Next Page  194 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 194 / 362 Previous Page
Page Background

194

2016 )9(

العدد

الكياسم تداخُل، فهو إذن تشاكُل، يجعل الحقائق تتوالج أو

تتواشج في وحدة لا تفقد فيها العناصر من تعيّنها. إنّا تنجز

بالأحرى علاقة «لا دونية»، فكرة رواقية أيضاً، لأنّ كريسيبوس

، الرجل الثاني في المدرسة، تساءل قائلاً: «ماذا يحصل

Chrysippe

. فهي تندمج

11

لقطرة خمر عندما تسقط في البحر؟ تصبح البحر!»

به، تنصهر فيه، تصبح كلاً بعدما كانت جزءاً، وهذا ما سمّته

)، بحكم النزوع النسقي

krasis

المدرسة الرواقية «المزيج التام» (

) حيث لا يقوم الكلّ دون الأجزاء التي يتركب

sustema

للعالم (

منها، ولا تقوم الأجزاء دون الكلّ الذي يشدّها إلى بعضها بعضاً.

ثمّة نوع من التوتّر يشدّ أوتار الوجود إلى بعضها بعضاً حيث

لا يقوم انسجام أو إيقاع سوى على خلفية هذا التوتّر المحكم

والمشدود للأوتار. ثمّة بين الأشياء تواشُج يجعلها لا تستغني عن

بعضها بعضاً، لأنّ كلّ جزء يفتقر إلى الكلّ ليجد مكانه ومكانته،

ويفتقر الكلّ إلى كلّ جزء ليكتملصرحه ونسقه. النسق بالتعريف

هو ارتباط الأجزاء فيما بينها وعدم انفكاكها عن بعضها بعضاً

مخافة سقوطها وانيار النسق. لذا جاءت الفلسفة الرواقية، في

مجملها وفي تفاصيلها، «نسقية» البنية والوظيفة، وهي أول مدرسة

نسقية في تاريخ الفلسفة. يمكن القول إنّ هذا البراديغم الرواقي،

بأدواته في الكرازيس (المزيج، التواشج) والكياسم (التقاطع،

التداخل) يوفّر مجالاً خصباً فيما يمكن تسميته «اللادونية» التي

لها نتائج تأويلية في النص، ونتائج عملية في الثقافة، كما سنتوقف

عندهما لاحقاً.

«اللادونية»: اللغة واللغوة أو النفي المضاعف

كلمة «اللادونية» ما هي سوى تعريب، ربما غير سعيد، للنفي

التي تعني

nicht ohne

المضاعف عند هايدغر في العبارة الألمانية

«لا...دون...». لكن، نجد لها بعض التجليات في الصوفيات

اللذين اعتبرا

Nicolas de Cues

العريقة مع ابن عربي أو الكوزي

أنّه «لا حق دون خلق» (بحكم النسبة) و«لا خلق دون حق»

(بحكم التبعية)؛ ونجد لها بعض التشكّلات مع هيغل في تواطؤ

الأضداد أو استحالة قيامها دون الاتكاء على بعضها بعضاً، أو مع

ميشال دو سارتو في تفكيره حول العلاقة بين الأصل والنسخة أو

بين النص المؤسّس والتأويلات المتنافسة. اللادونية هي العنوان

العريض الذي بموجبه يمكن التفكير في الأمر الذي نسمّيه جدل

11- Diogène Laërce, Vies des philosophes, VI, 151.

الهويّة والاختلاف، وتتطلّب قراءة مستفيضة انطلاقاً من العتبات

اللغوية والفلسفية.

العروج على لسان العرب يمنح الفكرة التالية: «دُونَ: نقيضُ

فوقَ، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفاً. والدّونُ: الحقير

الخسيس»؛ «ويقال هذا دون ذلك في التقريب والتحقير»؛ «ودون

بمعنى خلف وقدّام. ودُونك الشيءَ ودونك به أَي خذه. ويقال

في الإغراء بالشيء: دُونَكه»؛ «وقال بعض النحويين: لدُونَ تسعة

معانٍ: تكون بمعنى قَبْل وبمعنى أَمامَ وبمعنى وراء وبمعنى

تحت وبمعنى فوق وبمعنى الساقط من الناس وغيرهم وبمعنى

الشريف وبمعنى الأَمر وبمعنى الوعيد وبمعنى الإغراء». قبل أن

نفحص الجُمَل الواردة في لسان العرب، ماذا أقصد بالعتبة اللُغَوية

، كنتُ قد اقترحتُ كترجمة

12

وبالعتبة اللُغْوية؟ في دراسة منفصلة

مفردة «اللُغْوة» التي تتأرجح بين

Aufhebung

للأوفيبونغ الهيغلي

الزائد في التعبير والساقط منه الذي لا يُعتَدّ به. يقول الأزهري في

هذا الصدد: «واللّغة من الأَسماء الناقصة، وأَصلها لُغْوة من لَغا

إذا تكلم». هناك إرساء للغة هي في الوقت نفسه «لغو» و«إلغاء»،

أي زيادة ونقصان أو إثبات ونفي أو رفع ووضع. لا شك أنّ

المنظومات المعرفية أو التأويلية هي «علىصورة» اللغة التي «تَلغَى»

بـها (تع ّ، تدوّن، تشكّل) و«تُلغِي» بـها أيضاً (تقدح، تجرح،

تعدّل، تبدّل).

تتأرجح القراءة بين لغة تتسلّح بها ضدّها، أي أنا تروم استعمال

اللغة وأدواتها النحوية أو المنطقية أو البلاغية في مجابهة اللغة

التي تلغي بها قراءة أخرى. فالقراءات تشتغل في عنصر اللغة

الذي هو بمثابة «الإحاطة» التي تشتمل على القراءات في مختلف

نزعاتها أو مذاهبها. هناك بشكل ما «لغة مع لغة ضدَ لغة». هذا

الاشتغال الجماعي للقراءات والتأويلات في «الإحاطة» اللغوية

هو ما أسميه اصطلاحاً «اللّغْوة». وتنطوي «اللادونية» أساساً

على العتبتين: اللُغَوية واللُغْوية، لأنّا كأيّ قراءة تستعمل اللغة

في فحص موضوعاتها أو ظواهرها، وتنخرط في الإحاطة اللغوية

- محمد شوقي الزين، «شُبُهات حول التفكيك: عندما يحجب البيان لطافة

12

؛ إعادة نشر في:

2009

أكتوبر

26

و

12

و

5 ،»

البرهان»، جريدة «الجزائر نيوز

محمد شوقي الزين، الذات والآخر: تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع،

107-100

، ص

2012 ،1

منشورات ضفاف/منشورات الاختلاف، بيروت، ط

محمد شوقي الزين

مقالات