التسامح منسوخاً والسيف ناسخاً


فئة :  مقالات

 التسامح منسوخاً والسيف ناسخاً

 التسامح منسوخاً والسيف ناسخاً([1])

- «وعن قوله جلّ وعزّ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البَقَرَة: 109] فأمر الله عزّ وجلّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم ويصفح حتى يأتي الله بأمره، ولم يؤمر يومئذٍ بقتالهم، فأنزل الله عزّ وجلّ في براءة، فأتى الله فيها بأمره وقضائه، فقال: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلى {وَهُمْ صاغِرُونَ} [التّوبَة: 29]. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وأمر فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يفدوا بالجزية»[2].

- «الأول أنّ الأمر بالقتال وإباحـتـه في كلّ مكان وكلّ زمان ناسخٌ لجـميع ما جاء في القرآن ممّا فيـه الصبر على الأذى من المشركين واللين لهم والصفح والإعراض عنهم والعفو والغفران لهم والجنوح لهم والجنوح للسلم إذا جنحوا لها»[3].

يختصر هذان المقتطفان مسار مبدأ التسامح في الإسلام بصفته رسالة محكومة بالفهم والتأويل البشريّين، وتاريخاً له شروطه الخاصة. والقيم، على الرغم من طابعها الإنساني المجرد ظاهراً، لا تتعالى هي الأخرى على التاريخ وظروفه وملابساته. فما فهمه الإنسان ماضياً من العدل والحرية والمساواة والتسامح وغير هذا من القيم مختلفٌ عمّا يفهمه منها إنسان الحاضر، فضلاً عن الاختلاف البين على صعيد محوري الزمان والمكان، وفي مستوى الأشكال والنظم التي فُعّلت من خلالها تلك القيم، وحُوّلت إلى قوانين أو قواعد تنظم وجود البشر وعلاقاتهم. ولا شكّ في أنّ أكثر الخطابات احتفاء بالقيم وتبشيراً بها ودعوةً إليها الخطابات الدينية المقدسة، فما الأديان في تمثّلات المؤمنين بها إلا رسالات جوهرها قيم تتمثّل في إطلاقها، وتنفّذ في حدود شرطها التاريخي، فتعكس أزمانها وأمكنتها. ولما كانت هذه الخطابات لا تنفصل عن مؤوليها وقرّائها، فإنّ ما أُجرِيَ عليها على مرّ التاريخ من التأويلات والقراءات ساهم هو الآخر في تثبيت صلتها بتاريخها وبعوامله وظروفه، وبآفاق قرائه المعرفية، فتحولت قراءاتها المتراكمة عبر تاريخ التقبل هي الأخرى إلى سياق من السياقات الفاعلة فيها والمؤثرة في متقبّليها.

يتفاوت عدد آيات السلم والتسامح المنسوخة بآيات الحرب والقتال من علم إلى آخر من أعلام الصحابة والتابعين، ومن مؤلفي كتب النسخ

ومن القيم، التي تحمل في طبقات تشكلها الدلالي آثار تاريخها، قيمة التسامح. وقد اتّخذت في القرآن صوراً شتى منها ما هو من مضمون الرسالة، ومنها ما يتعلق بأساليب تبليغها والدعوة إليها، ومنها ما يؤدي وظيفة تنظيم العلاقات الداخلية في صلب أمة الرسالة، ومنها ما هو أعلق بتنظيم العلاقات الخارجية بينها وبين غيرها من الأمم والشعوب والقبائل. ولكنّ اللافت للانتباه أنّ عدداً من الرواة من أجيال مختلفة ذهبوا إلى أن عدداً من الآيات المعبرة عن قيمة التسامح قد نُسخت بآيات «الجهاد» أو «القتال» أو «السيف»، الأمر الذي تشهد به كتب النسخ. ويتفاوت عدد آيات السلم والتسامح المنسوخة بآيات الحرب والقتال من علم إلى آخر من أعلام الصحابة والتابعين، ومن مؤلفي كتب النسخ، حتى أنّ منهم من ذهب إلى أنّ آية السيف[4] وحدها نسخت أزيد من مئة آية من الآيات التي تنصّ على معنى من معاني التسامح، ومن هؤلاء ابن حزم. يقول: «الإعراض عن المشركين في مائة وأربع عشرة آية هنّ في ثمان وأربعين سورة»[5]. ويستعرضها ثم يعلّق عليها بقوله: «نَسَخَ الكلَّ بقوله عزّ وجلَّ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في سورة التوبة»[6]. ويُحمل هذا القول على افتراض أنّ مقولة النسخ، فضلاً عن كلّ الإشكاليات المعرفية والمنهجية التي تطرحها، والتي كان كثير من الفقهاء والمفسرين والأصوليين على وعيٍ بها، مقولة تأويلية، وأنّ النسخ مفهوم منهجيّ وأداة من أدوات التأويل والقراءة كثيراً ما اتّخذها الفقهاء آلية شرعنت عندهم التصرف في دلالات النص الحكمية خاصة، وشرعنت من ثمة تدخّلهم في توجيه ما عدّوه تشريعاً إسلامياً منزّلاً. وهو ما يدعو إلى التساؤل عن كيفيات توظيف مقالة النسخ ومسوّغاته، وعن النتائج التي ترتبت على ذلك سواء في المستوى التشريعي-المعياري من جهة، أم في مستوى الواقع العملي-التاريخي والفعلي من جهة أخرى.

الآيات المنسوخة والآيات الناسخة أو مسار التأسيس الفقهي للعنف[7]

الآيات المنسوخة

الآيات الناسخة

* سورة البقرة2: الآية 62 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا}

* منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عِمرَان: 85].

* البقرة 2/83.

* منسوخة بالتوبة 9/29.

* البقرة 2/109.

* منسوخة بالتوبة 9/29 {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}.

* البقرة 2/190.

* منسوخة بالتوبة 9/36.

* البقرة 2/192.

* منسوخة بالتوبة 9/5.

* البقرة 2/217.

* منسوخة بالتوبة 9/29.

* البقرة 2/219.

* منسوخة بالتوبة 9/103.

* البقرة 2/256.

* منسوخة بالتوبة 9/29.

* آل عمران 3/20.

* منسوخة بآية السيف.

* النساء 4/63.

* منسوخة بآية السيف.

* النساء 4/64.

*منسوخة بالتوبة 9/80.

* النساء 4/71.

* منسوخة بالتوبة 9/122.

*النساء 4/80-81-84-88.

* نسخت جميعها بآية السيف.

* النساء 4/90-91-92.

* نسخت بالآية الأولى من التوبة.

* المائدة 5/2، 13.

* نسختا بآية السيف.

 

الآيات المنسوخة

الآيات الناسخة

* المائدة 5/13.

* نسخت بالتوبة 9/29.

* المائدة 5/99.

* منسوخة بآية السيف.

* الأنعام 6/70.

* نسخت بالتوبة 9/29.

* الأنعام 6/91، 104 و106 و107 و108 و112 و137 و135 و159.

* نسخت بآية السيف.

*الأعراف 7/180.

* منسوخة بآية السيف.

* الأعراف7/جزء من الآية 199 {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}.

* منسوخ بآية السيف.

* الأنفال 8/61.

* منسوخة بالتوبة 9 /29.

* التوبة 9/1-2.

* منسوخة بالتوبة 9/29.

* يونس 10/41 و102 و108.

* منسوخة بالتوبة 9/5 (آية السيف).

* هود 11/121 و122.

* منسوختان بآية السيف.

* الرعد 13/40.

* منسوخة بآية السيف.

* الحجر 15/3 و85 و88 و89.

* منسوخة بآية السيف.

* النحل 16/ 82، 106، 125، 128.

* منسوخة بآية السيف.

* الإسراء 17/15، 25 و54.

* نسخت بآية السيف.

* مريم 19/39 و75.

* نسختا بآية السيف.

* مريم 19/الآية 84.

* نسخ أولها بآية السيف.

* طه 20/130 و135.

* نسختا بآية السيف.

 

الآيات المنسوخة

الآيات الناسخة

* الحج 22/56 {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}.

* نسختها آية السيف.

* المؤمنون 23/54، 97 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

* نسختها آية السيف.

* الفرقان 25/63 {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً}.

* منسوختان بآية السيف.

* النمل 27/92 {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ}.

* «منسوخة في حق الكفار بآية السيف، وبعض معناها محكم في حق المؤمنين»[8].

* القصص 28/55 {وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ}.

* منسوخة بآية السيف.

* العنكبوت 29/46 {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

* منسوخة بالتوبة 9/29 {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}.

* الأحزاب 33/48 {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.

* منسوخة بآية السيف.

* سبأ 34/25 {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ}.

* منسوخة بآية السيف.

*فاطر 35/23 {إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ}.

* «نسخ معنى الآية لا لفظها بآية السيف»[9].

* الصافات 37/174، 175، 178و179.

* منسوخة بآية السيف.

 

الآيات المنسوخة

الآيات الناسخة

* ص38/70 و88.

* نسختا بآية السيف.

* الزمر 39/3 و15، 22، 36، 39 و46.

* منسوخة بآية السيف.

* غافر40/ 55 و77.

* منسوختان بآية السيف.

* فصلت 41/34.

* منسوخة بآية السيف.

* الشورى 42/6، 15.

* منسوختان بالتوبة 9/29.

*الشورى42/ الآية 48.

* منسوخة بآية السيف.

* الزخرف 43/83 و89.

* منسوختان بآية السيف.

* الدخان 44/59.

* منسوخة بآية السيف.

* الجاثية 45/14.

* منسوخة بآية السيف.

* الأحقاف 46/35.

* منسوخة بآية السيف.

* محمد 47/ 5.

* «نسخ المن والفداء بآية السيف»[10].

* ق 50/39.

* «نسخ الصبر بآية السيف»[11].

* جزء من الآية [ق: 45] {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ}.

* نسخ بآية السيف.

* الطور 52/48.

* «نسخ الصبر منها بآية السيف»[12].

* النجم 53/29.

* منسوخة بآية السيف.

* القلم (ويسميها ابن حزم سورة ن) 68/44 و48.

* نسختا بآية السيف.

* المعارج 70/42.

* منسوخة بآية السيف.

 

الآيات المنسوخة

الآيات الناسخة

* المزمل 73/10، 11 و19.

* «قيل نسخت بآية السيف»[13].

* المدثر 74/11.

* «يعني به الوليد بن المغيرة المخزومي، نسخت بآية السيف»[14].

* الإنسان 76/24، 29 نسخ التخيير.

* منسوختان بآية السيف.

* الطارق 86/17 {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ}.

* منسوخة بآية السيف.

* الغاشية 88/22 {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}.

* نسخت بآية السيف.

* التين 95/8.

* نسخ معناها بآية السيف.

* الكافرون 109/6 {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

* منسوخة بآية السيف.

مجموع المنسوخ 112 آية.

المجموع.

آل عمران 3/85: نسخت آية واحدة.

التوبة 9/1-5-29-: نسخت سائر الآيات 122.

والملاحظ، عند استقراء كتب الناسخ والمنسوخ، أنّ عدد الآيات المنسوخة بالآيتين (5 و29) من التوبة يرتفع كلما تقدمنا في الزمن، بينما يقل عما جاء في المصدر الذي اعتمدنا عليه كلما تراجعنا إلى فترة الإسلام المبكّر. وإضافة إلى العامل الزمني نقف على وجه آخر من وجوه الاختلاف بشأن المسألة نفسها يعود إلى المواقف الفردية، حيث نجد من الفقهاء والمفسرين وسائر المعتنين بالقرآن وعلومه، من آفاق مختلفة ومن عصور متفاوتة، مَن يتفقون على عدد الآيات المنسوخة بآية السيف. وفي الجدول الآتي بعض الشواهد:

المصادر

الناسخ

المنسوخ

قتادة (118هــــ)

آيتا التوبة 9/5-29

10 آيات

الزهري (124هــــ)

آيتا التوبة

7 آيات

النحاس (338هــــ)

آيتا التوبة/الحج 22/39

12 آية

البغدادي (429هــــ)

آيتا التوبة/البقرة 2/285

17 آية

ابن حزم (456هــــ)

آية السيف

112 آية

ابن العربي (543هــــ)

آيتا التوبة

128 آية

الكرمي (1033هــــ)

آية السيف

101 آية

وإذا نظرنا في مضمون الآيات المنسوخة من جهة معجمها وحقوله الدلالية وجدنا النتائج الآتية:

- الصبر على المختلفين عقيدةً، سواء من المشركين أم من أهل الكتاب، وتحمّل أذاهم، واللين لهم، والعفو عنهم، والغفران لهم؛ وهي المعاني التي نجدها في عدد مهم من الآيات التي عُدَّت منسوخة بآيات القتال، على غرار البقرة (2/109) {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}، والنساء (4/81) {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}، والأنعام (6/70) {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً ولَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا}، والأنعام (6/91) {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، والأعراف (7/199) {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}.

- الجنوح إلى السلم، والوعظ، والتذكير بآيات الله، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما يظهر في كثيرٍ من المواقع من هذه الآيات التي صُنِّفت ضمن المنسوخ، كما هو شأن الأنفال (8/61) {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}.

- الدعوة إلى الانصراف عن فرض الذات واختياراتها واعتقاداتها على الغير، وعدم إكراههم على ما ليسوا به مقتنعين كما جاء في يونس (41): {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ}، وفي يونس (99): {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

- قصر دور الرسول على البيان والبلاغ، كما جاء في الرعد (40): {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ}.

وتشتمل الآيات المنسوخة على أبعاد متنوعة تشترك في الانتساب إلى حقل دلالي واحد هو التسامح، التسامح الديني؛ ويتجسد سلوكياً في الامتناع عن العمل على تغيير عقائد الناس بالشدّة والعنف، وفي الدعوة إلى ما تراه الذات «دين الحق» بالرفق واللين، وفي الاقتناع بأن الدين لله وبأن المحاسبة عليه مخصوصة به وحده، وأن اختلاف عقائد الناس ظاهرة وحقيقة قائمة أرادها الله لحكمة لا يدركها كل الناس. كما يشتمل هذا التسامح على بعد اجتماعي يتجسد سلوكياً في احترام الناس لذواتهم أو «لتقواهم» لا لعرقهم أو لموقعهم الاجتماعي، فلا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، كما يتجسد في قيمة الإحسان، الإحسان إلى ذي الحاجة بصرف النظر عن أي اعتبار، وقيمة التكافل التي تمتن الروابط الاجتماعية وتساعدها في تجاوز الاقتصار على رابطتي الدم والولاء القبلي وحدهما.

هذه هي عموم الحقول الدلالية التي يرتبط بها المعجم القرآني المستخدم في الآيات التي عدّها أغلب الفقهاء والمفسرين منسوخة بآيات «القتال».

أما الحقل الدلالي الغالب على معجم الآيات الناسخة، فإنه يتأسس على أفعال القتال وما جرى مجراها، وعلى «السيف» وما يرمز إليه من دلالات العنف والقتل والحرب.

وما القول بالنسخ في هذا السياق إلا استبدال لاستراتيجية في التعامل مع المختلف تقوم على الرفق والتحمل والصبر على اختلافه والرضا به طالما أنه يجسد حكمة إلهية باستراتيجية أخرى تبدو نقيضاً للأولى تتّخذ من «السيف» رمزاً لها وعلامة عليها. فهل لهذا الاستبدال علاقة حقاً بالنسخ؟ أَهو «قرار إلهي» فعلاً كما يشير القائلون بنسخ آية السيف لكل آيات التسامح، أم هو قرار الفقيه توسل إليه بمقالة النسخ؟

يبدو الانتقال الذي عرفه المسلمون ودولتهم فاعلاً في مقولة النسخ، ومؤثراً في تفعيل الآيات الناسخة على حساب الآيات المنسوخة؛ فقد شهد المسلمون، منذ الهجرة من مكة إلى المدينة، مساراً انتقالياً من وضع المستضعفين إلى وضع الجماعة الفاعلة، التي ما فتئت تتقوّى بوساطة الجمع بين ثلاث استراتيجيات: استراتيجية البيان: الدعوة إلى الإيمان بالموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن؛ استراتيجية السياسة: وذلك عن طريق الإدارة المركزة في شخص الرسول والتدبير الموزع على الصحابة وأسياد الجماعات المنضمّة إلى الدعوة، استراتيجية الحرب: وذلك عن طريق الغزو. ولم تكن هذه الاستراتيجيات الثلاث متعارضة كما تبدو في الظاهر، ولا هي مرتبة ترتيباً تاريخياً كما ذهب البعض ممن فسروا ارتفاع حدة الخطاب الحربي في القرآن بالانتقال من مكة إلى المدينة، ومن ثمة بتوسع الجماعة[15]؛ بل إنّ هذه الاستراتيجيات ظلت قائمة ومعمولاً بها ثلاثتها وفقاً لما تقتضيه المقامات من جهة، وطبيعة المجموعات المستهدفة بالدعوة، ونوعية ردود أفعالها من جهة أخرى، وبناء على التمييز بين الفتح عنوة والفتح صلحاً حدّد الفقهاء أحكام الذمّة.

ولم تكن مقولة النسخ وحدها آلية اتخذها أولئك الذين عدّوا أنفسهم مسؤولين عن استئناف المشروع المحمدي بعد وفاته، ومحملين برسالة نصرتها في العالمين، من أجل تحويل القرآن عن مبدأ التسامح في بعده الديني خاصّة، واعتبار هذا المبدأ منسوخاً بآيات القتال أو الجهاد؛ بل إن التأويل الذي أجراه هؤلاء على مفهومي الجهاد والقتال، والوجهة التي وجّهوهما إليها، كانا فعالين بدورهما في تثبيت هذا المسار العنيف الذي جرى إليه فهم الصحابة والتابعين، وفي جعله الفهم الوحيد المشروع والممكن الذي على سائر الأجيال اللاحقة أن تتبعه وتسير في ركبه اقتداء بالسلف الصالح. وقد نهض هذا الفهم على:

- الربط الآلي والضروري بين الجهاد والقتال، وهو ربط تزامن تاريخياً مع طور تحول الجماعة من أقلية مسالمة تحتاج إلى الحيلة وإلى حسن التدبير وإلى البيان بالتي هي أحسن، من أجل الإقناع بدعوتها والحمل على تبنيها والانضمام إليها مع المحافظة على وجودها، إلى جماعة ما فتئت تتكاثر عدديا وتتدعّم بوساطة الأحلاف والسياسة والدعوة. في هذا الطور لم يعد الجهاد يعني، من بين ما يعنيه، بذل الجهد والطاقة من أجل تجاوز الحدود التي قد تحول دون الغاية، ولم يعد الجهاد سبيلاً يمكن أن يتوسل بأكثر من آلية حتى يصل إلى غايته؛ بل أصبح الجهاد يعني بصفة قطعية القتال، قتال كلّ من يرفض الدخول تحت سلطة الدعوة/الدولة، وهو المعنى الوحيد المستفاد من تخصيص المحدثين والفقهاء أبواباً قائمة بذاتها في الجهاد بهذا المفهوم نفسه، وأصبحت الآلية الوحيدة في سبيل الجهاد هي «السيف»، وهو ما يفسر التوجه الواسع نحو اعتبار «آية السيف» ناسخة لكل الآيات التي تنصّ على الدعوة بالتي هي أحسن، ولم يعد الجهاد طريقة من الطرق الممكنة التي تقتضيها مقامات بعينها ووضعيات لها شروطها؛ بل أصبح الجهاد الحربي المقاتل بوساطة السيف غاية في ذاته بدليل أنه تحول في الحكم الشرعي الذي ثبّته المحدّثون والفقهاء إلى فرضٍ قد يختلفون في تصنيفه فرض كفاية أو فرض عين، لكنهم يجمعون على اعتباره كذلك.

وحتى في حال ظلت مقولة النسخ عاجزةً عن إبطال الأثر التشريعي لكثير من الآيات التي تحثّ على العفو والصفح والغفران والوعظ والمجادلة بالتي هي أحسن؛ لأن هذا القول تحول دون إثباته الشروط التي وضعها علماء القرآن من المفسرين والفقهاء فالأصوليين أنفسهم، ومن بينها خاصة القطع بأن الآية الناسخة متأخرة النزول عن الآية المنسوخة؛ إن سائر آليات التأويل تتكفل بذلك. ومن بينها آلية تستثمر التمييز بين الآيات الحكمية والآيات الوعظية أو الخبرية. فالعديد من الآيات، التي قيل إنّها منسوخة بآية السيف، لا تتوافر على شرط الأسبقية (أسبقية المنسوخ على الناسخ)، وغيرها لا يتوافر على شرط التعارض (فلا نسخ إلا في ما ثبت تعارضه مع ما يعدّ ناسخاً له)، فضلاً عن كونها آيات لا أحكام فيها حتى يكون للقول بالنسخ في شأنها معنى، على غرار الآيات التي يرد فيها إخبار بما كان بين المسلمين وغيرهم من علاقات سواء في مكة أم في المدينة، وهي آيات بعضها يحثّ على الرحمة والإحسان. وعلى الرغم من أنه يصعب الجزم بأن سورة براءة كانت من أواخر ما نزل من القرآن، ولم يأتِ بعدها سوى سورة النصر، كما هو شائع في الروايات[16]، فإن الشك في استقامة مقالة النسخ نفسها يدعو إلى الشك كذلك في ما رُوي من كون سورة براءة كانت من آخر ما نزل في القرآن، طالما أنّ هناك من الروايات ما يذهب هذا المذهب. جاء في (تاريخ القرآن): «ترتيب آخر يوجد في تاريخ الخميس (طبعة القاهرة، ص10) (...) يقدم السورة التاسعة (سورة التوبة) على السورة الخامسة (سورة المائدة)»[17]. كما جاء في المرجع نفسه رواية عن سعيد بن المسيب «يعود بها إلى علي ومحمد نفسه (...) يجعل السورة (53) (سورة النجم) آخر السور المدنية»[18]. وتتواتر الروايات التي تذهب المذهب نفسه في مخالفة الشائع من كون سورة التوبة كانت آخر السور المدنية نزولاً، وتظهر معها اختلافات كبيرة في الروايات حول ترتيب نزول السور والآيات تجعل من الصعب الركون إلى أي رواية أو حتى مجرد ترجيح رواية على أخرى، وهو أمر يرجعه نولدكه إلى عوامل من بينها ضعف المبادئ النقدية التي قام عليها ذلك التراث من الروايات ضعفاً فادحاً يجعل محاولة الإقناع بترتيب زمني دقيق لتاريخ النزول «محض خيال»[19].

هل ترجح هذه النتائج إمكانية القول بأن الروايات بشأن اعتبار سورة التوبة آخر ما نزل من السور المدنية كانت في الحقيقة تابعة لمقالة النسخ، التي اقتضت تقديم ما عدته منسوخاً بآية السيف زمنياً على نزول هذه الآية الناسخة بحسب قولهم؟ وإن كان كذلك فبِمَ نفسر هذه الصناعة؟

إن التزامن التاريخي بين انتصار الإسلام ودولته وتحولها إلى «دولة إمبراطورية» تمتدّ على مجال جغرافي واسع، وتبسط نفوذها على شعوبه من جهة، وتشكُّل هذه الروايات في نسق يندرج تحت ما عُرف بعلوم القرآن من جهة أخرى، يدعونا إلى التفكير في فرضية أن تلك القراءات، التي سلمت بنسخ آية السيف لجميع ما جاء في القرآن مما فيه «الصبر على الأذى من المشركين، واللين لهم، والإعراض عنهم، والعفو والغفران لهم، والجنوح للسلم إذا جنحوا لها»[20]، كانت في الحقيقة قراءة المنتصر المسنودة بالانتقال من منطق الدعوة إلى منطق الدولة.

من الدعوة إلى الدولة أو مسار مأسسة العنف:

كانت الدعوة، خلال الفترة المكيّة الأولى، تعتمد على الحمل بالحسنى على الاقتناع بوساطة تنويع الحجج واشتقاقها من «عالم خطاب المتلقّين وما يشتمل عليه من كفايات منطقية وثقافية ونفسية ولغوية وبلاغية ليسهل عليهم بناء الحجة بأنفسهم انطلاقاً من الكلام المعروض عليهم»[21]، فكان التركيز على مفاهيم كان لها حضورها في السياق الثقافي العام، وقد يكون لها كذلك أثر نفسي في متلقٍّ شكلت تلك المفاهيم جزءاً من تركيبته الذهنية والنفسية.

القائلين بأن التسامح مبدأ وقيمة أساسيان في القرآن لم يبطلهما النص حتى في حال القول بالنسخ، بنوا رأيهم هذا على إعادة تفعيل شروط النسخ

يركز منطق الدعوة، في تصورنا ووفقاً لاستقرائنا تاريخ الإسلام منذ لحظة الوحي إلى أن استكملت الدولة بناء أهم مقوماتها، على نوع معين من المخاطبات يقتضي معجماً ونظاماً ومضموناً تحددها سياقات المتخاطبين ووضعياتهم ومقاصد الخطاب وغاياته. وعلى الرغم من أن هذه القاعدة تصدق على مختلف أنواع المخاطبات، ومن ثمة تعدّ مداخل ضرورية لتحليلها، فإن ظاهرة التحول السريع، الذي أحاط بكل أبعاد الوجود العربي منذ أن مسّته الظاهرة الإسلامية، ترتبت عليها تحولات جوهرية في مستوى سياقات الخطاب، ومن ثمة اقتضت تفعيل نمط معين من الخطاب القرآني على حساب نمط آخر. ولم يكن هذا التفعيل ليكون مجدياً دون تأسيسه أصولياً، وذلك بوساطة أحد «علوم القرآن» وهو علم الناسخ والمنسوخ. لذلك نرى أن القول بأن سورة براءة هي آخر ما نزل من السور المدنية، ومن ثمة القول بأن آية السيف قد نسخت كل الآيات التي تبدو متعارضة معها، والتي ترسم استراتيجية في نشر الدعوة مخالفة للاستراتيجية التي يحتملها ويقتضيها منطق الدولة المنتصرة والقوية والقادرة على أن تفرض توجهاتها على الشعوب التي دخلت تحت نفوذها، كان في الحقيقة إحدى الآليات الخطابية المساندة لذلك المسار. كانت استراتيجية الدعوة الموجهة في البداية إلى قوم الرسول، التي لم يكن يشاركه في الإيمان بها وفي الاستعداد للعمل على نشرها إلا فئة قليلة تُعدّ في مجملها من أكثر فئات المجتمع المكّي هشاشة، قائمة على الإقناع بالتي هي أحسن، وعلى الصبر على أذى المشركين، وإبداء الاستعداد لقبول المختلف، وهي، بعبارة أدق، استراتيجية التحمّل، والتحمّل يُعدّ بعداً من أبعاد التسامح الذي «يمتد ليشمل أفقاً عريضاً؛ فهو يبدأ من القبول، فالتحمل، فتأمين الآخَر الأجنبي بقناعاته وسلوكياته المختلفة، وصولاً إلى تقدير هذه القناعات والسلوكيات على أن لها القَدْرَ ذاتَه من القيمة والمقام مثل القناعات والسلوكيات الخاصة»[22]. وكان ذلك يعني في تلك المرحلة تحمّل أذى قريش والصبر عليه والقبول بالاختلاف في الاتجاهين من أجل ضمان قبول قريش باختلاف الذين اقتنعوا باعتناق الدين الجديد، والكفّ عن إلحاق الأذى بهم. أما في المرحلة المدنية، فإن القبول كان المبدأ الذي تحكّم في علاقة المسلمين من المهاجرين والأنصار بالجماعات الأخرى المختلفة، التي كانت تستوطن المجال الجغرافي نفسه، ولاسيما يهود يثرب. في سياق استراتيجية القبول والتحمل إذاً كانت الآيات المفعّلة هي تلك التي تتناسب مع هذين المبدأين، وقد يكون في هذا تفسير للفهم الذي ذهب إليه عموم المسلمين آنذاك بشأن الدعوة إلى العفو والصفح الواردة في الآية {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البَقَرَة: 109]؛ هذه الدعوة التي تتنزل في صلب استراتيجية القبول والتحمل بصفتها استراتيجية الدعوة في طورٍ كان خلاله المسلمون قلّة في مواجهة «آخرَيْن» مختلفين سماهما «المشركين» و«أهل الكتاب». في هذه الفترة لم يظهر القول بأن آية السيف نسخت كل الآيات التي فيها ذكر للصبر والتحمل والصفح والإعراض، وإنما ظهر مثل هذا القول وشاع عند من ألّفوا في الناسخ والمنسوخ في مرحلة لاحقة، مرحلة انتصار الدولة وتحولها إلى دولة إمبراطورية كما أسلفنا، ما يرجح، في نظرنا، ما ذهب إليه جودرون كريمر من أن تسامح التحمّل «يستند إلى دوافع براغماتية ترتبط باشتراطات معيّنة تجعل من الممكن الرجوع فيها»[23]. لقد شكل انتقال المسلمين، بفضل انتصار الدولة، إلى وضع صاحب النفوذ والسلطان، مقابل انتقال غير المسلمين إلى وضع الخضوع لسلطان الدولة الإسلامية، اختباراً حقيقياً يُمتحَن على محكّه ما حفل به النص القرآني من إرشادات تحثّ على التحمّل والتقبل والعفو والتسامح وعدم الإكراه في الدين. ولكن هيمنة الاتجاه الفقهي-التشريعي في التعامل مع القرآن أدت إلى جملة من النتائج من بينها «تهميش» مجمل القيم والإرشادات العامة التي تستعصي على الضبط ضمن قواعد فقهية دقيقة مقابل التوسيع من دائرة التشريع الديني ليشتمل على السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية، فكان أن تدخل الفقيه والأصولي، بوساطة مقالة النسخ، «لإبطال» كل الإشارات القرآنية الدالة على التسامح وقبول الاختلاف بدعوى أنها منسوخة بآية جاءت مرتبطة بوقائع محددة وبسياق مضبوط وبشروط واضحة. وبهذا ظهر «تسامح التقبل» في المرحلة السابقة محكوماً بالفعل بدوافع براغماتية، ومرتبطاً باشتراطات سهّلت الرجوع فيه لتحل محله أحكام مفصّلة نظمت من جهة علاقة المسلمين بغيرهم من المختلفين دينياً تنظيماً يحكمه «السيف» بصفته رمزاً لاختيار العنف سبيلاً في التعامل مع المختلف، يقوم على الإخضاع المطلق لسلطة الدين وسلطة الدولة في آن، كما نظمت من جهة أخرى علاقة الدولة الإسلامية بــ «رعاياها» من غير المسلمين على قاعدة ما استقر في «أحكام أهل الذمة»، وهي أحكام أمّنت -لا محالة- للمجموعات المختلفة دينياً التي يقبل اختلافها، لأنّها من «أهل الكتاب»، العيش تحت حماية الدولة الإسلامية، كما أمنت لهم الاحتفاظ بدينهم ضمن حدود مضبوطة بدقة وتفصيل، إلا أنها أبانت من جهة أخرى عن «تسامح مشروط» بما تقتضيه مصالح الدولة ومصالح الأغلبية.

إن انتشار القول في كتب النسخ، التي ظهرت بعد القرن الثالث، بأن آية السيف، وما يجري مجراها من الآيات التي يوجد فيها ذكر للقتال، نسخت أكثر من مئة آية من الآيات التي نصّت على الصبر والتحمل وعدم الإكراه، كان الآلية الأشدّ فعالية في قطع مسار «التسامح الممكن» في الاتجاه الذي يمدّ أفقه ليشتمل على أبعاد أرقى يشتمل عليها مفهوم التسامح، ومنها تأمين الآخَر الأجنبي بقناعاته المختلفة، وصولاً إلى تقدير هذه القناعات، واعتبار أن لها القَدْرَ ذاتَه من القيمة والمقام مثل القناعات الخاصة بالذات، وذلك ما لا يضمن تحقّقه بالاقتصار على التسامح سلوكاً فردياً أو قيمة أخلاقية وسلوكية؛ بل يضمنه تقنين التسامح بتحويله إلى قواعد قانونية تنظم العلاقات الفردية والجماعية؛ إذ لم يكن هذا المسار في الحقيقة خاصاً بالإسلام ودولته؛ بل هو مسار مشترك بين الأديان التوحيدية الكبرى وما نشأ في مجالها واستناداً إليها من الدول، فالعنف ضدّ المختلف، ورفض اختلافه، والعمل على إخضاعه لسلطان الدولة ولدينها الرسمي، حقيقة تاريخية[24] لم يكن بالإمكان تغييرها إلا بحدوث تغيرات جوهرية في المنظومة التاريخية بكلّ عناصرها، من بينها تبلور كلّ من النظام المؤسّس على دولة القانون ومفاهيم حقوق الإنسان.

تحيي الخطابات، التي تمجد اليوم «التسامح الإسلامي»، الآيات التي عدّها كثير من الفقهاء منسوخة بآيات السيف والقتال، وكأنّها تتجاهل هذا القول، أو تعيد فيه النظر. وهذا في الحقيقة معبّر عن قراءة أخرى متأثرة بسياقاتها الخاصة. ففي سياقٍ أصبح فيه القولُ بحرية الضمير والمعتقد مبدأ فاعلاً في تشكيل الضمير والوعي الحديثين، ومؤسساً للنظم القانونية الوضعية الحديثة، لم يعد من السهل على المسلم التسليم بذلك الفهم، الذي قاد إلى إبطال مفعول آيات التسامح مقابل تفعيل آيات السيف والقتال. لذلك برزت مواقف سعى أصحابها إلى مراجعة تلك القراءات، وإعادة النظر في الآليات التي استندت إليها. ومن جملة الإشكاليات التي طُرِحت في هذا السياق إشكاليّة المفارقة بين نصٍّ يؤمن المسلمون بكونه وحياً منزلاً، وهو من ثمّة متعالٍ على الزمن وعلى الظرف، وسياقٍ متغيّرٍ متحوّل يستحيل إخضاعه لتعاليم النص إخضاعاً حرفياً، كما يزعم العقل الفقهي. ومن منطلق الوعي بهذه الإشكالية ظهرت جملة من التصورات المختلفة لعدد من الحلول التي تصوّرها أصحابها ضرورية للخروج من مآزق التمسك بحرفية النصوص. وفي ما يخص موضوعنا يمكن أن نلاحظ أن القائلين بأن التسامح مبدأ وقيمة أساسيان في القرآن لم يبطلهما النص حتى في حال القول بالنسخ، بنوا رأيهم هذا على إعادة تفعيل شروط النسخ، فذهبوا إلى أن التعارض الحكمي بين الآيات الناسخة وعدد كبير من الآيات التي عُدَّت منسوخة غير قائم، وأن الآيات التي لا تحتوي على حكم لا يشتمل عليها النسخ، هذا إضافة إلى تفعيل الشروط التي تنصّ عليها آيات القتال، ومن بينها أنه لا يستقيم إلا في حالة ردّ الاعتداء، ومن ثمة الدفاع عن النفس، وهو ما يترتب عليه إبطال القول باعتماد القوة سبيلاً لفرض الإسلام عنوةً على من لا يقتنع به انسجاماً مع المبدأ النصي «لا إكراه في الدين». لكن هذا لا ينفي رؤية مخالفة يمثلها «الإسلام السياسي»، التيارات المتطرفة والعنيفة فيه خاصة، حيث تتمسك هذه الرؤية بحرفية النص من جهة، وبما استقر عند السلف من مسلمات من بينها أن آية السيف قد نسخت كل الآيات التي تشير إلى طرق مغايرة في التعامل مع المختلف دينياً. ومن ثمة إنّ هذه القراءة تستند بدورها إلى النص وتزعم الوفاء لتعاليمه.

وهكذا تشترك القراءات، على اختلاف أدواتها ومنطلقاتها وغاياتها، في ادّعاء الوفاء للنص حرفاً أو روحاً ومقصداً، بقدر اشتراكها في الدلالة على أنّ مفهوم الإسلام، ديناً وتاريخاً، للتسامح عاجز إلى حد اللحظة عن تخطي حدود تسامح التحمّل، وهو تسامح يقرّ بأن تعدّد الأديان، شأنه في ذلك شأن تعدد الشعوب والقبائل والألسنة، معبّر عن إرادة إلهية قد لا يدرك البشر حكمتها، ولكن عليهم الخضوع لها. لذلك «تحمّل» المسلمون غير المسلمين بينهم ضمن حدود وشروط معينة تضمن تفوقهم وسيادتهم، وتحملت الدولة الإسلامية «رعاياها» من غير المسلمين مراعاة لذمة العهد، ووفرت لهم الأمن على النفس وعلى المعتقد، ولكن بشروط أيضاً وضمن حدود، ووجد هؤلاء إلى حدود العصر الحديث في حماية الدولة الإسلامية أماناً لم يجدوه في دول أخرى، ولكن لم يقدر التسامح الإسلامي قط على تجاوز تلك الحدود ليتبع نسق تطور الوعي الحديث في اتجاه ينسجم مع مبادئ حرية المعتقد والضمير وحق الاختلاف ومعاملة كل العقائد والتوجهات معاملة المساواة؛ إذ تقف في وجه هذا التطور عقبات منها ما هو سياسي يتمثل خاصة في تعثر «دولة القانون» في المجال الإسلامي، وفي التهميش المتواصل المسلط على القوى المدنية المطالبة بدولة تكفل لكلّ مواطنيها التقدير الكامل على قاعدة المساواة في المواطنة بصرف النظر عن كل الاعتبارات الخارجة على حدود هذه القاعدة، بما فيها الاعتبار الخاص بالمعتقد، وهي بسبب ذلك التهميش مازالت دائرة تأثيرها في المجتمع وفي الذهنيات العامة محدودة. ومن تلك العقبات التحفظات التي تتبناها جماعات الإسلام السياسي خاصة، والمحافظون من ذوي المرجعية الإسلامية عامة، وهي تحفظات تستند إلى حجج دينية مازالت تجد لها آذاناً صاغية في مجتمع تغلب عليه النزعة التقليدية المحافظة هو الآخر.

 

قائمة المصادر والمراجع

- المصادر:

- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن (597هــــ)، المصفى بأكف أهل الرسوخ في علم الناسخ والمنسوخ، تح. حاتم صالح، مؤسسة الرسالة، ط1، 1984م.

- ابن حزم الأندلسي، الناسخ والمنسوخ في القرآن، تح. عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1986م.

- ابن دعامة، قتادة (118هــــ)، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى، تح. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، سلسلة كتب الناسخ والمنسوخ، (د.ت).

- ابن شهاب الزهري، محمد بن مسلم (142هــــ)، كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تحقيق ودراسة مصطفى محمود الأزهري، دار ابن القيم/دار ابن عفان، الرياض، ط1، 2008م.

- ابن العربي، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تح. عبد الكريم العلوي المدغري، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (د.ت)، مجلدان.

- البغدادي، عبد القاهر، كتاب الناسخ والمنسوخ، تح. حلمي كامل أسعد عبد الهادي، دار العدوي، عمان، (د.ت).

- الكرمي، مرعي بن يوسف (1033هــــ)، قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن، نسخة إلكترونية، ص28:

http: //www.al-mostafa.info/data/arabic/depot/gap.php?file=000120-www.al-mostafa.com.pdf

- النحّاس، أبو جعفر محمد بن أحمد (338هــــ)، كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، المكتبة العلامية، القاهرة، 1938م.

- المراجع:

- الجابري، محمد عابد، مدخل إلى القرآن الكريم، ج1: في التعريف بالقرآن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2006م.

- صولة، عبد الله، الحجاج في القرآن من خلال خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي، كلية الآداب منوبة ودار المعرفة، بيروت/تونس، ط2، 2007م.

- كريمر، جودرون، الديموقراطية في الإسلام: الكفاح من أجل التسامح والحرية في العالم العربي، ترجمة نرمين الشرقاوي، مؤسسة الشرقاوي، القاهرة، 2015م.

- نولدكه، تيودور، تاريخ القرآن، تعديل فريديريش شيفالي، فيسبادن، دار نشر ومكتبة ديتريش، 2000م.

- Denis Crouzet, Les guerriers de Dieu: la violence au temps des troubles de religion, vers 1525-vers1610, Editions Champ Vallon, 2005.

 


[1] - نشر هذا البحث ضمن كتاب "التسامح في الثقافة العربية: دراسة نقدية"، الجزء الأول، إشراف ناجية الوريمي، مؤمنون بلا حدود

[2] - ابن دعامة، قتادة (118هــــ)، الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى، تح. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، سلسلة كتب الناسخ والمنسوخ، ص33.

[3] - الكرمي، مرعي بن يوسف (ت 1033هــــ)، قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن، نسخة إلكترونية، ص28:

http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot/gap.php?file=000120-www.al-mostafa.com.pdf

[4] - آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة 9، ونصّها: {فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

[5] - ابن حزم الأندلسي، الناسخ والمنسوخ في القرآن، تح. عبد الغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1986م، ص12.

[6] - المصدر نفسه، ص18.

[7] - اعتمدنا على مؤلف ابن حزم (الناسخ والمنسوخ)، وسنقارنه لاحقاً بغيره من مؤلفات مماثلة في الموضوع.

[8] - ابن حزم، الناسخ والمنسوخ، (م.س)، ص49.

[9] - المصدر نفسه، ص51.

[10] - المصدر نفسه، ص56.

[11] - المصدر نفسه، ص57.

[12] - المصدر نفسه، ص58.

[13] - المصدر نفسه، ص63.

[14] - المصدر نفسه، ص63.

[15] - إن صعوبة الجزم بترتيب معين للقرآن بحسب تاريخ النزول، كما سنبين لاحقاً، يحول دون الاطمئنان إلى هذا التعليل.

[16] - انظر: نولدكه، تاريخ القرآن، ص55-56. نشير كذلك إلى أن هذا الترتيب هو نفسه الذي يعتمده الأزهر، ويقدمه على أنه الترتيب الرسمي بحسب تاريخ النزول، انظر: الجابري، محمد عابد، مدخل إلى القرآن الكريم، ص240.

[17] - نولدكه، تاريخ القرآن، (م.س)، ص55.

[18] - المرجع نفسه.

[19] - المرجع نفسه، ص57.

[20] - ابن العربي، الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، تح. عبد الكريم العلوي المدغري، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (د.ت)، مج2، ص246.

[21] - صولة، عبد الله، الحجاج في القرآن من خلال خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي، كلية الآداب منوبة ودار المعرفة، بيروت/تونس، ص604.

[22] - كريمر، جودرون، الديمقراطية في الإسلام، الكفاح من أجل التسامح والحرية في العالم العربي، ترجمة نرمين الشرقاوي، مؤسسة الشرقاوي، القاهرة، 2015م، ص88.

[23] - المرجع نفسه.

[24] - Denis Crouzet, Les guerriers de Dieu: la violence au temps des troubles de religion, vers 1525-vers1610, Editions Champ Vallon, 2005.