295
2016 )9(
العدد
وهكذا بدا لنا طرح مشروع النقد الثقافي لدى الغذّامي على
النحو الذي تقدّم بيانه، أقرب إلى مشروع تفكير نقدي في التراث
الأدبي ولنقل الحضاري، ويظهر ذلكمنخلال طبيعة الصلة التي
ربطت هذا الطرح النقدي بالمجتمع والأخلاق والثقافة السّائدة،
استناداً إلى نظرة محدّدة إلى روح الحضارة والثقافة في الإسلام
والعالم العربي، باعتبارها حضارة تشتمل على أنساق ثقافيّة تعلي
من شأن الفحولة قيمة جمالية وفكرية اجتماعيّة تتحكّم في إنتاج
الفنّ والإبداع لا سيّما في ميدان الشعر.
غير أنّه كان من الأجدى بمشروع خطاب النقد الثقافي أن
يتنزّل ضمن دوائر اشتغال، ومجالات بحث أوسع من الأدب
مثل: «النقد الحضاري» ومباحث تاريخ الأفكار والحضارة، وهي
مجالات تفكير نقدي وبحث تعتمد أطروحات الفلسفة وأدوات
العلوم الإنسانيّة ومناويل المناهج المعاصرة لإعطاء قراءة التراث
وتأويل متون الأدب والشعر والفنّ معقوليّة جدوى ووظيفة
جديدتين يبحث عنهما العربي المسلم اليوم. إنّا المسائل والقضايا
نفسها التي كتبفي شأنا المفكّر والناقد الفلسطيني هشامشرابي،
من قبل، مؤلّفاً وسمه بـ «النقد الحضاري». كما تمّ تناول قضاياه
الإشكاليّة الحارقة ضمن مشاريع فكريّة فلسفيّة نقديّة متنّوعة
اشتغلت على التراث وأشكال العلاقة بين أنظمة المعرفة في الثقافة
العربيّة، ومن ثمّ الحفر في وعي الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة
بذاتها، وطريقة تعاملها مع قضايا لا وعيها الثقافي، أو لنقل الوعي
الجمعي، ومن ثمّ ظهر إمكان التساؤل عن أثر ذاك الوعي الجمعي
في تلقّي الفنّ والجمال وتشكّل النظرة إلى الذّات والآخر.
ومن المعلوم أنّ من أبرز المشاريع الفكريّة التي أمست ذات
قيمة مرجعيّة علميّة في هذا المجال، ما كتبه عبد الله العروي
بدءاً من مؤلّفه «الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة» وصولاً إلى
كتابه «السنّة والإصلاح». كذلك ما تطرّق إليه هشام جعيّط
في اثنين من أبرز مؤلّفاته، وهما «الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة»
و«أزمة الثقافة الإسلاميّة»، أو ما خطّه عبد الكبير الخطيبي، لا
سيّما في كتابه «الاسم العربي الجريح». ونسوق هنا ملاحظة في
شكل فرضيّة بحث، مفادها أليس من الوجاهة أن تتنزّل مقاصد
مشروع النقد الثقافي ضمن قراءة للأجناس الأدبيّة وتاريخها
ضمن الثقافة العربية في سياق تحوّلات تاريخ الأفكار وبنيات
الثقافّة وأشكال الوعي الحضاري، على شاكلة ما أنجز عبد الفتّاح
كليطو في رسالته الجامعيّة «المقامات: السّد والأنساق الثقافيّة»،
وفي مؤلّفاته الأخرى، أو على شاكلة ما نظّر له مصطفى ناصف
في كتابه «قراءة ثانية لشعرنا القديم»، حيث وصل بين البعد
النفسي وجماليّة فنّ الشعر العربي، انطلاقاً من مقاربة إنتربولوجيّة
تنفتح على مناهج النقد المعاصر، وتنظر إلى رقيّ الفنّ في علاقته
بتطوّر الإنسان ورقيّ الوعي المعرفي والحضاريفي علاقته بالثقافة
والتراث؟
في هذا المقام تبدو لنا مدى وجاهة الملاحظات والاستنتاجات
التي ساقها الأستاذ حمّادي صمّود بخصوص هذا اللون من
الدراساتوالبحوث النقديّة ذات الصلة بحقول معرفيّة وفلسفيّة
متباينة، حيث يقول تعليقاً على أعمال الغذّامي مقارنة بالبازعي
والسيحي: «... والخاصيّة الكبرى الثالثة (...) هي اضطلاع نقّاد
الأدب بالكتابة في قضايا أشمل من النقد وأعمّ، وإن بقيت على
بعض الصلة به. وهي قضايا يتكفّل بالخوض فيها عادة كتّاب
من اختصاصات أخرى، لأنّ مطالبها المعرفيّة والمنهجيّة لا تطابق
مدارس الدّراسات الأدبيّة، (إنّا) قضايا من دوائر أخرى لا
. ذلك أنّه تمّ استدراج أولئك
52
تطابق مطالب الدّراسة الأدبية»
الباحثين النقّاد «إلى قضايا من دوائر أخرى، لا تكفي الثقافة
الأدبيّة عارية لإيفائها ما تستحقّ من العمق، فلا بدّ لذلك من
معارف تاريخيّة متينة، واطّلاع واسع على العلوم الاجتماعيّة،
وأطروحات الفلاسفة الجدد الذين ساهموا في إرهاف الحدّ القائم
بين الدّراسات الأدبيّة والدّراسات الفلسفيّة، بل هم من اشتقّت
من فلسفتهم رؤى نقديّة ونزعات تأويليّة، تغري بتبنّيها لفائدتها
.
53
الإجرائيّة العالية»
لقد أوردنا هذا الرّأي لكونه بدا لنا وجيهاً، وينطوي على تبيان
للاستنتاج الذي ذكرنا أعلاه بخصوص طبيعة مشروع «النقد
ّ به الغذّامي، عندما طرحه نموذجاً أمثل لقراءة
الثقافي» الذي ب
النصوص الأدبيّة والشعريّة وتحليل المسكوت عنه فيها، غير أنّه
- صمّود (ح ّدي)، نقد على نقد: قراءة في بعض تجارب النقد المعاصر في
52
السعوديّة، بحث صدر ضمن أعمال ملتقى النقد الأدبي الثاني «الخطاب النقدي
/1
المعاصر في المملكة العربية السعوديّة، نظّمه النادي الأدبي بالرّياض. ط
49
م، ص
2010 /
هـ
1431
- المرجع نفسه، ص، ن
53
النقد الثقافي: إشكال المنهج ومأزق النظرية
أدب وفنون: نقد




