقيم، ولأمكننا أن نتفادى هذه الدراسات الإيديولوجيّة أو على الأقل أن نحدّ منها، ومن ثمّة ننظر في دلالاتها ومقاصدها الحقيقيّة. وندعم ما ذهبنا إليه بشواهد من التاريخ، إذ عادة ما ارتبطت الفلسفة بالحقب التاريخية. أو في أقصى الحالات الجغرافيّة مثال ذلك الفلسفة القديمة أو اليونانيّة والفلسفة الوسيطة، والفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة...، إنّ هذه التحديدات تجعل الباحث يدرس الفلسفة للفلسفة، دون دمج للذاتي في الموضوعي، كما تساهم هذه التحديدات، إلى حدّ ما، في تجنّب العديد من الإشكالات التي تنجم عن هذا الالتباس المفهومي والمصطلحي.

يبدو لنا أنّ هذا الأمر يُعدّ الأفضل لتجنّب ما يترتّب عن هذه التحديدات من انعكاسات سلبيّة على الفكر الوسيط ذاته. كما أنّ التدقيق المفهومي الذي أشرتم إليه "فلاسفة الإسلام" رغم أهميّته إلا أنّه لا يحلّ في نظرنا الإشكال نهائيّاً، ولا يجنبنا الانعكاسات السلبيّة في مسار البحث الفلسفي، وذلك لمزجه بين الفلسفة من ناحية والدين من ناحية أخرى. ونحن نعلم أنّ الفلسفة هي خطاب كلّي وفكر حرّ يختلف من هذه الجهة بالضرورة عن الدين الذي هو خصوصيّة ولا يتسّم بالكلّيّة. (وهذا إشكال آخر قد أثاره عدد من الفلاسفة، نورد منهم على سبيل الذكر لا الحصر الفارابي وابن رشد).

الذي يعنينا أساساً هو تجنّب الربط بين الفلسفة والدين في التسمية، ويعود ذلك لا بالنظر في الأسباب بل بالنظر في النتائج التي آلت إليها الفلسفة الوسيطة لمجرّد القول فلسفة إسلاميّة أو غيرها، إذ أفضى هذا المزج، كما تعلمون، إلى العديد من الدراسات الإيديولوجيّة. ولتجاوز هذا الإشكال نقترح أن يتمّ حسن اختيار التسمية بالنسبة إلى الفلسفة وذلك بربطها بالحقبة التاريخيّة، حتى نتمكّن على الأقل من الحدّ من هذه الدراسات التي حالت دون تبيّن مراد الفلاسفة في تلك الحقبة.

ونورد هنا أنّنا لا ننكر من جهتنا أنّ الدين (إسلاماً كان أو غيره) ليس إلا ظاهرة تاريخيّة، إلا أنّ الإشكال يتمثّل في ما يترتّب عن هذا المزج من انعكاسات سلبيّة جعلت الباحثين يدافعون أثناء دراساتهم عن الدين مستشهدين في ذلك بما ورد لدى الفلاسفة، أو مهاجمين الدين أيضاً من خلال ما ورد كذلك لدى الفلاسفة، وكلا الموقفين جانب الصواب، فأصبحت الدراسات انتقائية ونزلت الأفكار في سياقات غير سياقاتها المعلومة، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى دراسات لا تنظر إلى النصوص بل تهتمّ بالنوايا، كأن يقال إنّ الفيلسوف الفلاني أراد أن يقول كذا إلا أنّ الظروف السياسيّة منعته من ذلك فقال كذا، ومثل هذه الدراسات لا تعتمد المغالطة فحسب ولا تخالف الأعمال الأكاديميّة فقط، بل تناقضها وتنحو بها منحى يناقض كلّيّاً مقصد الفيلسوف، وقد أفضت هذه المعالجات لا إلى تغييب مراد الفيلسوف فحسب بل غيّبت الفيلسوف ذاته، وأزالت أفكاره واستبدلتها بأفكار أخرى ليست من مقاصده ولا تعبّر عن جوهر مراده.

يوسف بن عدي: ما دلالة انشغالكم بالفلسفة السينويّة عامة والجانب الأخلاقي ـ السياسي على وجه التحديد؟

ياسين عماري: نحن نشتغل بالفلسفة السينويّة منذ وقت ليس بقصير، وتعلمون حقّ العلم أنّ فلسفة ابن سينا عميقة المعاني كما تُعدّ مركزيّة في الحقبة الوسيطة، لأنّها مثلت نقطة انطلاق لكلّ ما جاء بعدها من فلسفات في الحقبة نفسها ونقصد الوسيطة، إذ تمزج توجهات مختلفة داخلها وأساساً أرسطية وأفلاطونية، هذا إضافة إلى إعادة تناول الإشكالات الكلاميّة تناولاً فلسفيّاً.

لقد بحثنا في هذه الفلسفة من جوانب مختلفة منطقيّة وطبيعيّة ونفسانيّة وأخلاقيّة ومدنيّة وميتافيزيقيّة، ونحن على يقين أنّ فلسفة الشيخ الرئيس كلّ لا يتجزّأ ووحدة لا تنفصم عراها. صحيح أنّ عنوان المقال الذي نشر لديكم يهتم بالعدل من منظور أخلاقي وسياسي، إلا أنّه ليس ممكناً تبيّن حقيقة تناول ابن سينا للعدل دون تبيّن الدلالات الطبيعيّة والنفسانيّة والميتافيزيقيّة. ونورد هنا على سبيل الذكر لا الحصر أنّ ابن سينا لم يخصّص، حسب ما وصلنا على الأقل، كتاباً أو رسالة بعينها تهتمّ مباشرة بالجانب السياسي، بل إنّ حديثه عن السياسة ارتبط أساساً بحديثه عن النبوّة، ومبرّرات وجود النبيّ، وإن كنّا نصنّف مسألة النبوّة ضمن المسألة الميتافيزيقيّة، فإنّ هذا لا يعني أنّها منفصلة عن الجانب السياسيّ ولا تمتّ له بصلة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الجانب السياسيّ الذي لا ينفصل عن الإشكالات الميتافيزيقيّة والتحديدات الإلهيّة ذاتها.

يوسف بن عدي: هل يمكن أن تقبل بأطروحة الجابري القائلة إنّ النظر إلى الفلسفة الإسلامية العربية يتطلبُ من الباحث التمييز بين المحتوى المعرفي والتوظيف الإيديولوجي؟

ياسين عماري: نعتقد أنّ هذا هو لبّ المشكل. وهذا هو أساس مشروعنا الفكري، وهو الفصل بين المحتوى المعرفي والتوظيف الإيديولوجي. وهذا التمييز، كما سبق أن ذكرنا، ليس بالأمر اليسير، إذ يجنبنا الالتزام بهذا الفصل بين المعرفي والإيديولوجي، الإسقاطات التاريخيّة والتأويلات الذاتية، ذلك أنّ مهمّة الباحث الأساسيّة تتمثّل في نظرنا في محاولة تبيّن المحتوى الفكري للموضوع المدروس كما هو، دون زيادة عليه وتعسّف على النصوص، فالبحوث الأكاديمية عليها أن تلتزم بالموضوعيّة، إذ لا مجال في نظرنا لتحقيق مشروع فكري دون فهم عميق لما ورد في النصوص. وهذا الأمر هو شرط إمكان ممارسة الفلسفة وبلوغ التفلسف.

يوسف بن عدي: هل ترون أنّ منتوج الفلسفة الإسلامية العربية وإعادة تأويله هو الشرط اللازمللانخراط في درب الحداثة، أم أنّ الطريق الأفضل، كما يقول عبد الله العروي، هو تحقيق القطيعة وطي صفحة التراث؟

ياسين عماري: خلافاً لما يرى عبد الله العروي كون القطيعة وطيّ صفحة الماضي يعدّان شرطين للانخراط في الحداثة، فإنّ الحداثة نفسها لم تمثّل قطيعة كلّية ونهائية مع الماضي ولا هي رفض لكلّ ما جاء فيه ونفي لما تمّ إنتاجه، إذ نعتقد أنّ مثل هذا الأمر يُعدّ بمثابة العودة إلى نقطة الصفر. فنحن نعلم أنّه رغم تجاوز العديد من الإشكالات الفلسفيّة القديمة والوسيطة، بل وحتى الحديثة منها، فإنّ ذلك لا يمثّل رفضاً كلّيّاً لما جاء في هذه الحقب، وحتى إذا ما استبدلنا المضامين فإنّ المنهج تقريباً هو نفسه، ومثال ذلك أنّنا مازلنا إلى حدود يومنا هذا نُدرّس الفلسفة اليونانيّة لكلّ طلبة الفلسفة ولغيرهم كذلك في كلّ أصقاع العالم دون استثناء، وهذا الأمر لا يعني أنّنا مازلنا في الحقبة اليونانية نفسها، ولا يعني ذلك أيضاً أنّنا نعيش الأحوال نفسها ولا الرهانات نفسها. فالعودة إلى الماضي والنظر فيه وفهمه ضمن أطره الفكريّة والحضاريّة يمثّل نقطة انطلاق حقيقيّة للتفلسف. والقول بتحقيق القطيعة وطيّ صفحة التراث ليس إلا وهماً يكذّبه الواقع. فبعض ما أنتج في الماضي ما يزال حاضراً بيننا شئنا ذلك أم أبينا، وفي ذلك دلالة على أنّ القطع الكلّي ليس في نهاية الأمر إلا مغالطة يجب التفطّن إليها وتجاوزها.

الإشكال في نظرنا يتمثّل في كيفيّة توظيف هذا الماضي وكيفية تطويع هذا الفكر في الحداثة والتعامل معه بمراعاة تغير الأحوال والأوضاع. كما أنّنا لا ننكر أنّ كلّ فكر وليد أسسه الحضارية وشروط الواقع وظروفه المادية والتاريخيّة، كما أنّ كلّ إنتاج فكري كان أو غيره قد يتضمّن ما هو إيجابي وما هو سلبي، والتعامل الذكي والناجع والفعّال مع ما سبق يكون باستغلال هذا المنتوج وهذا الفكر ككلّ بسلبياته وإيجابياته، ونقصد أن تحصل الإفادة من كلّ ما أنتج، وذلك من خلال الأخذ بالإيجابي من جهة، والاتعاظ من السلبي من جهة أخرى. وبذلك يساهم الفكر الماضي بكلّ جوانبه السلبيّة منها والإيجابيّة في إفادتنا في عمليّة الانخراط في درب الحداثة، بل وفي درب ما بعد الحداثة.

إنّ التعامل الفعّال والمفيد يكون أوّلاً: في توظيف الإيجابي توظيفاً صحيحاً، ليكون متماشياً مع متطلبات المرحلة ومقتضيات الحقبة التاريخية بجميع تحدياتها ورهاناتها، وثانياً: يتمثّل في الحذر ممّا ترتب عنه من سلبيات والاتعاظ منه وعدم السقوط في شراكه. ههنا فقط يمكننا أن نستفيد من الفكر ككلّدون استثناء.

يوسف بن عدي: إلى أيّ حدّ يمكن استثمار مفهوم العدل عند ابن سينا بأفقه الوسيط في مدار الأزمنة الحديثة وثوراتها المشهودة في الاجتماع والسياسة والمعرفة؟

ياسين عماري: يبدو أنّ العدل مفهوم مركزي وأساسي يتجاوز الحقب الزمانيّة والحدود الجغرافيّة. فلو تصفحنا جيداً مفهوم العدل عند ابن سينا في أفقه الوسيط، لوجدنا أنّنا في يومنا هذا نرنو إلى بلوغ بعض ممّا قاله، وهذا لا يعني عدم مراعاة التغيرات في الأحوال، إذ نبّه ابن سينا نفسه إلى ضرورة تغيير الأحكام بتغيّر الأحوال.

نلاحظ جيّداً أنّ المجتمعات الأكثر تطوراً في العالم هي الأكثر عدلاً. ولا نتحدث هنا عن سياسات خارجيّة بل عن سياسات داخليّة تنظّم العلاقات داخل المجتمع. فلا مجال لبلوغ الإبداع دون توفر مناخ من العدل يتساوى في أطره الناس وتتاح الفرص فيه للجميع بالمقدار نفسه والقيمة نفسها، فيكون التمايز عن طريق الأفضليّة والجدارة دون سواهما. ذلك أنّ التمييز الذي لا يراعي هاتين الخاصيتين قد يفضي إلى انهيار المجتمع، وذلك لكون المحاباة والمصالح الشخصيّة والضيقة هي التي ستغلب على المصلحة العامة. وهذا الأمر إذا تفاقم يفضي إلى الاضطرابات والإقصاء، ممّا يؤدّي بالضرورة إلى تردّي الأوضاع. ثمّ لو عدنا إلى النصوص السينويّة في هذه المسألة لوجدنا أنّ تحديد الشيخ الرئيس للعدل وتنظيمه للمدن ولعقد المدن، لا يختلف في جوهره وفي خطوطه العريضة عمّا دعت إليه الفلسفات السياسيّة الأخرى، وخاصة منها فلسفة العقد الاجتماعي. هذا بالطبع دون التغاضي عن التمايز بين التناولين وخصوصيّة كلّ مرحلة. فالمعاملات التي تحدّث عنها ابن سينا داخل المدينة توجب شكلاً من أشكال التنظيم المدني يفضي بالضرورة إلى تطور المجتمع والارتقاء به. كما أنّنا لا ننكر أنّ مطلب الثورات في مجملها يحوم حول العدل، إذ يمثّل العدل مطلبها الأساسي الذي تنشد الوصول إليه، فلا استقرار في نظرنا دون عدل.

والعدل كمفهوم لا يختلف تعريفه في اعتقادنا جذريّاً من حقبة إلى أخرى، رغم أنّ المجتمعات قد تتباين وتختلف وسائل إنتاجها، إلا أنّ العدل يكون أحد أهمّ مطالبها، هذا بالطبع على المستوى النظري، أمّا على المستوى العمليّ فقد يؤخذ المفهوم كذريعة تبرّر الانتهاكات وتراعي مصلحة طبقة على أخرى، ولكأنّ العدل مفهوم يختصّ بجماعة دون غيرها، ولعلّ حقوق الإنسان التي رُفعت كانت تنشد أساساً بلوغ الإنسان الأوروبي الرفاه والعيش الكريم، ولو كان ذلك على حساب الشعوب الأخرى، ودون مراعاة لما هو إنسانيّ فيها.

يوسف بن عدي: ما هو منتوجكم الفكري المقبل؟

ياسين عماري: نحن حالياً مازلنا ننظر فيما قدّم في الحقبة الوسيطة من إشكالات ميتافيزيقيّة ومنطقيّة وطبيعيّة وغيرها. ونحاول أن نقوم ببعض المقارنات بين الفلاسفة، ونرنو من خلال ذلك تبيّن خصوصيّة كلّ تناول فلسفي، عاملين في الوقت نفسه على النظر في أصول الفكر الوسيط حتى نتبيّن بذلك خصوصيّة هذا الفكر مقارنة بما سبقه، لا سيما أنّ العديد من الدراسات الإيديولوجيّة تسعى إلى طمس هذا الفكر وتؤكّد، دون دراية، أنّ الفكر الوسيط ليس إلا تكراراً لما سبق في الحقبة اليونانيّة، وفي هذا الادعّاء تجنٍ على الفكر الوسيط وجهل بخصوصيته. ونرجّح أن يكون هذا الحكم ليس وليد معرفة بجوهر النصوص القديمة والوسيطة، بل هو وليد نظرة متسرعة وقفت على ظواهر الأشياء ولم تلامس بواطنها. ولعل العديد من الباحثين الغربيين قد تفطنوا لخصوصيّة هذا الفكر، وهو ما دعاهم لإنشاء مراكز بحوث تهتمّ بما جاء في هذه الحقبة الزمانيّة من تاريخ الإنسانيّة. كما أنّ التقاطع بين الفكر الوسيط وبين الفكر القديم، لا ينفي التمايز بينهما، سواء كان في المنهج أو في طريقة تناول الإشكالات، وكذلك التمايز في المضامين.

يوسف بن عدي: أشكركم، دكتور ياسين عماري الباحث التونسي، على هذا الحوار الجميل.