195
2016 )9(
العدد
والتأويلية بوصفها اللُغوة الممكنة لقراءات ضرورية. بتعبير أقلّ
عُساً وأكثر يُساً: «اللادونية» هي لغة (قراءة، تأويل، تفكيك،
أثريات، نحويات...) تسبحفي سياق أسميه الإحاطة (لأنّ الحدود
مضمونة ومفروضة)، وهذه الإحاطة هي لُغوة، لأنّا تشتمل
على النقائض والأضداد من القراءات والتأويلات. ولكلّ قراءة
لُغَتها ولُغْوتها، لما تستلزمه من تعبيرات (اللغة) وإرادات في الفهم
ّ (الإحاطة بالموضوع عقلياً بقدر ما هي ُاطة به حقيقةً:
والتق
كالواقع مثلاً).
لنعُد إلى لسان العرب
أوّلاً، العتبة اللُغَوية (نظام السرد):
والجُمل الواردة بهذا الشأن: «دُونَ: نقيضُ فوقَ، وهو تقصير
عن الغاية، ويكون ظرفاً. والدّونُ: الحقير الخسيس». في هذه
العبارة «الدون» هو في الدرك الأسفل من الوجود، إنّه الدون
والدنيء (الحقير الخسيس تقول الجملة). لكن الحُكم القيمي
للجملة يحجب الفحص الإبستمولوجي، لأنّ الدون هو «دون»
بالمقارنة مع أمر له الاعتبار الفوقي، على سبيل المكان أو المكانة؛
وهو «دون» في بُعْد أو سياق أو ظرف. ليست «الدونية» وضعية
مطلقة، تنفصل عن حيثياتها الزمانية وملابساتها الظرفية. فالمسألة
«نسبية»، تنتسب بموجبها الحدود أو الأطراف، وهو أوّل تحديد
لغوي يمكن وصف «اللادونية» به: إنّا العلاقة أو النسبة داخل
سياق أو ظرف. الدونية والفوقية وغيرها من الوضعيات هي
أعراض وليست حقائق ثابتة. نقرأ في الجملة الموالية ما يلي:
«ويقال هذا دون ذلك في التقريب والتحقير». تسلّم هذه الجملة
أساساً بالنسبة بين الحدود: «يقال هذا دون ذلك»، لأنّ ثمة علاقة،
والعلاقة هي بالضرورة عَرَضية لا تنفك عن الترابط والتفكّك
تبعاً للأحوال والظروف. لا تضيف الجملة شيئاً سوى أنّ الدوني
هو الداني والدنيء (التقريب والتحقير). هل الدوني هو الداني؟
بتعبير آخر، هل ما نعتبره البعيد على الصعيد القيمي، لأنّه الدوني
والدنيء، يمكنه أن يكون القريب؟ لأنّ، في الواقع، العلاقة بين
الدوني والفوقي هي علاقة تباعد لا علاقة تقارب. فكيف يصبح
الدوني هو الداني؟ ربّما قراءة معمّقة في جدلية السيّد والعبد عند
هيغل ونيتشه يمكنها أن تقدّم بعض الإيضاحات، لكن ليس
مجالها هنا. نقول فقط إنّ هذه الجدلية تشتمل على «لُغوة»، بحُكم
أنّ العبد والسيّد هما في غاية البُعد والمسافة (من حيث القيمة
والمكانة والتاريخ والمصير)، وهما في غاية القرب والدنو: لا
ينفصل أحدهما عن الآخر ولا يقوم أحدهما دون الآخر.
الذي يمكن وصف «اللادونية»
إنّه التحديد اللغوي الثاني
به: إنّا علاقة النفي (لا) بالنفي (دون): «لا» العبد «دون»
السيّد و«لا» السيّد «دون» العبد. إنّا علاقة عضوية وإيجابية
وصلبة مع أنّ عتبتها هي التقاء النفي بالنفي. تبدو هذه الفكرة
هيغلية النزعة، لأنّ «الأوفبونغ» الهيغلي يقوم أساساً على «نفي
النفي» للإقرار بالطابع الجدلي للحقائق والتصوّرات والأفكار
والأكوان. «اللغوة» هي أيضاً نفي لنفي آخر، لأّنّ الحديث يتطلّب
نفي ما عداه ليتعرّض هو الآخر للنفي: لقد تمّ نفي النفي. فكرة
اللادونية، التي تنطوي على نفي نفي، هي على غرار عبارة «لا
زال» (لا يزال، ما يزال) التي تتمتّع بدلالة إيجابية وهي الديمومة
أو الصيرورة، مع أنّ تركيبتها هي سلبية، «أداة النفي» ومفردة لها
علاقة «بالزوال»: «يقال ما زالَ يفعل كذا وكذا ولا يَزال يفعل كذا
وكذا كقولكما انْفَكّ وما بَرِحوما زِلْتأَفعل ذاك، وفي المضارعلا
يَزال، قال: وقَلّما يُتَكَلّم به إِلا بحرف النفي». تقرّر الجملة الموالية
ما يلي: «ودون بمعنى خلف وقُدَام. ودُونك الشيءَ ودونك به أَي
خذه. ويقال في الإغراء بالشيء: دُونَكه». تنتقل الجملة ممّا تراه
دونياً كشيء سافل ومسلوب، نحو ما يمكنه أن يتميّز بالأمامية
أو الخلفية، ليجمع على صعيد واحد النقيضين. الدون هو الخلف
وهو الأمام. لكن هل تكفي الأبعاد المكانية وحدها في إضفاء
الهويّة على الدونية؟ لا تكفي هذه الأبعاد في نعت الدونية، حتى إن
أعطت للمسألة بُعداً طوبولوجياً يتعدّى البُعد القيمي. لأنّ البُعد
القيمي هو أشدّ صلابة، ويسم بشكل قاصم (تاريخي ورمزي)
الدونية التي تتميّز بها بعض الأشياء أو الأشخاص أو المواقف
أو المصائر؛ لأنّ الدلالة الموالية تختم على الدونية بخاتم القبض
(«دونك الشيء، أي خُذه») والإغراء («دونكه»).
الذي يمكن وصف «اللادونية» به هو
التحديد اللغوي الثالث
نقض القبض أو الأخذ كأساليب سلطوية (تسلّطية) في إدراك
الموضوعات. تقوم الجملة الأخيرة بتلخيص أهمّ الخصائص
اللاحقة بالدونية: «وقال بعض النحويين: لدُونَ تسعة معانٍ:
تكون بمعنىقَبْلوبمعنى أَمامَ وبمعنىوراء وبمعنىتحتوبمعنى
فوق وبمعنى الساقط من الناس وغيرهم وبمعنى الشريف
وبمعنى الأَمر وبمعنى الوعيد وبمعنى الإغراء». لا تضيف هذه
الجملة شيئاً سوى التأكيد على الضديّة التي تتميّز بها الدونية (أمام
-وراء، تحت -فوق، ساقط -شريف). فهل لهذه اللعبة اللغوية
من مغزى؟ هل لغاية عبثية تمّ الإقرار بالأضداد في الدلالات
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




