275
2016 )9(
العدد
عنصراً ثانياً وأساسيّاً، فلا بدّ من توفير فرصالترقّبوالامتداد في
الانتظار عبر أزمنة وتواريخ معتبرة، ليستمحدودة أبداً، فاللّحظة
القادمة والمرجوّة والسّعيدة ليست قريبة، لأنّ الامتداد في الزّمان
مقاومة متواصلة للأحزان، ومواجهة للضّعفوالفناء، فهو منافٍ
بال ّورة للآنيّة والفوريّة والسّعة، لأنّه بحث ممتدّ وخطّة علاج
طويلة الأمد، فيها تلذّذ بمعانقة الأحلام المقاومة للإحباط وقسوة
العيش، خاصة لدى الفئات المنبوذة والجماعات المهمّشة. نرى
ذلك بالخصوص في الماسيحانيّة الشيعيّة ذات الصّبغة المتميّزة في
مأساتها وانتظاراتها وعذاباتها. فالبحث عن مفقود يتطلّب زمناً.
وحيث لا يوفّر الحاضر أيّ بريق أمل، ولا يسعف بحلّ، يصبح
الخروج والهجرة والانقطاع سبلاً للمقاومة والممانعة. وعندما تكبر
المأساة والأوجاع والأحزان والآلام، لا بدّ من الانعتاق والهروب
إلى ممالك الدّهشة، وأزمنة البهجة والفسحة، وانتظار المهدي
والمسيح والبوذا والكريشنا، ليس هروباً فقط، بل هو انعتاق
وتحرّر نحو آفاق جديدة وساحرة خالية من الحزن والألم. فهذا
الغائب المرتقب والقادم في ناية الانتظار سيوفّر شيئين مفقودين:
يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً. هذا الاختزال بعيد
عن توصيف الواقع، فالمشكلات أكبر من مجرّد الظّلم والعدل،
ولكنّه يختزل المسألة في أفق سياسي واجتماعي محدّد، له صبغة
) وامتصاص الغضب والحشد
euphorie
أخلاقيّة توفّر النّشوة (
الشّعبي، فثورة الحسين هي ثورة وتضحية في الوقت نفسه، أمّا
ثورة المختار الثّقفي بعدها فهي ثورة الحشد والتّعبئة، حيث اقترن
الانتظار بالانتقام والغضب والتزوّد بشحن معنوي هو عند
الشيعة تنويعات، مثل البكاء وال ّجيع والأنين والتأوّه وال ّب
والمزارات والأدعية والطقوسية الاحتفالية، وكلّها أجواء مانحة
ومانعة: مانحة لنوع من الكرامة والرّضى والتّجاوز والهذيان،
والخروج عن المألوف، والوجد والاغتباط والتعويض والتّصعيد
والمبالغة والاستقواء؛ ومانعة للضّعفوالخوفوالحزن والانيار.
كما نجد تحقّقات تلك المعاني وتمثّلاتها في الذّكر والرّقصوالوجد
الصّوفي لا محالة، وخاصة في صور الحضرة والخمرة:
الحضرة: هي تعبيرات وعلامات عن الخروج وتكثيف التمرّد
وإعلاء الإثارة.
والخمرة: هي التخمّر والغياب والسّكر والنّسيان.
وهذه التّعبيراتوالعلاماتتبرز أيضاً بكثافة في أعراسالفقراء
الذين تمتّعوا ببعضالثّروة بعد بؤسمقيم، فتنكشفصور المبالغة
في التّبذير والإثارة والضجّة، ولفت الأنظار وتمجيد اللّحظة
للبروز والتّعويض، وإظهار أجواء الفرح والبهجة باستعمال
البنادق والمفرقعات وهوس الظّهور وطلب الشّهرة عبر مواكب
السيّارات، ودفع النّقود علناً ورفع الصّوت بها، عبر مك ّات
الصّوت المستقبلة للجهات الأربع. تعّ هذه الظواهر كلّها عن
مخزون الشّعور بالضّعف والفقر والعجز، وتغطيته بأقنعة مفتعلة
بتمثيل أدوار النّصر والتّمكين. وقد تلتقي هذه الحالات مع
إدمان الكحول والمخدّرات هرباً من الواقع، واستعلاء بالغياب
والسّكر.
لاحظ أنّ صور الهوس هذه إنّما هي تعبيرات الأنا عن تجاوز
فقدان الأشياء، ويكون عادة بالسّف والخيلاء، وإظهار القوّة،
وتجميع الحشود لتجاوز الحدود، فهو في ناية المطاف، احتفال
بتضخّم الذّات الفارغة وإبرازها للتّعبير عن الرّضى عنها، عبر
.
18
تراكم الأحداث وافتعال الضّجيج
يلتقيفي الماسيحانيّاتكلّها هاجس الاعتراف بالفشل والهزائم
المتلاحقة، والتقهقر على الصّعيد الاجتماعي، فيكون الانتظار
إبعاداً لل ّر عن طريق تجنّب الحقيقة المرّة والمظلمة ورفضها،
وإقحام فكرة أفضل. إنّه ميكانيزم دفاعي بامتياز يهدف إلى نسيان
.
19
الألم والذّكريات المريرة، وتحويلها إلى غد أفضل ومستقبل أبهى
الاستثمار في الانتظار:
ليس مهًّ أن يتحقّق الانتظار على المدى القريب أو البعيد،
فالذّات اللاهيّة والحالمة تعرف أنّه عسير المنال، فقد مرّت أزمنة
ودهور ولم تتحقّق بوادر هذا الانتظار، ولكن لا بدّ من الاستثمار
في الانتظار، باعتباره لعبة رابحة لحشد الحشود، وهواية ناجحة
لنفي الواقع وتثوير الأحلام. من هنا كان الانتظار فرضيّة مبهجة
ونظريّة متهلّلة، وا ّاد مع ممالك السور والبهجة الخياليّة. ولأنّه
موضوع يتعلّق بالاستثمار، فلا يوجد أفضل من مبادئ الدّين
والإيمان يستثمران بدرجة أولى في هذا الميدان، عبر صور الالتزام
18- Freud, psychologie des foules et analyse du moi. Paris 1921
page 201
19 - Henri Chabrol, Les mécanismes de défense, Recherche En
Soins, N° 82 - Septembre 2005,page 31
أدب الانتظار والخلاصفي الفكر الحديث ... مقاربة نفسيّة واجتماعيّة
أدب وفنون: نقد




