Next Page  198 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 198 / 362 Previous Page
Page Background

198

2016 )9(

العدد

دورس («حي» ابن طفيل، «أندرينيو» غارثيان، «روبنسون»

ديفو، أو أيضاً إنسان روسو البدائي) متماثلة في الظاهرة، متمايزة

في المظهر. الأيون أو الباروكهو وجه المماثلة التييجمع بينها، رغم

الاختلاففي التمثّلات والمحتويات. أو لنقل: إنّه الوجه المرآوي

في الوصل والفصل؛ إنّه الوجه المونادي في إدغام القاصيوالداني

(تقريب الإنساني والكوني، الأنثروبولوجي والكوسمولوجي).

ما هذا الباروك الذي نتحدّثعنه والذييجعل من الأيون مظهره

ومن الخيال أداته؟ على الخلاف من التصوّرات التي اكتسحت

في فترة معيّنة من الاشتغال التاريخي والأكاديمي على الباروك،

لم يكن هذا الأخير مجرّد إقليم حصري (إيطاليا) وأسلوب

خاص (المعمار) ومظهر شاذ أو مَرَضي (انحلال الكلاسيكي).

. ثابتة تاريخية وعابرة للأزمنة تظهر وتختفي

1

إنّه قبل كل شيء:

.

2

بين الأشكال المتنوعة للثقافة، من أي إقليم أو ديانة كانت؛

ليس الباروكمجرّد ثابتة تاريخية في الفن، كما تجّ في المعمار والرسم

والنحت؛ إنه «سمة» أساسية في الحضارة يحقّق إدغام الطبيعي

.

3

والثقافي في مواطن معروفة أو مجهولة من التجربة الإنسانية؛

.

17

طابع عادي أو اعتيادي من السلوك الطبيعي أو الثقافي

يمنح دورس للباروك بُعداً عالمياً أو كونياً، لأنّه يرى فيه عُنصراً

حياً، يتحوّل في طيات التواريخ، يتقلّبفي تلافيف الأقاليم. فهو

)، ولأنّ التحوّل يشكّل

métamorphose

قالب قابل للتحوّل (

مفهوماً أساسياً من معجمه الواسع والمستفيض: «القوطي

) مثلاً هو «أسلوب تاريخي» فقط؛ أمّا الباروكي

gothique

(

.

18

) فهو يبدو كل يوم على أنّه «أسلوب في الثقافة»

baroque

(

الباروك ظاهرة ثقافية قابلة للتحوّل في المظاهر المتنوّعة للأشكال

الحضارية المختلفة، لأنّه الجامع بين الأشكال والأساليب والمانع

من ذوبانا وفقدان أعيانا. فهو إذن الصورة الأخرى لمقولة

«هو لا هو»، كأن نقول مثلاً: قصة ابن طفيل هي قصة غراثيان

وليست هي أيضاً. ليست هذه الهويّة ماهية. هناك تماثُل لا تماهٍ.

فالقصص «تتشاكل» فيما بينها، لا تتماهى مطلقاً ولا تتجافى

راديكالياً. فهي في «بينية» تصلها بقدر ما تفصلها دون أن يكون

هنالكحدّ منتصرهو الوصل أو الفصل.

17- Ibid., p. 83 et 84.

18- Ibid., p. 99.

سريان أيوني: وحدة الوجود

يأخذ دورس على سبيل المثال فكرة «وحدة الوجود» أو «السيان

) التي يرى فيها عنصراً أيونياً، أي

panthéisme

الإلهي في العالم» (

فكرة باروكية، تجعل النقائض من الموضوعات (النسبي/المطلق،

الإنساني/الإلهي، الظاهر/الباطن،... إلخ) في امتحان متبادل؛ وتجعل

النقائض من التمثّلات في تماثُل عجيب رغم التناكُر في الثقافات

والتوجّهات الفكرية: نرى مثلاً أنّ وحدة الوجود كانت محطّ تبنّ من

طرف ماديين وروحانيين (الرواقية/الأفلاطونية المحدثة)، من طرف

تجليات دينية مختلفة (ابن عربي الإسلامي، نيكولا الكوزي المسيحي،

سبينوزا أو ليسينغ اليهودي) أو من طرف فلسفات تأمّلية أو طبيعية

متخالفة (هيغل أو برغسون): «كلما تقدّمنا في معرفة تاريخ الثقافة،

تبيّنت لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ وحدة الوجود ليست مدرسة فلسفية

كغيرها من المدارس، وإنّما هي «قاسم مشترك»، أساسفي النوع يندرج

فيه الفكر عندما يتخّ عن المواقع الصعبة والهشة للتمييز الصارم

19

والتعدّد والأفضلية، المتحمّسة والمشاكسة، للاستمرارية والعقلانية»

. لنترجم هذا بصيغة أخرى: عندما يتخّ الفكر عن البراديغم

الأرسطي، فهو يعانق التجربة الإنسانية بكل تناقضاتها الوجودية

والطبيعية، ويرتقي إلى وضع عرفاني تتوحّد بموجبه الثقافات، وحدة

) تشترك فيها الفلسفات، أيّاً كانت هويتها

œcuménisme

مسكونية (

النظرية.

فكرة وحدة الوجود هي أسمى مثال على «تشاكُل» الأفكار

الآتية من أصقاع مختلفة ومن توجّهات متباينة في الرؤية والسلوك

والعقيدة. فهي النموذج الأرقى لتلاقي الثقافات، لأنّ ما يميّز

ثقافة من الثقافات ليس اختلافها الجذري عن غيرها، ولكن

تماثُلها النوعي مع غيرها في بعض الأشكال العالمية كالفن

والقصة، أيفي الأشكال التي تنتمي إلىمجال الخيال. عندما يقارن

دورس بين الأسلوبين الكلاسيكي والباروكي، فهو يُبرز كيف أنّ

الأول يتأسس على قيم البداهة والبرهان والانسجام، وهو ملاذ

الفلسفات الواقعية؛ وكيف يقوم الثاني على قيم الحلم والخيال

والبلاغة والكوسموس، وهو ملجأ الفلسفات العرفانية. ليس

غريباً إذن أن تينع فكرة وحدة الوجود في الفلسفات الصوفية،

من أيّ توجّه فكري أو ديني كانت، لأنّ هذه الفلسفات تولي

للخيال والسد والكون أهمية أنطولوجية حاسمة. فهي ترتبط

19- Ibid., p. 110.

محمد شوقي الزين

مقالات