نقد العلمانية عند طلال أسد كفرصة للبحث عن سبل جديدة للخطاب
فئة : ترجمات
نقد العلمانية عند طلال أسد كفرصة للبحث عن سبل جديدة للخطاب[1]
الملخص:
في المجتمعات الديمقراطية، يُعدّ إبعاد الدين عن الحياة العامة أمرًا مُسلّمًا به. في هذه الورقة، نشير إلى نقد طلال أسد لهذا الأمر المُسلّم به. ومن خلال منهجه الجينيالوجي، يسعى أسد إلى تتبّع أصل هذا الإقصاء للدين من المجال العام إلى المجال الخاص. يجادل بأن مفهوم العلمانية هو، في المقام الأول، تعبير عن سلطة أولئك الذين يصرّون على العقل المُستنير. وفي الوقت ذاته، تُصبح العلمانية، من بعض الوجوه، بمثابة دين جديد، الدين الوحيد المقبول في المجتمع الديمقراطي.
وبينما نشير إلى الأسباب التي أدّت إلى عملية العلمنة، نلفت أيضًا الانتباه إلى الجوانب الإشكالية في مثل هذا التصوّر للدين. وينبغي أن تأخذ استجابة الكنيسة في الحسبان عملية العلمنة، دون أن تنجرّ إلى نفس المنطق الذي قاد إلى هذه العملية في المقام الأول. نشير هنا إلى الخطر الكامن في تعميق الفصل بين المقدّس والدنيوي، وبين الجسدي والروحي، وهو ما يتجلّى حتى في بعض الحركات الدينية الجديدة. ومن ثم، نقترح شكلًا من أشكال الإعلان (أو التبشير) يشمل الإنسان في كليّته، ويخاطبه في تفاصيل حياته اليومية.
********
يبدأ رودني ستارك كتابه عن التدين المعاصر بالعبارة التالية: "العالم أكثر تدينًا مما كان عليه في أي وقت مضى" (ستارك، 2015). وفي بحثه الاجتماعي، يقدّم حجة قوية لدعم هذا الادعاء الأولي. غير أن كثيرين منّا، العاملين في مجال الرعاية الرعوية، قد يجدون صعوبة في الموافقة على ذلك. فالتجربة اليومية تُظهر أن المشاركة الدينية في تراجع مستمر؛ الكنائس الفارغة تنطق بذلك بوضوح. كما تشير الأعداد المتناقصة لممارسة الأسرار المقدسة والإحصاءات الديموغرافية الأخرى إلى تراجع مظاهر التدين، أو على الأقل هذا ما نستنتجه بسهولة.
غالبًا ما يُستدعى مفهوم العلمانية لشرح هذا الوضع. ونميل في كثير من الأحيان إلى الاستنتاج بأن الحديث عن الله والدين في الفضاء العام أصبح أمرًا شبه مستحيل اليوم. يقول سيسيبويه: "جميعنا مشبّعون بإيمان عام هو نوع من الإلحاد العملي" (سيسيبويه، 1999، ص. 19). غير أن الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج يستدعي، بطبيعة الحال، التمييز بين ما يُعرف بـ"العالم الغربي" وأجزاء أخرى من العالم، حتى عندما يتحدث الدليل الجديد للتعليم المسيحي PCPNE)، 2020، ص. 103 (عن الثقافة المعاصرة، فإنه يشير إلى العلمنة التي يُفترض أنها نموذجية للعالم المسيحي: "على مرّ القرون، وصلت تلك المجتمعات التي تشكّلت بفعل الثقافة المسيحية على وجه الخصوص إلى أزمة ثقافية ناجمة عن علمنة مفرطة أدّت إلى مفهوم مشوّه للاستقلالية. وأصبحت المعايير الوحيدة المقبولة هي تلك القائمة على الإجماع الاجتماعي أو الآراء الذاتية، وغالبًا ما تكون مناقضة للأخلاق الطبيعية" (سيسيبويه، 1999، ص. 103).
تُفهم العلمانية هنا بوصفها أزمة تطال الثقافة بأسرها، تنبع من فهم مغلوط لفكرة الاستقلالية، حيث تصبح للفرد الكلمة الأولى والأخيرة.
في هذا السياق، تُطرح قيمة المجتمع التعددي — أي حرية الاختيار بين أنظمة القيم المختلفة — بوصفها أساس المجتمع الليبرالي الحديث (دونيجاني، 2017، ص. 26). ويرى الدليل الجديد للتعليم المسيحي أن هذا التصوّر يُشكّل أحد أسباب أزمة الثقافة (PCPNE 2020، ص. 103).
ومع ذلك، من المهم أيضًا الإقرار بأن الديمقراطية الحديثة، وحقوق الإنسان، وتعدّد القيم، قد نشأت ضمن بيئة تأثّرت تأثرًا عميقًا بالمسيحية. كما يقول دونيجاني: "إن المسيحية هي التي أسّست في التاريخ هذه اللامبالاة تجاه الاختلاف، من أجل الحفاظ على كرامة كل إنسان" (دونيجاني، 2017، ص. 36).
في هذا السياق العالمي والتعددي، يُفهم مفهوم العلمانية بشكل مختلف. وبلا شك، تمثّل العلمانية تحدّيًا حقيقيًّا لإعلان البشارة المسيحية اليوم، كما يذكر الدليل الجديد للتعليم المسيحي. لكن تركيز النص ينصبّ على ما يُسمّى "العلمانية المفرطة". فمستوى معيّن من العلمانية هو ما جعل التعددية ممكنة، وهذه الأخيرة تُعدّ من الأسس التي تقوم عليها الإنسانية المسيحية ذاتها.
سنحاول أن نُظهر، من خلال نقد العلمانية كما قدمها طلال أسد، أن هذا المفهوم مرتبط جدًّا بالتقاليد المسيحية وبعيد عن أن يكون محايدًا وتعدديًّا من حيث التدين، كما تحاول العديد من المجتمعات السياسية الليبرالية إظهاره. سنحاول أيضًا أن نُظهر كيف، في المجتمع العلماني تحديدًا، تتطور ظاهرة الاغتراب الجذري عن العالم من خلال الحياة الدينية المعاصرة، حيث تتحول حركات التجديد المختلفة في العديد من الأديان بشكل متزايد إلى الداخل، وتدين العالم العلماني وتكون معادية إلى حد كبير للمجتمع الديمقراطي التعددي. يلاحظ ستارك أن الدين يبتعد بشكل متزايد عن العقلانية المسيحية التقليدية. "الإيمان بالروحانية غير الكنسية منتشر بشكل خاص بين الشباب، الذين يميلون إلى الإيمان بالظواهر الخارقة مثل التوقعات المسبقة والأجسام الطائرة المجهولة. (تم الإبلاغ عن ميل مماثل لتبني المعتقدات الباطنية والسحرية بين الطلاب في ألمانيا والنمسا، وكذلك في هولندا)" (ستارك 2015). لذلك، من المهم النظر في مسألة العلمانية ليس فقط من منظور اجتماعي وديني، ولكن أيضًا من منظور رعوي. إن العهد الذي تلقاه جميع المسيحيين في المعمودية لإعلان الخلاص من خلال يسوع المسيح هو الذي يلزمنا بذلك. في أوقات الأزمات، التي تمثلها العلمانية بالتأكيد للمؤمن، نكون ملزمين بالبحث عن طرائق جديدة للإعلان (موريل 2020، ص 11).
1. المنهج الجينيالوجي لطلال أسد
نشأ طلال أسد في باكستان، وتلقى تعليمه في المدارس الكاثوليكية. أثناء دراسته في إنجلترا، اكتشف بسرعة ازدراء خفيًّا وغير واعٍ للثقافات الأخرى، وخاصة للمتدينين في الفضاء العلمي الثقافي الذي يزعم الانفتاح. وعلى الرغم من أنه وخوسيه كازانوفا، كأحد أشهر المؤلفين المعترف بهم في تعريف العلمانية، غالبًا ما يتناقضان، إلا أن كازانوفا يحدد بوضوح نقطة انطلاق نقد أسد:
"إن النقد الأيديولوجي للدين الذي طوره عصر التنوير ونفذه سلسلة من الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين قد شكل نظريات العلمنة الأوروبية بطريقة جعلت هذه النظريات لا تعمل فقط كنظريات وصفية للعمليات الاجتماعية، ولكن أيضًا وبشكل أكثر أهمية كنظريات نقدية جينيالوجية للدين وكنظريات معيارية تيليولوجية للتطور الديني التي افترضت الانحدار الديني كغاية للتاريخ" (كازانوفا 2006، ص ص 17-18).
يصبح نقد العلمنة مفهومًا بشكل خاص عند النظر إليه من خلال إطار النقد الماركسي للسلطة، وهو ما اكتشفه طلال أسد عند وصوله إلى أوروبا؛ إذ يجادل بأن العلمنة تقترب من الدين من حيث كونها تعبيرًا خفيًا عن السلطة الاجتماعية. ولإثبات ذلك، يوظف أسد المنهج الجينيالوجي. وكما استكشف فريدريك نيتشه ظهور الأخلاق الحديثة من خلال هذا المنهج، وكما قام ميشيل فوكو بتطويره وتوحيده في دراساته حول السلطة والمعرفة، فإن أسد يوظف المنهج ذاته لفهم تطور الأنثروبولوجيا، لا سيما منهج "الملاحظة بالمشاركة" بوصفه وسيلة لفهم الحياة الملموسة وصياغة النظريات حولها في آنٍ معًا.
عندما يتعلق الأمر بالعلمانية والعلمنة، لا يمكن للجينيالوجيا الأنثروبولوجية النقدية أن تكون بديلًا عن البحث الاجتماعي والتاريخي كما نجده في كتب التاريخ الحديثة، بل تُعد بالأحرى طريقة لاستكشاف المواقف غير المتوقعة التي تفرضها علينا راهنيّتنا. الهدف من هذا المنهج هو التشكيك في المسلّمات السائدة، مع الإبقاء على افتراض أن بعض ما يتم تحليله يمتلك قدرًا من الحقيقة على أيّ حال. وبالتالي، فإن الأنثروبولوجيا المنشودة ينبغي أن تتحرّك بعيدًا عن اختزالها في مجرد تقنية بحث؛ أي المنهج الميداني القائم على وصف الخصوصيات المحلية وصفًا كثيفًا، كما صوّره كليفورد غيرتز، بل يجب أن تعود إلى التوجّه الذي حدّده مارسيل موس، أي "الاستفسار المنهجي في المفاهيم الثقافية" (أسد، 2003، ص ص. 16–17).
وفي هذا السياق، يجادل أسد بأن التحليل المفاهيمي قديم قِدَم الفلسفة ذاتها. وما يُميز الأنثروبولوجيا الحديثة، في رأيه، هو مقارنتها للمفاهيم الضمنية (التمثيلات) بين مجتمعات تنتمي إلى أزمنة وأمكنة مختلفة. ويكمن جوهر هذه المقارنة، لا في أصل المفاهيم (سواء كانت غربية أو غير غربية)، بل في "أشكال الحياة التي تُعبّر عنها، والقوى التي تُطلقها أو تُمكّنها" (فريز، 2006، ص. 117).
في بحثه الجينيالوجي، يتساءل طلال أسد: كيف توصّل المجتمع الحديث إلى هذا الفهم المحدّد للدين؟ ويلاحظ أن حتى أكثر التعريفات عمومية للدين تظل مشروطة تاريخيًّا، مما يجعل الوصول إلى تعريف عام، عالمي، وحقيقي للدين أمرًا مستحيلًا؛ ذلك لأن السعي نحو التعميم والتجريد؛ أي نحو وضع تعريفات شاملة، هو نفسه مشروط تاريخيًّا وثقافيًّا، ويرتبط بتطور العلوم الاجتماعية الغربية (أسد، 1993، ص. 29).
فالخطاب حول الدين لا يُفهم في عزلة، بل هو مضمّن دائمًا في سياقات أخرى من النقاشات والتفاهمات المجتمعية. وكما يشير كيسلر: "للخطاب حول الدين تاريخ، وهذا التاريخ هو ما يُحدد كيفية تطبيق مفهوم الدين" (كيسلر، 2012، ص. 204).
الحديث عن الدين، سواء من منظور عالم الأنثروبولوجيا، أو عالم الاجتماع، أو الفيلسوف، هو دائمًا تشكيل مفاهيمي يحدث ضمن إطار تأويلي معين. يجب استكشاف نقطة البداية هذه؛ لأنه فقط بهذه الطريقة يمكننا اكتشاف مصادر القوة التي تحدد صحة أو خطأ بعض الحجج والتعريفات. فالبحث عن التعريفات العامة مشروط بخلفية معينة، ويجب تحليل هذه الخلفية جينيالوجيًّا. يصف أسد هذا على النحو التالي، "بشكل عام، حاولت هنا عدم وصف التطور التاريخي من حيث تسلسل خطي للأفكار، كما يفعل كازانوفا وعلماء الاجتماع الآخرون غالبًا ('الإصلاح البروتستانتي' كسبب و'الحداثة العلمانية' كأثر)؛ لأن التحقيق الجينيالوجي يفترض شبكة أكثر تعقيدًا من الروابط والتكرارات مما تفعله فكرة السلسلة السببية" (أسد 2006، 210).
البحث الجينيالوجي، في حد ذاته، ليس غاية في ذاته، ولا يُجري لمجرد التحليل النظري، بل يسعى- وهي مهمة الأنثروبولوجيا في جوهرها — إلى فهم حياة الإنسان والمجتمع الحديث في علاقته بالدين. فهو لا يسأل عن الدور العالمي أو الأصل الأول للدين، بل يتوجّه نحو نوع مختلف من الأسئلة، مثل: ما هي الافتراضات المفاهيمية والأيديولوجية التي يفكر من خلالها الغرب الحديث - والأنثروبولوجيا على وجه الخصوص - في موضوع الدين؟ ما هو تاريخ القوة الذي نشأ من خلاله هذا الشكل من التفكير؟ وبأي طرائق - مفاهيمية، مؤسسية، وأيديولوجية - غيّر الفهم الغربي المعاصر للدين، بشكل جذري، أنماط حياة الشعوب التي غزاها وهيمن عليها؟ (سكوت، 2006، ص. 139).
2. أصول الفهم العلماني للدين
قبل تقديم نقد أسد لفهم الأديان، من المهم التأكيد أنه لا يرى العلمانية نوعاً من استمرار تطور 'التاريخ العالمي' أو نقيضاً للديني. بدلاً من ذلك، بالنسبة إليه، يتداخل الجانبان، العلماني والديني، ويعتمدان على بعضهما البعض بطرائق عديدة (شليركا 2017، 122). على وجه الخصوص، يكون نقل دور السلطة في المجتمع هو الأساس للتغيير في فهم الدين منذ فجر الحداثة؛ "النقطة التي أود التأكيد عليها هنا ليست فقط أن الدين والعلماني يتداخلان، بل (أ) كلاهما مشكل تاريخيًّا، (ب) يحدث هذا من خلال عمليات عرضية تجمع بين مجموعة متنوعة من المفاهيم والممارسات والحساسيات، (ج) يلعب القانون في المجتمع الحديث، دورًا حاسمًا في تحديد والدفاع عن تميز المساحات الاجتماعية - خاصة المساحة المشروعة للدين" (أسد 2006، 209).
إن التشابك والتداخل في فهم الدين والعلمانية المذكور أعلاه، هو أحد النقاط الأولى لنوع من التفكيك للتعريف العام للتدين الذي يتجاهل الشرطية التاريخية لنتائجه الخاصة. ففي نقده للفهم المعاصر للدين، يوضح أسد بعناية كيف أن التعريف العالمي للدين الذي اقترحه "جيرتز" يعتمد على بنية مفاهيمية مشبعة للغاية بالتطورات في الفترة الحديثة المبكرة عند التعامل مع المسيحية، وبالتالي لها نطاق محدود عند تحليل التقاليد الأخرى.
من المهم الإشارة إلى أن المشكلة التي حددها طلال أسد في نموذج "غيرتز" لا تكمن ببساطة في تفضيله لدين واحد (المسيحية) على حساب أديان أخرى، وهو أمر يمكن تجاوزه، من حيث المبدأ، عبر إزالة افتراضاته المسيحية والأوروبية -المركزية بعناية، بل تكمن الإشكالية الأعمق في أن فكرة الدين بوصفه فئة عالمية للتجربة البشرية مدينة بشكل مباشر للتطوّرات التي حدثت داخل اللاهوت المسيحي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتحديدًا مع بروز مفهوم "الدين الطبيعي"؛ أي الفكرة القائلة إن الدين سمة عامة لكل المجتمعات، تتجلّى في عالمية أنظمة المعتقد، وممارسات العبادة، ومدوّنات الأخلاق (سكوت وهيرشكايند، 2006، ص. 6).
عالم الأنثروبولوجيا، الذي يجب أن يكون مهتمًّا بالحياة الملموسة بحكم التعريف، يكون محاصرًا بشكل أكبر من خلال التركيز على تجربة التدين في هذا التعريف المقبول بشكل شائع للدين. إن التحول إلى التجربة الشخصية هو الذي ساهم بشكل كبير في "طرد" الدين من المجال العام.
مغالطة تعميم التجربة الشخصية كأساس للدين تشير إلى الطبيعة الإشكالية للعلمانية. في تطورها، استندت العلمانية على فكرة التجربة الشخصية للدين ونوع من الإيمان الشخصي الداخلي. عندما ينتقد أسد هذا، فإنه يفترض التجربة الشخصية.
على سبيل المثال، كان هذا أحد الأشياء التي، كما تعلم، بعد أن نشأت كمسلم متشدد، جعلتني في البداية متشككًا في بعض التعميمات في تصور "جيرتز" للدين. الافتراض بأنه يجب عليك أن تؤمن وبمجرد أن تؤمن، ستتبع أشياء أخرى لم يكن منطقيًّا بالنسبة لي، النظر إلى الطريقة التي نشأت بها. تلك المعرفة الشخصية للتقاليد الإسلامية مكنتني من البدء في التشكيك في الطريقة التي كان يُنظر بها إلى الدين في هذا الإطار التعميمي (أسد 2006، 282). فالتجربة الشخصية للإيمان، التي لها مكان راسخ في محاولة ويليام جيمس (2015) للتعريف العلمي، هي أحد المصادر المحتملة لفهم العلمانية المعاصرة، وكذلك علاقة المجتمع العلماني بالتدين.
وبالتالي، فإن فهم "جيرتز" للدين يبدو محدودًا، سواء لارتكازه على تقليد مسيحي معين يرى الدين، في المقام الأول، كبُعد للإيمان، أو لاعتماده على تصور حديث لمفهوم "الدين الطبيعي"، وهو تصور مشروط، بدوره، بشكل خاص، بالآراء الفلسفية لإيمانويل كانط. في هذا السياق، يُفهم الإيمان كبُعد عقلي داخلي مستقل، وهو، بحسب أسد، امتداد لإرث البروتستانتية. أما الخلفية الأنثروبولوجية التي ينطلق منها أسد في تفكيره النظري، فإنها تفضي إلى تصور شمولي للتدين، لا يمكن اختزاله في مجرد مجال "خاص" للتجربة النفسية أو الفهم الرمزي للحقائق الدينية.
على عكس الاتجاه الأنثروبولوجي المتزايد الذي يرى الثقافة كنظام نصي أساسًا - أي كنظام من الرموز، كما قال جيرتز - يُصرّ أسد على أن معنى الرموز يجب أن يُفهم في علاقته بالسياق العملي الذي تعمل فيه، وأشكال الانضباط الاجتماعي التي يتم من خلالها تحديد القراءات المسموح بها وتنفيذها. "عندما يقترب علماء الأنثروبولوجيا أو المؤرخون من الظواهر الثقافية كنصوص يجب قراءتها، فإنهم، بمعنى ما، يعتمدون موقف اللاهوت الحديث، الذي يرى الدين في المقام الأول على أنه يتعلق بتأكيد المقترحات المعبر عنها بشكل رمزي. هل يمكننا، كما يسأل أسد في هذا المقال، أن نفهم ماذا تعني [الرموز الدينية] دون مراعاة الانضباطات الاجتماعية التي تضمن قراءتها الصحيحة؟" (سكوت وهيرشكايند 2006، 7). وقد قاده المنهج الأنثروبولوجي القائم على العمل الميداني إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكننا تطبيق نفس المعايير على جميع البيئات والأزمنة. فالتدين، بطبيعته، هو بُعد خاص يتطلب، في سياقه التاريخي، التفكير في المسار الذي يؤدي إلى هذا الفهم من أجل الوصول إلى الفهم الحقيقي.
اعتراض أسد على التعريفات العامة للدين وعلى موقف جيرتز لا يتمثل في أن الأخير يهمل تأثير الدين على الفعل (أو القوة في الفعل)، بل في أنه يصوّر عالم الرموز الثقافي كشيء قابل للفصل منذ البداية عن الفعل في المجتمع، ثم يحاول، بطريقة عشوائية أو متأخرة، إعادة ربط الثقافة والعمل الاجتماعي. يُقال إن هذه المغالطة التحليلية تؤدي إلى مغالطة أخرى في مخطط جيرتز، وهي الأكثر خطورة: فصل الفكر عن الفعل الاجتماعي، مما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بالإدراكية. وهذه الأخيرة يمكن تعريفها على أنها الادعاء بأن الأفكار توجد أولًا في العقل، ولا تحتاج إلا إلى التعبير عنها من خلال الرموز أو العلامات من أجل التواصل والتفاعل عليها" (كاتون 2006، 35).
تُعد ميزة الفهم المعرفي للمجتمع ككل مشكوكًا فيها؛ لأنها لا تأخذ في الاعتبار الحياة الملموسة فعلاً - ففي هذه الحياة الملموسة، يكون السلوك هو الأهم. في العمل والسلوك، يتم التعبير عن القوة، ومكان القوة هو في قلب مشكلة العلاقة بين العلمانية والتدين. يقبل جيرتز، كما استُمدّ ذلك من ماكس فيبر، فكرة "الفعل الرمزي". وهذا الفعل هو نوع من الدافع الجوهري - دعم للعمل الشخصي والاجتماعي ينشأ من مجموعة رمزية (أنتر 2014، 15-16). إذا كانت العلمانية، بمعنى ما، تترك الحرية للتكوين الرمزي الشخصي للعالم والوجود، فإن هذا ليس هو الحال في الحياة العامة. ومن ثم، سيكون من المفيد قبول أحد الانتقادات الرئيسة لنهج جيرتز، وهو عدم اهتمامه الواضح بمشكلة القوة المؤثرة في اتخاذ القرار على المستويين الفردي والمجتمعي (كاتون 2006، 41). إذا أخذنا البصمة التاريخية لأسد على فهم العلمانية بجدية، يجب أن نرى أيضًا مسألة القوة، خاصة في ضوء المنهج الجينيالوجي، في هذا السياق. فالادعاء بأن تحول الديني من العام إلى الخاص هو إنجاز اجتماعي، يبلغ ذروته في تحرير البشر وكرامتهم الأساسية كأشخاص، يستند إلى حد كبير إلى حجة القوة. ولا يمكننا أن نتجاهل تفوقها. "في السياق الأوروبي، العلمانية هي مفهوم مثقل بمعانٍ متعددة مترسبة تاريخيًا، تشير ببساطة إلى الانكماش التاريخي طويل المدى الذي لا يمكن إنكاره لحجم وقوة ووظائف المؤسسات الكنسية مقارنة بالمؤسسات العلمانية الأخرى" (كازانوفا 2006، 16).
3. الدين كطريقة محددة للتنشئة الاجتماعية
يسعى أسد إلى استكشاف وفهم العلمانية بطريقتين؛ في القيام بذلك، يتبع جزئيًّا القواعد النحوية المتغيرة للمفاهيم المركزية للحداثة من حيث المعنى، مثل: العلمانية، المقدس، الدين، والأسطورة. يحدد هذه المفاهيم ضمن الجغرافيات الاجتماعية والسياسية لسلطة الدولة، والممارسة التأديبية، والخطاب الأكاديمي. من خلال هذه الجينيالوجيا، يتحدى أسد أيديولوجية "العلمانية" والسرد الكبير حول "العلمنة" الذي يهيمن على الأنثروبولوجيا، والقومية الليبرالية، والهيمنة الغربية على العالم، ويصفها بأنها ما قبل الحداثة (شولمان 2006، 154). القوة التي ليست واضحة وغالبًا غير مدركة غالبًا ما تكون أكثر تأثيرًا من القوة المباشرة والمرئية. وبالتالي، فإن مفهوم القوة الذي يستكشفه أسد في العلاقة بين العلمانية والدين يستند إلى افتراضين مركزيين: أولاً، أن الحداثة، وحتى ما بعد الحداثة، ليست متماسكة تمامًا ولا محددة بوضوح، وأن العديد من العناصر التي تعدّ نتيجة القرون القليلة الماضية لها أصولها في العلاقات بتاريخ الشعوب خارج أوروبا؛ ثانيًا، أن مشروع الحداثة لا يتعلق في المقام الأول بالاعتراف بالحقيقة، بل بالاعتراف بطريقة الوجود في العالم. ويضيف أسد على الفور: "نظرًا لأن هذا صحيح لكل عصر، فإن ما يميز الحداثة كعصر تاريخي يشمل الحداثة كمشروع سياسي اقتصادي" (2003، 14). في الواقع، يرتبط هذا المشروع السياسي ارتباطًا جوهريًّا بالعلمانية بوصفها أنطولوجيته ونظريته المعرفية (أسد 2003، 21). هذه الأسئلة الفلسفية - أو بمعنى لودفيغ فيتجنشتاين "النحوية" - ستكون مركزية للأنثروبولوجيا، التي تسعى منذ نشأتها إلى فهم غير المعتاد في الثقافات غير الأوروبية. وهي تسعى إلى تسجيل، وغالبًا تسجيل حرفي، معنى وتأثير الدين في ثقافات معينة، ليس أقلها من خلال التكوين الجينيالوجي ل "الآخرين" الخاص بهم.
عندما يتعامل عالم الأنثروبولوجيا مع الدين، يتم فحص هذا "الآخر" دائمًا في ضوء التراث "الحديث" و"العلماني". ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا النهج المنفتح والتعددي، يطرح السؤال كيف يتفق العالم بشكل عام على أن بعض الثقافات أفضل وأكثر ديمقراطية وتقدمًا. لا ينبغي أن نتجاهل، كما قال أسد، أن الولايات المتحدة حاولت مرارًا وتكرارًا تعزيز نموذج واحد وصحيح فقط للمجتمع في جميع أنحاء العالم. إذا لم ينجح هذا المشروع على نطاق عالمي، وإذا أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار بدلاً من التجانس، فذلك بالتأكيد ليس لأن أولئك الذين لديهم السلطة لتقرير شؤون العالم يرفضون عقيدة مصير إنساني واحد - حقيقة متعالية - لجميع المجتمعات (فريز 2006، 116)، بل إن الصراع بين المفاهيم المختلفة للمجتمع هو الملام. هذا ليس مجرد فشل في الفهم على مستوى الإدراك - إنه يتعلق بالحياة نفسها، بالسلطة السياسية والهيمنة.
شيء ما اكتسبته من ماركس في وقت مبكر جدًّا، كان الاعتراف بأن هياكل الهيمنة لا تحتاج إلى أن تكون متجذرة مباشرة في القوة أو الموافقة، بل في ما أسميته في ذلك الوقت "الاستبعاد الهيكلي"، وهو شيء مستقل عما قد يفكر فيه الناس بوعي. كانت كل من القوة والموافقة حالات من الوعي، لكنها كانت ذات أهمية ثانوية، كما اعتقدت، لشرح هياكل الهيمنة - سواء السياسية أو الفكرية (سكوت وأسد 2006، 249).
يقارن أسد هذا الموقف الداخلي للطاعة الذي تحققه الثقافة المسيطرة بالموقف تجاه الشخص المحبوب. الشخص الذي يغمره الحب لشخص آخر يعيش في قناعة بأنه يعيش نفس الحقيقة في علاقته مع ذلك الشخص. إنه في الوقت ذاته داخلي وخارجي، مع نفسه ومع الشخص المحبوب. بالطبع، يجب أن يكون السياق الجسدي والعاطفي والعقلي الذي تتواجد فيه هذه العلاقة صحيحًا حتى يتطابق الفرد معها. تظهر القوة، في هذه الحالة، على أنها تطابق بين قدرة الفرد وجميع الظروف العملية التي ساعدت في تشكيل رغبة شخصية ملموسة وتحقيقها بطريقة تنعكس في تلك العلاقة (أسد 2006، 213).
إذا عممنا هذا على الظروف الاجتماعية، فمن المفهوم أن العلامات والرموز، في حد ذاتها، لا تفسر اعتراف الإنسان (قبوله) بالسلطة، بل تفسر كيف تعلم الناس صنع الشعور وتذكر العلامات. أو (في مفتاح آخر) كيف يدركون علامات الشخص المحبوب عندما يقعون في الحب (أسد 2006، 214). إدراك العلامات ودمجها في حياة الفرد هو عملية تنشئة اجتماعية. إنها عملية نقل الطريقة "القديمة" المألوفة والمعتادة للتعامل مع الحياة إلى مواقف جديدة.
وعلى الرغم من أن المجتمع الحديث نشأ من تقليد التدين، فإنه يعتقد اليوم أكثر أو أقل أنه قد حرر نفسه منه. هذه العملية هي الأساس لخلق موضوع مستقل ونظام سياسي ديمقراطي. الديمقراطية في حد ذاتها جيدة، لكن أسد يخشى من سلطة الدولة الليبرالية بشكل رئيس؛ لأنها تعد بتحقيق "إرادة الشعب"، التي تنبع من تبرير كانت للاستقلالية الفردية. ليس الأمر أن هناك دوافع جيدة وسيئة للإجراءات التي تهدف إلى تحرير الناس وتخليصهم - بل ما هو خطر هو الإصرار على أنه لا حاجة للعنف والانتقام في "الخلاص" العلماني اليوم. "أنا أجادل أن فكرة الخلاص السياسي هي خارج المكان بشكل بشع في العالم العلماني، إنها خطر على السياسة ومحاكاة ساخرة للروحانية" (أسد 2006، 237).
في عالمنا الحديث، حيث يتم تقديم السياسة الديمقراطية غالبًا على أنها أعلى خير عام، فإن الله ليس ميّتًا ولكن، في رأيه، قد تجسد كإنسان - أي في مجموعة من الناس الذين يحكمون أنفسهم أخلاقيًا والمتحدين في سياسة يمكن تسميتها بسهولة سياسة "متسامية". لذلك، يمكن للدول الديمقراطية الليبرالية، التي يبدو أنها تمثل وتدافع عن الإنسانية ككل، أن تقرر مسألة الحياة والموت. إنهم يريدون تعميم سياسات الولادة وتنظيم الرعاية الصحية، وتحديد الحروب العادلة ووصف الولاية القضائية الدولية، وإجراء أنواع مختلفة من التدخلات المسلحة ذات الطابع الإنساني (أسد 2006، 237).
لهذا السبب بالذات، من المفيد والضروري تتبع تطور مفهوم العلمانية. والأهم من ذلك هو كيف يعمل اليوم: يتم اعتباره أمرًا مفروغًا منه ويحدد أيضًا المواقف تجاه "الآخر"، خاصة تجاه التدين الذي "يرفض التحرك مع العصر" لأنه يتمسك بالتقاليد عن كثب.
التقليد هو أيضًا مساحة، حيث يختبر المرء تنوع الأوقات ويواجه مجموعة متنوعة من الذكريات والتحديات اليوم (نيزيتش غلافيتشا 2019، 195-96). هذا يعطي العادات المكتسبة وزنًا معينًا من السلطة والانفتاح. لذلك، كما يقول، فإن الجينيالوجيا هي طريقة لإعادة سرد التاريخ من خلال تتبع الأحداث غير المتوقعة التي اجتمعت لخلق تطور يبدو طبيعيًّا.
لكن التقليد، بالطبع، ليس مجرد مسألة جدال - في الواقع الجدال هو في الغالب هامشي بالنسبة إليه. التقليد يتعلق في المقام الأول بالممارسة، حول تعلم نقطة الممارسة وأدائها بشكل صحيح وجعلها جزءًا من الذات، شيء يضم مفهوم موس عن الهابيتوس. بالطبع هذا لا يعني أن التخصصات التقليدية التي تتم من خلالها زراعة فضائل معينة تنتج دائمًا ما صُممت من أجله. حتى الرهبان الذين كتبت عنهم في جينيالوجيات الدين عرفوا ذلك جيدًا، عندما استخدموا فكرة الخطيئة الأصلية، وجميع المعترفين عرفوا (أو على أيّ حال كان من المفترض أن يعرفوا) عن هشاشة الفضيلة البشرية (أسد 2006، 234).
يجلب التقليد معه ثقة أكبر بالنفس وفكرة أكثر ثباتًا للموقع الأخلاقي والمعرفي في السياقات المتجسدة والتاريخية. وفقًا لألسدير ماكنتاير، تأخذ حياتنا شكل سرد درامي متجسد، وهكذا من منظور التقليد، يجب فهم كل تأكيد في سياقه الملموس على أنه عمل شخص يفهم نفسه، وقد جعل نفسه مسؤولاً عن تعبيراته في المجتمع. هذا له تاريخ من خلاله ظهرت مجموعة مشتركة جدًّا من القدرات على الفهم والتقييم والاستجابة لتعبيرات الفرد (سكوت 2006، 144). في تصور ماكنتاير للتقليد، يؤكد أسد على إمكانية التفسيرات المختلفة، مساحة الجدال في استقبال ما تم تسليمه. لذلك، فإن الفكرة القديمة أن التقليد يعني شيئًا لا يمكن الجدال فيه، ونظيرتها العصر المتنور الجديد من الجدالية، لا يمكن الدفاع عنها. تبني التقليد ليس آليًا - كل دين يفترض فشل التعليم، والتنشئة الاجتماعية. لذلك، فإن التقليد هو أولاً مساعدة ثم توجيه للحياة المشتركة. ما يخيب ظن أسد في ماكنتاير هو إهماله للجسد:
لأن الجدال نفسه متشابك مع الجسد بأكمله، فإنه يستدعي دائمًا أجسادًا تاريخية، أجسادًا موضوعة ضمن تقاليد معينة، بإمكانياتها من الشعور، والقابلية للتأثر، والشك. الكثير من هذا هو جزء من تجربة الجميع حول ما هو الجدال. نحن نعلم أنها ليست مسألة "العقل" ببساطة. الجدال دائمًا متجذر في العمليات الزمنية. إنه دائمًا متجسد (سكوت وأسد 2006، 288).
يُظهر أسد أنه في الفهم الليبرالي للتدين، الإيمان، كعملية روحية بحتة هو جوهر الدين - وكخاص، حميم، حقًّا خاص بالمرء. هذا الفهم للتدين يعود إلى التمييز الحاد بين العقل والجسد الذي تم تقديمه في الفترة الحديثة المبكرة. تم تبنيه أيضًا من قبل بعض اللاهوتات المسيحية، بينما يتغير لغة الدين لتتوافق مع الرؤية المسيحية الحديثة للحياة، لا تتغير طريقة الحياة فحسب، بل يتغير الجسد وحواسه أيضًا.
أحد الجوانب الحاسمة لذلك هو التمييز بين "الذات الحقيقية" (الذاتية) والذات التقليدية - الذات "الظاهرية". جانب آخر هو التمييز الحاد بين مادية الجسد والعقل المنتج للمعنى. ترتبط لغة الذات "الحقيقية" ومظهرها الخارجي ارتباطًا وثيقًا بالإصلاحات في المسيحية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، التي وفرت إمكانيات للتطورات العلمانية (أسد 2018، 90).
هذا التحول في العقلانية ووضع الديني في بُعد داخلي ليس، في رأيه، مسيحيًّا نموذجيًّا:
لكن، كما تعلم، المسيحيون منذ العصر الحديث المبكر قد اعترضوا على هذا التمييز. [...] الجسد، بالطبع، متشابك في تقاليد التربية. ليس فقط الجسد المادي، ولكن الجسد في قدرته على استشعار الأشياء، أن يُقنع ويقتنع. لذلك أنا أقل اهتمامًا بالجسد ببساطة كموضوع لنوع معين من الهيمنة، شيء كتب عنه الكثير. هذا يهمني أقل. لقد قلت غالبًا إن أخذ فكرة "الموضوع المطيع" لتعني العامل الذي يستغله رأس المال، المرأة المضطهدة من قبل الأبوية، كل هذا جيد جدًّا، لكن ليس هذا المعنى الذي يهمني في المقام الأول. أشير إلى أصل كلمة "مطيع"؛ أي "قابل للتعليم". لذلك، أنا مهتم بـ "الموضوع المطيع" كشخص قابل للتعليم، وبالتالي كشخص لديه القدرة على أن يُعلم. الجسد المُعلم هو الذي يكون "الإيمان" (كفرضية واعية لما هو الحال في العالم، أو كاقتراح يوافق عليه المرء) ثانويًا في أحسن الأحوال (سكوت وأسد 2006، 287).
الطقوسية، السلوك المتعلم، هو جوهر تعليم التدين. هذا أيضًا ما يحدث مع الحداثة العلمانية: إنها تقدم مفهومها الخاص للجسد، وسلوكياتها الخاصة التي يتم طقوسيتها وقبولها دون وعي في عملية التنشئة الاجتماعية. في كل مرة نواجه فيها تحدّيًا جديدًا وما تعلمناه لا يعمل، يتم التشكيك في هذا "الطقس"، ويتم البحث عن طرائق جديدة لتطبيقه - وهكذا نخلق تقليدًا جديدًا. لهذا السبب، فإن التقليد، وفقًا لأسد، أكثر سيولة واعتمادًا على الزمن ومنفتحًا من معظم تعريفات الثقافة - وهو لا ينظر فقط إلى الماضي، ولكن إلى المستقبل أيضًا (سكوت وأسد 2006، 289). في هذا الدور من التقليد، يكون تبني الأنماط مركزيًّا، وليس آليًّا وإنما ديناميكي. مثل هذه العملية من التقليد متأصلة أيضًا في العلمانية. يقال إنها نشأت من التحول المذكور أعلاه في فهم الدين نحو التركيز على التجربة الداخلية، التي تفقد قوتها في الخطاب العام بسبب هيمنة النظرة العالمية الوضعية الرياضية. "لقد فسر الفلاسفة العالم فقط، بطرائق مختلفة. النقطة، مع ذلك، هي تغييره. يعمل هذا الشعار بكفاءة أكبر عندما تترجم لغة الرياضيات العلمانية الواقع إلى أرقام يمكن من خلالها بعد ذلك تنظيم العالم وإعادة اختراعه" (أسد 2018، 133).
لقد انتصرت النظرة الرياضية على عدم اليقين. لقد مكّنت البشر من ترتيب العالم كما يحلو لهم. لكن أسد يجادل: "لذلك أؤكد في النهاية، ليس فقط أنها تنتصر على الحساب الرياضي والعقل العلماني، بل تشير أيضًا إلى مستقبل مظلم: حتمية تغير المناخ والتدمير البيئي واحتمال الحرب النووية" (أسد 2018، 10). والمثابرة هي في جانب أولئك الذين يتحملون عدم اليقين، الذي هو دائمًا أحد الأبعاد الأساسية للقوة التي تأتي من حياة الإيمان (أسد 2006، 287).
4. مهمة الكنيسة في المجتمع العلماني
إذا افترضنا أن تحليل أسد للعلمانية صحيح، فيمكننا الحصول على نقاط مرجعية معينة لعملنا الرعوي والتعليمي. حجج أسد مشابهة لما ذكره الدليل للتعليم المسيحي وما أشار إليه البابا فرانسيس. بالطبع، هذه ليست مطالب تنشأ مباشرة من اللاهوت، ولكنها يمكن أن تعطي اتجاهًا وتركيزًا جديدًا للاهوت العملي. أولاً وقبل كل شيء، نجد التركيز والمطلب للاهتمام لموضوعنا: "من المهم الانتباه إلى الحالة العلمانية للبالغين" (PCPNE 2020، 262).
يشير البابا فرانسيس بالمثل إلى عواقب العلمانية على إيمان المؤمنين المعاصرين:
"يتحدى الإيمان الكاثوليكي للعديد من الشعوب في الوقت الحاضر من خلال انتشار الحركات الدينية الجديدة، بعضها يميل إلى الأصولية بينما يبدو أن البعض الآخر يقترح روحانية بدون الله. هذا هو، من ناحية، رد فعل إنساني على مجتمع مادي، استهلاكي وفرداني، ولكنه أيضًا وسيلة لاستغلال نقاط الضعف لدى الأشخاص الذين يعيشون في فقر وعلى هامش المجتمع، الأشخاص الذين يجعلون طرفي النهاية يلتقيان وسط معاناة إنسانية كبيرة، ويبحثون عن حلول فورية لاحتياجاتهم. تأتي هذه الحركات الدينية، ليس بدون قدر معين من الذكاء، لملء، داخل ثقافة فردية في الغالب، الفراغ الذي تركه العقلانية العلمانية" (فرانسيس 2013، 63).
فشل مشروع المجتمع العلماني، الذي كان من المفترض أن يحل الصراع الاجتماعي عن طريق فصل التدين عن الحياة العامة، إلى حد كبير، وهو موضوع نقد أسد. من ناحية، لم يحل عدم الأمان في الحياة الذي يسميه البابا فرانسيس "العقلانية العلمانية"؛ ومن ناحية أخرى، أدى إلى ظهور حركات دينية بعيدة كل البعد عن أفكار المجتمع الديمقراطي التي سعت عملية العلمنة إلى تقديمها. هدفنا ليس تقديم حلول للقضايا الاجتماعية، بل انطلاقًا من تحليل نقد العلمانية، يمكننا فقط الإشارة إلى إمكانية إعلان أكثر أصالة للكنيسة.
أولاً وقبل كل شيء، يرى أسد مشكلة تعريف التدين بالإيمان وحده، بالتجربة الداخلية. في هذا، أهملت على الأقل جزءًا من التقاليد المسيحية الجسدية. لذلك، أصبح من الضروري أكثر فأكثر إشراك الشخص كله في الإعلان. أكدت الكنيسة الكاثوليكية دائمًا على أهمية التقوى الشعبية. تم نقل هذا إلى حد كبير من جيل إلى جيل من خلال العادات الجسدية التي كان لها محتوى ديني عميق (ستيغو 2022، 709). الأسرار نفسها مبنية على هذا. يتعلق الأمر دائمًا بعلامات جسدية، بإشراك الشخص كله. حتى إن البابا فرانسيس يذكر هذا كإمكانية لتبشير جديد: "تعابير التقوى الشعبية لديها الكثير لتعلمنا إياه؛ لأولئك القادرين على قراءتها، فهي مكان لاهوتي يتطلب انتباهنا، خاصة في وقت نبحث فيه عن التبشير الجديد" (فرانسيس 2013، 126). يمكن أن تكون الفرصة الأولى لإعلان أكثر ملاءمة للزمن هي تكامل أفضل للجسدية في العمل الرعوي.
يجب ألا يؤدي الاهتمام بالتقوى الشعبية والجسدية إلى تبني بسرعة كبيرة أساليب حركات التجديد الإنجيلية الأمريكية المختلفة ذات النجاح الكبير، والتي قد تسمى الخمسينية. في معارضتها للمجتمع الليبرالي العلماني، تتبنى هذه الحركات بشكل متزايد هذا التقسيم: الديني-المقدس، مقابل غير الديني-الملعون. في مثل هذا التدين، يكون الجسد كله مركزيًّا، ولكن فقط كوسيلة للتجربة. إنه مليء بالعاطفية الجياشة، ومسارات الشفاء، وتجارب التحول، بينما تدور عجلة الحياة. "يصبح المقدس ملموساً ومتجسداً، بطريقة مؤثرة جسديًّا: من خلال موسيقى مؤثرة، ومعجزات شفاء، وقواعد حياة زاهدة - كل شيء يُقصد به بطريقة ما إثبات الوصول المباشر إلى المقدس، وبالتالي التواجد على الجانب الصحيح في الهموم الوجودية للحياة - أي جانب الله" (شوسلر 2018، 236). لم يعد المجتمع العلماني يقدم ذلك اليقين الذي وعد به. وبالتالي يمكننا أن نستنتج مع ستارك أنه مليء بأنماط من التدين تعكس القلق الذي يجلبه عصر العقل المستنير.
لا يجب أن يكون رد فعلنا الخوف، بل علينا أن نقدم الطقوس كأداة متجذرة بعمق في التاريخ الديني، وغالباً ما تكون مألوفة محليًّا وذات مصداقية وجودية، تتكون من طقوس طرد الأرواح الشريرة والتعاويذ وأفعال العلامات التي يمكن أن تستجيب لمخاوف الناس من السحر وحاجتهم للحماية. هذا بعيد كل البعد عن الحرية التي يجلبها الخلاص بيسوع المسيح. ما يمكننا تعلمه من نقد أسد للعلمانية هو الحاجة إلى الاهتمام بتدين يشمل الإنسان كاملاً ويدمجه في حياته اليومية. في الوقت نفسه، يجب أن نكون حذرين من الوقوع في رسم خريطة للعملية العلمانية داخل الكنيسة: فقط معتقداتنا عن الإيمان هي المقدسة، ويجب أن نعترف بها وفقاً للطقوس الصحيحة؛ كل شيء آخر، العالمي، هو ملعون. إيماننا بالله المتجسد يظهر لنا بوضوح الطريق للخروج من العلمانية والحركات التجديدية الدينية التي ترفض كل شيء دنيوي جذريًّا. مثل هذا الإيمان يلزمنا أكثر بأن نربّي عائلات ستعيش إيمانها بكل طبيعية وتجد فيه مكاناً للتعبير المتكامل (PCPNE 2020، 260). سيربون أطفالاً سيقبلون، بشكل نقدي بالطبع، الدور المتكامل للدين من خلال طقوس المنزل ثم في الكنيسة.
Bibliography
Anter, Andreas. 2014. “Entzauberung der Welt und okzidentale Rationalisierung (Weber).” In Re-
ligion und Säkularisierung: Ein interdisziplinäres Handbuch, edited by Thomas M. Schmidt
and Annette Pitschmann, 14–19. Stuttgart: Metzler.
Asad, Talal. 1993. Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of Power in Christianity and
Islam. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.
Asad, Talal. 2003. Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity. Stanford, CA: Stan-
ford University Press.
Asad, Talal. 2006. “Responses.” In Powers of the Secular Modern, edited by David Scott and
Charles Hirschkind, 206–41. Stanford, CA: Stanford University Press. https://doi.org/10.1515/9780804767798-011
Asad, Talal. 2018. Secular Translations: Nation-State, Modern Self, and Calculative Reason. New
York: Columbia University Press.
V e r B U M VI Ta e 4 2 / 2 ( 2 0 2 4 ) 345– 359 357
Janez Vodičar
Casanova, Jose. 2006. “Secularization Revisited: A Reply to Talal Asad.” In Powers of the Secular
Modern: Talal Asad and His Interlocutors, edited by David Scott and Charles Hirschkind,
12–30. Stanford, CA: Stanford University Press. https://doi.org/10.1515/9780804767798-002
Caton, Steven C. 2006. “What Is an ‘Authorizing Discourse’?” In Powers of the Secular Modern:
Talal Asad and His Interlocutors, edited by David Scott and Charles Hirschkind, 31–56. Stan-
ford, CA: Stanford University Press. https://doi.org/10.1515/9780804767798-003.
Donegani, Jean-Marie. 2017. “Qu’est-ce que vivre dans un monde radicalement pluraliste?”
In Être initié à l’heure des mutations anthropologiques, edited by Joël Molinario and Isabelle
Morel, 23–39. Paris: Cerf.
Francis. 2013. Apostolic Exhortation Evangelii Gaudium. https://www.vatican.va/content/franc-
esco/en/apost_exhortations/documents/papa-francesco_esortazione-ap_20131124_evangeli-
igaudium.html.
James, William. 2015. Raznolikost religioznega izkustva: Študija človeške narave. Translated by
Sebastjan Vörös. Ljubljana: Krtina.
Kessler, Gary E. 2012. Fifty Key Thinkers on Religion. London: Routledge.
Morel, Isabelle. 2020. Transmettre la foi en temps de crise. Paris: Cerf.
Napiórkowski, Andrzej. 2017. “Współczesny sekularyzm a teologia sekularyzacji.” Studia Nauk
Teologicznych PAN 9:11–36. https://doi.org/10.24425/snt.2014.112771.
Nežič Glavica, Iva. 2019. “Vloga izkustvenega učenja v geštalt pedagoškem modelu učenja in
poučevanja po Albertu Höferju.” Bogoslovni vestnik 79 (1): 191–202. https://doi.org/10.34291/
bv2019/01/nezic.
PCPNE (Pontifical Council for the Promotion of the New Evangelization). 2020. Directory for
Catechesis: New Edition. New Edition. Washington, D.C.: United States Conference of Cath-
olic Bishops.
Schlerka, Sebastian Matthias. 2017. Säkularisierung als Kampf Entwurf eines feldtheoretischen Zu-
gangs zu Säkularisierungsphänomenen. Wiesbaden: Springer VS.
Schüßler, Michael. 2018. “Gott erleben und gerettet werden? Praktiken und Affektstrukturen
des pentekostalen Christentums in europäisch-theologischer Perspektive.” In Gerettet durch
Begeisterung: Reform der katholischen Kirche durch pfingstlich-charismatische Religiosität?
edited by Gunda Werner, 215–62. Freiburg: Herder. https://doi.org/10.15496/PUBLIKA-
TION-69563.
Scott, David. 2006. “The Tragic Sensibility of Talal Asad.” In Powers of the Secular Modern: Talal
Asad and His Interlocutors, edited by David Scott and Charles Hirschkind, 134–53. Stanford,
CA: Stanford University Press. https://doi.org/10.1515/9780804767798-008.
Scott, David, and Talal Asad. 2006. “Appendix: The Trouble of Thinking: An Interview with Talal
Asad.” In Powers of the Secular Modern: Talal Asad and His Interlocutors, edited by David
Scott and Charles Hirschkind, 243–303. Stanford, CA: Stanford University Press. https://
doi.org/10.1515/9780804767798-012
Scott, David, and Charles Hirschkind. 2006. “Introduction: The Anthropological Skepticism of
Talal Asad.” In Powers of the Secular Modern: Talal Asad and His Interlocutors, edited by
David Scott and Charles Hirschkind, 1–11. Stanford, CA: Stanford University Press. https://
doi.org/10.1515/9780804767798-001
Sesboüé, Bernard. 1999. Croire: Invitation à la foi catholique pour les hommes et les femmes du
XXIe siècle. Paris: Droguet & Ardant.
358
V e r B U M VI Ta e 4 2 / 2 ( 2 0 2 4 ) 345– 359
The Critique of SeCUlariSM by Talal aSad
Shulman, George. 2006. “Redemption, Secularization, and Politics.” In Powers of the Secular Mod-
ern: Talal Asad and His Interlocutors, edited by David Scott and Charles Hirschkind, 154–79.
Stanford, CA: Stanford University Press. https://doi.org/10.1515/9780804767798-009.
Stark, Rodney. 2015. The Triumph of Faith: Why the World Is More Religious than Ever. [EBOOK].
Wilmington, DE: ISI Books.
Stegu, Tadej. 2022. “Kerigmatična kateheza in resonanca.” Bogoslovni vestnik 82 (3): 705–14.
https://doi.org/10.34291/bv2022/03/stegu.
Vries, Hent de. 2006. “On General and Divine Economy: Talal Asad’s Genealogy of the Secu-
lar and Emmanuel Levinas’s Critique of Capitalism, Colonialism, and Money.” In Pow-
ers of the Secular Modern: Talal Asad and His Interlocutors, edited by David Scott and
Charles Hirschkind, 113–33. Stanford, CA: Stanford University Press. https://doi.
[1] [https://orcid.org/0000-0002-8661-1077] (https://orcid.org/0000-0002-8661-1077)