197
2016 )9(
العدد
إنّ اللادونية تحيل أساساً إلى فكرة البرزخ كفضاء فاصل/
واصل بين عالمين، لأنا تقرّر أنّ أحدهما لا يقوم دون الآخر، فهو
معه وضده، بجواره ومجافيه، يماثله ويختلف عنه. ستتأكد هذه
اللادونية الجامعة المانعة عندما سأقف عند أحد أهم التجليات
في النص وفي الثقافة: «لادونية نصية» بعدم انفكاك النص عن
تأويلاته؛ و«لادونية ثقافية» بعدم انفصال الثقافات عن بعضها
بعضاً في مثاقفة متحققة. الوصول إلى هذه اللادونية النصية
والثقافية مرهون بالمرور عبر عُنصر يمهّدها ويدخُل أيضاً في
تشكيلها. إنّ هذا العنصر، الجامع للأشكال والمانع في اختلاطها،
العابر للأزمنة والأقاليم دون أن يكون مبهماً وميتافيزيقياً،
المصاحب لكل تشاكُل قائم على الأشكلة، هو ما يمكن تسميته
)، الذي له سيمانطيقا قائمة بذاتها، وتاريخ
baroque
بـ«الباروك» (
حافل بالأعمال والأشكال. ما هو الباروك إذن؟ لماذا يُعتبر عُنصراً
في التشاكُل والإطار العام في تحقيق التشاكُل والمثاقفة؟ أورد هنا
) يشير فيه إلى
1881-1954
نصاً مهماً ومثيراً لأوجينيو دورس (
الأمر الذي يجعل مختلف الثقافات «تتشاكل»، ويكون الباروك هو
الإطار العابر للأزمنة في إنجاز هذا التشاكل: «في كلّ مرّة نجد فيها
مجتمعةً مقاصد متناقضة عديدة، فإنّ النتيجة الأسلوبية تنتمي إلى
.
15
مقولة الباروك»
باروك برزخي: تشاكل دينامي
الباروك، بهذا المعنى، متناقض البنية أو البداهة، «فهو يريد
الشيء ونقيضه» يقول دورس، ليس على طريقة التلفيق المبتذل،
ولكن على طريقة التراص بنيوياً وعلى شاكلة التناص ثقافياً. أن
يجمع الباروك بين النقائض، فهذا يجعل منه إطاراً له أدوات،
ومن أدواته الخيال، لأنّ الخيال، هو الآخر، له خاصية الجمع
بين المتناقضات في مجال غير أرسطي، أي في فضاء يفتقد إلى
مبدأ عدم التناقض. يلعب الباروك على أوتار الخيال والحساسية
والحلم والرؤيا، أي كل القيم الحدسية على هامش المعرفة اليقينية
والبرهانية. لنقل إنّا معرفة «عَرفية» تميل إلى الحساسية والخيال،
ومعرفة «عرفانية» منفتحة على الكشف والحلم والرؤيا، وليس
معرفة «تعريفية» همّها البرهنة والتنسيق. عندما يريد تبيان سريان
الباروك في الأروقة الحضارية أو الدهاليز المتشعّبة للثقافات،
15- Eugenio d’Ors, Du Baroque, tr. Agathe Rouart-Valéry, Paris,
Gallimard, 1968, p. 29
فإنّ دورس لا يتوانى في استحضار نماذج سردية مختلفة في البيئة
والمعيش ولكن متوحّدة في الصورة: «خمسة قرون قبل أندرينيو،
كان هنالك «حي بن يقظان»، بطل الرسالة لابن طفيل، أكثر آدميةً
من أندرينيو، لأنه لم يولد ربما من امرأة؛ لكن وُجد مثل الإنسان
الأول على الأرض. بالنسبة إليه، لم تكن الوحدة والكهف مجرّد
مبدأ، لكن بعد فاصل زمني، كانا عبارة عن انعتاق. هل انبثقت
حكاية غراثيان عن قصة ابن طفيل؟ هل صدرتصورة أندرينيو
.»
16
عن صورة حي بن يقظان؟
لم يكن غرض دورس الإجابة عن ذلك بجدل التأثير والتأثّر،
ربما لأنه لا يوجد أصلاً مؤثّر ومؤثّر فيه، ولأنّ هذا الجدل يبقى
دائماً رهين البراديغم الأرسطي الذي يُعلي من شأن السببية ويسلّم
بتوالي الأشياء وُفق مخطّط معلوم. يشير دورس إلى استحكام
عُنصر الباروك في أشكال الفكر المبعثرة وربما المتناقضة، لأنّ قصة
ابن طفيل لا علاقة لها بقصة غراثيان أو بقصة ديفو من حيث
المضامين التاريخية والقيم الدينية، لكن تماثلها من حيث الأشكال
المطبوعة أو الموضوعة والتي يمكن القول إنّا تخضع إلى منطق
) يرى تماثُل الصور فيما وراء تخالُف
logique iconique
أيقوني (
المضامين أو اختلاف الاشتراطات النظرية والعملية لكل ثقافة
) فيما
constante
أو هويّة. ينطوي هذا المنطق الأيقوني على ثابتة (
وراء التغ ّات الزمنية، ثابتة متنقّلة، فهي تتحركلأنّا تجعل أشكال
الفكر ظواهر حيّة ووقائع دينامية. ليست هذه الثوابت «قوانين
ثابتة»، ولكنها عبارة عن «أنماط دينامية». ربما كلمة «ثابتة» مضلّلة،
لأنّا لا تعني أنّا عنصر ثابت، ولكنّها عنصر «ثابت في ديناميته»،
أو «دائم في حركيته». فهي عُنصرحيّ، متوهّج، فعّال، آثر دورس
) بانتشاله من عراقته اليونانية وإقحامه في تفكير
éon
نعته بالأيون (
معاصرحول الشرط الوجودي والإنساني في تشاكُل الثقافات.
الأيون هو عُنصرلادوني، حدّ ثالث فيما وراء العقلي والواقعي،
لا هو عقلي محض، أي مفهوم خالص ومجرّد؛ ولا هو واقعي
محض، أي تاريخ طبيعي أو مادي محايث. هذا الأيون، العابر
للأزمنةفي بحارها لأنّه المتحوّلفي أمواجها، مرادفللباروك. فهو
يظهر ويختفي تبعاً لصيغ لا نفقهها دائماً. فهو نفسه في كل ظهور،
لكنه مختلففي كل مظهر. لذا تبدو القصص العالمية التي أوردها
16- Ibid., p. 40 et 41.
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




