196
2016 )9(
العدد
التي تحتملها الدونية؟ لا يمكننا وزن المفردات بميزان العبثية
أو المصادفة، لكن بميزان «اللُغوة» التي تحدّثتُ عنها، بمعنى
إمكانية أن يشتمل الشيء على نقائض تبعاً للظروف والسياقات
(فهذا الإنسان هو نفسه بأحواله المتقلّبة أو أطواره المتناقضة من
فرح وحزن، أو سكينة وغضب، أو تعقّل وطيش...). إذا كانت
العتبة اللُغَوية تضفي على الدونية خصائص مكانية ذات تركيبة
متناقضة، فلأنّا تسعى ربّما للتخلص من العتبة الأخلاقية التي
تطغى على التصوّر والسلوك. فهل أفلحت في ذلك؟ لا أعتقد،
لأنّ الأبعاد المكانية تُستخدَم لأغراض قيمية في إثبات الحقائق
الدونية. لعلّ الدلالات المتبقّية (الأمر، الوعيد، الإغراء)، وهي
دلالات قيمية وسلطوية، تنسف الدلالات المكانية التي تتأرجح
بين العلوّ والدنوّ، أو القُرب والبُعد. لهذا يأتي التحديد اللغوي
الرابع في وصف «اللادونيّة» على أنّا درء للنظام القيمي الذي
يتحكّم في الأبعاد المكانية أو الزمانية للدونية.
النسبة، الإيجاب من
ثانياً: العتبة اللُغْوية (نظام المشهد):
النفي المضاعف، البسط، الحياد هي الخصائص الرئيسة التي
تتميّز بها اللادونية، لأنا تشكّل العلاقات المتينة بين الحدود
أو الإدراكات، وتشتغل في المواطن الإيجابية الناتجة عن صراع
القراءات والتأويلات، وتعتبر المعنى كإمكان تدركه (له مداخل
ومخارج ومعارج) وليس كضرورة تقبضعليها (كتلة جامدة من
الدلالات)، وتعمل كوسيط في مقابلة القراءات فيما بينها دون
طغيان إحداها على الأخرى، أي بالكشف عن أهميتها المعرفية
وإمكانياتها الفكرية والثقافية والحضارية. تدفعنا هذه الاعتبارات
اللُغَوية إلى التأمّلفي الاعتبارات اللُغْوية التي، كما أسلفتُ القول،
تشتمل على حقائق متقابلة لكن متعاضدة بالإحاطة. تتطلّب
العتبة اللُغْوية التي ارتأيتُ أن أصفها «بنظام المشهد» التمعّن في
الرسم التالي المعروف في سيكولوجيا الغشتلت لدى جوزيف
«بوهمية البطة-
Joseph Jastrow )1863-1944(
ياسترو
الأرنبة». يدل الرسم على حيوان ذي شكل مزدوج: نرى تارةً
البطة (بتواري الأرنبة) ونرى تارةً أُخرى الأرنبة (بتواري البطة).
الأمر العجيبفي هذا الرسم أنّه ينطوي على الشكلين، وأحدهما
لا يستبعد الآخر، الإدراك البصري لأحد الشكلين « ُفي»
الشكل الآخر ولا يمحوه. فالشكل المتواري يحافظ على وجوده،
لأنّ الشكل المتجّ لا يوجد بدونه. لا يوجد «تجّ المتواري»
دون «تواري المتج ّ». لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، لأنّ أحدهما
لا يقوم دون الآخر. هذه اللادونية هي «لُغْوية» (سكون الغين).
يمنح هذا الرسم شكلين قوامهما «التغرية» دون الإغراء، مع حفاظ
كل شكل على غيريته الضرورية. لكلّ شكل في الرسم عين قائمة
لا تزول بتواريه، ولا تقوم، في الوقت نفسه، دون الشكل الآخر.
هناك «تكوير» أحدهما على الآخر. بينهما «لادونية»: علاقة لا ينفك
بموجبها أحدهما عن الآخر؛ نسبة إيجابية حيث «تواري التواري»
ينتج التج ّ؛ عدم طُغيان أحدهما على الآخر بإلغائه أو محوه. إذا
أخذتُ «اللادونية» بهذه الصيغة، أقول إنّ التشاكل في جوهره
«لادوني»، وقد س ّه المفكر البحريني الراحل محمد أحمد البنكي
، فقط لأنّ الصراع في طبيعته «لادوني» الهيئة، لأنّه
13
«الرجئي»
تواطؤ بينضدّين وسجال بين متقابلين، لأنّ أحدهما يغذّي وجود
.
14
الآخر رغم أنّه يسعى إلى حجبه وإفنائه
ثانياً: «الباروك» بوصفه برزخاً بين عالمين: الإطار والمرآة
- طالع دراستنا: محمد شوقي الزين، «التفكير الرجئي: مدخل إلى فلسفة
13
واعدة»، في: رنده فاروق (إشراف)، إرجاء مغاير: قراءة في أعمال محمد أحمد
26-10
، وزارة الثقافة (البحرين)، ص
2010 ،2 ،
البنكي، مجلة أطياف
- صعب جداً فقه هذه المسألة على صعيد مورفولوجيا الصراع في العلاقات
14
الدولية. مثلاً: لا يقوم عدو دون عدو، وكل عدو يدعّم عدوه بمجرّد وجوده. نقرأ،
على سبيل المثال، في الأدبيات السياسية المعاصرة الإرادة في مكافحة الإرهاب.
لكن، من وجهة نظر لغْوية (بسكون الغين)، هل ثمة من جدّية في مكافحة
الإرهاب، عندما يكون الإرهاب في حدّ ذاته المتواطئ الضمني مع الإرادات التي
تكافحه؟ مثلاً، سلطة استبدادية تكافح الإرهاب لا للتخلص منه، لكن لتدوم
به وتخلد، بحيث تستعمل الإرهاب كفزاعة لترهيب المجتمع حتى يقبل بالأمر
الواقع رغم الفساد والنهب والقهر الذي تمارسه كوسيلة في الابتزاز. مثال آخر:
تسعى قوى عالمية مهيمنة إلى مكافحة الإرهاب، لكنّ مكافحته تدوم في الزمن
من أجل غايات نفعية وربحية هي تجارة الأسلحة التي تتعزّز في أزمنة الحروب؛
بحيث لو تخلصت نهائياً من الإرهاب، فإنّ علة تجارتها تنتهي وتنتهي معها
الفوائد والعوائد والمصالح. إنّ هذه «اللغوة» هي الواجب التأمّل فيها نظرياً
وعملياً لمعرفة خبايا الأمور فيما وراء المظاهر الخادعة.
محمد شوقي الزين
مقالات




