إعادة تعريف المجالات العموميَّة الإسلاميَّة


فئة :  ترجمات

إعادة تعريف المجالات العموميَّة الإسلاميَّة

إعادة تعريف المجالات العموميَّة الإسلاميَّة[1]

ديل أيكلمان وجون أندرسون

ترجمة: هاجر كنبع

مراجعة: مصطفى الوجاني

أخذ مفهوم جديد لِمَا هو عموميٌّ (public) في الانتشار في كلِّ مكان في الدُّول ذات الغالبيَّة المسلمة، وفي التَّجمُّعات المسلمة المتواجدة في أماكن أخرى. لقد ساهمت الخلافات المفتوحة حول الاستعمال الرَّسميِّ لِلغة الإسلام الرَّمزيَّة في تشكيله على نحو مُتزايد. وقد زادت أساليب التَّواصل الجديدة، المتاحة أكثر فأكثر، من عالميَّة هذه الخلافات، لدرجة أنَّ النِّقاشات المحلِّيَّة بدورها بدأت تأخذ أبعاداً تتخطَّى حدود الدَّولة. تلعب أساليب التَّواصل هذه، المفتوحة والمتاحة على نطاق متزايد، دوراً مهمَّاً في منافسة السُّلطات السِّياسيَّة والدِّينيَّة وتشظِّيها. وبطبيعة الحال؛ لا يتصرَّف المسلمون باعتبارهم مسلمين فقط، بل يتصرَّفون وفقاً للمصالح الطَّبقيَّة وانطلاقا من مشاعرهم الوطنيَّة وارتباطا بمصالح قَبَليَّة أو عائليَّة، وانطلاقاً من كلِّ الدَّوافع المختلفة الَّتي تُميِّز الكدَّ الإنسانيَّ. ومع ذلك؛ تُفسِّر أعداد كبيرة ومتزايدة من المسلمين أهدافها من خلال اللُّغة المعياريَّة للإسلام. يأخذ المفهوم السِّياسَويُّ للهويَّة الإسلاميَّة عدَّة أشكال مختلفة غير موحَّدَة أو مُتطابقة، غير أنَّ مثل هذه المفاهيم قد أصبحت قوَّة لا يُستهان بها في كلٍّ من الدُّول ذات الغالبيَّة المسلمة والدُّول الَّتي يُشكِّل فيها المسلمون أقلِّيَّة من السُّكَّان فقط. وبهذا المعنى؛ يمكن للمرء أن يتحدَّث عن انبثاق فضاءٍ عموميٍّ إسلاميٍّ.

وبتواجده خارج الرَّقابة الرَّسميَّة للدَولة؛ يتمركز هذا الفضاء العموميُّ الإسلاميُّ البارز عند تقاطعات الحياة الدِّينيَّة والسِّياسيَّة والاجتماعية. وبفضل كونِه متاحاً نظراً لانتشار وسائل الإعلام في العالم الحديث؛ يمكن للفضاء العموميِّ الإسلاميِّ أن يتحدَّى الدَّولة والسُّلطات الدِّينيَّة التَّقليديَّة ويحدَّ مِن قوَّتِها ويُساهم في خلق المجتمع المدنيِّ. وباستخدام أشكال الاتِّصال المعاصرة، الَّتي تشمل الصَّحافة ووسائل الإعلام الَّتي تستعمل البثَّ وأجهزة الفاكس والأشرطة الصَّوتيَّة والفيديو، إضافة إلى الهاتف والإنترنت، يمتلك المسلمون، مثلهم مثل أعضاء الائتلافات المسيحيَّة، والمُجدِّدين الهندوس (juergensmeyer 1993)، والنُّشطاء اليهود، والمقاتلين السِّيخ، ومناصري القِيَم الآسيويَّة والأفريقيَّة، طُرُقاً أسرع وأليَن في بناء التَّواصل مع بلادهم والحفاظ عليه أكثر مِمَّا كان متاحاً في العقود الأخيرة. هكذا؛ تتعرَّض الاختلالات في ثورة وسائل الإعلام الجماهيريَّة (mass) السَّابقة للإلغاء على يد وسائل الإعلام الجديدة الَّتي تُديرها أيادٍ جديدة. ويُنمِّي هذا التَّرابط بين وسائل الإعلام الجديدة والمساهمين الجُدُد في النِّقاشات الدِّينيَّة والسِّياسيَّة وعياً لدى جميع الفاعلين بالطُّرق المختلفة الَّتي يمكن بواسطتها إعادة إنتاج الإسلام والقِيَم الإسلاميَّة، كما أنَّه يضخُّ معانٍ جديدة في فضاءٍ عموميٍّ يتَّصف بكونه خطابيَّاً وإنجازيَّاً وتشاركيَّاً (discursive, performative, and participative)، ولا يقتصر على المؤسَّسات الرَّسميَّة المُعترف بها من قِبَل سلطات الدَّولة.

لقد احتلَّ الحوار العموميُّ منذ فترة طويلة مكانةً مميَّزة في العالم الإسلاميِّ، فكان هناك فضاءٌ عموميٌّ دينيٌّ للعلماء المختصِّين ومدارس الفقه ومؤيِّديهم، وكان هذا الفضاء مُستقلَّاً في الغالب عن الفضاء الرَّسميِّ للحُكَّام في القرون الإسلاميَّة الأولى. إلَّا أنَّ «محاكم التَّفتيش» [أو محنة خَلْقِ القرآن] والَّتي امتدَّت ما بين عامَي 833 و848، شكَّلَت سابقة حين فرض أربعة خلفاء مُتعاقبين على المسلمين الاعتقادَ بخَلْقِ القرآن؛ على الرَّغم من الدَّعم الشَّعبيِّ الشَّديد لوجهة النَّظر التَّقليديَّة القائلة بقِدَمِه. وقد لقي هذا الإلزام المستبدُّ بذلك المعتقد مقاومة عنيفة؛ ما أدَّى إلى التَّراجع عن تلك المحاولات لفرض الفكرة بعد خمسة عشر عاماً. وكانت النَّتيجة أن تعزَّزَ دور أهل العِلم (العلماء) في المجالِ العموميِّ بدءاً من القرن الثَّالث الهجريِّ وصولاً إلى العصر الحديث. وكان تدخُّل الخلفاء اللَّاحقين وغيرهم من الحُكَّام المؤقَّتين في هذا المجال مشوباً بالحذر، وعلى العموم؛ فقد آثروا عدم الخوض فيه (hurvitz 1997 : 6).

في الآونة الأخيرة، خاصَّةً منذ الحرب العالميَّة الثَّانية ونهاية الحُكم الاستعماريِّ في أجزاء كثيرة من العالم، استعملت سلطات الدَّولة وسائل الاتِّصال الحديثة والبيروقراطيَّة لصياغة وتجديد وتعزيز نظام مُصرَّح به علنيَّاً من القدرات الَّتي يجب على كافَّة المواطنين والرَّعايا استيعابها وممارستها من أجل تحقيق الحداثة. ومنذ السَّبعينيات؛ تقبَّلَت قلَّة من المواطنين من الدُّول ذات الغالبيَّة المسلمة بلا خَجَل شرعيَّة مطالب الدَّولة حول احتكار هذه المهمَّة. فكما يوجد إقرارٌ أكاديميٌّ عامٌّ بأنَّ هناك سُبُلاً مُتعدِّدة تقود إلى الحداثة (eisenstadt 1996; 396-426)؛ هناك وعيٌ عمليٌّ بتعدُّد المطالبين بالأحقِّيَّة في مهمَّة إظهار الاستقامة والصَّلاح (salvatore 1998a; 87-89)، بما في ذلك الالتزامات العموميَّة باسم الدِّين. وفي هذا الصَّدد؛ يقترب النُّشطاء المسلمون، على الأقلِّ في الخطاب العموميِّ، مِمَّا سَمَّاه وارنر warner (1990; 42-43) بالفضائل الجمهوريَّة لأمريكا الكولونياليَّة، الَّتي تستعمل فيها وسائل الإعلام المطبوعة وغيرها لتوجيه الوعي وصياغة نماذج مُعيَّنة من المدنية، والانتماء للجماعة والمواطنة في إطار الأُمَّة، وكلُّها ترتكز على مجموعات مُتبادلة تقريبا من الالتزامات والتَّوقُّعات (salvatore 1997; 55-56).

تأخذ الأفكار المشتركة على الصَّعيد العموميِّ، والمتعلِّقة بالجماعة والهويَّة والزَّعامة، أشكالاً جديدة في مثل تلك الالتزامات بشكلٍ ملحوظ، حتَّى حينما تدَّعي العديد من الجماعات والسُّلطات وجودَ استمراريَّة ثابتة مع الماضي. لقد ضاعف التَّعليم الجماهيريُّ (mass education)، الَّذي كان مهمَّاً جدَّاً في تطوُّر الوطنيَّة في حقبة سابقة (gellner 1983: 28-29)، وانتشار وسائل الإعلام والاتِّصال؛ إمكانيَّات خلق جماعات وشبكات بداخلها، ما أدَّى إلى تفكيك المعيقات السَّابقة المرتبطة بالمسافة والمكان، وفتح أرضيَّات جديدة للتَّفاعل والاعتراف المتبادل.

لقد أخذت الدُّول في هذا القرن على عاتقها مهمَّة مراقبة البثِّ والكلمة المطبوعة لتعزيز الهويَّات العامَّة والمشتركة والحديثة؛ على الأقلِّ بالقدر نفسه الَّذي رفضَت به أن تكون هذه الأشياء وسائل لدى معارضين محتملين. تُعدُّ البنية المتمركزة غير المتناسقة للإعلام الجماهيريِّ نتاجاً لذلك؛ فالدُّول ترى وسائل الإعلام هاته باعتبارها آليَّات لتعزيز موقفها وتوحيد معاييرها. وبصورة مُماثلة؛ تثبت النَّزعات المتدرِّجة والمتفرِّقة نحو ممارسة الرَّقابة على وسائل الإعلام الصُّغرى من أجهزة الفاكس والنَّشر المكتبيِّ وأشرطة الفيديو والصَّوت؛ كيف ساهمت هاته الأخيرة في تفتيت السُّلطة السِّياسيَّة والدِّينيَّة عبر تجاوز القنوات القائمة. وعند إعادة صياغة الفروق بين المركز والهامش كاختلافات بين المرسِلين والمتلقِّين؛ تصبح هذه الفروق أكثرَ غموضاً وإسفنجيَّةً؛ إذ يصبح المرسِلون مُتعدِّدين ومُتغيِّرين.

أصبحت بعض وسائل الإعلام الجديدة الَّتي كانت تُعدُّ خلَّاقةً حتَّى في الثَّمانينيات؛ جِدَّ عاديَّة. ففي بلدان مثل المملكة العربيَّة السُّعوديَّة؛ تظلُّ نفس أجهزة الفاكس الَّتي تنشر انتقادات النِّظام بسرعة مهمَّة أيضاً في إدارة الأعمال. فالدَّولة عاجزة عن الحدِّ من استعمالها دون عرقلة الاقتصاد. لقد تمَّ نشر الأشرطة الصَّوتيَّة لمواعظ آية الله الخمينيِّ وآخرين في مرحلة ما قبل الثَّورة في إيران من سبعينيات القرن الماضي، تماماً كما يتمُّ اليوم تداول أشرطة فيديو لرموز المعارضة من الدُّعاة والمظاهرات المعارضة للنِّظام في بعض البلدان من شبه الجزيرة العربيَّة. يُظهِر أحد هذه الأشرطة موظَّفي السَّفارة السُّعوديَّة في لندن يُصوِّرون متظاهرين مُقنَّعين، بينما يُصوِّر المتظاهرون السَّفارة (cdlr 1994)، الأمر الَّذي يوضح كيف أنَّ وسائل الإعلام الجديدة باتت شائعة ومرنة. وتستخدم بعض هذه الوسائل الإعلاميَّة أشكالاً موجودة، مثل الصُّحف المنشورة مكتبيَّاً. وتخلق أُخرى، مثل مجلَّات الشَّريعة الإسلاميَّة، شكلاً ابتكاريَّاً يتبادل فيه القُرَّاء من مختلف مشارب الحياة -وليس فقط المختصُّون الدِّينيُّون المتدرِّبون بشكلٍ تقليديٍّ- وجهات النَّظر مع المحرِّرين، وبالتَّالي؛ يساهمون في توسيع الطُّرق الَّتي يتمُّ بها وضع التَّأويلات الشَّرعيَّة ومَن يمكنه وضعها. يمتلك بثُّ الفتاوى، أو الأحكام الدِّينيَّة، التَّأثير ذاته تماماً؛ إذ إنَّها تقوم بتحويل التَّأويلات الفقهيَّة ذات الطَّابع الشَّخصيِّ المحض، والَّتي كانت في ما مضى مُجرَّد أجوبة على أسئلة فرديَّة، إلى خطابات أكثر شموليَّة وموجَّهة للجمهور العامِّ (messick 1996: 3 19-20)، وبالتَّالي؛ تؤدِّي إلى تحميل جزء من أعباء التَّأويل للمستمع أو القارئ.

غالباً ما تستعير الأشرطة التَّعليميَّة الإسلاميَّة المتداولة دوليَّاً والأقراص المدمجة والكُتيِّبات والاتِّصالات عبر الإنترنت، بدءاً من البريد الإلكترونيِّ وصولاً إلى صفحات الشَّبكة العنكبوتيَّة، أشكالاً تبدو جديدة وخلَّاقة للجماهير الغربيَّة، كما هو الحال في السِّياقات الإسلاميَّة. لا يتعلَّق الأمر بكونها جديدة فحسب، بل لكونها غير شخصيَّة؛ بمعنى أنَّها قد تناسب سياقات مُتعدِّدة، وقد تخضع لاستخدامات مُتنوِّعة يتمُّ توظيفها من قِبَل أشخاص مختلفين. لقد أصبح المكان أقلَّ أهمِّيَّةً، سياقيَّاً، من الاستخدام: هل صفحة الويب لبات روبرتسون pat robertson أقلُّ ابتكاريَّةً من صفحة جمعيَّة/اتِّحاد الطُّلَّاب المسلمين؟ ربَّما بسبب ميلٍ غربيٍّ إلى التَّمييز بين المسائل الرُّوحيَّة والتِّقنيَّة؛ يبدو استخدام الاتِّصالات ذات التِّقنيَّات العالية من أجل الأغراض الدِّينيَّة جديراً بالملاحظة بالنِّسبة إلى العلمانيِّين لدى الاحتكاك بها في البداية، لكن من إندونيسيا إلى المغرب، عزَّزَ البريد الإلكترونيُّ والإنترنت أشكالاً جديدة وسريعة من الاتِّصال والتَّنسيق بين ذوي/أصحاب العقليَّات الدِّينيَّة. والواقع أنَّ الأعمال الأكاديميَّة حول دور العولمة والمحلِّيَّة (globalization and localization) في خلق مجالات إسلاميَّة خاصَّة وعامَّة في إندونيسيا (bowen 1993: 3 15-30, hefner 1997, george 1997) قد تمَّ تبنِّيها في الخطابات المستمرَّة للمثقَّفين المسلمين في إندونيسيا وفي أماكن أخرى.

تنتقل الخطابات أيضاً من وسيط إلى آخَر. فالرِّوايات -ومؤخَّراً حتَّى القصص المصوَّرة (douglas and malti-douglas 1994)- تعالج أسئلة تهمُّ كيفيَّة العيش وفقَ الحياة الإسلاميَّة، وهو مجال كان في السَّابق حكراً على علماء الدِّين الَّذين كانوا يُقدِّمون النَّصيحة في شكل فتاوى دينيَّة أو كُتيِّبات منشورة. إنَّ انتشار وخَوْصَصَة التِّلفزيون والإذاعة، القطاع الَّذي خطا خطوةً أبعد في تركيا ولبنان من بين البلدان ذات الأغلبيَّة المسلمة على الرَّغم من كونه لا يزال خاضعاً لقيود حكوميَّة كبيرة (kinzer 1997)، يتضمَّن قدراً مهمَّاً من الخطاب الدِّينيِّ والتَّغييرات الدَّقيقة في مجالٍ يُعتبر «دينيَّاً»؛ إذ إنَّ المذيعين يسعَون، في إطار التَّنافس على حصَّة في السُّوق، إلى عدم الاقتصار على الشَّخصيَّات الدِّينيَّة التَّقليديَّة من أجل اجتذاب أعداد أكبر من الجمهور. ويتعلَّق الأمر بردود الفعل المعاكسة في الفضاء العموميِّ لنفي الخطابات الهدَّامة أو المعارضة في السَّابق صوب القنوات الخاصَّة، مثل النُّكَت أو، في بعض الحالات، المسرح الَّذي استمتَعَت به النُّخبة أوَّلاً. وقد عكست وسائل الإعلام الحديثة هذا التَّوجُّه وفتحت القنوات أمام فضاءٍ عموميٍّ مُتمدِّد.

ينتج عن عبور هذه الخطابات للحدود أثران اثنان؛ أوَّلاً: يتمُّ تقليص عدم التَّماثل بين المرسِلين والمتلقِّين، وبين المنتجين والمستهلكين، كلَّما ازداد عدد المشاركين في الخطاب الدِّينيِّ والمدنيِّ. وبهذا المعنى؛ فإنَّ وسائل الإعلام الجديدة تتَّسم بطابعٍ تشاركيٍّ أكبر، سواءٌ من خلال إتاحة الفرصة لأفراد جُدُد كي ينضمُّوا إلى المحادثة، أو من خلال دعوة ضمنيَّة إلى تأويل السِّياقات المرافقة للخطابات المُتميِّزة بطابعها الأكثر شموليَّة والأقلِّ شَخصَنَة والمرتبطة بسياقات خاصَّة. يُعدُّ هذا النَّقص الَّذي يستدعي تأويلاً إضافيَّاً للخطابات؛ مرآةً لعلاقات أكثر تماثلاً، وأكثر تفاعلاً بين المرسِل والمتلقِّي؛ الَّتي تُميِّز وسائل الإعلام الجديدة الَّتي تهاجر إليها هذه الخطابات.

ثانياً: أصبحت الحدود بين الاتِّصال العموميِّ والخاصِّ، الَّتي كانت تبدو واضحةً في ما سبق، ضبابيَّة بما أنَّ الهواتف والفاكسات تستخدم لعبور الحدود الَّتي كانت مراقبة سابقاً وبسهولة مِن قبل المسؤولين عن الرَّقابة، وأيضاً لأنَّ المحادثات الَّتي كانت فيما مضى تقتصر على النَّاس الَّذين يعرفون بعضهم البعض؛ قد انتقلت صوب جمهورٍ من المرسِلين والمستقبلين المجهولِي الهويَّة، وبالتَّالي؛ أصبحت خطاباً عن المعايير الفاعلة في تحويل المتخيَّل الاجتماعيِّ وفكرة العموميِّ (warner 1992: 378-79). ومن الوارد أن تكتسبَ الخطابات الموجَّهة إلى وسيط واحد، مثل المطبوعات، معانٍ مختلفة كثيراً عندما يتمُّ بثُّها إذاعيَّاً أو تلفزيونيَّاً، أو إرسالها عبر الفاكس، وفي كلِّ وسائل الإعلام هناك أصوات متنافسة ومُشتَّتة. هكذا يمكن لعلمانيٍّ عربيٍّ بارز، كالسُّوريِّ صادق جلال العظم، أن يخوضَ نقاشاً مع الشَّيخ يوسف القرضاويِّ، وهو واعظ بارز وعالِم ديِّن مُحافظ، على قناة فضائيَّة عربيَّة يوجد مقرُّها في قطر (قناة الجزيرة 1997). وإلى الآن؛ سيكون مثل هذا الحوار مُستبعداً على وسائل الإعلام الَّتي يخضع بثُّها لرقابة الدَّولة، الَّتي تتفادى الجدال الدِّينيَّ عموماً. ومع ذلك؛ جرى الحوار بين القرضاويِّ والعظم على وسيط بثٍّ بديل، على قناة تلفزيونيَّة فضائيَّة، حيث صبَّ ثقل الأسئلة الموجَّهَة في المقام الأوَّل في صالح وجهة النَّظر الدِّينيَّة الأصوليَّة على حساب وجهة النَّظر العلمانيَّة غير التَّقليديَّة الَّتي أعرب عنها العظم. والمؤكَّد أنَّ وجهات النَّظر الَّتي تعرَّضَت للقمع في وسيط واحد ستجد منفذاً في الوسائط الأُخرى. هكذا تعطي وسائل الإعلام الحديثة الصَّغيرة إمكانيَّة أوسع للوصول إلى هاته الخطابات، وتوسع قاعدة مُنتجيها، وتزيل الفجوة بين المنتج والمستهلك، وتخلق معايير جديدة للخطاب العموميِّ. هكذا تخلق الفضاءَ العموميَّ.

وفي هذا الشَّأن؛ تشترك وسائل الإعلام الجديدة في بعض الخصائص الطُّقوسيَّة باعتبارها/لكونها إنجازيَّة. فوسائل الإعلام لا تنقل الخطابات فحسب؛ بل هي أيضاً جزء من الخطاب. فعندما عارض العلماء التَّقليديُّون السُّعوديُّون إطلاق البثِّ الإذاعيِّ؛ هدَّأ ابن سعود احتجاجاتهم عبر افتتاح البثِّ الإذاعيِّ السُّعوديِّ بتلاوة القرآن، الَّذي بات أساسيَّاً منذ ذلك الحين. وفي الآونة الأخيرة؛ استعمل الملك فهد التِّلفاز في خطاب مهمٍّ عامَ 1992؛ أي: سنة بعد نهاية حرب الخليج عام 1991، للتَّأكيد من جديد على القيم السِّياسيَّة القائمة للمملكة ولاحتواء المعارضة المتنامية (rasheed 1996: 359-63). ومع عدم إمكانيَّة الوصول إلى هذا الوسيط الشَّرعيِّ، ردَّ المعارضون داخل المملكة العربيَّة السُّعوديَّة وفي أماكن أُخرى في المقام الأوَّل عبر وسائل الإعلام الصُّغرى؛ لكنَّ البعض، مثل المعارضين داخل المؤسَّسة الدِّينيَّة، ردُّوا من خلال المساجد والصُّحف الأجنبيَّة. وعلى الرَّغم من أنَّ بعض هذه الوسائل الإعلاميَّة تُعدُّ محظورة أو، في حالة المساجد، غير مُرخَّص لها بشكل واضح، فإنَّ مختلف الأطراف قد انجرَّت إلى فضاءٍ عموميٍّ إنجازيٍّ، يتَّسع باستمرار مع تزايد إمكانيَّة الوصول إلى وسائل الإعلام الجديدة. وكما يؤكِّد تايلور taylor (1 2-220: 1993)، فَمِن المُفترض أن يجتمع أعضاء المجتمعات الحديثة في فضاء مشترك بفضلِ وسائل الإعلام المتنوِّعة واللِّقاءات الَّتي تجري وجهاً لوجه، و»بالتَّالي؛ سيكون بمقدورهم تشكيل عقلٍ/وعيٍ جمعيٍّ حول الأمور الَّتي يتقاسمون الاهتمام بها».

الإسلام والمعلومة:

تُبسِّط تكنولوجيا الاتِّصال الجديدة بشكل مُتميِّز المعاني الحديثة للهويَّة الدِّينيَّة والسِّياسيَّة المتجذِّرة في سياقات محلِّيَّة مخصوصة؛ والمنتظمة أيضاً في أفق يتجاوز الطَّابع المحلِّيَّ المفتوح بفضل الأشكال الجديدة للاتِّصال. وعلى الرَّغم من الادِّعاءات الحديثة بأنَّ الإسلام كما يمارَس هو دينٌ مُوحِّدٌ وكونيٌّ؛ فإنَّ الهويَّات الدِّينيَّة في كلِّ مكان قد اقترنت دائماً بالهويَّات الإثنيَّة والسِّياسيَّة واللُّغويَّة؛ حيث ما زالت معاني الهويَّة الإسلاميَّة المتعاظمة تتجسَّد تقليديَّاً في الأجندات المحلِّيَّة والإقليميَّة والوطنيَّة وعبر الوطنية، وفي أحقِّيَّة الزَّعامة. وعلى المستوى المحلِّيِّ؛ تتغذَّى القوميَّة عند المورو (moro) في الفلِبِّين على المطالبة بهويَّة إسلاميَّة مشتركة، لكنَّ هذه المطالبة تتمحور حول مجموعة إثنيَّة ولغويَّة مُتميِّزة. لقد اكتسبت شكلها فقط مع ظهور نخبة كولونياليَّة درسَت في ظلِّ حُكم الولايات المتَّحدة، وظهرَت إلى الوجود باعتبارها حركة شعبيَّة حيَّة فقط بعد استقلال الفلِبِّين (mckenna 1998). وفي سياقٍ عالميٍّ أكبر؛ تعمل منظَّمة المؤتمر الإسلاميِّ، وهي بالفعل هيئة دوليَّة، من خلال المنظَّمات داخل الدَّولة، وتواجه المنافسين الوطنيِّين والدُّوليِّين على حدٍّ سواء. تتأسَّس مثل هذه الهويَّات في اتِّصال مع هويَّات خاصَّة أُخرى. ومع تغيُّر الأزمنة؛ سيتَّفق كثيرون مع المثقَّفين المسلمين المحافظين أمثال الباكستانيِّ ظفر إسحاق أنصاري (1997)، عندما لاحظ أنَّه لم يعد هناك أيُّ خطٍّ مُتَّصل وسريع بين الغرب وبقيَّة العالم، سواء باعتبار الأخيرة أنماطاً مثاليَّة أو جماعات شغَّالة ما دمنا قد أصبحنا واعين بسهولة/بانسيابيَّة الاتِّصالات المعاصرة. لم تعد الحدود جغرافيَّةً في المقام الأوَّل، بالرَّغم من أنَّها لا تزال مهمَّة، لكنَّها أصبحت أكثر تعقيداً وتداخلا؛ فالحدود الَّتي اعتبرت دينيَّة وحضاريَّة، كما ذَكَّرَنا هنتنغتون huntington (1993) وآخرون، قد تجاوزت المحلِّيَّة، كما تجاوز غيرها المستويات المتوسِّطة الَّتي يتمُّ فيها تحديد روابط مُحدَّدة من الولاء والثِّقة من أجل أهداف تتعلَّق بالأعمال والعبادة والجماعة (fukuyama 1996).

إنَّ ظهور فضاءٍ عموميٍّ تُعطَى فيه الأسبقيَّة لأولئك الَّذين يمتلكون سُلطة وضع معايير كونيَّة؛ يعتمد على وسائل الإعلام المطبوعة ووسائل إعلام أخرى لتأكيد هذا المعنى البديل للهويَّة. فحتَّى عندما يؤكِّد المتحدِّثون باسم بعض المجموعات أنَّهم يسعون للعودة إلى قيم الماضي، مثلما يفعل بعض القوميِّين ذوي النَّزعات العِرقيَّة (ethnonationalists) والأصوليِّين الإسلاميِّين، فإنَّهم يفعلون ذلك بطريقة حديثة مُتميِّزة، تتَّجه نحو المستقبل وتستوعب التِّكنولوجيَّات وأشكال الاتِّصال الجديدة (bayart 1996: 239-41). وفي عصر إعادة هيكلة قطاعات الدَّولة، وتطوير اقتصاديَّات السُّوق وثقافات وسائل الإعلام العالميَّة -بما في ذلك عولمة الثَّقافات العِرقيَّة والطَّائفيَّة والإقليميَّة المصوَّرة بشكلٍ مثاليٍّ- والتَّدفُّقات السَّريعة للنَّاس والمال؛ يجب أن تأخذ محاولات تعريف الثَّقافات العالميَّة أو التَّقاليد الدِّينيَّة أو المجتمعات المدنيَّة أو الفضاءات العموميَّة في الاعتبار مرونةَ الهويَّات في تلك السِّياقات الَّتي تستند بالأساس وبالتَّناوب على صيغتها الوسائطيَّة.

وكما هو الحال في الفضاءات العموميَّة السَّابقة؛ فإنَّ تحدِّيات السُّلطة تدور حول الحقِّ في التَّأويل. بناءً على ذلك؛ لم تَعُد السِّياسية الإسلاميَّة تعبيراً عن صوتٍ وحدويٍّ (على الرَّغم من أنَّ الكثيرين سيدَّعون أنَّ هذا هو الهدف) بقدر ما هي انخراط في الجدال حول التَّأويلات الصَّحيحة. والجديد اليوم أنَّ هذه الانخراطات تندلق من قنوات قليلة مُتخصِّصة إلى أُخرى مُعمَّمة كثيرة. إنَّها لا تصير بالضَّرورة أكثرَ عموميَّة مِمَّا كانت عليه في الماضي، فالجامعات أو الجوامع كانت أماكن عموميَّة، وكانت الكتابات القانونيَّة وثائق عموميَّة، على الرَّغم من أنَّ قلَّة من النَّاس فقط كان بإمكانهم الوصول إليها؛ وبدلاً من ذلك؛ أصبحت عموميَّة بطرق مختلفة. إنَّ سماتها المُميزة تتجلَّى في وجود عددٍ أكبر من المؤولين الجُدُد، وبالتَّالي؛ يخلق وجودُهم انخراط جمهور أوسع وأكثر تَنوُّعاً.

تضمُّ المحادثات والبلاغات/التَّعليقات الَّتي تساهم في هذا الفضاء العموميِّ شركاء وقنوات ووسائل إعلام ومواضيع وأنواعاً وأعرافاً تواصليَّة موثوقة وراسخة داخل أشكال مختلفة من الواقع الاجتماعيِّ. ويمكن اعتبار النَّتيجة مُعقَّدة ومتلاشية في نفس الوقت ما دامت الزِّيادة في الطَّابع العموميِّ لا تؤدِّي حتماً إلى مشاركة أكبر في الحياة الجمعويَّة (associational) - لكنَّها تُمثِّل الأساس الَّذي يمكن أن تنبثق منه الجمعيَّات.

ارتقَت بعض القنوات والمواضيع والأنواع إلى مكانة بارزة؛ جعلتها تستميل، في المقام الأوَّل، مُدرِّسين ومهندسين وأطبَّاء ومحاسبين مسلمين من الطَّبقة الوسطى، وهم الَّذين تُوظِّف هذه الأعرافُ التَّواصليَّة تقنياتهم الفكريَّة والتَّحليليَّة. تجتذب هذه الأنواع الجديدة شرائح اجتماعيَّة سهلة التَّعريف؛ تماماً كما أنتجت إحدى الأشكال البيروقراطيَّة للتَّصوُّف في وقت سابق من هذا القرن بيروقراطيَّة ناشئة في مصر (gilsenan 1973). أمَّا الأنواع الأُخرى، مثل الهاتف وقنوات التِّلفزيون المحلِّيَّة، بل حتَّى الموجَّهة للأحياء في تركيا، فتناسب البنيات الشَّبكيَّة المُشخصنة وسلوك البحث عن المعلومة لدى المهاجرين البروليتاريِّين، الَّذين أصبحت شبكات الأقارب والأصدقاء الخاصَّة بهم مُشتَّتة على نطاق واسع، بل عالميٍّ. وعلى الصَّعيد الاجتماعيِّ؛ اكتسبت بعض الدَّعوات طابعاً عالميَّاً، مثل تلك الخاصَّة بالرَّاحل علي شريعتي (إيران) والسُّوداني حسن التُّرابيِّ، الَّذي صاغ التَّعلُّم التَّقليديَّ بطريقة حديثة لتجاوز المعرفة التَّقليديَّة في الأسلوب والمضمون. كما اجتذب السُّوريُّ محمَّد شحرور والإيرانيُّ عبد الكريم سروش بالمثل أتباعاً ومؤوِّلين ومترجمين لنشر أفكارهم.

لا يمكن فصل خطابات هؤلاء المفكِّرين، بالإضافة إلى خطابات العديد من الأشخاص المجهولين، عن سياقها؛ ليس فحسب من حيث اللَّهجة والأسلوب، بل أيضاً من حيث وسائل الاتِّصال الَّتي يختارونها هم وغيرهم. ففي حقبة قنوات الاتِّصال المتعدِّدة والبديلة؛ يمكن التَّأكيد أنَّ المسائل المرتبطة بكيفيَّة الوصول إلى جماهير مُختلفة، وكيفيَّة الاستماع إلى خطابات ذات محتوىً دينيٍّ وسياسيٍّ في الشَّرق الأوسط الجديد والعالم الإسلاميِّ، وماهيَّة الحدود المفروضة على الشَّكل والمحتوى في مختلف قنوات التَّواصل، لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن مسألة المحتوى الصَّريح لخطاباتها. لقد تمَّ إيلاء الكثير من الاهتمام للكيفيَّة الَّتي تتقيَّد من خلالها المؤسَّسات المعترف بها رسميَّاً من قِبَل الدَّولة بحدود الكياسة المتَّفق عليها. غير أنَّ اهتماماً أقلَّ تمَّ إيلاؤه لوسائل إيصال {اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (القرآن31: 22) ولاستخدام آية قرآنيَّة توحي بكيفيَّة ارتباط الانقياد للإسلام بالأواصر المتداخلة للقرابة واللُّغة والأُمَّة؛ والَّتي تساهم على قدم المساواة في خلق المؤسَّسات وتشتُّتٍ صحِّيٍّ للسُّلطة. تتراوح هذه الوسائل بين أبسط الهواتف المستعملة لتعبئة الشَّبكات المشتتَّة للمهاجرين في ضواحي الطَّبقة العاملة في إسطنبول، والإنترنت المستعمَل لخلق شبكات جديدة للجاليات الشَّرق أوسطيَّة ما وراء البحار، إنَّها تشمل أيضاً أنواعاً معدَّلة من القصص الغراميَّة الإسلاميَّة والكتب السِّياسيَّة الهزليَّة المصوَّرة والمجلَّات القانونيَّة الجديدة في إندونيسيا، والموادِّ التَّعليميَّة الدِّينيَّة المستوردة من أجل المسلمين الأمريكيِّين من أصلٍ إفريقيٍّ. إنَّها تمتدُّ إلى إنتاج الأفلام والمجلَّات؛ إلى جانب أشرطة الهواة ومنشوراتهم، وكلُّها أطراف في محادثات دوليَّة مُتعدِّدة ومتداخلة.

جماهير جديدة ووسائل إعلام جديدة

في كلِّ أنحاء العالم الإسلاميِّ -في جنوب وجنوب شرق آسيا، والشَّرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا، والجاليات المسلمة في أوربا والولايات المتَّحدة، وفي أماكن أُخرى- نجد أنَّ النِّقاشات الشَّفاهية المتزايدة حول ما معنى أن تكون مسلماً وكيف تعيش حياة إسلاميَّة غالباً ما تتحوَّل بطرق جِدُّ متباينة من سياق إلى آخَر؛ الأمر الَّذي يعني أنَّ الجماهير المتاحة قد اتَّسعَت بشكل كبير ليس فقط من حيث الأعداد أو النِّطاق الجغرافيِّ، بل أيضا من حيث تنوُّع الآراء حول ما الَّذي كان ممكناً منذ عقود قليلة سابقة فقط. فأثناء نشر سلمان رشدي لكتابه (آيات شيطانيَّة) عام 1988؛ ركَّزت التَّغطية الصَّحفيَّة المعارضة في باكستان على كيفيَّة مَنْعِ الرَّقابة الحكوميَّة القاسية المسلمين الباكستانيِّين الملتزمين من المناقشات الَّتي ابتدأها نظراؤهم في أماكن أخرى. وهكذا؛ كتب مُحرِّر «تكبير» (كراتشي)، الجريدة الأسبوعيَّة ذات الانتشار الجماهيريِّ، عن المأساة المتمثِّلة في إمكانيَّة حصول المسلمين في بريطانيا والولايات المتَّحدة مباشرةً على كتاب رشدي، حتَّى وإن كان الكتاب قد جرحَ مشاعرَهم، وحرص الرَّقابة على تجهيل المسلمين في باكستان وفقدانهم القدرة على المساهمة في النِّقاشات الدُّوليَّة (salah ud-din 1989).

لقد بات بعض المفكِّرين الجُدُد المشاركين في النِّقاشات داخل العالَم ذي الغالبيَّة المسلمة معروفين أكثرَ بما أنَّ حدود النِّقاشات والقنوات الَّتي تمرُّ عبرها النِّقاشات قد تغيَّرت. ومع ذلك؛ فَمِن سخريةِ القدر أن تعيق الاختلافات اللُّغويَّة داخل العالم الإسلاميِّ تداول الأفكار بشكل كبير في الوقت الَّذي تظلُّ فيه اللُّغة العربيَّة وسيطاً عالميَّاً على مستوى من المستويات. فمثلاً: يُمكن لبعض المثقَّفين الدِّينيِّين الإندونيسيِّين؛ الَّذين تلقَّوا في الغالب تدريباً في الولايات المتَّحدة وكندا، أن يقوموا بتحليل التَّطوُّرات في العالم العربيِّ، لكن لا أحد من المثقَّفين العرب يتابع فعليَّاً النِّقاشات المتعلِّقة بالحياة الفكريَّة والسِّياسيَّة الإسلاميَّة في جنوب شرق آسيا (madjid 1997). وبالنِّسبة إلى بعض المثقَّفين المسلمين؛ برزت اللُّغة الإنجليزيَّة كوسيط مُفضَّل لإثارة الانتباه إلى الأفكار الجديدة. لقد لاحظ مُفكِّرٌ دينيٌّ عربيٌّ رائد مؤخَّراً أنَّه، حتَّى لكي تنشر أفكارك في العالم العربيِّ؛ تحتاج أن تجعل أفكارك معروفة في العالَم النَّاطق باللُّغة الإنجليزيَّة، ومأخوذة على محمل الجدِّ من قِبَل المتحدِّثين بالإنجليزيَّة؛ سواءٌ أكانوا مسلمين أو غير مسلمين (personal communication, new york, march 22, 1997).

تساعد وسائل الإعلام الجديدة هذه السَّيرورة بشكل كبير. فقنوات الاتِّصال الصُّغرى والنَّاشئة الآخذة في الانتشار ليست جماهيريَّة كما هو الحال بالنِّسبة للطِّباعة التَّقليديَّة والبثِّ الإذاعيِّ؛ فهي تنشأ وتُستهلَك داخل حقول متخصِّصة وطوعيَّة بحيث لا يمكن تمييز المنتجين والمستهلكين، والمرسِلين والمستقبلين؛ مقارنةً بالمذيعين أو الصَّحافة ومشاهديهم. بدلاً من ذلك؛ يندمجون في نوع من الجماعة عبر الوطنيَّة؛ الَّتي تنقل مركز النِّقاش وزخمه خارج الحدود أو إلى ما وراء البحار؛ لأنَّ تكنولوجيَّاتها متنقِّلة، أو نشأت هناك بالأساس (anderson 1997). وهذه المساهمات مجهولة الهويَّة في بعض الأحيان، كما هو الحال مع بعض المنشورات على الإنترنت، وهو تكتيك يُحدِّد مفهوم الجمهور انطلاقاً من المشاركة، مثلما قد تفعل الكُتيِّبات المحظورة. في أمريكا الكولونياليَّة والسنَّوات المبكرة للجمهوريَّة الأمريكيَّة؛ كانت الكُرَّاسات المجهولة الهويَّة عاملاً رئيساً في الحفاظ على فضاءٍ عموميٍّ ناشئ (warner 1990). وفي بعض الأحيان؛ تلعب الكُتيِّبات المجهولة المصدر أو المنشورات على الإنترنت دوراً مماثلاً اليوم، كما يفعل المتحدِّثون العامُّون (generic spokespersons) في الصَّحافة التَّقليديَّة؛ على الرَّغم من أنَّ خطابات كهذه يصعب تمييزها في بعض وسائل الإعلام الجديدة عن تلك الَّتي تصدر عن المجانين أو العناصر الهامشيَّة، أو عن التَّعتيم الممارَس من طرف المصالح الأمنيَّة الإقليميَّة.

وما عدا تركيا، وفي لبنان حتَّى وقت قريب حيث تزايد تقييد وسائل الإعلام المبثوثة، المملوكة للقطاع الخاصِّ منذ نهاية الحرب الأهليَّة عام 1995 (norton 1997)؛ يظلُّ التِّلفاز والرَّاديو مجالاً للمؤسَّسات الرَّسميَّة التَّابعة للدَّولة عادةً، أو، كما في حالة شبكة تلفزيون الشَّرق الأوسط (mbc) المملوكة للسُّعوديَّة، تدعم المصالح التِّجاريَّة للمؤسَّسة؛ ما يحدُّ نطاق التَّعبير التَّحريريِّ لديها. ومن خلال وسائل الإعلام هذه؛ تُعبِّر المؤسَّسات عن رؤاها بخصوص التَّعليم والعبادة والخدمات الاجتماعيَّة والسِّياسة والتَّرفيه (alterman 1998; 15- 24). فهي تُقدِّم، انطلاقاً من الشَّبكة، نمطاً اتِّصالاتيَّاً مُرخَّصاً له يتَّجه من القمَّة إلى القاعدة؛ ما يدفع الأصوات المنافسة في الغالب إلى التَّوجُّه نحو وسائل الإعلام الصُّغرى البديلة. لقد أصبحت الأشرطة الصَّوتيَّة وأشرطة الفيديو منتشرةً على نطاق واسع في الشَّرق الأوسط، كما أنَّ معظم البلدان باتت تعترف بأهمِّيَّتها من خلال إجراء عمليَّات تفتيش صارمة عند الحدود؛ حيث تخضع لفحصٍ دقيقٍ خاصٍّ. تحظر قوانين الاتِّحاد البريديِّ العربيِّ نشرَ الأشرطة الصَّوتيَّة وأشرطة الفيديو. مثل هذه الأشرطة تنشر المواعظ والإرشاد الدِّينيَّ والأناشيد، وأحياناً الموسيقى الشَّعبيَّة الهدَّامة، بما في ذلك موسيقى الرَّاي من شمال أفريقيا، فضلاً عن موادَّ ترفيهيَّة أُخرى، إنَّها تستعمل تكنولوجيا متاحة وذات تكلفة منخفضة، ولغات محلِّيَّة لجعل الخطابات تعبر الحدود وتتجاوز الجهات الرَّسميَّة الَّتي نصَّبَت نفسها وصيَّةً على الدِّين والثَّقافة. إنَّها توسِّع جماعات خطباء المساجد أو المنطقة المحلِّيَّة، وأيضاً، كما أظهر باب babb ووادلي wadley (1995) بالنِّسبة إلى الهند، تُضفي التَّجانس وترسم حدود الأقاليم والمناطق المحلِّيَّة. تنضاف إلى هذه الأشرطة وسائل الإعلام أُخرى كمحطَّات التِّلفزيون والرَّاديو المحلِّيَّة منها والموجَّهة للأحياء السَّكنيَّة في تركيا، بالإضافة إلى أشكال من البثِّ المحدود؛ تشمل الكرَّاسات والمنتديات في الإنترنت والهاتف. مثل هذه الأشكال من وسائل الإعلام؛ تربط الهويَّة الدِّينيَّة والعمل المدنيَّ بأنشطة الحياة اليوميَّة والعائلة والجوار والتَّعليم واللِّباس والتَّشريع وأنماط الاستهلاك.

لقد أعادت وسائل الإعلام الجديدة توصيف الجمهور كجماعات؛ لأنَّ القواسم المشتركة بين المرسِلين والمتلقِّين كثيرة للغاية، ليس فقط من حيث الاهتمامات؛ بل أيضا من حيث الأسلوب الثَّقافيِّ والمكانة الاجتماعيَّة. وبينما لا يُضاهي انتشار الإنترنت إنتاج واستهلاك أشرطة الفيديو والكُرَّاسات؛ فإنَّه، مع ذلك، يُعيد إنتاج الكثير من هذه السِّمات في الطَّرف الآخَر من السُّلَّم الاجتماعيِّ. وباعتبارها سمة مُميِّزة لكلِّ وسائل الإعلام الجديدة هذه؛ تتقلَّص المسافة الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة على الإنترنت بين المنتِج والمستهلك بشكلٍ جذريٍّ. وعلى نحوٍ مُماثل، فبالنسبة لمجلَّات صغيرة لكنَّها مؤثِّرة في مصر، أو مجلَّات دوريَّة في القانون في إندونيسيا، يكتسي حجم الجمهور في بعض الأحيان أهمِّيَّة أقلَّ من نوعيَّة وطبيعة الجمهور المستهدف لغرض مُعيَّن.

ثمَّة سمة مميِّزة أخرى في وسائل الإعلام الجديدة؛ ذلك أنَّها تشغل الفراغ الفاصل بين المستوى التَّعليميِّ العالي (super-literacy) لدى المتخصِّصين الدِّينيِّين التَّقليديِّين والمستوى التَّعليميِّ المنخفض (sub-literacy) أو الأُمِّيَّة لدى الجمهور. وتجد هذه الوسائل موطنها الطَّبيعيَّ في الطَّبقات البرجوازيَّة المتوسِّطة النَّاشئة في العالم الإسلاميِّ. إنَّها تعتمد بشكل خطير - حسب وجهة نظر التَّقليديِّين- على تقنيات من مجالات إعلاميَّة متعدِّدة، تنتج خطابا هجيناً غير مرخَّص له في أيِّ مكان، لكنَّه بدلاً من ذلك يُشكِّل خطاباً وسيطاً لربط الآخرين مع بعضهم البعض (anderson 1995). وتبدو النَّزعة الانتقائيَّة الَّتي تسمح بها مثل هذه الأشكال من الاتِّصالات جذَّابةً بالنِّسبة للمتحمِّسين. كذلك تأتي هذه الأشكال في سياق ارتفاع مستوى التَّعليم الجماهيريِّ على مدى جيلٍ كامل في البلدان الإسلاميَّة، وفي سياق تمدُّن متواصل ساهم في ملء المدن بكلٍّ مِن البروليتاريِّين الباحثين عن العمل، والخبراء الباحثين عن وظائف، علماً أنَّ حركيَّة هؤلاء لها بُعدٌ دوليٌّ. إنَّ هجرة اليد العاملة الَّتي جاءت بالخادمات السِّيريلانيكيَّات والفِلِبِّينيَّات وعمَّال البناء الباكستانيِّين إلى الخليج العربيِّ؛ هي نفسها الَّتي تُسهِّل هجرة الأطبَّاء والمهندسين والمعلِّمين والمدراء المصريِّين والفلسطينيِّين والباكستانيِّين. ومن المرجَّح أن يكون معظم المهاجرين العمَّال في العالم الإسلاميِّ من المسلمين؛ الشَّيء الَّذي يُعزِّز الخاصِّيَّة الدُّوليَّة والهجينة لفضائهم العموميِّ باعتباره فضاءً وسيطاً وليس مجرَّد فضاء مُفكَّك أو مُشتَّت. فهم الَّذين يستهلكون وينتجون أوَّلاً وسائل الإعلام الجديدة، من موسيقى الرَّاي إلى مجموعات تبادل الأخبار على شبكة الإنترنت.

تخلق الجماهير الَّتي تظهر حول هذه الأشكال من الاتِّصال عولمةً قاعديَّة مكمِّلة لتقنيات العولمة المعروفة في التَّمويل والتَّسويق الشَّامل ومعتمدة عليها. وبينما تُدار العولمة الفوقيَّة من قِبَل الشَّركات المتعدِّدة الجنسيَّات، ترتبط العولمة القاعديَّة تقليديَّاً بهجرة اليد العاملة. فكلاهما يُشكِّل اندماجاً في عالمٍ تكنولوجيٍّ مُتنامٍ باستمرار. ويتشكَّل جوهرهما، من جهة، من كفاءات مهنيَّة توجد على الأقلِّ بشكلٍ جزئيٍّ في المكان الملائم من حيث وسائل الاتِّصال المتعدِّدة ومهارات لتشغيل هذه الوسائل، ومن جهة أُخرى؛ من المزيد من نظرائهم البروليتاريِّين الَّذين يستعملون وسائل الإعلام الجديدة لدمج الشَّبكات الممتدَّة للعلاقات المسمَّاة بصيغة أُخرى تقليديَّة. ومن بين تقنيِّي العولمة إضافةً إلى المشاركين فيها؛ يُعتبر هؤلاء المهنيُّون منتجين ومستهلكين؛ إذ إنَّهم يُشكِّلون جماعات خاصَّة بمستواهم السَّلس والقادر على الاستيعاب، والمعتمد على الاتِّصالات المشتركة، وهذا أقلُّ تعريف لِمَا يُشكِّل فضاءً عموميَّاً.

النَّاس الجُدُد:

نعني بالنَّاس الجُدُد؛ أولئك الَّذين بزغوا واستفادوا من النُّموِّ الهائل في التَّعليم الجماهيريِّ الحديث؛ خاصَّةً التَّعليم العالي. فقد اتَّسعت دوائر محو الأُمِّيَّة وتقوَّت بشكل كبير؛ مُنشئةً صلةً قويَّةً بين جمهور لا يعرف الكتابة والقراءة، ونخبة ذات إلمام بالكتابة والقراءة. لقد نشر جيل من المدارس الدِّينيَّة، سواءٌ تلك الَّتي ترعاها الدَّولة أو تلك المدارس الخاصَّة المتكاثرة والمستقلَّة عن دعم الدَّولة، تقنيات محو الأُمِّيَّة، وخلقت الطَّلب على منتجاتها، وذلك جنباً إلى جنب مع الشُّعور بالحقِّ في تأويل النُّصوص الدِّينيَّة أو اختيار التَّأويلات المتوافقة مع الاحتياجات العمليَّة الفوريَّة والطُّموحات. تأخذ الصَّفوة العابرة للحدود والمجسِّدة لهذه العيِّنة السُّكَّانيَّة شكلَ خبراء مُتنقِّلين - مثل طبيب نفسيٍّ تونسيٍّ مسلم في سانت لويس، أو طبيب أمراض نسائيَّة صوماليٍّ مُسلم في تورنتو، أو مُبرمج كمبيوتر مصريٍّ مسلم في وادي السِّيليكون. لكن تعتبر النَّماذج الأبسط للمستفيدين من التَّعليم العالي الشَّامل على القدر نفسه من الأهمِّيَّة، مثل الأشخاص ذوي تعليمٍ أقلَّ، وهو تعليم على أيَّة حال، وهم الَّذين يهاجرون من القرى الرِّيفيَّة إلى ضواحي الطَّبقة العاملة في إسطنبول أو القاهرة أو دكَّا.

تدين دائرة أولئك المتأثِّرين بوسائل الإعلام الجديدة في اتِّساعها إلى تأسيس هذا التَّعليم الموسَّع الَّذي يُشكِّل سوقاً للخليط الجديد من الأفكار. فَمِن حيث المبدأ؛ كانت الجامعات أو الجوامع التَّقليديَّة (المدارس) في العالم الإسلاميِّ مفتوحةً في وجه كلِّ أعضاء الجماعة، ومن النَّاحية العمليَّة؛ خوَّلت لنخبة ضيِّقة سلطة تأويل التَّقاليد ونقل التِّقنيات التَّأويليَّة الموثوقة إلى الآخرين (eickelman 1992: 106- 10). لا يعني التَّعليم الجماهيريُّ الحديث المزيد من المهارات الواسعة الانتشار فقط، بل يعني أيضاً أرصدة مُتنافسة أوسع من التِّقنيات والصَّلاحيَّات الفكريَّة، ونقض الهويَّة الحصريَّة المنغلقة الَّتي كانت في السَّابق تُميِّز الجماعات الخطابيَّة.

تُوسِّع هذه التَّحوُّلات نطاق المشاركين في المناقشات حول القيم والممارسة الإسلاميَّة. هكذا؛ تجد النِّساءُ والأقلِّيَّات طريقَها إلى ساحات الخطاب السِّياسيِّ والدِّينيِّ. قد تعترف النِّساء في إيران شكليَّاً بالمؤوِّلين الذُّكور للخطاب الإسلاميِّ، غير أنَّ هذا الاعتراف غالباً ما يكون موسوماً بسخرية وشكٍّ ليس بالمقدور إخفاؤهما، وتلك أسلحة الضَّعيف في مواجهة السُّلطة الاعتباطيَّة (torab 1996:241-44). يساهم الأشخاص المتعلِّمون الَّذين ليسوا علماء دين بشكل متزايد في النِّقاش المتعلِّق بالمسائل الشَّرعيَّة، ويخلقون مواقع بديلة للخطاب والتَّمثيل الدِّينيِّ. ويدَّعي العديد منهم الشَّرعيَّة على أساس التَّأويلات المُيسَّرة والمُنسَّقة والبسيطة للنُّصوص الأساسيَّة. أمَّا النَّقد الوارد من الدَّارسين الَّذين تلقَّوا تعليماً تقليديَّاً، والَّذين تراجعت أعدادهم؛ فلا يُخفي حقيقة أنَّ وسائل الإعلام الجديدة توظِّف جماعات أوسع وأكثر عموميَّة للمطالبة بالأحقِّيَّة في التَّأويل وتوفير تقنيات تفسير إضافيَّة.

وفي مجال نشر الكتب؛ يضرب لنا المؤلِّف والمهندس المدنيُّ السُّوريُّ محمَّد شحرور أبلغَ الأمثلة على هذه المسألة. فمقاربته بخصوص إعادة التَّفكير في معنى القرآن تقودنا نحو المفهوم الكانطيِّ عن تنوير العامَّة من خلال الأفكار بشكلٍ مستقلٍّ عن وضع الكاتب؛ بحيث يتمُّ تقييم هذه الأفكار من خلال قوَّتها الإقناعيَّة فقط. وعلى الرَّغم من طول الكتاب الأوَّل لشحرور (ما يربو عن 800 صفحة) وتكلفته (نصف راتبٍ شهريٍّ لمهندسٍ حكوميٍّ في مصر)؛ فقد بيعَت منه أكثر من 25000 نسخة من طبعات مُرخَّصة في سوريا، وبيعت أعداد أكثر بكثير من هذا العدد من الطَّبعات المُقرصنة والمنسوخة في جميع أنحاء الشَّرق الأوسط العربيِّ، حدث هذا على الرَّغم من أنَّ الكتاب طالَه الحظر الرَّسميُّ في الكثير من بلدان المنطقة (eickelman 1993; interview, eickelman with muhammad shahrur, hanover, n. h., november 27, 1998).

وعلى الطَّرف الآخَر من الطَّيف؛ يظهر الوُعَّاظ (الخطباء) الَّذين تُدفَع أجورهم من قِبَل الحكومة على التِّلفاز من المغرب إلى باكستان. وقد حصد بعض الوُعَّاظ، مثل المصريِّ محمَّد متولِّي الشَّعراويِّ، والسُّوريِّ سعيد رمضان البوطيِّ؛ شهرة إعلاميَّة واسعة. ومع ذلك؛ يواجه العديد منهم صعوبة في توسيع تأثيرهم ليتجاوز نطاقَي خطبة الجمعة والجامع أو الجامعة. ومن باب المقارنة؛ انضمَّ شحرور إلى حلقة من المؤوِّلين للإسلام تتَّسع باستمرار، وهؤلاء يربطون بين التَّعبير العامِّيِّ والتَّعليم الحديث والمواضيع الإسلاميَّة. ثمَّة عدد قليل من المدارس ما تزال حتَّى الآن تشتغل، ولها مقرَّرات تعليميَّة وهيأة تدريس، على الرغم من أنَّ الجامعة الإسلاميَّة الدُّوليَّة في ماليزيا، ونظيرتها في هرندن، فيرجينيا، تستهدف مشاهدين حديثين (ودوليِّين) من خلال الإنترنت، مثلما تفعل فروع الطُّرق الصُّوفيَّة، والمتابعين لعمل المفكِّر الإيرانيِّ عبد الكريم سروش، وبعض التَّنظيمات الدَّعويَّة، وبعض المدارس الثِّيولوجيَّة في قُم، ومدرسة تدريب دينيَّة واحدة على الأقلِّ في باكستان.

تفكير جديد:

تُعتبر إعادة إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ على الخطاب الإسلاميِّ واحدة من السِّمات المميِّزة للمجال العموميِّ الجديد. فما زال النَّدب والوعيد ضدَّ الفكر الغربيِّ أمراً شائعاً، لكنَّ منتقدي المثقَّفين الصِّغار الإسلاميِّين أو الإنتلجنسيا الَّتي لا أثر لها على المجتمع (lumpen inltelligensia) -إن شئنا استعمال مصطلح أوليفييه روا (1992: 72)- يخطئون الهدف حين يغفلون أنَّ هؤلاء المفكِّرين ينضمُّون بنجاح إلى جماعات خطاب عالميَّة ومحلِّيَّة، ويصلون إلى جماهير عريضة أوسع من سابقيها.

نقصد بإعادة إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ؛ تقديم العقيدة والخطاب الإسلاميَّين بطرق سهلة المنال وبلغة عاميَّة، حتَّى لو كان هذا يساهم في إعادة تشكيلٍ أساسيٍّ للعقيدة والممارسة. لقد كانت إعادة إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ في بعض الأحيان تُعتبر مجالاً للإسلام الشَّعبيِّ أو المحلِّيِّ، وهي خانة كانت عرضة للنَّقد بسبب صرفها الانتباه عن حضورِ العالميِّ في المحلِّيِّ في جميع أنحاء العالم الإسلاميِّ. لكن؛ هناك تفاعل متزايد في وسائل الإعلام الجديدة ومع النَّاس الجُدُد؛ إذ لم ينتقل الخطاب الإسلاميُّ إلى العامِّيَّة ويصبح سهل المنال لجماهير عريضة ومهمَّة فحسب، بل إنَّه أيضاً أصبح مؤطَّراً داخل أساليب للاستدلال وأشكال من الحجاج تعتمد على حقول معرفيَّة أوسع وأقلَّ حصريَّةً أو تضلُّعاً، بما في ذلك تلك المتعلِّقة بالعلم والهندسة التَّطبيقيَّتين. لقد استقى شحرور صوَره من القرآن والهندسة المدنيَّة، بالإضافة إلى لسانيَّات دي سوسور de saussure وسابير sapir ووورف whorf. ففي عالمٍ فكريٍّ من الأنساق والمواضيع؛ يصبح الإسلام قابلاً للمقاربة بطرق مختلفة، كنسق واحد ضمن عالم من الأنساق. لقد عرف الإسلام لفترة طويلة باعتباره نسقاً بديلاً من بين أنساق متنافسة تهمُّ العقيدة والممارسة الدِّينيَّتين، ويملك قابليَّة لتقنيات تأويليَّة مُتعدِّدة. وهذا في حدِّ ذاته ليس أمراً جديداً؛ إذ بمقدور المرء أن يذكر عليَّ بن حزم الأندلسيَّ (994-1064) الَّذي ألَّفَ كتابات مستفيضة عن مختلف الطَّوائف الإسلاميَّة؛ فضلاً عن معتقدات اليهود والمسيحيِّين، وعن المُبشِّرين المسيحيِّين في أندلس القرن الثَّالث عشر؛ الَّذين تعلَّموا اللُّغة العربيَّة من أجل إقناع المسلمين ببطلان عقيدتهم وحقيقة المسيحيَّة، أمَّا الآن؛ فقد باتت التَّباينات الملحوظة تمتدُّ خارج الأنساق الدِّينيَّة، لدرجة أنَّ بعض المؤمنين ينظرون إلى الإسلام باعتباره يتنافس مع المجالات العلميَّة، من ناحية، ومع الفلسفات السِّياسيَّة العلمانيَّة من ناحية أُخرى (على سبيل المثال، ahmed 1992).

التَّأكيد على غلق باب الاجتهاد في وقت من الأوقات مسألة إشكاليَّة. (eickelman and piscatori 1996: 26). بدلاً من ذلك؛ تمَّ تقسيم الممارسة الإسلاميَّة في الفترة الحديثة في مصر وإيران وأجزاء من شمال أفريقيا وجنوب آسيا إلى مؤسَّسات مُستقلَّة تحت حكم الحكومات الاستعماريَّة أو العلمانيَّة. لكن حتَّى أشكال التَّكيُّف الدِّفاعيَّة؛ بدءاً من الرُّدود الإسلاميَّة على الإمبرياليَّة في شمال الهند في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر، كانت مصحوبة بإعادة تأويل مستمرَّة. ففي شكلها التَّقليديِّ العتيق، كفقه قانون يتمُّ تأويله من قِبَل الدَّارسين الَّذين درسوا بشكلٍ تقليديٍّ؛ أصبحت الشَّريعة مُهمَّشة أكثر فأكثر، وعديمة الصِّلة بالحياة الاجتماعيَّة، ولا تهمُّ سوى علماء الدِّين فقط. وفي شكلها الجديد كمجموعة من القواعد المعياريَّة الَّتي تناقش بشراهة في المجال العموميِّ؛ فإنَّنا لا نُسجِّل تطبيق عناصر منها في ظروف مُستجدَّة في الغالب فحسب، بل أيضا كونها صارت عنصراً مهمَّاً في البرنامج السِّياسيِّ (brown 1997: 374, eickelman 1998: 258, nauimi 1996, salvatore j 998b). لقد نحا أحدُ الاتِّجاهات صوبَ الخَوصَصة الفعليَّة للعقيدة الدِّينيَّة، بينما نحا اتِّجاه آخَر صوب المعتقدات الرَّاديكاليَّة، مثل مبدأ الخمينيِّ المتعلِّق بولاية الفقيه، الَّذي يؤكِّد على سيادة الفقهاء على النُّصوص الَّتي يؤوِّلونها. ومع ذلك؛ فحتَّى بين الفقهاء في إيران كان هناك نقاشٌ حادٌّ بخصوص ما إذا كان مذهب الخمينيِّ يتخطَّى الدَّور المناسب للمؤسَّسة الدِّينيَّة للشِّيعة (mir-hosseini 1999). وبرغم ذلك؛ يُجسِّد هذان الموقفان فقط طرفَي السِّلسلة الفكريَّة؛ حيث تقرُّ الحلقات الوسطيَّة عمليَّاً بوجود مجالٍ عموميٍّ دينيٍّ مُتنامٍ، وبالنَّقاش الحادِّ والتَّنوُّع داخله.

تتجذَّر إعادة إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ على الإسلام في تجارب المؤمنين الحاليَّة أكثر من رسوخها في تقاليد التَّأويل البالية. وفي هذا الصَّدد؛ ينتقل الخطاب والممارسة الإسلاميَّين بشكل سريع من الأشكال المحدودة ذهنيَّاً؛ والَّتي احتلَّتْهَا بعد تقدُّم التَّوسُّع الإمبرياليِّ الأوربيِّ في الأراضي الإسلاميَّة إلى حوار داخليٍّ وخارجيٍّ أكثر ثقة وأكثر تمايزاً. يجتذب العنصر الدَّاخليُّ لإعادة إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ عدداً أكبر من المؤمنين إلى معتقدات إسلاميَّة مُعلَنة بشكل صريح أكثر مِمَّا فعلت سابقاتها. وكما نقل غافني gaffney (1994) في تحليله المفصَّل للمواعظ المصريَّة الإقليميَّة؛ فإنَّ الَّذين يُعرَّفون على أنَّهم إسلاميُّون؛ لا يبنون سلطتهم على سمعتهم الشَّخصيَّة ومعرفتهم بالنُّصوص فقط، بل من خلال قدرتهم المتزايدة على إثبات فهمهم العمليِّ للمجتمع وقدرتهم على مشاركة فهمهم للتَّحدِّيات اليوميَّة مع جمهورهم. وعلى نحوٍ مُماثل في إندونيسيا؛ فإنَّ المثقَّفين الدِّينيِّين المؤثِّرين سياسيَّاً هم أولئك القادرون على إيصال معتقداتهم إلى عدد واسع من المسلمين، وعلى تحقيق توازن دقيق بين مقتضيات الدَّولة والمجال العموميِّ الدِّينيِّ المتنامي بشكلٍ مُطرد (hefner 1997). وكما لاحظَت أصواب محاسن aswab mahasin، وهي ناشطة إندونيسيَّة في حقوق الإنسان، فإنَّ التَّأثير المتنامي للأساليب الاجتماعيَّة للمسلمين في المجال العموميِّ جعل العديد من النَّاس الَّذين كانوا في السَّابق يشعرون بالحرج بسبب معتقداتهم، لأنَّها تبدو مُتخلِّفة وغير حديثة، فخورين بالتَّصرُّف كمسلمين (مذكور في hefner 1997: 111). وعلى نفس النَّمط، لطالما كانت العلاقة بين السُّلطة الدِّينيَّة الشِّيعيَّة (المرجع) وأتباعهم ذات اتِّجاهين، فآيات الله الطَّموحون يُعدِّلون فتاويهم لجعلِها ملائمة للرَّأي الشَّعبيِّ، تماماً كما يذعن آيات الله الإصلاحيُّون في كثير من الأحيان لرغبات أتباعهم. يتجلَّى التَّطوُّر الرَّئيس للفكر الدِّينيِّ الإيرانيِّ في حقبةِ ما بعد الثَّورة في مواجهة رجال الدِّين الَّذين تلقَّوا تعليمهم في الحوزة العلميَّة بقُمْ لتحدِّي المثقَّفين المسلمين الَّذين تعلَّموا خارج الحوزة العلميَّة، مثل عبد الكريم سروش المتعلِّم بلندن (mir-hosseini 1999). وفي جميع الأوقات؛ كان المؤمنون ينشدون الفتاوى من السُّلطات الدِّينيَّة لترشدهم في قضايا مُحدَّدة. وفي المقابل؛ استجابت الفتاوى بشكلٍ تقليديٍّ لحالات فريدة، ولم تكن تطمح أن تبلغ مرتبة بلاغات عامَّة عن المذهب أو الممارسة. وعندما تنشر أو تبثُّ، ومن ثمَّ يتمُّ توزيعها على نطاق واسع؛ فإنَّها تؤدِّي وظائف مختلفة، وبشكل كبير مجهولة الهويَّة و»عموميَّة».

مجالٌ عموميٌّ دينيٌّ جديد:

إنَّ وضعيَّة وسائل الإعلام الجديدة والنَّاس الجُدُد، وإعادةَ إضفاء الطَّابع التَّثقيفيِّ على الخطاب الإسلاميِّ؛ لها تداعيات واسعة. أوَّلها: أنَّ نقلَ الخطابات من وسيط إلى آخَر يُغيِّر التَّوازن لدى ما يتمُّ تداوله، ومَن يُقدِّم الأفكار الجديدة. إنَّ انتشار فاعلين قادرين على تقمُّص دورٍ عموميٍّ يؤدِّي إلى تفتيت السُّلطة، ويزيد من أعداد الأشخاص المشاركين في خلق مجالٍ عموميٍّ دينيٍّ- مدنيٍّ والحفاظ عليه. فحتَّى رفع الشِّعارات -سواءٌ من خلال الكتابة على الجدران أو المنشورات المنسوخة المجهولة المصدر أو الكُرَّاسات - يُغيِّر نوعيَّاً مجموع الخطاب الإسلاميِّ، بل أكثر من ذلك بكثير ما دامت هذه الوثائق مجهولة المصدر. كذلك؛ فإنَّ نقلَ القضايا الدِّينيَّة (والسِّياسيَّة) إلى وسائل الإعلام الجديدة يُغيِّر البيئة التَّشاركيَّة للخطاب الإسلاميِّ، ويُصنِّف القضايا الدِّينيَّة بشكلٍ إبداعيٍّ، إلى جانب التِّجارة والتَّرفيه والمِهَن، ويساهم في الانتشار الأكبر للمواضيع الدِّينيَّة في حياة عموميَّة يُعاد تعريفها أكثر فأكثر.

إنَّ قضايا مثل تلك الَّتي تتعلَّق بِمَن يظهر على التِّلفاز الوطنيِّ وينشر الكتب والجرائد المتداولة على نطاق واسع، ومَن يقتصر على وسائل الإعلام الصُّغرى؛ تُساهم في تشكيل مجالٍ عموميٍّ جديد. فمثل هذا التَّصريف -مَن يحقُّ له التَّكلُّم في وسائل إعلام مُعيَّنة أو يُبعَد إلى أُخرى- كان دائما يتضمَّن عوامل متشابكة ومركَّبة، مثل الرَّقابة الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة، والبنية التَّحتيَّة المتاحة، والمراقبين الَّذين يراقبون الوصول إلى ورق الصُّحف والاستوديوهات وغيرها من الموارد المطلوبة الأُخرى، بما في ذلك التَّدريب اللَّازم لاستخدام وسائل إعلام مُعيَّنة. تُعدُّ الخطابات المنتوجات المعقَّدة للعديد من الفاعلين والعوامل، وعندما يُقصَى بعض الفاعلين وخطاباتهم عن وسائل الإعلام الرَّئيسة إلى وسائل أصغر منها؛ يتقلَّص عدد الوسطاء بين المنتجين والمشاهدين، إلى جانب قدرة الدَّولة والمراقبين الدِّينيِّين في التَّأثير على ما يُقال، ويبرز، بالتَّالي، الشُّعور بالجماعة توازياً مع الشعور بالتَّهديد وعدم الأمان. ومع ذلك؛ فإنَّ التَّداعيات التِّكنولوجيَّة لوسائل إعلام مُعيَّنة؛ ليست هي العامل المُحدِّد. فوسائل الإعلام تمنحك القدرة فقط. فالتِّكنولوجيَّات المتاحة لها تأثير على الخطابات المنقولة وعلى وسائل القيام بذلك، لكن ما هو مُهمٌّ بالقدر نفسه؛ هو مستويات التَّعليم المرتفعة والفهم الثَّقافيُّ المتنامي/المتزايد بين المستفيدين من التَّعليم العالي للسِّياسة والدِّين كعاملين راسخين في العلاقات والأفعال والتَّمثُّلات الاجتماعيَّة المحتملة (warner 1990: 6).

تتمثَّل المجموعة الثَّانية من التَّداعيات الناجمة عن انتشار وسائل الإعلام الجديدة في ظهور مجالات عموميَّة جديدة؛ تلعب فيها المعايير والممارسات والقيم الدِّينيَّة دوراً مهمَّاً وثابتاً، وليس بالضَّرورة مُتقاطعاً مع المجتمع المدنيِّ الَّذي يمكن أن يُقدِّم دعماً قوَّياً له (hefner 1997: 11 0- 16). وفي معظم السِّياقات الغربيَّة؛ تمَّ نقلُ الدِّين رسميَّاً إلى المجال الخاصِّ، على الرَّغم من أنَّ العديد من المراقبين يُرجعون ذلك أكثر ربَّما إلى ردِّ فعلٍ سياسيٍّ غربيٍّ مُعيَّن منذ القرن السَّادس عشر على تراتبيَّة هرميَّة كَنَسيَّة مُتمركزة ومُسَيَّسَة، وليس إلى أيِّ شيء مُتأصِّل في المجتمع المدنيِّ ذاته. لم تحظَ البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة بمثل تلك البنية الكَنَسيَّة المتمركزة للقيام بردِّ فعلٍ ضدَّها، كما أنَّ أساس شرعيَّة النِّظام في معظم البلدان الإسلاميَّة أكثر هشاشةً من أُسس الأنظمة في العديد من نظيراتها الغربيَّة. لم يحدث قطُّ أن كان الحدُّ بين العموميِّ والخاصِّ في معظم البلدان ذات الغالبيَّة المسلمة واضحاً أو ثابتاً، وبالتَّالي فإنَّ الخُطَب الدِّينيَّة في حفلات الزِّفاف بدمشق؛ الَّتي يحضرها مئات الضُّيوف، بما في ذلك السُّلطات السِّياسيَّة البارزة، تُعتبر رسميَّاً مناسبات خاصَّة. ومع ذلك، تُقابَل هذه الخُطب بنوع من التَّساهل، ويبلغ الضُّيوف الحاضرون الغائبين مَا قيل في هذه الخُطَب، ويتمُّ نشر/تداول أشرطة الفيديو بعد الحدث. وقد تُقدِّم خطبة في حفل زفاف مختلف بعد عدَّة أيَّام ردَّاً حادَّاً يتمُّ نقله لجمهور مُتنوِّع وواسع؛ سواء شفهيَّاً أو من خلال شريط فيديو. ولا تشير وسائل الإعلام الرَّسميَّة المُرخَّصة إلى أيٍّ من الخطبتين، ومع ذلك، فإنَّ سلطات الدَّولة، الَّتي استمعَت بعض عناصرها للخطب في عين المكان، على دراية تامَّة بهذه الخُطب، وكونها تُتداول بين النَّاس (eickelman field notes, damascus, august 16, 1997). هذا الفضاء ليس فضاءً عموميَّاً بمعنىً رسميٍّ، ولا هو خاصٌّ بمعنىً شخصيٍّ، ومع ذلك؛ يحظى بامتيازات خاصَّة تتمثَّل في شكليَّاته الخاصَّة ونطاقه المفهوم بشكل جيِّد.

تُذكِّرنا ضبابيَّة الحدود -أو، كما عبَّرْنَا عنها هنا بالفضاءات الوسيطة المترابطة- باستحالة التَّمييز بوضوحٍ تامٍّ بين العامِّ والخاصِّ، كما أنَّها تشير إلى أشكال الاستمراريَّة الأكثر أهمِّيَّةً بين مجال وآخَر، والَّتي تخلق لنا مجالاً عموميَّاً بين المجال الخاصِّ من جهة، والسِّياسيِّ من جهة أُخرى. إنَّنا نعتقد أنَّه من المفيد للغاية الوقوف عند أحداث مِن قبيل تقديم للخطب في حفل الزِّفاف بدمشق، أو نشر النُّصوص على الإنترنت، أو فتح المجلَّات القانونيَّة على نقاشات حول الفرائض الإسلاميَّة، أو نقل هذه الفرائض إلى نوعٍ أدبيٍّ كالرِّوايات الرُّومانسيَّة باعتبارها عناصر تُشكِّل مجالاً عموميَّاً يُكيِّف فيه المتعهِّدون الثَّقافيُّون الممارسات الثَّقافيَّة القائمة مع بيئات تواصليَّة جديدة. وتتمثَّل النَّتيجة، بطبيعة الحال، في تطوير وتعزيز أشكال فهمٍ جديدة لدور الدِّين في المجتمع. فَمثلما تفرض وسائل الإعلام الانتباه إليها؛ يُعزِّز ظهور هذا المجال العموميِّ الجديد بدوره التَّغيُّرات في توجُّه الخطاب الرَّسميِّ وأسلوبه، بحيث إنَّ الخطاب الرَّسميَّ مُلزَم، على الأقلِّ بصورة غير مباشرة، بمراعاة ما يُقال (كما في حالة الاستنكارات المرسَلة عبر الفاكس إلى المملكة العربيَّة السُّعوديَّة) أو سيخلق انطباعاً بتجاهل ما يُقال أو التَّسامح معه (كما هو الحال في خطب الزِّفاف بدمشق). هذا المجال العموميُّ أيضاً يملك تأثيراً مهمَّاً على الممارسات اليوميَّة الرَّاسخة في العلاقات الاجتماعيَّة؛ حيث تظلُّ السُّلطة الدِّينيَّة أو السِّياسيَّة مسألة أُلفَة بيوغرافيَّة وجهاً لوجهٍ بدلاً من أوراق الاعتماد الأكثر رسميَّةً، أو المكانة البنيويَّة الَّتي تعادلها في وسائل الإعلام الكبيرة.

تتشكَّل هذه الجماهير الجديدة على طول الخطِّ الممتدِّ بين وسائل الاتِّصال الجماهيريَّة الَّتي تستهدف الجميع، والاتِّصالات الشَّخصيَّة المباشرة بأشخاص خاصِّين آخرين يُقيم المرء معهم علاقة شخصيَّة مُسبقاً. إنَّ هذا الفضاء المُتمدِّد للتَّعاملات العموميَّة مع أولئك الَّذين سمَّاهم ألفرد شوتز alfred schutz المعاصرين المَا وراء مواجهة المرء لشركائه وجهاً لوجه (schutz 1967: is- 19). بالفعل؛ يتمُّ القيام بكلِّ ما هو ممكن لتحويل المعاصر المجهول أو غير المعروف إلى شريك يعمل تحت ادِّعاء الكياسَة والمبادئ الأخلاقيَّة المشترك -يُعدُّ عاملاً مهمَّاً في تطوير مجالٍ عموميٍّ يلعب فيه الدِّين دوراً حيويَّاً. إنَّه يساهم في الاعتراف بأنَّ جمهوراً من هذا القبيل ليس حشداً كبيراً ولا مجهولاً، بل هو مُحدَّد من خلال المشاركة المتبادلة- من خلال الأداء فعلاً. وبهذا المعنى الَّذي يشير إليه بنديكت أندرسون benedict anderson (199 1: 37- 4 6) باعتباره شعوراً متنامياً بالقراءة الجماعيَّة؛ ينتج المجالُ العموميُّ بشكلٍ أقلَّ عن الجمعيَّات، وبدقَّة أكثر عن مجال المجتمع المدنيِّ، ممَّا ينتج عن طرق التَّعامل بثقة مع الآخرين في عالم الاتِّصال المشترك الاجتماعيِّ المتمدِّد.

إنَّنا نرى أنَّه من خلال النَّظر في التَّعدُّديَّة المعقَّدة للعلاقات الأفقيَّة، خاصَّةً بين الأعداد المتزايدة بسرعة من المستفيدين من التَّعليم الجماهيريِّ، والخطابات الجديدة، ووسائل الاتِّصال الجديدة، سيكتشف المرء طرقاً بديلة للتَّفكير في الإسلام، والعمل انطلاقاً من المبادئ الإسلاميَّة، وخلق أحاسيس بالجماعة والفضاء العموميِّ. ويمثِّل مثل هذا الوعي بين أعداد واسعة من النَّاس مقياساً لإمكانيَّة نشوء مجالٍ عموميٍّ بسرعة، وقيام مجتمعٍ مدنيٍّ يلعب دوراً حيويَّاً داخله.

 

المراجع

- ahmed, akbar s. 1992. postmodernism and islam: predicament and promise. london: routledge.

- alterman, jon b. 1998. new media, new politics? from satellite television to theinternet in the arab world. washington, d.c.: washington institute for near east policy.

- anderson, benedict. 1991. lmagined communities: reflections on the origin and spread of nationalism. london: verso

- anderson, jon. 1995. «cybarites, knowledge workers and new creoles on the information superhighway.» anthropology today 11, no. 4 (august): 13-15.

- ----. 1997. «globalizing politics and religion in the muslim world.» journal of electronic publishing 3, no. i (september).

http://www.press.umich.edu:80/jep/03-01/anderson.html

- ansari, zafar ishaq. 1997. comments made at the international symposium, the islamic world and global co-operation: preparing for the 21st century, kuala lumpur, april 26, 1997.

- babb, lawrence, and susan s. wadley, eds. 1995. media and the transformation of religion in south asia. philadelphia: university of pennsylvania press.

- bayart, jean -françois. 1996. l'illusion identitaire. paris: fayard.

- bowen, john. 1993. muslims through discourse. princeton: princeton university press.

- brown, narthan j. 1997. «shari'a and the state in the modern middle east,»international journal of middle east studies 29, no. 3 (april): 359-76.

- chazan, robert. 1989. daggers of faith: thirteenth-century christian missionizing and jewish response. berkeley and los angeles: university of california press.

- committee for the defence of legitimate rights (cdlr, lajnat al-difa' 'an al-hurur al-shar'iyya). c. 1994. intifadat burayda (the burayda uprising). videotape. publisher and place not mentioned. (videotape of a demonstration that took place on september 18, 1994).

- douglas, allen, and fedwa malti-douglas. 1994. arab comic strips: politics of an emerging mass culture. bloomington: indiana university press.

- eickelman, dale f. 1992. «the art of memory: islamic education and its social reproduction.» in comparing muslim societies: knowledge and the state in a world civilization, ed. juan r. i. cole, pp. 97-132. ann arbor: university of michigan press.

- ----.1993. «islamic liberalism strikes back.» middle east studies association bulletin 27, no. 2 (december): 163-68.

- ----. 1998. the middle east and central asia: an anthropological approach, 3rd ed. upper saddle river, n.j.: prentice hall.

- eickelman, dale e, and james piscatori. 1996. muslim politics. princeton: princeton university press.

- eisenstadt, shmuel. 1996. japanese civilization; a comparative view. chicago: university of chicago press.

- fukuyama, francis. 1996. trust: the social virtues and the creation of prosperity. new york: free press.

- gaffney, patrick d. 1994. the prophet's pulpit: islamic preaching in contemporary egypt. berkeley and los angeles: university of california press.

- gellner, ernest. 1983. nations and nationalism. ithaca and london: cornell university press.

- george, kenneth m. 1997. «some things that have happened to the sun after september 1965; politics and the interpretation of an indonesian painting.» comparative studies in society and history 39, no. 4 (october): 603-34.

- gilsenan, michael. 1973. saint and sufi in modern egypt. oxford: oxford university press.

- hefner, robert w. 1997. «islamization and dell1ocratization in indonesia.» in islam in all era of nation-states, ed. robert w. hefner and patricia horvatich, npp. 75-127. honolulu: university of hawaii press.

- huntington, samuel. 1993. «the clash of civilizations?» foreign affairs 72, no. 3 {summer}: 22-49.

- hurvitz, nimrod. 1997. «the mihna (inquisition) and the public sphere.» paper presented at the international workshop, the public sphere in muslim societies, at the van leer jerusalem institute, october 6-7, 1997.

- al-jazira satellite television. 1997. debate between sadiq jalal al-'azm and yusuf al-qaradawi, moderated by faysal al-qasim, broadcast in the series the opposite direction (al-ittijiah al-mu'akis), may 27, 1997.

- juergensmeyer, mark. 1993. the new cold war? religious nationalism confronts the modern state. berkeley and los angeles: university of california press.

- kinzer, stephen. 1997. «a terror to journalists, he sniffs out terrorists». new york times, september 1, p. a4.

- mckenna, thomas. 1998. muslim rulers and rebels: islamic authority and armed separatism in the southern philippines. berkeley and los angeles: university of california press.

- madjid, nurcholish. 1997. «the resurgence of islam in indonesia: challenges and opportunities.» middle east studies association distinguished visiting scholar lecture, san francisco, november 23.

- masud, muhammad khalid, brinkley messick, and david s. powers, eds. 1996. islamic legal interpretation: muftis and their fatwas. cambridge: harvard university press.

- messick, brinkley. 1996. «media muftis: radio fatwas in yemen.» in islamic legal interpretation: muftis and their fatwas, ed. muhammad khalid masud, brinkley messick, and david s. powers, pp. 311-20. cambridge: harvard university press.

- mir-hosseini, ziba. 1999. islam and gender: the religious debate in contemporary iran. princeton: princeton university press.

- al-nauimi, najeeb bin mohamed. 1996. «qatar's purse strings» (letter). the economist (london), october 5, p. 8.

- norton, augustus richard. 1997. personal communication, september 13, 1997.

- al-rasheed, madawi. 1996. «god, the king and the nation: political rhetoric in saudi arabia in the 1990s.» middle east journal 50, no. 3 (summer): 359-7 1

- roy,olivier. 1992. l'échec de l'islam politique (the failure of political islam).paris: Editions du seuil. (english translation, the failure of political islam. cambridge: harvard university press, 1994.)

- salah ud-din. 1989. editorial in takbir (karachi), february 9. (dfe is grateful to khalid masud for translating the editorial from urdu.)

- salvatore, armando. 1997. islam and the political discourse of modernity. reading (uk): ithaca press.

- ----. 1998a. «staging virtue: the disembodiment of self-correctness and the making of islam as a public norm.» yearbook of the sociology of islam 1: 87-119.

- ----. 1998b. «discursive contentions in islamic terms: fundamentalism vs. liberalism?» in islamic fundamentalisms: myths and realities, ed. ahmad moussalli, pp. 75-102. reading, uk: ithaca press.

- schutz, alfred. 1967. collected papers i: the problem of social reality, ed. maurice natanson. the hague: martinus nijhoff.

- taylor, charles. 1993. «modernity and the rise of the public sphere.» the tanner lectures on human values 14: 203-60.

- torab, azam. 1996. «piety as gendered agency: a study of jalasehritual discourse in an urban neighbourhood in iran.» journal of the royal anthropological institute (n.s.) 2, no. 2 (june): 235-52.

- warner, michael. 1990. the letters of the republic. cambridge: harvard university press.

- ----. 1992. «the mass public and the mass subject.» in habermas and the public sphere, ed. craig calhoun, pp. 377-401. cambridge: mit press.

[1]- ديل إيكلمان، أنثربولوجيا المجتمعات الإسلامية، مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع- لبنان