الإنسان في زمن كورونا: تأمّلات في المرض والموت والدين


فئة :  مقالات

الإنسان في زمن كورونا: تأمّلات في المرض والموت والدين

1. لولا المرض لأشكل الأمر:

إن التفكير في الوباء، أو الفيروس لا يقف عند تَمثُّلِ حدودِ ما يُمكِنُهُ أن يُشَكِّلَ من تهديدٍ لحياة الإنسان وتَرَبُّصٍ بوجوده، ورُبَّما استعجالِ فنائه؛ وإنما يذهب إلى ما هو أبعد وأعمق من كلّ هذه الهواجس. فمجرد تأمُّلِ حال الإنسان في سياق التفكير هذا، يكشف عن ضعفه: إنه كائِنٌ هيّنٌ شأنُه في هذا الوجود، ضعيفٌ إلى درجة إيمانهِ بضعفه بوثوقيةٍ تجعله لا يتوانى عن تغليف هشاشته هذه بِحُجُبٍ عديدة، وبحُجُب للحُجُب نفسها، لينسى ضعفه المحتوم، فيعتنِق، لِمُداراتِهِ، وهمَ القوة، وهو وهمٌ أزَليّ لا يطفو على السطح إلا في ظرفٍ مأزوم، وفي كبد وضعٍ كارثي. إن الأزمة، شأنها شأن المرض أو الوباء، رَجَّةٌ تُحيي قوّةً حيويةً كامنةً في الوجود الإنساني، تتدفق من غياهبه لِتُكَسّر قشرةَ رتابة جموده، فتدفعه إلى الانتباه والتيقظ الحَذِر.

في قلب هكذا أزمات، ينتبه الإنسان إلى أهم ما يملك، وإلى أكثر شيء يطاله النسيان بشكل دائم. إنه وجوده الخاص، لكنه، للأسف، انتباهُ المُضْطَرِّ، المُكْرَهِ والمغلوب على أمره، المُجبَرِ على الاستيقاظِ من غفوته؛ لذلك فهو ليس بالانتباه الأصيل. إنه انتباه مباغت لحظةَ التِماعِ الحقيقة المطلقة وانكشافها اللامُتَوَقَّع، وتركيزٌ مكثّف دفعةً واحدة على حياة باتت مُغلفة بالموت والعدم، وأضحى المعيشُ في ظِلّهما تجربةً رهيبة.

إننا ننسى وجودنا، ونحن غَرقى في وحل الاعتياد، والإيقاع المكرور، وحالما يظهر جديدٌ مباغت، تمتصُّنا جِدَّته، ويتَمَلَّكُنا الخوف من غرابته. نكره مثل هذه الأوبئة، ليس لأنها قاتلة فقط، وإنما لأنها جديدة وغريبة وغير معتادة. فقد أَلِفْنا من الأمراض ما هو أَشَدُّ فتكًا، لدرجة أن بَاتَتْ مستهلكة في تداوُلِنا اليومي، وصار الواحد منا يكاد لا يشعر بظلها على الواقع، كما لو أنه في منأى عنها، وأنها لا تعنيه في شيء. أما الفيروس -كورونا مثلًا- فَطَرَافَتُه/ خطورته ملفتة للنظر، لأنه قَلَبَ الأفئدة في كل أقطارِ المَعمور، وما من بشريٍّ إلا ويشعر بأنه مُهَدَّد وَمَعْنِيّ دونما حاجة لمقدمات أو مؤشرات أو تنبيهات.

لقد أدرك الإنسان الآن فقط، أن الحياة توشك أن تكون «لا شيء» على الإطلاق، وأن المسافة بينها وبين الموت، قابلةٌ لأن تُطوى بسرعة البرق، لا ندرك معها كيف يمكن أن يتم هذا التحول أو الانتقال. لكن الأهم، في كل هذا، هو استيعابه، أخيرًا وبشكلٍ بديهي، لدرس عظيم: «عدالة الطبيعة وحيادها» في مقابل «ظلم الإنسان وأنانيته»؛ فالموت فعل طبيعي، كوني وعادل. أما القتل، فإنه جُرم إنساني، متزمت وجائر.

لذلك في قلب الأزمات المرضية والوبائية، تتهيأ للإنسان فرصةُ الوعي بأن الطبيعة وحش لا يمكن ترويضه، مهما حاول التحكم فيها وبسط سيطرته عليها. وأَنَّها، في الآن ذاته، ملاذه الوحيد، حيثُ يحتمي بها منها ومن ذاته أيضًا. ومن ثم لا مناص، مما أسماه «ميشيل سير» بِـ «التحكم في التحكم»؛ أي أن نعيد ترتيب علاقتنا بالطبيعة على أسس معقولة ومقننة.([1]) ونضيف إلى قول ميشيل سير هذا، أن الطبيعة اليوم، في ظل هذا الواقع المرعب والفتاك، يمكن أن يُنظَرَ إليها في معانٍ أوسع؛ فهناك الطبيعة الإنسانية التي تناسيناها وأغرقناها في مادية مُجحفة وقاتلة، ثم هناك الطبيعة في معناها الميتافيزيقي؛ أي فكرة الأصل والمبدأ وما يسميه سبينوزا بالطبيعة الطابعة. تستدعي منا هذه الأخيرة أيضًا، إعادة ترتيب مجموعة من التصورات والعلاقات التي تهم صلة العالم الطبيعي بالعالم ما وراء الطبيعي، وهي الصلة التي تشهد هزات وارتجاجات عنيفة تعيد مساءلة الكثير من الاعتقادات والآراء التي لطالما أبدى الإنسان اطمئنانه لها، وغاص في سكون ذهني وعقلي ووجودي، وهو يحتمي بها ويتحزَّب حولها.

إننا إذن أمام فرصة لإعادة النظر في جملة من الأفكار التي يبدو أنها تقادمت، وما عاد واقع الحال يتقبل اجترارها وإعادة إنتاجها، وهي فرصة أيضًا لخلق قطائع جديدة ذات طابع خلاق، تفتح للإنسانية آفاقًا أرحب في شتى مناحي الحياة، العلمية والميتافيزيقية والوجودية.

2. في حكمة المرض:

هل المرض مجرد علة تصيب الذات الإنسانية فقط؟ أم إن الأمر يَتَعدَّى ذلك إلى علّةٍ تنخر وجود الإنسان برمّته فَتَفتِكُ بالجسدي منه والنّفسي؟

إننا نمرض، فيمرض الوجود معنا، ومن ثم تمرض الطبيعة وتَعْتَلُّ الحياة. مع المرض يزول الاستهتار، ويعم الجد المُفرط في جِديته؛ فالجميل في الحياة اليومية هو قدرة المرء فيها على الاحتماء بالهزل والضحك والمرح، وحتى السخرية والتفاهة في أحايين كثيرة، ليخرج من رتابة الوجود وجديته المبالغ فيها. لكنه أثناء المرض، وخصوصًا في زمن الأوبئة العالمية، ليس بمقدوره سوى أن يكون جديًّا مُطلَقَ الجدية.

تربطنا المعاناة والآلام بوقائع وحقائق ميتافيزيقية لا يمكن لإنسانٍ سويٍّ، وفي صحة جيّدة، أن يفهمها. المرض علّةٌ ونقص وفاقة وعوز، ليس في المريض فقط، وإنما في الحياة برمتها، في الوجود وفي أصله، وهو تذكير دائم للإنسان بأنه لا يستطيع أن يكون سيّد نفسه وسيد الوجود، وبأن هناك قوى تتجاوز قواه الخاصة. إنها قوى ما يسميه مونتيني بأُمّنا الطبيعة «Notre mère nature» التي تعيش داخل كل واحد منا، وكلٌّ منا يعيش في قلبها، وهناك يموت ويفنى.

المرض لحظة فاصلة بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم، آنٌ برزخي لا يموت فيه الإنسان ولا يحيا. لو مات لَنَالَ الخلاص، لكنّه حيٌّ حياة مُعْتلة، حياةٌ تتأمل في المرض، وتتألَّم تحت نيره، وتعيش على شفا حفرة من الموت. لكنها تبقى، مع ذلك، لحظات أصيلة وحقيقية يَخبُرُ فيها المرء ذاته، ويلامس أناه الجواني فوريًّا ومباشرة. يتعاطف مع ذاته ويَحْدِسُها في عرائها وانكشافها. إنها روحانية المرض وبعده الصوفي والأنطولوجي.

إن المرض مرادِفُ الموت بالنسبة إلى الحياة، له وظيفة فلسفية مهمة، وهي أنه يبرز لنا مدى هشاشةِ فكرةِ حُلُمِ الإنسان بحياة كاملة ومثالية خالية من الألم والعوز، رغم أن الواقع الإنساني أثبَتَ أن التجارب الحقيقية والأصيلة تكون نابعة من لحظات المرض التي هي أكثر لحظات العمر بُطئًا وتركيزًا وشدة وحِدّة. فالمرض، يقول سيوران، يَجعل الموت حاضرًا على الدوام([2])؛ ومن هنا عمقه الحِكموي. ونكاد نجزم أن الذات، أثناء «تجربة المرض»، تكون مؤهلة لتتعلم «كيف تموت». قد نتعلّم الموت لنعانق الخلاص، وإلا فإنه سيكون سبيلنا لإتقان «فن الحياة».

لا يمرض الإنسان كثيرًا، والمرض حدث عارض قلَّما يُلمُّ به؛ فاللامرض هو الأصل، والمرض فرعٌ، يكون في مقام الضيف العابر، الذي ينبغي للمرء أن يُحْسِنَ وفادته. وما من استضافة ألْيَقُ بالمرض من البرء منه، وتسخيره لتنوير حياة ما بعد المرض. كلّ مرض يُلِمُّ بصاحبه، فيتركه كما ألفاه، لا يُعَوَّل عليه. إنه تجربة ينبغي أن يكون لها ما بعدها، بالنسبة إلى المريض الفرد، على أن يكون أثره أقوى وأشد وأعمق بالنسبة إلى الأمراض التي تطال الإنسانية في مجموعها.

على الرغم من خطورة الأمراض والأوبئة والفيروسات العالمية، المنتشرة بسرعة؛ إلا أنها عبارة عن إنذار ينبهنا إلى أمور أكثر أهمية في الحياة، وبالضبط تلك التي فَرَّطنا فيها بشدة، وطالها الإهمال رغم حيويتها وضرورتها. لذلك، نرى المرض ليس على أنه ناقوس خطر وموت يدق، وإنّما هو إنذارُ حياة تدعونا إلى أن نعيد إليها حيويتها، وقيمها، وأخلاقها، وجمالها.

3. المرض بين الخوف والأمل: أو في انطفاء سحر الديني

كل إنسان يمرض، فيَجعَلُهُ خوفه من الموت يخشى المرض نفسه، لكن ما يشهده العالم اليوم من موجات الخوف الهيستيرية والمرضية له ما يبرره خارج سؤال الحياة والموت؛ فجميع الأوبئة والفيروسات تأتي مُحَمَّلة بالموت، تحل ثم ترحل. لكن يبدو أن فيروس كورونا هذا قد أتى مُحمَّلًا بما هو أخطر من الموت؛ فهل هناك فعلًا ما يمكن أن يكون أخطر من الموت؟

إن الخوف من هذا الفيروس هو خوف من حركيته وحيويته، ومن تعامله العادل مع بني البشر، لذلك نقابله بنوع من اللامبالاة التي تنطوي على الكثير من الحرص والحذر، وتُبطن ما لا يطاق من القلق والترقب والخوف. ومن ثم، قد نواجهه بالتسفيه والتبخيس. وهناك من يواجهه باللامواجهة وبالهروب منه ومن الناس، ومن الذات، وهذا هو الأخطر؛ سيهرب من كل هذا لكي يحتمي بمن؟ أيّ ملاذ سيلجأ إليه ليأويه في هذا العالم الذي يكاد يُفضَح ويُعرى ويُكشف؟

الخطير في هذه الفيروسات والأمراض والأوبئة المستشرية عالميًّا، هو أنها لا تُهدّد حياة الإنسان وحده، بل تطال الإله أيضًا. إنه لأمرٌ مرعب، ومُعَبّرٌ أيضًا، أن يفقد الإله مكانته، ويكفّ الناس عن التوجه إليه توسّلًا وتضرّعًا وصلاة؛ فهل نصلّي له وإليه، أم نصلّي لأجله؟ ولمن سنصلّي لأجلنا ولأجله ولأجل العالم برمّته؟

في ظلّ هذا العراء الوجودي، حيث انكشف ما كان غامضًا، وفُضِحَ ما كان مستورًا، وكفَّ المفارق عن تلبية حاجات المحايث، وإرضاء تطلعاته والاستجابة لرغباته وتحقيق آماله؛ لا عجب في أن يشهد العالم ثورة وجودية جديدة تهم علاقة الإنسان بذاته وبالعالم وبالإله. إنها ثورة قد تعيد من جديد إثارة النقاشات القديمة الجديدة حول العدمية ومعنى الحياة والألوهية، وعودة الديني أو استقالته الكلية.

إن أشد ما يمكن أن يهدد حياة الإنسان هو تفشي المرض مع انعدام الأمل. فإذا كان المرء يقاوم الأمراض بما يحوزه من أماني ورجاء في البرء منها، فإن انعدام الأمل يسهم في استفحالها وتفشيها. قد نفقد الأمل في الطب والعلم، فنتجاوز ذلك، ونخلق آمالًا جديدة؛ لكن فُقْدَان الأمل في الإله أمر لا يُتجاوز على الإطلاق، لأن لا أمل بعده، أو على الأقل هذا ما يبدو للبعض.

يشكّل الوضع الراهن، المعتل والموبوء، مِحَكًّا للعلم والدين على حد سواء، لكن الفرق هو أن العلم سيكون الرابح الأكبر، سواء انتصر أو انهزم. أما الدين، فلن يظفر إلا بالخسران في قلب وضع إنساني يقع في مواجهة مباشرة مع الحقيقة، بعيدًا عما هو غيبي.

هل فقد الإنسان الثقة في ما يسمى العناية الإلهية؟

كلا، لن يبلغ ذاك الحد ولو تمادى في المكابرة والمعاندة، وبلغ درجة مقاومة الحقيقة البَدِية والجلية. لكن الأهم الآن هو ثقته القوية في العلم، ويقينه التام في أن رهانه الأكبر بات علميًّا ودنيويًّا بامتياز، غير أن الغريب في الأمر هو أن نجاح العلم سَيُفَسَّر أيضًا بأنه فضلٌ من العناية الإلهية، رغم أنه تفسير ينطوي على إيمان خفيّ واعتراف جواني، بلامعقوليته وبسذاجته كذلك. لكن المهم هو ألا ينطفئ سحر الديني، وألا يظهر إفلاسه في زمن المرض هذا.

لا مرية في أننا إزاء مرض لا يُبْقي ولا يَذَر، لدرجة أن الدين صار، هو الآخر، مُعتلًّا ومستقيلًا، لا حول له ولا قوة، انطفأ سحره، وخفت بريقه؛ فقد تنازل عن موقع الريادة، وتبوأ منزلةً تَنِمُّ عن انخفاض مهول في قيمته لدى معشر المتدينين. ماذا عساه يقول في ظل هذا الوضع المأزوم؟

أكيد أنه لا قول له، إلا بعد أن يقول العلم كلمته، أو تقول الطبيعة كلمتها الأخيرة. آنئذ سينقضي أجل القول، وسيكون قوله بلا مقال. وهذا ما نلحظه الآن من صراع بين أهل العلم وأهل الدين؛ بين من يعمل ومن يأمل.

إن انطفاء سحر الديني لا يعني فقط صمت الدين أو عجزه، أو «غياب» العناية الإلهية وعدم استجابتها لنداء الأبرياء والضعفاء، من أطفال وشيوخ، عاجزين وعُزَّل؛ بل له انعكاسات أخرى تتمثل في إفلاس القيم الدينية وانسلاخ الإنسان -المتدين وغير المتدين- منها، وبروز الذاتية المبالغ فيها والفردانية المفرطة، ونُكران الآخر في مقابل تعظيم الذات والتحزب حولها.

4. "من مزايا كورونا":

الجميل في كورونا، أنه فيروس لا يختار ولا يفاضل بين الناس؛ فهو لا يُمَيّز بين الغني والفقير، بين المؤمن وغير المؤمن، بين المؤله والملحد... إلخ. اجتاح العالم بِرُمَّته، وغَمَرَ جميعَ تفاصيله؛ دقيقُها وعظيمُها، صغيرُها وكبيرُها. لكن الملفت للنظر، هو أن عدم تمييزه ذاك هو سرّ الاهتمام الشديد به، بل هو أصل هذا «الخوف الجماعي» منه. ليس المقلق فيه هو تهديده لحياة الناس، بل تهديده لحياة جميع الناس دون استثناء؛ هنا تتبدَّى عدالة الطبيعة ومساواتها.

يموت كل يومٍ آلافُ المرضى والضعفاء والبؤساء، بسبب الجوع والفقر والمرض والحرب، وما من أحد يكترث لحالهم، لدرجة أن بات موتهم حَدَثًا روتينيًّا مثله مثل أية تظاهرة رياضية؛ هناك فئة تتنافس رياضيًّا، وأخرى اقتصاديًّا، وثالثة سياسيًّا، ورابعة تتبارى فنيًّا. أما الفئة الأكثر بؤسًا، فتقاتل وتصارع وجوديًّا وطبيعيًّا؛ تحارب لتعيش، فتقاوم الطبيعة والذات والآخر، دون أن يلتفت لها أحد.

لكن، الآن فقط، صار الموت مدعاة للتفكير. في هذه اللحظة بالذات انتبه الإنسان إلى أنه، في الوقت الذي يحيا فيه حياة عادية وطبيعية، هناك من يموت لأجل أن يحيا. الآن فقط غدا الموت أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فبات للجميع نصيبه الأوفر منه، وما عاد في حِلٍّ منه ومن مسبباته.

في زمن الكورونا هذا، أصبح الموت غبارًا تتقاذفه الرياح، وقد يدخل من أية نافذة، دون أن يفرق بين بيتٍ صغيرٍ وقصرٍ كبيرٍ. الموت، هذا الذي يكاد يكون لا شيء un-presque-rien بلغة جانكيليفتش([3])، ها هو اليوم صار كل شيء. بات هذا الفيروس هو كل شيء، بعدما كان في منزلة الـ «لا شيء»؛ كان حقيرًا يجد مرتعه الخصب في بيئة حقيرة أيضًا، مع أناس أشدّ بؤسًا وحقارة، فإذا به يرتاد أفخم القصور، ويلازم أرقى الشخصيات، ويحجب النور عن أشهر المشاهير.

إن مثل هذه الأوبئة تجعل عددًا كبيرًا من الأفراد يتحوّلون، في كل يوم، من حالة الحيوية المنتصرة والنشاط المنتشي، إلى حالة التضرع والتوسل والابتهال، ووضعية الجثة الهامدة.([4]) فيدرك الناس أنّه ما من أحد أفضل من أحد، وأنهم في حضرة الطبيعة سواء؛ يُقبلون على الحياة بنهم، ويَجِدُّون في اتقاء الموت دون هوادة. لكنهم سرعان ما يدركون أن الطبيعة هي قَدَرُهم، ولا يملكون إلا التخلّي عن الأنانية والفردانية، ثم العودة إلى الآخر لمعانقة الإنسانية، ومصاحبة الطبيعة من جديد.

يتحدّث الجميع الآن عن كورونا، وعن هذا اللاشيء، لا لشيء إلا لأنه فيروس لا يرى، لا يختار ولا يميز؛ لأنه لا يعرف ولا يحكم، لذلك فإنه لا يخطئ. لو أمكن للبعض أن يتحالف مع هذا الفيروس، لتمت أدلجته والاتجار به والزج به في غياهب الهوامش بعيدًا عن المركز؛ ولربما نسمع بفتاوى جديدة -وهذا ما تتقاذفه الألسن اليوم بالفعل- تبرر مرض البعض بكفرهم، وتُعَلّلُ موت البعض الآخر بفسادهم وفساد قيمهم وأخلاقهم. إِذَّاك يغدو الفيروس مخلوقًا إنسانيًّا، يُحَمَّل ما لا يتحمل، كما فعل الإنسان مع فكرة «الإله» نفسها.

يعكس هذا الفيروس إذن، كونية الطبيعة وقوتها، كونية الإنسان وضعفه، ثم كونية الوجود وعبثيته. ويكشف لنا عن حقيقة الإنسانية المشتركة، وهي «الهروب الدائم من الموت». إنها الحقيقة القادرة على أن تغير كل شيء في الإنسان، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا. فقد يهرب المرء من الموت، ولو اقتضى منه الأمر الانسلاخ عن ذاته، ويحتمي بالآخر الذي لطالما اعتبره جحيمًا وعدوًّا.

وقد يهرب من الموت بحثًا عن الطبيعة، ولوذًا بالإله، وربما يهرب من الموت بحثًا عن الموت نفسه. هذا هو قدر الإنسان، وتلك هي تراجيديا الحياة التي لا نملك إلا أن نعيشها بتفاؤل وفرح، بألم وأمل؛ نخشى فيها الموت والمرض، لكننا نعيشها، وكلنا أمل في سعادة قد تتحقق.

لربما يكون فيروس كورونا هذا -بعيدًا عن كل التأويلات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، ومهما كانت صحتها أو وجاهتها- نداءً من الطبيعة لكي نعود إلى ذواتنا، فنهتم بالحياة والإنسان، وبالطبيعة نفسها. إنه نداء طبيعي، بعد أن فشلت الإنسانية في إطلاق هكذا إشارات، وغطَّت في سبات عميق وعقيم أفقد الحياة معناها. لا شك أنه نداء قوي، ومؤلم، لكنه بليغ وبيّن؛ لذلك لا يمكن لأيّ كان أن يتحاشاه أو يغض طرفه عنه.

  


([1]) Serres, Michel (1990): «Le contrat naturel», Editions Champs essais, Flammarion, Paris. pp: 58- 59

([2]) Cioran (1990): «Sur les cimes du désespoir», Texte traduit par: André Vornic. Revu par: Christiane Prémont. 1re Publication, Editions L’Herne. p: 30

([3]) Jankélévitch, Vladimir (2017): «La mort», Précédé d’un entretien avec Frédéric Worms. Editions Champs essais, Flammarion, Paris. p: 553

([4]) Thibon, Gustave (1974): «L’épreuve du temps», in: «L’ignorance étoilée», Fayard, Paris. p: 138