الاغتراب الذاتي ... هوية المعرفة والوجود


فئة :  مقالات

الاغتراب الذاتي ... هوية المعرفة والوجود

ما الذي نفهمه من "هوية المعرفة والوجود" أو وحدة الذات والموضوع؟ من البديهي أن المعرفة تحيل على الذات الإنسانية العارفة؛ أما الموضوع (Subject) فهو "الوجود الخارجي"، الذي يكون أمام الوعي بصفة عامة؛ أي في مقابل الذات. يقصد بوحدة المعرفة والوجود أن "الذات (جانب المعرفة) والموضوع (جانب الوجود) متحدان في هوية واحدة؛ فليست الواحدة منهما حقيقة قائمة بذاتها، ومستقلة عن الأخرى. ولا تواجه الواحدة منهما الأخرى كما لو كانتا مختلفتين تمام الاختلاف، ولكنهما متحدتان، لأنهما جانبان لحقيقة واحدة"[1].

المعرفة هي شرط العمل الخلاق، والفاعلية الحية: الاجتماعية والإنسانية. فإن تشكل الذات الفردية - النوعية هو بالأحرى نتاج علاقة، لا مفر من وصفها بأنها جدلية (ديالكتيكية) بين الذات والموضوع، بين الإنسان والطبيعية. ومن طبيعة العلاقة الجدلية، أن كلاًّ من حديها يمكن أن يتحول إلى الآخر، فينتج من هذا التحول تركيب جديد ليس أيّاً من الحدين المتعارضين.

مع ذلك، يظل طيف ديكارت حاضراً، (الذات في مقابل الموضوع)، والوحدة المعنية قلقة، قلقها ناتج من نفي استقلال الذات عن الموضوع، ومن ثم، نفي حرية الذات. لذلك، لا بد من وضع المسألة وضعاً مختلفاً: المعرفة صفة نوعية للكائن البشري، بما هو كائن طبيعي قائم بذاته، ولذاته، هي قوة سلب، أو إمكانية فعل أو خلق وإبداع أو جعْل؛ والموضوع هو كائن طبيعي قائم بذاته أيضاً، قابل للسلب؛ أي إنه قابل للمعرفة الشارطة للفعل، يستجيب لقوتها السالبة، في حدود كينونته أو "طبيعته"، بحكم ما ينطوي عليه هو ذاته من سلب، فلا يصير موضوعاً للذات، مطاوعاً لقوتها، إلا بقدر ما تتسق هذه القوة السالبة، التي تسم الذات، مع ما ينطوي عليه الموضوع من سلب، وحاصل السلبين هو الإيجاب الجديد، أو ناتج المعرفة - العمل، أو المعرفة - الفعل.

وحدة الذات والموضوع (الجدلية) ليست، في الواقع، سوى الصيرورة، بوجهيها المتلازمين: الصيرورة الطبيعية، والصيرورة التاريخية، والفارق بينهما يكمن في فاعلية الذات في الصيرورة الطبيعية، والكون الاجتماعي، وفق التناسب المشار إليه، بين قوة السلب التي تميز الذات الفاعلة، وقوة السلب الكامنة في الموضوع، طبيعياً كان الموضوع أم اجتماعياً - اقتصادياً وسياسياً، يتصل بالبنى والمؤسسات.

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن الموضوع، موضوع المعرفة - العمل ليس شيئاً خارج الذات كلياً، أو غريباً عنها، ولكنه مستقل عن الذات، غير منفصل عنها، وهي غير منفصلة عنه (الاستقلال لا يعني الانفصال والانقطاع، بل هو علاقة، هي علاقة كائن مستقل بكائن آخر مستقل ومختلف، علاقة تأثير وتأثر متبادلين. الذات ليست خارج الوجود الفيزيقي، كما هي ليست خارج الوجود الاجتماعي، بل هي / هو كون مختلف، من بين كائنات مختلفة.

يحصل الالتباس، وهو حاصل بالفعل، من مطابقة المعرفة المجردة والوجود المجرد؛ أي من ثنائية الماديِّ (الفيزيقي) والروحي (الميتافيزيقي)، وهي ذاتها ثنائية الفكر والامتداد الديكارتية، ووحدتهما التي تبدِّد الفيزيقي تارة، والميتافيزيقي تارة أخرى. هذا يعني تجريد الإنسان إلى فكر مطلق أو روح مطلق، في أحسن الفروض. (أسوأ الفروض هو اعتبار الإنسان تجلياً لروح مطلق، ظلاً على جدار كهف أفلاطون، وليس كائناً بذاته ولذاته أو من أجل ذاته، هو فردٌ - نوعٌ). فإذا كان الفرد الإنساني، زيد أو هند، هو أو هي وحدة الفرد والنوع، ووحدة الأنوثة والذكورة، ووحدة الأنا والآخر/ الأخرى، فمن الحريِّ كونه (كونها) وحدة الذات والموضوع ووحدة الشكل والمضمون، لا يستقيم هذا إلا باعتبار الفرد الإنساني (الفرد - النوع، أو الكائن الكلي) هو الذات، والذات هي الفرد الإنساني، هذا مدخل نظري إلى فهم الاغتراب الذاتي، ومسلك عملي لتقليص مظاهره وآثاره، استناداً إلى وحدة النظر والعمل.

الموضوع "الخارجي" لا يتحول إلى صورة ذهنية لدى الذات فقط، بل يتضمن خصائص الذات التي وُضعت فيه، بوساطة العمل، ذهنياً كان العمل أم ذهنياً - يدوياً. الخشب الذي هو موضوع عمل النجار، يصير منضدة أو خزانة، بفعل العمل وأدواته. ومن ثم، فإن المنضدة أو الخزانة عمل متبلور، بل معرفة متبلورة أو مموضعة، بتوسط العمل. وذات النجار الفاعلة تكتسب، بعد صنع المنضدة أو الخزانة، معرفة موضوعية، تحوِّل المعرفة السابقة على التجربة إلى معرفة ناتجة من التجربة. وهذا ما يعبر عنه بالقول إن الموضوع يتذوَّت، والذات تتموضع، وهذا هو المغزى العميق لمفهوم البراكسيس.

غير أن هذا لا يستنفد المسألة، لأن علاقة الذات بالموضع تتضمن ثلاثة أبعاد: بعد شخصي (فردي) وبعد اجتماعي، (خاص)، وبعد إنساني (عام). وهي بثلاثة أبعادها هذه لا تكون إلا ملازمة لعلاقة الذات (الأنا) بآخر / آخرين، أو بأخرى / أخريات، متأثرةً بها ومؤثرة فيها، وهذا هو معنى الطابع الاجتماعي والطابع الإنساني للمعرفة - للعمل، مجرداً كان العمل أم مشخصاً، كعمل النجار.

ومن ثم، علينا أن نقول: إن علاقة الفرد الإنساني بعالمه علاقة مزدوجة دوماً، هي علاقة ذات بموضوع، وعلاقة أنا بآخر أو أخرى، أي علاقة ذات بذات، في الوقت نفسه. وإن علاقة الذات بذات أخرى مختلفة عنها، هي علاقة جدلية، ديالكتيكية أيضاً، نسميها علاقة تذاوت، أي تحول كل من حدي العلاقة إلى الآخر، لينتج تركيب جديد ليس أياً من الحدين. فالشخص (س) حين يرتبط أو ترتبط بعلاقة، من أي نوع، مع شخص آخر (ص) لا يظل الشخص هو نفسه، كما كان أو كانت، قبل قيام هذه العلاقة، مهما كان التأثر والتأثير طفيفين. فلكل علاقة تذاوتية مردود معرفي ونفسي وسلوكي، اجتماعي، وفي المحصلة، إنساني، كما لكل علاقة ذات بموضوع مردود اقتصادي. هذا يعني أن الثروة المادية التي يحصِّلها أي مجتمع لا تنفصل عن ثروته الروحية، وليس من السهل معرفة الحدود الفاصلة - الواصلة بين هذين النوعين من الثروة، في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية، بل إن هذين النوعين من الثروة وجهان متلازمان للمجتمع المعني.

إن علاقة الفرد الإنساني بعالمه علاقة مزدوجة دوماً، هي علاقة ذات بموضوع، وعلاقة أنا بآخر أو أخرى، أي علاقة ذات بذات، في الوقت نفسه

المردود المعرفي - النفسي - السلوكي المشار إليه هو ما صار يطلق عليه اسم "رأس المال الاجتماعي"، و "رأس المال الثقافي"، اللذين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ولا يمكن فصلهما عن رأس المال (الاقتصادي والمالي)، ومن الصعب تبيُّن الحدود الفاصلة - الواصلة بين هذه الأشكال الثلاثة لرأس المال. وقد ألمح كارل ماركس إلى ذلك إلماحاً، بلغته، حين تحدث عن قيمة السلعة، التي لا تظهر جلية، على أنها مقدار العمل الاجتماعي اللازم لإنتاجها، مقيساً بالزمن، إلا في التبادل[2]، فأطلق عليها اسم "القيمة التبادلية". ولا يخفى أن التبادل عملية / عمليات اجتماعية - اقتصادية جارية جريان نهر الحياة، الذي لا يمكن الاستحمام في مائه مرتين متتاليتين، بل هي عملية / عمليات اجتماعية - إنسانية في المقام الأول، لأن الإنسان كائن تبادلي أصلاً. فالتبادلية هي الصفة الملازمة لفاعليته / انفعاليته الحية، في جميع مجالات الحياة، في أيّ زمان ومكان.

بلغة موضوعنا، يمكن القول: إنه بموجب العلاقة بين الذات والموضوع، تغترب الذات في الموضوع، تذهب فيه، تنتقل بعض خصائها إليه، بتوسط العمل، أو الإنتاج، سواء ظل ناتج العلاقة، أي ناتج العمل، في حوزة الذات الفاعلة أم اغترب عنها، وصار ملكاً لآخر أو أخرى، بالمبادلة أو الإهداء أو البيع أو الغصب أو المصادرة ... إلخ.

ولكن، ماذا نقول في ناتج علاقة الذات بذات أخرى أو ذوات أخرى، ماذا نقول في علاقة التذاوت، إذ لا بد من انتقال بعض خصائص كل من الذاتين إلى الأخرى؟ ليس لدينا ومن الصعب أن نجد إجابة واحدة مقنعة؛ أولا لأن علاقة الذات بذات أخرى كثيرة التنوع، وقليلة الاستقرار، يعتريها مد وجزر متراجحان، وأقل ثباتاً ودواماً، قياساً بعلاقة الذات بالموضوع. وإذ تنطوي علاقة الذات بالموضوع على إرادة الفاعل / المنفعل الحرة حريةً نسبية، على افتراض أن العامل أو المنتج، يعمل لحسابه أو ينتج لنفسه، تنطوي علاقة الذات بذات أخرى على إرادتين، يفترض أنهما حرتان ومتكافئتان، ما يجعل العلاقة أكثر تضمُّناً وتعقيداً، بحكم اختلاف الأفراد اختلافات لا حصر لها.

فإذا اختل شرطا الحرية والتكافؤ، إذ لا يختل أحدهما من دون اختلال الآخر، يمكن الحديث عن "اغتراب الذات في الآخر" اغتراباً من أخص خصائصه أنه يحول دون التذاوت، ومن ثم، يحول دون التشارك الحر والمبادلات العادلة. وعلى الصعيد الاجتماعي - السياسي يحول دون المواطنة المتساوية. هذا النوع من الاغتراب هو سمة العلاقات الشاقولية، في البنى البطركية وسائر النظم غير الديمقراطية.

باختلال شرطي الحرية والتكافؤ، لا بد أن تختل وحدة المعرفة والوجود، وتضطرب، لأننا لا نتحدث عن معرفة مجردة وخالصة ووجود مجرد وخالص، بل عن معرفة، هذا الفرد أو ذاك، في هذا المجال أو ذاك، وعن وجود متعيِّن، لا معنى له إن لم يكن هنا والآن، حسب المتلكم/ـة، كل متكلم/ـة.

اغتراب الذات في الآخر، ينفي الذاتية والآخرية في الوقت نفسه، (ونفي الآخرية هو نفي الذاتية عن الآخر، لأن كل فرد هو أنا وآخر أو أخرى)، أي إن الاغتراب في الآخر ينفي البعد الاجتماعي - الإنساني للعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات، ويجعل من هذه العلاقات مجرد علاقات قوة، أو علاقات سلطة، ولا فرق، وفقاً لأي معنى من معاني السلطة وأي شكل من أشكالها.

في ظل هذا النوع من الاغتراب الذاتي، ينفصل وجها الديالكتيك المشار إليهما أحدهما عن الآخر، نعني الديالكتيك "المادي" والديالكتيك الاجتماعي - الإنساني؛ فينتفي التساوق بين النمو المادي (الاقتصادي والمالي) والنمو الاجتماعي الإنساني. ولذلك اتخذ مفهوم "التنمية الاجتماعية" معنى تقنياً، هو تأهيل القوة البشرية تعليمياً وصحياً وتقنياً .. لمقتضيات العمل الأجير، الذي لا يزال ينطوي على نوع من عبودية خفية، سواء في البلدان الصناعية المتقدمة، أم في البلدان الأقل فالأقل نمواً وتقدماً. وهذه الأخيرة تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط العمل اللائق، الذي يحفظ كرامة العامل/ـة، ولا سيما عمل النساء والأطفال.

"التنمية الاجتماعية"، بمعناها الشائع، لا تهدف إلى شيء أكثر من توفير الشروط اللازمة لحفظ قوة العمل الأجير وإعادة إنتاجها (التعليم والصحة والسكن ومياه الشرب والصرف الصحي والتدفئة والمواصلات ... إلخ). الطابع اللاإنساني لـ "التنمية الاجتماعية" يكمن في جعل البشر موضوعاً للتنمية، التي لا يخلو أن تأخذ أشكالاً قسرية أو شبه قسرية، لذلك يعارضها المتخصصون، اليوم، بالتنمية الإنسانية الشاملة والعادلة، والمنصفة للفئات المحرومة تاريخياً.

وللقول صلة

[1]- وولتر ستيس، الفلسفة الهيغلية، في المكتبة الهيغلية، المجلد الثاني، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996. ص 113

[2]- كارل ماركس، رأس المال، الكتاب الأول، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي، بيروت، 2013، ص 71 وما بعدها.