294
2016 )9(
العدد
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الغذّامي كما يؤصّل لخطاب النقد
الثقافي في منابت تربة فكريّة فلسفيّة غربيّة معاصرة، تستلهم
جلّ مقولات الخطاب الفلسفي النقدي ومفاهيم واصطلاحات
مستمدّة من حقل العلوم الإنسانيّة السيسيولوجيا والأنتربولجيا
خاصّة، نجده يميل إلى تأصيل طبيعة هذا البناء النظري للمنوال
النقدي الذي يطرحه، ضمن أفق مرجعيّة فكريّة عربيّة إسلاميّة
تستند إلى التراث العلمي الدّيني، ممثّلاً في علم الحديث النبوي
الشريف ونعني الفنّ المصطلح عليه بـ«علم العلل». ولئن تمّ
ذلك على سبيل الاستعارة المجازيّة. وهو ما يدلّ عليه قوله عن
النقد الثقافي: إنّه «إذن نوع من (علم علل)، كما هو عند أهل
مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب
الخطاب، ويكشف عن سقطات في المتن أو في السند (...)، ولا
شكّ أنّ البحثفي علل الخطاب يتطلّب منهجاً قادراً على تشريح
.
45
النصوصواستخراج الأنساق المضمرة ورصد حركتها»
لقد تجّ للغذّامي، انطلاقاً من النظر بمجهر النقد الثقافي، كيف
أنّ مظاهر «الأدبيّة» التي ظلت من أهم محاور مباحث «أسئلة
جماليّة النصّ» تحوّلت إلى مؤسّسة ثقافيّة متعاليّة وطبقيّة، واحتكر
ال ّط الإبداعي حسب شرط المؤسّسة الأدبيّة، وتمّ تصنيف
الذّوق والتحكّم في الاستقبال ومن ثمّ الإنتاج، وجرى تبعاً لذلك
، ومن
46
إبعاد خطابات كثيرة لا تحصى في أنواعها وفي عددها»
نتائج ذلك أن حصل فصل «بين ما تتعامل به المؤسّسة الأدبيّة،
وبين ما هو مستهلك جماهيريّاً، وصار الجمالي نخبويّاً ومعزولاً،
وجرى إهمال ما هو مؤثّر وفاعل في عموم النّاس، وانشغل النقد
بالنخبوي والمتعالي، وهذا ما جعل النقد قلعة أكاديميّة معزولة
. ومن ثمّ كان البحث عن الجدوى
47
وغير فاعلة في النّاس»
والفاعليّة والقرب من العموم، إضافة إلى هاجس وضع حدّ
لاكتساح «المستهلك الجماهيري» لأفق الانتظار، حتّم أن تكون
وظيفة النقد الثقافي، بحسبتحديد الغذّامي، كالآتي:
- سؤال النسق كبديل عن سؤال النصّ.
- سؤال المضمر كبديل عن سؤال الدّال.
84 ،
- الغذّامي، المرجع نفسه
45
451
- الغذّامي، النقد الثقافي: رؤيّة، ص
46
- الغذّامي، النقد الثقافي: رؤيّة، ص، ن
47
- سؤال الاستهلاك الجماهيري كبديل عن سؤال النخبة
.
48
المبدعة
وهي في نظر الغذّامي «أسئلة لم يكن النقد الأدبي يهتمّ بها، ولم
. إذ ظلّ منهج النقد الأدبي «يبحثعن الجمال
49
يكن يقفعليها»
حصراً وعّ هو خلل فنّي ( ...)، ولا شكّ أنّ الجمال مطلوب،
ولا شكّ أنّ السؤال عنه جوهري وضروري، (ومن ثمّ يتساءل
الغذّامي)، لكن ماذا لو أنّ الجميل الذوقي تحوّل إلى عيب نسقي
في تكوين الشخصيّة العربيّة، وفي تكوين الشخصيّة الحضاريّة
، ويستنتج ـ تبعاً لذلك ـ مبدياً حيرته: «هذا ما لم يقف
50
للأمّة»
عليه النقد الأدبي، ولم يجعله في سجلّ تفكيره. وهذا ما يمكن
.
51
للنقد الثقافي أن يقوم به، ليسهم في مشروعات نقد الخطاب»
وقد ربط الغذّامي هذه المهمّة من جهة الأسس المعرفية بنقد هيمنة
الأنساق المضمرة، ونقد القيم السلطويّة التي مارس فاعليتها عبر
الأنساق وسياقات إنتاج الخطاب الأدبي وتداوله وتلقّيه.
وهنا أمكن أن نستنتج كيف أنّ منوال النقد الثقافي، كما يطرحه
الغذّامي ينفتح عند اشتغاله على هموم وقضايا وإشكاليات فكريّة
وحضاريّة، وينخرطفي تناول أعقد مسائلها، ذات الصلة الشائكة
بطبيعة علاقة العربي المسلم بتراثه، ونظرته إلى الكون والوجود
والحياة وطبيعة الصورة التي يحملها عن ذاته انطلاقاً من ثقافته.
واستناداً إلى موروث من القيم والمثل والرّؤى والتصوّرات التي
تتجاوز في الحقيقة دائرة إبداع الشعر والأدب والفنون مطلقاً، إلى
مجال المعرفة الدّينيّة والفلسفيّة، وإلى سائر حقول الثقافة والفكر
الأخرى ذات الصلة بالممارسة الاجتماعيّة والأخلاق والقيم
السائدة، خاصّة ما ارتبط منها بالموقف من الجسد وحرّية الذّات
والنظرة إلى المرأة، وكلّ ما له صلة بمدوّنة الأدبيّات الأخلاقيّة
وطبيعة نظرتها إلى الكائن، في علاقته بتراثه وأشكال السلطة
الرّمزيّة وغير الرّمزيّة انطلاقاً من الصورة التي ارتسمت عنها في
المخيال العربي الإسلامي، عبر أحقاب من التاريخ.
451
- الغذّامي، المرجع نفسه، ص
48
452
- الغذّامي، المرجع نفسه، ص
49
19
- نقد ثقافي أم نقد أدبي (سبق ذكره)، ص
50
- الغذّامي، المرجع نفسه، ص، ن.
51
محمد الكحلاوي
أدب وفنون: نقد




