ابن سينا والتراث السينوي


فئة :  ترجمات

ابن سينا والتراث السينوي

ابن سينا والتراث السينوي[1]

كان ابن سينا هو الشخصية المركزية في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية. قبل ابن سينا، كانت الفلسفة (الأرسطية والأفلاطونية المحدثة) وعلم الكلام صنفين متمايزين من الفكر، رغم ظهور تلاقح متبادل بينهما. أما بعد ابن سينا، فقد تلاقى هذان الصنفان، وظهر علم كلام سينوي، باعتباره فلسفة إسلامية أصيلة، وعمل على التوليف بين ميتافيزيقا ابن سينا والعقيدة الإسلامية.

=

  إذا تناولنا مصادر فكر ابن سينا وتطوُّره وما نتج عنه من آثار؛ فنحن نتكلم بذلك عن أكثر من ألفي عام من النشاط الفلسفي. فمصادر ابن سينا تبدأ بأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وتشمل شرَّاح أرسطو المتأخرين من اليونان، المشَّائين منهم والأفلاطونيين المحدَثين. وكان ابن سينا نفسه غزير الإنتاج؛ إذ نسب إليه الإخباريون ما بين 40 و275 عنواناً، بدءاً بتلميذه الجوزجاني وانتهاء بالباحث المصري جورج قنواتي، ومن بينها حوالي 130 عملاً أكد الباحث الإيراني يحيى مهداوي على صحَّة نسبتها إلى ابن سينا([2]). والأكثر من ذلك أن أفكاره تطورت على مدى حياته، حيث إن فلسفته دائماً ما تكون عصية على التنظير الشامل، مثلها مثل فلسفتَي أفلاطون وأرسطو؛ إذ تظهر مواقفه حول قضايا فلسفية كثيرة غير حاسمة. أما عن تأثيره؛ فقد كان كبيراً في العالمين الإسلامي والمسيحي على السواء. فبعد ترجمة أعماله الأساسية في الفلسفة والطب إلى اللاتينية في أواخر القرن الثاني عشر، شكَّل ابن سينا تأثيراً ضخماً في الفكر الإسكولائي الأوروبي، وهو تأثير لم يضاهه سوى تأثير الشارح الأرسطي الأندلسي ابن رشد (ت 1198). أما في تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي في المرحلة ما بعد الكلاسيكية، فقد كان تأثير ابن سينا بغير منازع، وانزوى تأثير ابن رشد إلى مكانة متواضعة([3]). وكانت إبداعات ابن سينا في الميتافيزيقا - والتي كانت أهم إسهاماته- هدفاً لجدل كلامي كثير، من الجانبين السنِّي والشيعي، واستمر حتى قدوم الحداثة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر.

كيف لنا إذن أن نبدأ دراستنا لابن سينا بالنظر إلى تعقُّد وسِعة نطاق مصادره وفكره وتراثه الذي خلَّفه؟ في البداية أُنوِّه على الآتي: أولاً، لن أتناول انتقال السينوية إلى أوروبا اللاتينية الوسيطة؛ إذ تركتُ هذه المهمة لزميلي تشارلز برنت Charles Burnett في الفصل الثامن عشر([4]). وثانياً، لن أناقش مذاهب الإسماعيليين أو السهرودري أو الملا صدرا [صدر الدين الشيرازي]، وسأترك هذه المهمة لبول ووكر PaulWalker وجون والبريدج JohnWalbridge وسجاد رضوي Rizvi Sajjad في الفصول الخامس والعاشر والحادي عشر على التوالي. وأخيراً؛ لن أتناول منطق ابن سينا، على الرغم من أنه أثَّر بمنطقه على تراث المنطق اللاحق له مثلما أثَّر بفكره الميتافيزيقي، وسوف أترك هذه المهمة لتوني ستريت Tony Street في الفصل الثاني عشر.

أما تركيزي؛ فسينصبُّ على تاريخ ثلاث قضايا فلسفية، تُلقي ضوءاً على كيفية توظيف ابن سينا للفلسفة اليونانية القديمة والمتأخرة، وعلى كيفية تغيُّر أفكاره عبر مسيرته، وعلى كيفية تَبْيِئَة هذه الأفكار داخل تاريخ علم الكلام السنِّي والشيعي اللاحق. أول هذه القضايا هو نظرية ابن سينا في أن النفس الإنسانية العاقلة تأتي إلى الوجود مع ميلاد البدن الذي تدبِّره وتستخدمه، ومن ثم تبقى بعد فنائه؛ وثاني القضايا هو تمييزه بين الماهية والوجود، وثالثها هو تحليله للإله باعتباره واجب الوجود بذاته متفرِّداً ومخالفاً لكل الموجودات، والتي لا توجد إلا بغيرها؛ أي: سببها([5]).

وتكمن تحت كل قضية من هذه القضايا الثلاث إشكالية ميتافيزيقية. فتحت القضية الأولى تكمن الإشكالية الميتافيزيقية حول الأنطولوجيا «التطبيقية»؛ أي: ما النفس؟ وكيف تؤثِّر في البدن الذي تكمن فيه؟ والإشكالية الثانية أنطولوجية أيضاً: ما هي أهم المكونات الأساسية للواقع؟ والإشكالية الثالثة خاصة باللاهوت والكوزمولوجيا: ما الله؟ وكيف يكون سبباً للعالم؟ وقبل أن نبحر في هذا البحر المتموج العميق؛ سأعطي نبذة عن نشأة ابن سينا.

عائلته وتعليمه

هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، المعروف في الغرب باسمه اللاتيني Avicenna، وُلد في وقت ما قبل سنة 980 في قرية أفشنة بالقرب من مدينة بُخارى، بمنطقة أوزباكستان الحالية. وأتى أبوه من مدينة بلخ (بجوار مزار الشريف في أفغانستان الحالية)، وانتقل إلى بخارى في عهد نوح بن منصور؛ أحد الأمراء السامانيين الذين حكموا شمال شرق إيران وجزء من بلاد ما وراء النهر خلال النصف الأخير من القرن العاشر. وقد عُيِّن أبوه حاكماً لقرية مهمَّة هي خرميثن بالقرب من أفشنة، وعاش فيها مع زوجته وأنجبا ابن سينا وأخاه. وانتقلت الأسرة إلى بخارى -وكانت مدينة كبيرة آنذاك- عندما كان ابن سينا حدثاً، حيث حفظ القرآن وتعلَّم الأدب العربي على يدي معلمين اثنين لاحظا عليه، وهو في سن العاشرة علامات النبوغ الفكري التي ستميزه في دراساته في السنوات العشر التالية.

وجاء أول اتصال لابن سينا بالفلسفة من استماعه لمناقشات والده مع الدعاة الإسماعيليين. كان الإسماعيليون فرقة من الشيعة، وكان الشيعة [ولا يزالون] أكبر أقليَّة دينية في الإسلام، والأغلبية سنيَّة. وجاء الخلاف بين الشيعة والسنة بسبب خلافة النبي محمَّد. فبعد وفاة النبي في 632؛ تحلَّقت مجموعة حول علي، ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة، وسُمُّوا فيما بعد بشيعة علي. لكن لم يكن علي الذي تولى خلافة النبي، بل رفيق النبي وصاحبه أبو بكر، أما علي وذرَّيته؛ فقد تم استبعادهم من أي سلطة سياسية في القرون التالية.

وعندما كان أبو ابن سينا شاباً في أواسط القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، بدا أن الشيعة قد قاربوا على الخلاص من ثلاثة قرون من الاضطهاد والإحباط؛ إذ نجحت أسرة شيعية فارسية [البويهيون] على رأس جيش في الاستيلاء على بغداد عاصمة العباسيين في 334هـ/945م؛ ما زاد من ضعف الخلافة العباسية التي كانت قد ضعفت قبل هذا التاريخ، والتي بدأ حكمها في 132هـ/ 750م. والأمر المهم بالنسبة إلى والد ابن سينا؛ أن أسرة شيعية أخرى من شمال أفريقيا، وهي الفاطمية، قد فتحت مصر في 358هـ/ 969م، وأنشأت خلافة مقابلة للخلافة العباسية في القاهرة، والتي انطلق منها الدعاة الإسماعيليون إلى العراق وإيران، يجنِّدون الأتباع آملين في ثورة إسماعيلية كبرى.

وعلى الرغم من الصعوبات التي مرَّ بها الشيعة الإسماعيلية، والتي وصلت إلى حد الاضطهاد في خراسان وما وراء النهر، إلا أن الأمور بدت وأنها تتحول في نظر والد ابن سينا إلى صالحهم، وربما صار بدافع من الاضطهاد واحداً منهم؛ إذ قال عنه ابن سينا: «وكان أبي ممَّن أجاب داعي المصريين وُيعدُّ من الإسماعيلية»([6]). وقد استمع ابن سينا لحوارات والده مع أصدقائه الإسماعيليين حول النظريات الإسماعيلية في طبيعة النفس والعقل، تلك النظريات التي سمعها فقط ورفضها بجرأة، كما يخبرنا هو. وسواء كان سبب رفضه لها تمرُّده على محاولات والده لجذبه للإسماعيلية، وهو في شبابه أو عن قناعة فلسفية شخصية، فلم تفسد علاقتهما من جراء ذلك؛ إذ رتَّب له والده تعليماً في الفقه الحنفي، هو أحد فروع الفقه السنِّي المواجه للشيعة([7]).

وقبل أن يكمل ابن سينا تعليمه الديني؛ تلقَّى الفلسفة على يد معلِّم متجول هو أبو عبد الله النائلي*، وقرأ عليه ابن سينا ذو العشرة أعوام آنذاك «إيساغوجي» لفرفوريوس، الذي كان المقدمة المعتمدة للمنطق (وللفلسفة عامة) طوال العصور القديمة المتأخرة والعصر الإسلامي. وبإدراك ابن سينا، سريعًا، لتفوُّقه على أستاذه النائلي، وبرهنته على ذلك؛ حتى تولَّى تعليم نفسه بنفسه بمباركة والده، واستقل شيئاً فشيئاً عن النائلي الذي ترك المدينة بحثاً عن تلميذ جديد. وقرأ ابن سينا بنفسه أعمال إقليدس وبطليموس في الحساب والهندسة، ومرَّ على كل المتن الأرسطي بادئاً بالمنطق، ثم العلم الطبيعي، وأخيراً الميتافيزيقا [التي يسمِّيها ابن سينا العلم الإلهي]. ومن الهام للغاية؛ أن نذكر أن ابن سينا لم يكتفِ بقراءة أعمال أرسطو المترجمة للعربية، بل قرأ كذلك الكثير من الشروحات اليونانية عليها، والتي تُرجمت للعربية في القرنين التاسع والعاشر([8]).

إن وصف ما فعله ابن سينا مع كميَّة الكتب والشروحات الفلسفية بالقراءة مُضَلِّلٌ بعض الشيء. فقد كان ابن سينا، على عكس الكثير منَّا، يتفاعل مع ما يقرأه: فقد كان يسجل ملاحظات، لكنه فوق ذلك كان يعمل على رد كل ما يقرأه إلى مقدماته الأساسية، ثم يضع هذه المقدمات في قياس مناسب، كي يصل لنتائج منطقية، على الأقل في تلك الحالات التي كانت فيها حجة الكاتب الذي يقرأ له متماسكة. وبعبارة أخرى؛ لم يكتفِ ابن سينا بقراءة الأعمال والشروح الأرسطية، بل كان يُحلِّلها. وفي سياق هذه القراءة الفاعلة، أخرج العديد من الأوراق التي كان يرجع إليها كلما كان في حاجة إلى مراجعة حجة معيَّنة.

قرأ ابن سينا بتوسع وبعمق. وكانت موهبته كطبيب قد عرَّفته بنوح بن منصور الذي كان يوظِّف والده، وقد سمح له نوح بالبحث في مكتبة السامانيين في بخارى في مقابل أن يُطَبِّبَه ابن سينا. وتعرَّف ابن سينا في هذه المكتبة على أعمال هائلة العدد، وكانت كل غرفة من المكتبة مخصصة لفرع معرفي. وكما يبلغنا ابن سينا؛ فقد قرأ فيها أعمال الأوائل؛ التي لم يتعرف عليها من قبل ولن يراها بعد ذلك في أي مكان آخر، وقد استوعب ما في المكتبة وبذلك أكمل رحلة تعليمه الذاتي التي بدأها منذ ثماني سنوات:

فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري؛ فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء([9]).

ما النفس، وكيف تؤثر في البدن؟

=

  من الصعب علينا تخيُّل أن ابن سينا قد رغب عن أفكار الإسماعيلية في النفس والعقل، وهو في العاشرة من عمره بسبب اقتناعه بنظرية أخرى. كل ما في الأمر أنه كان حذراً، لكن ليس بالقدر الكافي. والواضح أن نظرية ابن سينا في النفس في مرحلة نُضجه كانت مختلفة عن نظرية أصدقاء والده الإسماعيليين. ومثله مثل أرسطو والإسكندر الأفروديسي؛ اعتقد ابن سينا في أن النفس البشرية العاقلة تأتي للوجود لحظة وجود البدن، كما كان حاسماً في رفضه لنظرية التناسخ؛ الواضحة في فلسفتي أفلاطون وأفلوطين، وهي النظرية التي تبنَّاها بعض الإسماعيليين. وعلى الجانب الآخر؛ اعتقد ابن سينا -مثله مثل أفلاطون وأفلوطين- أن النفس البشرية العاقلة تستمر في الوجود بعد فناء بدنها([10]).

وللوهلة الأولى يبدو موقف ابن سينا وكأنه يحاول الجمع بين مواقف أرسطو والإسكندر وأفلاطون وأفلوطين، لكن يتضح بعد التحليل الدقيق أن موقفه يعكس منهجه التأويلي [لكل التراث السابق عليه]. ففي الوقت الذي بدأ فيه ابن سينا في تصنيف مؤلفاته؛ كان تأويل الإسكندر لأرسطو قد بدأ في الانزواء، مُفسحاً المجال لشروح أمونيوس بن هرمياس وتلميذه أسكيليبوس Asclepius (عاش حول 525 م)، والأهم منهما يحيى النحوي (ت 570). وبعد مرور خمسة قرون؛ صار شرح أمونيوس لكتاب النفس هو المعتمَد والسائد في فهم أرسطو، حيث اعتقد ابن سينا في سنة 390هـ/ 1000م أن فهمه لنظرية أرسطو في النفس [من خلال هذه الشروح] لا يختلف عن نظرية أرسطو نفسه. وبعبارات أخرى: لم تكن نظرية ابن سينا في النفس العاقلة، المفارقة للبدن، والتي تبقى بعد فنائه، هي محاولة لدمج رؤية أفلاطون داخل نظرية أرسطو، بل كانت نتيجة دمجه لتراثين في تأويل نظرية النفس الأرسطية [يرجعان للإسكندر من جهة وأفلوطين وأمونيوس من جهة أخرى]، وهو الدمج الذي كان يسير بخطى ثابتة قبل ميلاد ابن سينا بخمسة قرون.

وأعني بالدمج بين تراثين في التأويل؛ أن موقف أرسطو في كل أعماله الضخمة لم يكن حاسماً ومتَّسقاً في مسألة علاقة النفس بالبدن على وجه الخصوص. ونتيجة لذلك؛ قام الإسكندر بدور مهم في إنشاء مذهب أرسطي مُتَّسق في النفس من نظريات أرسطو وأقواله غير المتَّسقة عبر أعماله الكثيرة. (وقد أشرتُ في عمل سابق إلى أن مشروع الإسكندر هذا يعد توفيقاً بين أرسطو وأرسطو، أو «جمعاً مصغَّراً» lesser harmony)([11]). وبعد الإسكندر، وبالاعتماد على فرفوريوس، انشغل بعض فلاسفة الأفلاطونية المحدثة مثل بروقلس (ت 485) في مشروع للجمع أكثر طموحاً، وهو الجمع بين أرسطو وأفلاطون (وهو الذي أسمِّيه «الجمع الأكبر» greater harmony). لكن ظهرت جهود بروقلس في الجمع بين أفلاطون وأرسطو في أعمال كثيرة خاصة به (مثل «اللاهوت الأفلاطوني» The Platonic Theology)، كما في شروحه المطوَّلة على محاورات أفلاطون، مثل «تيماوس» و«بارمنيدس» و«الجمهورية». وما تركه بروقلس لتلميذه أمونيوس هو ما بدأه أستاذه سريانوس (ت 437)، وهو الاستمرار في مشروع الجمع بين أفلاطون وأرسطو من داخل أعمال أرسطو نفسه. وقد تطلَّب ذلك منه شروحاً على أعمال أرسطو يتم فيها التركيز على المواضع التي يمكن التقريب فيها بينه وبين أفلاطون وتضخيمها والبناء عليها لإنشاء نسق أرسطي جديد، يُشكِّل أعلاه لاهوتاً أفلاطونياً سبق لبروقلس إقامته. وانتقل مشروع التوفيق بين الجمع الأصغر والجمع الأكبر من أمونيوس إلى تلميذيه أسكيليبوس ويحيى النحوي؛ اللذين تُرجم الكثير من أعمالهما إلى العربية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، التاسع والعاشر الميلاديين([12]).

كان أول ظهور للنظرية القائلة إن النفس سابقة الوجود على البدن وتبقى بعد فنائه في محاورة «فيدون» لأفلاطون، حيث شرحها بتوسع. وقد بنى أفلوطين عليها ونسَّقها في تاسوعاته، التي تُرجمت أجزاء متفرقة منها للعربية في القرن التاسع وأُعيدَت صياغتها ونُسبت لأرسطو تحت عنوان «أثولوجيا أرسطوطاليس». ووفقاً لنظرية أفلوطين الحاضرة في كتاب «أثولوجيا»؛ فإن للنفس توجُّهَين، أحدهما صاعد تجاه عالم العقل، والآخر هابط تجاه عالم المادة([13]). إن لحظة الميلاد، وربما لحظة الحمل، هي لحظة هبوط نفس فردية انفصلت عن النفس الكلية وتفردت داخل بدن ما مُهيَّأ لاستقبالها. وخلال حياتها في البدن تنزع النفس نحو التعلق بملذات البدن، وبعض النفوس تستسلم لهذا الإغراء. والبعض الآخر يسير في الرحلة الأصعب، ويدرك أن الانشغال بالفلسفة والبعد عن إغواءات البدن يختصر لها دورات انتقالها من بدن لآخَر، حتى اللحظة الأخيرة التي تكتمل فيها دورات انتقالها من بدن مائت [بمعنى فاني مصيره الموت] إلى آخَر حيّ، وتعود في النهاية للانضمام إلى النفوس الأخرى في العالم المعقول ولا تهبط مرة أخرى إلى عالم المادة. وقد تبنَّى بعض الإسماعيليين من القرن العاشر هذه النظرية أو بعض جوانبها (مثل أبي يعقوب السجستاني، عاش حول سنة 348هـ/ 960م)، كما تبنَّاها آخرون ارتبطوا بالإسماعيلية (مثل إخوان الصفا الذين عاشوا حول سنة 369هـ/ 980م)، والمحتمل أن تكون هذه النظرية هي التي التقطها والد ابن سينا أثناء نقاشه مع الإسماعيلية، خاصة وأن السجستاني كان نشطاً في بخارى قبيل هذا الوقت.

=

  في المقالة الثانية من «كتاب النفس»؛ يُعرِّف أرسطو، أو بالأحرى يصف النفس على أنها «كمال أول لجسم طبيعي آلي له حياة بالقوة». وكان أحد التحديات التي واجهت الشُّرَّاح اليونان على كتاب النفس هو معرفة ما كان أرسطو يقصد بـ«كمال أول» (إنتلخيا) entelekheia، وهو مصطلح اخترعه أرسطو واستخدمه كذلك في تعريف التغيُّر kinȇsis في الكتاب الثالث من «الطبيعة». والإجماع الحالي بين الباحثين هو أن نترجم entelekheia بـ«الفعل» actuality، وبذلك يتم التقريب بين هذا المصطلح والكلمة اليونانية «الفعل» energeia، وذلك كي لا نحتار فيما يقصده أرسطو بـ «الفعل» *entelekheia ونركِّز على الشيء الذي هو بالفعل. لكن بعض شرَّاح أرسطو القدماء مثل الإسكندر وثامسطيوس (عاش حول 365م) كانوا أكثر حسماً في تثبيت معنى «إنتلخيا»، وكان معنى أكثر تناسباً مع تعريفات أرسطو الأخرى للفعلين energeia/entelekheia. وكي يقوما بذلك؛ استعان الإسكندر وثامسطيوس بمصطلح يوناني آخر هو «تيليوتس» [الغاية] teleiotȇs، كلما عثرا على مصطلح entelekheia. وقد أدرك الشُّرَّاح أن معاني مصطلح «الغاية» واسع جداً، حيث يمكنه استيعاب استخدام أرسطو لكلمة «كمال» entelekheia في تعريفه للنفس في «كتاب النفس» كما في استخدامه للكلمة نفسها في تعريف الحركة في كتابه «الطبيعة». وركَّز الإسكندر على معنى «الكمال» و«الاستكمال» الـمُتَضَمَّنَين في «غاية» teleiotȇs، على اعتبار أن «غاية» هي اسم مجرَّد مرتبط بالصفة «كمال» teleion، التي قدَّم لها أرسطو تعريفاً وافياً في مقالة الدال من «ما بعد الطبيعة». وقد أضاف ثامسطيوس معنى جديداً لعديد المعاني المرتبطة بالصفة «كمال»، والذي سمَّيتُه «النهائية» endedness، لافتقارنا لكلمة أفضل؛ وهو يشير إلى كون الشيء متوجهاً نحو غاية نهائية، أو يشكِّل غاية telos أو نهاية end**.

لقد شدَّد الإسكندر على «الكمال» و«الاستكمال» في سعيه لوضع معانٍ عديدة يمكنها استيعاب استخدام أرسطو لكلمة entelekheia لوصف النفس ولوصف التغيُّر معاً، وكذلك فعل ثامسطويس بضمِّه لمعنى «النهائية» في نطاق معاني «الغاية»؛ إذ كان ملتزماً بمهمة تأويلية، وهي الجمع بين أرسطو وأرسطو؛ لكن ما قام به ثامسطيوس؛ قدَّم خدمة جليلة لمشروع أمونيوس وتلاميذه في تأويل نظرية أرسطو في النفس على نحو يسهل التأليف بينها وبين نظرية أفلاطون.

عندما تعامل شرَّاح أرسطو من مدرسة أمونيوس مع كتاب «النفس» وواجهوا تعريفه للنفس بأنها «كمال» entelekheia -وهو المصطلح الذي رفضه أفلوطين لكونه يشير إلى ارتباط وثيق بين النفس والبدن- أدركوا فوراً أنه يمكنهم الاستعانة بشرح ثامسطيوس. والملاحظ أن ثامسطيوس قد أضاف لكلمة «غاية» معنى «النهائية» -أي: كون الشيء يسعى لنهايةٍ ما أو يُشكِّل نهاية ما- وهي الكلمة التي استخدمها الإسكندر لشرح معنى كلمة أرسطو «إنتلخيا» الغامضة. وبذلك تمكَّن شرَّاح مدرسة أمونيوس من تحويل الانتباه من إشكالية ماهيَّة النفس وعلاقتها بالبدن؛ إلى إشكالية كيفية تأثير النفس في البدن. لو كان اهتمام شرَّاح مدرسة أمونيوس هو بماهيَّة النفس فلم يكن يمكنهم [فصل النفس عن البدن، وبالتالي إثبات بقائها بعد فناء البدن]. لكن وفوق كل شيء؛ صرح أرسطو بأن النفس «كمال» entelekheia؛ أي: إنها في حالة الفعل والتحقُّق، لا في حالة القوة والإمكان، كما أشار إلى أن علاقة النفس بالبدن هي مثل علاقة الصورة بالمادة. أدت علاقة التماثل هذه بالإسكندر إلى القول إن النفس غير منفصلة عن البدن، مثلما أن الصورة غير منفصلة عن المادة (على الرغم من أن الصورة والمادة يمكن التمييز بينهما بالتصوُّر kata ton logon) [أو بالقول لا بالفعل وفق التعبير العربي].

وبذلك تحوَّل شرَّاح أرسطو من مدرسة أمونيوس من تحليل علاقة النفس-البدن على أنها علاقة بين حالتين من الوجود -القوة والفعل- إلى تحليلها على أنها علاقة بين سبب وأثره، وعملوا على البحث في كتاب «النفس» على فقرات تدل على أن النفس تؤثِّر في البدن لا باعتبارها الغاية النهائية للبدن، بل باعتبارها العلَّة الفاعلة والغائيَّة للبدن. وقد شكلت هذه الفقرات لمدرسة أمونيوس فرصة تأويلية، على خلفية تمييز الأفلاطونيين المحدثين المبكرين [السابقين على أمونيوس] مثل بلوتارك الأثيني وسريانوس وبروقلس، بين العلَّتين الصورية والمادية من جهة، والعلتين الفاعلة والغائيَّة من جهة أخرى، ومن نصوص أرسطو ذاتها. وبالاعتماد على هؤلاء الشُّرَّاح المبكرين؛ عملت مدرسة أمونيوس على إثبات أن العلل الصورية والمادية غير منفصلة عن آثارها أو محايثة لها. أما العلل الفاعلة والغائيَّة؛ فهي على العكس، منفصلة عن آثارها أو مفارقة لها([14]).

وبالتالي؛ قدمت مدرسة أمونيوس الحجة الآتية: بما أن الإسكندر، الذي هو أكبر شرَّاح أرسطو وثوقاً، قد ربط بين الإنتلخيا والغاية، وبما أن ثامسطيوس قد أضاف إليهما «النهائية» -أي: التوجه نحو غاية نهائية أو علَّة غائيَّة- فإنَّ أصحَّ طريق تؤثر فيه النفس على البدن هو على سبيل تأثير الغاية النهائية على أثرها [أي: تأثير النفس على البدن باعتبار النفس الغاية النهائية للبدن]. وبما أن الغايات النهائية منفصلة عن آثارها ومفارقة لها، كذلك النفس باعتبارها الغاية النهائية للبدن، فهي منفصلة ومفارقة لأثرها الذي هو البدن.

وفي محاولة مدرسة أمونيوس التعامل مع توكيد أرسطو بأن النفس تؤثِّر في البدن لا باعتبارها غاية نهائية وحسب، بل كذلك باعتبارها غاية فاعلة وصورية؛ استطاعت المدرسة تأكيد أن النفس تفعل كل ذلك باعتبارها مفارِقة للبدن دوماً، وأنها لا تستطيع أداء كل تلك الأدوار إلا بفضل مفارقتها للبدن، وأنها الغاية النهائية للبدن. كما أن النفس تؤثِّر في البدن، باعتبارها علَّة فاعلة وصورية كذلك، لكن بمعنى ثانوي [بالقصد الثاني لا بالقصد الأول]، على أنها العلَّة النهائية للبدن، ويمكن بالتالي اختزالها إلى علِّيَّتها النهائية للبدن، في تأويل مجحف لنصوص أرسطو. والذي كان يعنيه كل ذلك بالنسبة لشرَّاح أمونيونيِّين متأخرين late Ammonians مثل ابن سينا*؛ أن العقل -الذي هو ذلك الجزء من النفس المرشَّح للانفصال والمفارقة عن البدن- قد تمَّ النظر إليه على أنه فاعل في النفس باعتباره علَّة نهائية؛ أي: علَّة نهائية لقوى النفس الأدنى منه [الغاذِيَة والحاسَّة والمتخيِّلة]، وأن العقل يستخدم قوى النفس هذه كأدوات لإدراكه المعقولات الكليَّة، مقترباً بذلك من تحقيق غايته النهائية، وهي الاتصال بأزلية العقل الفعال؛ الذي يعقل المعقولات الكليَّة أزلياً. وبعبارة أخرى: يستخدم عقلي قواي النفسية الأدنى مثل الحركة والإحساس، والتي بدورها تستخدم أعضاء بدنية أخرى، مثل العضلات والأطراف وأعضاء الحس. وبذلك يستخدم عقلي أعضائي الحركية كي أذهب للمكتبة، كي أقرأ نصَّاً سينوياً وأعقل منه المعقولات الكليَّة؛ أو يمكن أن يستخدم عقلي ملكة الحس لإدراك محسوسات جزئية، كي يتمكن من أن يلتقط منها الكليات المجردة. ويظل الهدف النهائي لاستخدام العقل لقوى النفس الدنيا ولقوى الحركة وأعضاء الحس هو تحقيق الخلود الفردي، وهو نوع الخلود الممكن -على الأقل في عالم ما تحت فلك القمر- للنفوس البشرية العاقلة وحدها؛ لأن الخلود الوحيد الممكن لنفوس الحيوان والنبات هو الخلود النوعي؛ أي: خلود الأنواع بالتكاثر، لا الخلود الفردي.

تكمن أفضلية هذا السياق التحليلي في أنه مكَّن مدرسة أمونيوس من التركيز على تلك الفقرات من أعمال أرسطو التي ألمح فيها دون تصريح بإمكان بقاء الجزء العاقل من النفس بعد فناء البدن([15]). كانت هذه الفقرات بالنسبة إلى الشُّرَّاح الأوائل مثل الإسكندر مجرَّد خواطر عارضة، وملاحظات في غير محلها ومقطوعة الصِّلة بكل فقرات أرسطو الأخرى التي تعارضها، وبذلك لا يحقُّ لأي شارح أن ينتزع هذه الملاحظات لهدم نظرية أرسطو الأصلية في عدم انفصال النفس والبدن. لكن بالنسبة لورثة طريقة أمونيوس من العرب في الجمع بين [النظرية الأرسطية في النفس، باعتبارها قوة بدنية والنظرية الأفلاطونية في النفس باعتبارها مُفارِقة]؛ فإن مُفارَقة النفس كانت تعني عندهم المعنى الضَّيِّق للمفارَقَة، وهو استقلال النفس العاقلة عن بدنها وبقائها بعد فنائه، وقد نظروا إلى هذا الفهم على أنه أفضل تفسير لأنطولوجيا النفس عند أرسطو ومُبَرَّر بشواهد نصية وحجج نظرية. والحقيقة أننا نجد أثراً قوياً لطريقة أمونيوس ومدرسته في الجمع [بين نظرية النفس الأرسطية والأفلاطونية] في ترجمات مبكرة لأعمال أرسطو إلى العربية التي ظهرت من بداية ومنتصف القرن التاسع. ففي الترجمة العربية لكتاب «ما بعد الطبيعة»، وفي أقدم ترجمة لكتاب «النفس»، كما في العديد من تلاخيص ومختصرات هذين الكتابين؛ نجد أن الكلمات اليونانية entelekheia وteleiotȇs وtelos تُترجَم إلى العربية بكلمة واحدة، هي «تمام». والمفارقة هنا هي أن ابن سينا عندما يعلن بقوة أن النفس العاقلة منفصلة عن البدن وتبقى بعد فنائه؛ فهو لا يبدو متعارضاً مع الترجمات العربية لأرسطو، بل يظهر مخلصاً لقراءة دقيقة لها.

وعلى الرغم من أن التراث التأويلي الذي استند عليه ابن سينا في تحديد معالم موقفه من النفس والعقل كان يؤكد على انفصال النفس والبدن؛ إلا أن هذا لم يمنعه من أن يقيم حججاً أصيلة خاصة به. وأشهر هذه الحجج هي «حجَّة الرجل الطائر» التي ليست في حقيقتها حجة أكثر من كونها أداة تشبيهية. فعند نهاية الكتاب الأول من «كتاب النفس» من موسوعة «الشفاء»؛ يذهب ابن سينا إلى ضرورة تجاوز مرحلة تناول النفس في علاقتها بالبدن وكونها كمالاً أول لجسم طبيعي آلي، إلى مستوى آخر من البحث فيها باعتبار ذاتها، والسؤال عن الكيفية التي تكون بها النفس جوهراً، إذا ما فكَّرنا فيها بمعزل عن البدن. وللبحث في ذلك؛ يقترح ابن سينا تجربة فكرية: لتتخيَّلْ أنك أتيتَ إلى الوجود كاملاً ناضجاً ومُعلَّقاً في هواء ساكن، وبأطراف بعيدة عن بعض لا تتلامس، وبعينين مغلقتين لا تريان أي شيء، وحواس لا تحس بأي شيء. فهل ستكون قادراً في هذه الحالة من انعدام الحس التام؛ على الوعي بوجودك؟ يجيب ابن سينا بالإيجاب؛ إذ ستقدر على توكيد وجودك، لكن لن تقدر على توكيد وجود بدنك أو أي من أعضائك البدنية؛ وذلك الجوهر الذي نسمِّيه «النفس»، والذي تناولناه في علاقته بالبدن وعرَّفناه على أنه كمال أول لجسم طبيعي آلي، ليس سوى هذه الذات التي يعي بها هذا الرَّجلُ الطائرُ. وعلاوة على ذلك؛ فإن القدرة على توكيد وجود هذه النفس أو الذات في الانعدام المطلق للحس ولأي وعي بالبدن هي «إشارة» إلى أن البدن جوهر لامادي([16]).

سال كثير من المداد حول التماثل الواضح بين حجة ابن سينا في الرجل الطائر والكوجيتو عند ديكارت، وافترض البعض أن تكون حجة ابن سينا أحد مصادر الكوجيتو. وذهب البعض (وأنا منهم) إلى أنه على الرغم من التماثل الكبير بينهما؛ إلا أنه عند الفحص الدقيق يتَّضح أنه تماثل ظاهري؛ لأن سياق حجة ابن سينا وهدفه منها يختلفان للغاية عن سياق وأهداف الكوجيتو الديكارتي([17]). فلم يكن المقصود من حجة الرجل الطائر السينوية إثبات أي شيء؛ إذ لم تكن سوى «إشارة» إلى ما يمكن أن تكونه النفس خارج سياق علاقتها بالبدن، وهي إشارة تذكِّرنا بلامادية النفس. فقد كان ابن سينا يأمل في أن ينقذ تلاميذه المتقدمين في الفلسفة من الحيرة التي يمكن أن تنتابهم في معرفة ماهية النفس، وألا يقعوا في حجج سوفسطائية تعالجها على أنها «ذرَّة» أو كيان مادي ما. ومع حجة الرجل الطائر؛ يُذكِّرُهم ابن سينا على الدوام بالنتيجة التي يجب عليهم الوصول إليها، حيث تكون الحجة أكثر وثوقاً. وقد وَسَّع ابن سينا من هذه الطريقة في «الإشارة» و«التنبيه» وغطَّى بها كل مواقفه الفلسفية في آخر أعماله الكبيرة «الإشارات والتنبيهات» التي كتبها لتلاميذه المتقدمين، مثل حجَّة الرجل الطائر تماماً.

حتى الآن، ركزت على نظرية بقاء النفس العاقلة بعد فناء البدن، والتي تُظهر الاستمرار بين ابن سينا والتراث الفلسفي السابق عليه. وتعد نظرية ابن سينا في مفارقة النفس للبدن ذروة ما يمكن أن نسمِّيه مشروع مدرسة أمونيوس، والذي تمثَّل في دمج مشروعَي التوفيق الأكبر بين أفلاطون وأرسطو لدى الأفلاطونية المحدثة المبكرة، والتوفيق الأصغر بين أعمال أرسطو ذاتها والواضح لدى الإسكندر الأفروديسي([18]). أما بالنظر إلى التطور الفلسفي اللاحق على ابن سينا في العالم الإسلامي، فقد كانت نظريته القائلة إن النفس العاقلة لا تبقى إلا بعد فناء البدن، طريقاً مسدوداً أمام المفكِّرين. صحيح أن أغلب فلاسفة ما بعد ابن سينا قد اتَّفقوا معه على أن النفس تبقى بعد موت البدن، وأنهم في الوقت نفسه استعاروا منه تقسيمه لقوى النفس والدور الذي ألحقَه بالحدس في عملية المعرفة؛ لكنهم شدَّدوا على العكس منه، على أن البدن هو الآخر يتمتع بنوع من الخلود بعد الموت (لكنهم وقعوا في إشكاليات فهم ذلك البدن الذي يبقى، فهل هو البدن نفسه أم مثله؟ وهل «البدن» هنا تؤخذ بمعناها الحرفي أم المجازي؟). وكانت العقيدة الأخروية هي التي وجَّهت هؤلاء المفكرين؛ لأن نظرية ابن سينا في بقاء النفس العاقلة تناقضت مع العقيدة الإسلامية في بعث الأجساد.

وكان الغزالي (450هـ - 505هـ/ 1058م - 1111م) هو المفكر السُنّي الذي اشتهر بمواجهة ابن سينا في إنكاره لبعث الأجساد، وهو أيضاً الذي كتب تلخيصاً بارعاً لفلسفة ابن سينا في كتاب عنوانه «مقاصد الفلاسفة»، وهو الكتاب الذي اتَّضح أنه على صلة وثيقة بأعمال ابن سينا الفارسية، مثل «دانش نامة علائي» (كتاب المعرفة للأمير علاء الدولة). وبعد كتابته لـ«مقاصد الفلاسفة»؛ صار الغزالي متمكِّناً من المذهب السينوي، حيث استطاع شنَّ هجومٍ مباشر وواسع على فلسفة ابن سينا كلها في «تهافت الفلاسفة». وقد ركَّز الغزالي في كتابه «التهافت» على ثلاث قضايا سينوية رآها تستحق التكفير، وهي إنكار حشر الأجساد، حيث ذهب ابن سينا إلى أنه بعد فناء البدن؛ فإن النفس العاقلة وحدها هي التي تبقى؛ وإنكار معرفة الله للجزئيات، وهي تقابل نظرية ابن سينا في أن الله يعرف الجزئيات على نحو كلي وحسب؛ وإنكار حدوث العالم، والمتضمن في فلسفة ابن سينا في نظريته في ملازمة العالم لله في القِدَم، على الرغم من أسبقيَّة الله عليه في العِلِّية.

وبسبب هجوم الغزالي (وغيره) على نظريات ابن سينا -أن النفس وحدها هي التي تبقى بعد الموت، وأن الله يعلم الجزئيات على نحو كلِّي، وأن العالم ملازم لله في القِدَم- لم تجد هذه النظريات مَن يؤيدها من مفكِّري الإسلام بعد ابن سينا. ولا يعني هذا أن كل نظريات ابن سينا شهدت نهايات مسدودة، ولا أن الغزالي قد نجح في إخماد جذوة البحث الفلسفي في العالم الإسلامي بعد ذلك، وهو الرأي الذي كان سائداً لفترة وثَبَت عدم صحته الآن. فبصرف النظر عن هذه النظريات الثلاث؛ التقى علماء الكلام السُّنَّة اللاحقون مع نواحٍ أخرى من فلسفة ابن سينا (والمفترض فيهم أنهم أعداؤه) بطريقة لا تبدو ظاهرة لأول وهلة. وما سأركِّز عليه فيما يلي؛ هو تمييز ابن سينا بين الماهيَّة والوجود، وهو جزئياً إبداع خاص به، يوضح كيف استقبل ابن سينا وعالج مناقشات كلامية سُنِّيَّة سابقة حول الفرق بين الشيء والموجود([19]).

الماهيَّة والوجود

من الصعب علينا اليوم قبول أفكار الكثير من فلاسفة العصر الوسيط، الذين كانت العناصرُ الأساسية للواقع عندهم كياناتٍ أنطولوجية كبيرة، مثل الجوهر والشيء والموجود...إلخ، وليست موضوعات فيزيائية كما في عالم اليوم مهما كانت صغيرة، مثل الجزيئات والذرَّات والنيوترونات. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن المعتزلة، الذين مَثَّلوا أول مدرسة كلامية، كانوا على الرأي القائل: إن المقولة الأوسع انطباقاً على كل الواقع هي مقولة «الشيء»، وأن هذا الشيء منقسم بدوره إلى مقولات فرعية، مثل «الموجود» و«المعدوم».

هناك سببان رئيسان جعلا المعتزلة يتمسكون بالشيء، باعتباره المقولة الأساسية للواقع؛ الأول: أن كل النحويين العرب الأوائل أجمعوا على أن «الشيء» يشير إلى كل ما يمكن أن يأتي وتُحمل عليه المحمولات. وبعبارة أخرى، فالشيء هو الموضوع الأعم، والذي لا يمكن أن يُردُّ إلى جنس أو مقولة أكبر منه؛ الثاني: أن القرآن قد وصف فعل الخلق بكلمة يقولها الله لشيء هي «كن»، وعندها يوجد الشيء([20]). وكان هذا إشارة للمعتزلة على أن الشيء، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، فهو معدوم قبل أن يقول له الله «كن»، وموجود بعد أن يقول له الله «كن»، لكن لم يكن المعتزلة على يقين من ماهيَّة هذا الشيء المعدوم، وانصبَّ كل الهجوم عليهم في عدم قدرتهم على حل إشكالية «شيئيَّة المعدوم». لكن ما الذي كان يقصده المعتزلي عندما أكد أن الشيء «معدوم»؟ وأين «يوجد» هذا الشيء المعدوم؟ في عقل الله مثلاً؟ وإذا كان خارج عقل الله؛ فأين؟ هل يوجد شيء واحد معدوم قابل لأن يقول الله له كلمة واحدة فقط هي «كن» فيكون؟ أم إن هناك أشياء كثيرة معدومة تنتظر لأن يقول الله لكل واحد منها «كن» فتكون؟ لقد نجح المعتزلة في الإجابة بطريقة واضحة عن إشكالية واحدة، وهي الوضع الوجودي للكيانات الذهنية. فالتصورات الكلية مثل «الفرسيَّة» [الصفات التي تجعل الحيوان حصاناً]، والكيانات المتخيَّلة مثل وحيد القرن، هي أشياء، لكنها لكونها كيانات ذهنية ليس لها وجود شيئي مادي في العالم الخارجي؛ فهي أشياء «معدومة». أما الموضوعات التي يستحيل تصوُّرها مثل الدائرة المربعة؛ فهي ليست «أشياء معدومة».

أما المتكلمون السُّنَّة والماتريديَّة الذين سيطروا على علم الكلام وغطُّوا على المعتزلة في نهاية القرن العاشر، فقد تمسكوا برأي مختلف، إذ اعتقدوا في هوية قوية بين الشيء والموجود، وفي أن مجال الأشياء يتساوى تماماً مع مجال الموجودات (بمعنى أن كل شيء سوف يكون بالضرورة موجوداً، وكل موجود يجب بالضرورة أن يكون شيئاً)، وأن معنى «الشيء» هو نفسه معنى «الموجود». وقد مكَّنَت هذه التسوية التامَّة بين الشيء والموجود المتكلمين السُّنَّة من البرهنة بقوة ووضوح على قدرة الله على الخَلْق من العدم المطلق؛ وذلك لأن نظرية المعتزلة في خلق الله للأشياء من أشياء معدومة يمكن أن تعني أن هذه الأشياء المعدومة لها وجود سابق مع الله قبل خلق العالم؛ ما يهدم فكرة المعتزلة أنفسهم في أن الله وحده هو القديم. أما عند السُّنَّة؛ فإن المعدوم هو «لا شيء»، وهو العدم المطلق الذي لا يتَّصف بأي وضع أنطولوجي، بعكس «المعدوم» عند المعتزلة.

لكن تمثَّلَت نقطة الضعف في موقف السُّنَّة في وضع الكيانات الذهنية؛ إذ يمكن اعتبارها موجودة وخارجة عن الأذهان في الوقت نفسه مثلها مثل الأشياء المادية. فعلى سبيل المثال: يحق لنا القول إن «الفرسيَّة» [الصفات التي تجعل من الحيوان حصاناً] أو وحيد القرن أشياء موجودة، تماماً مثل هذا الفرس الموجود في الإسطبل الآن، وبذلك سوف تنهار الحدود الفاصلة بين الكيانات الذهنية والموجودات المادية. والحل الذي لجأ إليه السُّنَّة هو إنكار أن يكون للكيانات الذهنية أيُّ نوع من الوجود. لكن تظهر هنا مشكلة، وهي أن إنكار وجود كل الكيانات الذهنية سوف يساوي بين صفة مثل الفرسيَّة والموجودة بالفعل في العالم الخارجي، وشيء متخيَّل مثل وحيد القرن، وشيء مستحيل التصوُّر مثل الدائرة المربَّعة، ولن يكون هناك فرق بين الممكن والمتخيَّل والمستحيل، وسوف يكون الكل مستحيلاً، على الرغم من استطاعتنا إنشاء تصوُّرات ذهنية دقيقة عن «الفرس» تقابل الفرس المادي.

وبوجه عام، تبنَّى الفارابي في القرن العاشر في كتابه «كتاب الحروف» موقف المعتزلة، وتمسك بالقول إن «الشيء» هو الجنس الأعلى الذي يمكن تقسيمه إلى جنس «الموجود» وجنس «المعدوم»، لكن يتسامح الفارابي في القول إن لـ«الموجود» معنى زائد ليس حاضراً في «الشيء»، وهو معنى الرابطة في القضية الوجودية (وهي قضية تقرُّ وجوداً لشيء، وخالية من الشرط أو الاحتمال)؛ إذ يذهب الفارابي إلى أنه في مكان الرابطة «هو» في القضية «زيد (هو) عادل»؛ يمكن للمرء أن يقول: «زيد يوجد عادلاً»، لكن يحاجج الفارابي بأن المرء لا يستطيع إحلال كلمة «شيء» هنا محل كلمة «هو»؛ لأن القول إن «زيد (شيء) يوجد على أنه عادل» ليس له معنى. وتُمكِّن قواعدُ اللغة العربية الفارابي من أن يكون واضحاً أكثر [مما تسمح به اللغة الإنجليزية]، لكنه في العموم يحاول جاهداً العثور على طريقة يميِّز بها موقفه عن موقف المعتزلة. ومع ذلك؛ تدلُّ نظرية الفارابي على أن هناك دور لكلمة «موجود» -باعتبارها رابطة [هو]- لا يمكن أن تؤديه كلمة «شيء»، وأنه رغم اشتراك مدلولاتهما؛ إلا أنهما يحملان معنيين مختلفين.

وجاء موقف ابن سينا من هذه المسألة على أنه سلسلة من التوافقات بين معالجة المعتزلة والفارابي للشيء على أنه الجنس الأعلى، وتسوية متكلِّمي السُّنَّة بين الشيء والموجود؛ مع أخذه في الاعتبار نظرية الفارابي في اختلاف معاني الشيء والموجود. وعندما أتى ابن سينا في «الإلهيات» من كتاب «الشفاء» للحديث عن الأشياء والموجودات باللغة الكلامية التقليدية؛ فقد كان حاسماً في موقفه، إذ ذهب إلى أن الشيء والموجود متساويان ماصدقيَّاً ومختلفان دلاليَّاً*. وبعبارة أخرى: يذهب ابن سينا إلى أن مجال انطباق كلمتي الشيء والموجود متساويان، لكن معانيهما مختلفة. ورغم أنه لن يكون هناك شيء ليس في الوقت نفسه موجوداً، ولن يكون هناك موجود ليس في الوقت نفسه شيئاً، فهذا لا يدل على أن الشيء يعني الموجود، أو أن الموجود ليس سوى الشيء. فعندما نقول عن موضوع إنه شيء؛ نقصد منه معنى مختلفاً عن قولنا عنه إنه موجود. ورغم ذلك يقرُّ ابن سينا بأن الشيء والموجود «متلازمان»: فلا يمكنك أن تجد شيئاً ليس موجوداً، أو موجوداً ليس شيئاً.

لكن كيف يختلف الشيء والموجود في المعنى وفق ابن سينا؟ عندما نشير إلى موضوع ما على أنه شيء، أو بمعنى أدق: عندما نشير إلى «شيئيَّة» الموضوع؛ فإننا نشير بذلك إلى خاصيَّة له تفصله عن شيء آخَر؛ أي: خاصية تجعل الموضوع شيئاً معيناً وليس شيئاً آخر. وبالتالي، فإن شيئية القطة هي الخاصية التي تجعلها قطة، لا حصان مثلاً، التي خاصيَّته هي «الفرسيَّة». أما عندما نتكلم عن موضوع ما على أنه موجود، فنحن لا نشير بذلك إلى «ما هو» هذا الموضوع؛ أي: باعتباره شيئاً متميزاً عن شيء آخر، بل نشير إلى أنه موجود وحسب.

وقد أدى تمسُّك ابن سينا بتلازم الشيء والموجود إلى القول: إن الموضوعات الذهنية مثل «الفرسيَّة» والموضوعات العينية مثل هذا الفرس الذي في الحظيرة يقال عليهما موجودان. إن موضوعاً ذهنياً، مثل «الفرس» موجود في الذهن، في حين أن موضوعاً عينياً، مثل هذا الفرس هنا في هذه الحظيرة، موجود باعتباره فرداً عينيَّاً (موجود في الأعيان). لقد التزم ابن سينا القولَ بوجود الموضوعات الذهنية بطريقة لم تسمح بها المذاهب الكلامية السابقة عليه.

لكن كانت أفكار ابن سينا أكثر سيولة من ذلك، بمعنى أنه في أعمال كثيرة شديدة التنوع ومكتوبة لجمهور مختلف وعبر مراحل مختلفة من تطوره الفكري؛ اتَّخذ مواقف مختلفة من هذه المسألة لا يمكن وصفها إلا على أنها غير متَّسقة. وجزء من السبب في ذلك يرجع إلى أن ابن سينا كان يرتاد عالمين مختلفين تماماً، عالم الفلسفة وعالم الكلام؛ فقد كان نقاشه للعلاقة بين الشيء والموجود موجَّهاً بالمناقشات الكلامية السابقة عليه؛ إذ تطابق معها في المصطلحات والقضايا. لكن عندما تبنَّى ابن سينا فلسفة أرسطو في ترجماته العربية وفلسفة الفارابي؛ لوحِظ في أعماله وجود تحوُّل طفيف. فبدلاً من تحليل العلاقة بين الشيء والموجود؛ بدأ ابن سينا في تناول العلاقة بين الماهية والوجود. ومصطلح «الماهيَّة» [أو الما هو] الذي يستخدمه؛ يأتي من الترجمات العربية المختلفة لأورجانون أرسطو، حيث تأتي نتيجة التعريف الصحيح للشيء في صورة تحديد لماهيَّته.

والمثال على عدم اتِّساق مواقف ابن سينا هو من «الإلهيات» من كتاب «الشفاء»، حيث يشير إلى أن الذي بينهما تلازم ليس الشيء والموجود، بل «الواحد» والموجود*. ويدل هذا الموقف على قرب خطير من المعتزلة والفارابي؛ إذ ستكون الأشياء بذلك جنساً يقع تحته الموجود. وحتى لو سمحنا لابن سينا بإنكار تبنيه لتصوُّر أنطولوجي - موازٍ للمعتزلة والفارابي- يكون فيه الشيء أوسع ماصدقيَّاً من الموجود؛ فسوف يكون الشيء متمتِّعاً بأولوية منطقية على الموجود؛ أي: سيكون أوَّليّاً أكثر من الموجود.

والأكثر إثارة للقلق [عند الباحث] هو أن ابن سينا في «المدخل» إلى علم المنطق من «الشفاء» يشير في فقرة شهيرة إلى أن الشيء والموجود يمكن ألا يكونا متساويين ماصدقيَّاً*، وهو يقول إن ماهيَّات الأشياء يمكن أن توجد في الموضوعات العينية في العالم الخارجي، ويمكن في أحيان أخرى أن تكون موجودة في الأذهان·، إلا أن للماهية ثلاثة أنحاء من الوجود: وجود عيني خارج الذهن، ووجود في الذهن، ووجود ثالث لا هو في الأعيان ولا في الأذهان. ويمكن لأي دارس لهذه الفكرة أن يستنتج أن الماهية ليست مجرد سابقة منطقياً على الموجود، بل هي كذلك أوسع ماصدقيَّاً من الموجود. لكن على كل حال، يؤكِّد ابن سينا على ماهيَّات ثالثة لا هي ذهنية ولا هي عينية؛ وبالتالي سيكون كل موجود ماهيَّة، لكن ليس كل ماهيَّة موجودة. ويبدو أن ابن سينا قد تردد بين الموقفين السُّنِّي والاعتزالي؛ أي: بين اعتبار الشيء والموجود متساويان ماصدقيَّاً، واعتبار أن الماهيَّة أوسع في الماصدق من الوجود، أو أنها سابقة منطقياً على الوجود.

والواضح الآن أن تناول ابن سينا للعلاقة بين الماهيَّة والوجود غير محدد. والحقيقة أن نصوص ابن سينا تكشف عن مواقف ثلاثة مختلفة: 1) الشيء والموجود، وبالتضمن معهما الماهيَّة والوجود، متساويان منطقياً ومختلفان دلالياً، ولا يتخذ أحدهما الأولوية على الآخَر؛ 2) الماهيَّة والوجود متساويان ماصدقيَّاً ومختلفان دلالياً، وللماهية الأولوية المنطقية على الوجود؛ 3) الماهية أوسع ماصدقاً من الوجود، والاثنان مختلفان في المعنى. ويضاف إلى كل ما سبق من خلط؛ أن ابن سينا يستخدم مصطلحات مختلفة للإشارة إلى الماهية، مثل «الذات» و«الحقيقة» و«الصورة» و«الطبع»، حيث لا يعرف القارئ هل يناقش ابن سينا علاقة الماهيَّة بالوجود أم لا. ورغم كل هذا الخلط؛ فإن أغلب المعالجات التالية في تاريخ الفكر الإسلامي قد اعتمدت مصطلحَي «الوجود» و«الماهيَّة».

والنتيجة إمكانُ الحكمِ على ابن سينا بالنجاح في تحويل النقاش في الأنطولوجيا العامة من التمييز الكلامي القديم بين الشيء والموجود، إلى تمييز سينوي جديد بين الماهية والوجود. وبعبارة أخرى، يتمثل إسهام ابن سينا هنا في وضع الإطار العام للتمييز بين الماهية والوجود، لا في اختراع هذا التمييز ابتداءً. وأقصد بوضع ابن سينا لإطار التمييز بينهما؛ أنه لم يقف إسهامه على مجرد وضع المصطلحَين، بل تعدَّاه إلى وضع كل احتمالات العلاقة بينهما، وهي الاحتمالات التي ستشكِّل من بعده مواقف متوسعة للغاية.

وللتمثيل لدور ابن سينا في تحديد الإطار اللاحق لنقاشات العلاقة بين الماهية والوجود؛ سأشير إلى عدد من الفلاسفة اللاحقين عليه، يمثِّل اثنان منهم موقفين متناقضين بشدَّة، في حين يمثِّل الباقون مواقف وسيطة. على أحد طرفي النقيض؛ نجد السهروردي (ت 587هـ/ 1191م)، الذي قال بالأولوية المطلقة للماهيَّة؛ أي: بأنها تتصف بالواقعية التامة، في حين اختلط «الوجود» مع تمييزات تصوُّريَّة افتراضية أخرى. وعلى الطرف الآخَر نجد الملا صدرا (صدر الدين الشيرازي، ت 1050هـ/ 1640م)؛ إذ الوجود لديه يتصف بالأولوية والواقعية، في حين صارت الماهيَّة مجرد تصوُّر ذهني. وقد وُصِف هذان الموقفان على التوالي بـ«أصالة الماهيَّة» (السهروردي) و«أصالة الوجود» (الشيرازي).

وكما ذكرت في بداية هذا الفصل، فلن أدخل في تفاصيل نظريات السهروردي والشيرازي، فهذه هي مهمة المتخصِّصَين اللذين كتبا الفصلين التاسع والعاشر. وهدفي من الإشارة إليهما هنا هي إبراز أن كل واحد منهما قد اتخذ موقفاً مناقضاً للآخَر في مسألة الماهية والوجود، حيث إذا نظرنا إلى كليهما على أنهما سينويَّان أو جزء من التراث السينوي؛ فسيعني هذا أننا نوسع من السينوية ونجعلها مطَّاطة للغاية، حيث ستستوعب كل التراث الفلسفي ما بعد الكلاسيكي اللاحق على ابن سينا؛ ما يجعل كلمة «السينوية» غير محدَّدة.

أما الموقف الوسط بين السهروردي والشيرازي؛ فقد تصارعت عليه أجيال عديدة من المتكلمين، ومن بينهم الشيعي الاثني عشري مثل الطوسي (ت 672هـ/ 1274م) والأشعري السُّنِّي مثل فخر الدين الرازي (ت 606هـ/ 1210م). أما الطوسي، ففي شرحه لعنوان النمط الرابع من «الإشارات والتنبيهات» (الوجود وعلله)، يتبنَّى الطوسي صيغة مخفَّفة من النزعة الماهويَّة بالمقارنة بموقف السهروردي، ذاهباً إلى أن الماهيَّة والوجود يتضمَّنان بعضهما البعض، لكن يجب النظر إلى الوجود على أنه مجرد عَرَض للماهية. ويذهب الطوسي إلى أنه في حالة كل الموجودات ما عدا السبب الأول؛ فإن الوجود متساوٍ ماصدقيَّاً مع الماهية، لكنه مختلف عنها في المعنى، لكن الوجود مجرَّد عرض للماهية -وهو عرض ضروري تأكيداً لكنَّه في النهاية عرض. وبذلك يكون موقف الطوسي صدى لموقف ابن سينا في أن الماهيَّة، وإن كانت متساوية ماصدقيَّاً مع الوجود، إلا أنها سابقة منطقياً عليه([21]).

أما نظرية قطب الدين الرازي، فهي الأصعب في الصياغة. لقد رأينا فيما سبق، أن موقف متكلِّمي السُّنَّة هو أن الشيء والموجود -وبالتضمن، الماهية والوجود- متساويان في الماصدق وفي المعنى كذلك؛ أي: إن الماهية ليست سوى الوجود والعكس صحيح. لكن في عصر قطب الدين الرازي، صار تمييز ابن سينا بين الماهيَّة والوجود معتمداً في الخطاب الفلسفي، حيث لم يتمكَّن متكلِّمو السُّنَّة من مجرد التأكيد على موقفهم القديم في الهوية التامة بين الماهيَّة والوجود. ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى أن التمييز بينهما صار نافعاً للغاية في إثبات وجود الله: فكل موجود هو مُركَّب من الماهية والوجود، وكل مُركَّب يستدعي مُركِّباً ألَّف بين أجزاء الـمُركَّب؛ وبالتالي فكل مُركَّب مُسبَّب؛ ولتجنب التسلسل إلى ما لا نهاية من الـمُركَّب والـمُركِّب، وبالتالي تسلسل الآثار والأسباب إلى ما لا نهاية؛ فيجب الانتهاء إلى موجود ليس مُركَّباً، وهو الله.

وبالنظر إلى فائدة التمسك بالتمييز بين الماهية والوجود، فقد خفَّف متكلِّمو السُّنَّة اللاحقون على ابن سينا من حدَّة موقفهم القديم في التسوية المطلقة بينهما، تلك التسوية التي كانت أساس نظريتهم الأنطولوجية السابقة على ابن سينا. ولذلك تمسَّك الرازي بتمييز ابن سينا الأول بين الماهية والوجود، والذي نصَّ على أنهما متساويان ماصدقيَّاً، لكن يختلفان في المعنى([22]). وبالمثل ذهب المتكلم السُّنِّي الماتريدي سعد الدين التفتازاني (ت 792هـ/ 1390م) في «شرح العقائد النسفية»؛ إلى رفض موقف ابن سينا الأول في التسوية التامة بين الماهية والوجود، لكنه تبنَّى بوضوح التمييز السينوي اللاحق بينهما، وهو ما يظهر على نحو ضمني في شرحه([23]).

أما الأكثر إثارة للدهشة، فهو موقف المتكلم الأشعري السُّنِّي محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني (ت 749هـ/ 1348م)، في شرحه لكتاب زميله المتكلم الأشعري البيضاوي (ت 685هـ/1286م) «مطالع الأنوار»؛ إذ يعترف الأصفهاني، متَّبعاً البيضاوي، أن موقفه (ما بعد السينوي) القائل إن الوجود عَرَض للماهيَّة؛ يخالف أبا الحسن الأشعري نفسه. والحقيقة أن موقف الإصفهاني مؤسَّس على موقف ابن سينا الثالث؛ أي: إن الماهية أوسع ماصدقاً من الوجود، وأن الوجود ليس عرضاً لازماً للماهية، كما ذهب الطوسي، بل هو شيء زائد على الماهية([24]).

ما أودُّ التنبيه عليه هنا؛ هو أن تاريخ الفكر الإسلامي اللاحق على ابن سينا قد شهد تنوُّعاً في المواقف من تمييز ابن سينا بين الماهية والوجود، وقد ظهر لدى متكلمي الشيعة والسُّنَّة على السواء، وامتد بين موقفين متناقضين اتخدهما السهروردي والشيرازي، ابتعدا عمَّا يمكن أن نسميه تراثاً سينوياً. وبالنظر إلى التمييز بين الماهية والوجود؛ فقد كان متكلِّمو الشيعة والسُّنَّة هم الذين ساروا قدماً في التراث السينوي ودفعوه للأمام. إن هذه النظرة لمتكلمي الشيعة والسُّنَّة على أنهم هم السينويون الحقيقيون، صادمة بعض الشيء لدارس الفلسفة الإسلامية، بالنظر إلى اعتقادنا أن الفلسفة والكلام كانا فرعين معرفيَّين متناقضين في الفكر الإسلامي، وهو اعتقاد خاطئ أكَّدته أجيال عديدة من الباحثين الغربيين، ويرجع ذلك لاعتمادهم على هجوم الغزالي على الفلسفة [من موقف كلامي]؛ وكذلك لاعتمادهم على مؤرِّخي المذاهب الإسلامية القدماء الذين طبَّقوا التقسيم الأرسطي للفكر إلى أنواع ثابتة منفصلة عن بعضها بخصائص أزلية لا تتغيَّر، فرسموا صورة للفلسفة والكلام على أنهما نوعان منفصلان عن بعضهما من التفكير، وكذلك تأثَّروا بالتقسيم الأكاديمي في جامعات العصور الوسطى الأوروبية بين كليَّات الآداب [التي تدرس الفلسفة وفروعها] وكليَّات اللاهوت [أصول الدين الموازية لعلم الكلام الإسلامي]([25]).

واجب الوجود بذاته

دعوني الآن ألخِّصْ سريعاً كل ما سبق. لقد ركَّزتُ حتى الآن على مسألتين، أو بالأحرى على مجموعتين من المسائل الفلسفية، توضح كيف استقبل ابن سينا وعالج تراثَين من الشروح؛ التراث الأول يتعلق بإشكالية علاقة النفس بالبدن. والمفكِّرون الذين شكَّلوا موقف ابن سينا من هذه الإشكالية هم أرسطو نفسه مع شرَّاحه اليونان المتأخرين، خاصة مدرسة أمونيوس التي انشغلت في الدمج بين الجمع الأصغر لأعمال أرسطو مع الجمع الأكبر بين أفلاطون وأرسطو. والتراث الثاني ركَّز على تحديد العناصر الأساسية للواقع -الشيء والموجود، الماهيَّة والوجود- وقد أمدَّنا هذا التراث بنظرية مُتَّسِقة في كيفية ارتباط هذه العناصر ببعضها. والمفكرون الذين شكَّلوا مواقف ابن سينا من هذه الإشكالية هم متكلمو الإسلام المعتزلة والأشاعرة، بالإضافة للفارابي.

فيما يخص مسألة النفس؛ جاءت نظرية ابن سينا تطوراً طبيعياً لمدرسة أمونيوس. ورغم أن مثال ابن سينا في الإنسان الطائر أصيل؛ إلا أنه لم يكن جزءاً أصيلاً من نظريته في مفارقة النفس، تلك النظرية التي بذلت فيها مدرسة أمونيوس قبل ابن سينا جهداً كبيراً. وقد شكَّلت جوانب معيَّنة من نظرية ابن سينا في النفس أثراً كبيراً في تاريخ الفكر الإسلامي اللاحق عليه، لكن إصراره الحاسم على أن النفس العاقلة وحدها هي التي تبقى بعد فناء البدن، وإنكاره بالتبعيَّة للمعتقد الإسلامي في بعث الأجساد؛ تعرَّض للتجاهل من المفكِّرين الإسلاميين اللاحقين، الذين كانت هذه النظرية تفرض عليهم تأويلاً مجازياً صعباً للغاية للنص الديني، فالقرآن واضح بشدة في وصفه للعذابات والملذات البدنية التي تنتظرنا في الآخرة.

وفيما يخص إشكالية الماهيَّة والوجود؛ فقد استمر ابن سينا في مناقشتها وكانت مطروحة من قبله (لكن ليس بالوضوح الذي سيظهر على يديه)، على يد المتكلمين الأوائل ومناقشاتهم للسؤال حول الشيء والموجود، وما إذا كان من الممكن الفصل أو التمييز بينهما، لكن عمل ابن سينا على إعادة صياغة هذا التمييز بطريقتين متوازيتين: الأولى عن طريق تجريد الوجود من الموجود؛ والثانية عن طريق تجريد الشيئية من الشيء، ثم إحلال المصطلح الأرسطي الفارابوي «الماهية» أو «الماهوية» محل المصطلح الكلامي «الشيئية». وعلى العكس من نظرية ابن سينا في النفس؛ فإن نظريته في التمييز بين الماهية والوجود كانت ذات أثر طاغٍ على الفكر الإسلامي اللاحق؛ إذ وجد المفكرون من بعده أن محاولاته المتعدِّدة التي لم تكن دوماً متسقة مع بعضها، للتمييز بين الماهية والوجود؛ تشكِّل مجالاً خصباً لإبداع مصطلحات ومواقف وسيطة جديدة، وهي مواقف تعدَّدت بين موقفين نقيضين مثَّلَتهما نزعة السهروردي الماهوية الراديكالية، ونزعة صدر الدين الشيرازي الوجودية الراديكالية.

أما المجموعة الثالثة من القضايا التي سأناقشها، فهي تتركز حول أكثر إسهامات ابن سينا أصالة في الفلسفة الإسلامية؛ أي: تمييزه بين أ) واجب الوجود بذاته؛ وب) واجب الوجود بغيره، ثم ربطه التالي بين واجب الوجود بغيره وج) «ممكن الوجود بذاته» (سوف أستخدم مصطلح ابن سينا القصير «الواجب بذاته»، بدلاً من العبارة الطويلة «الذي بذاته واجب الوجود»؛ لأن المصطلح الأول يعبِّر بدقة عن طبيعة الفكر السينوي وما وقع فيه من معضلات). وباعتراف ابن سينا؛ فإن الله هو الموجود الوحيد الذي يكون واجب الوجود بذاته، في حين أن الموجودات كلها تنتمي للفئتين (ب) و(ج).

ومثل تمييزه بين الماهية والوجود، فقد كان لتمييز ابن سينا بين «واجب الوجود بذاته» من جهة و«واجب الوجود بغيره» و«ممكن الوجود بذاته»؛ أثر ضخم في تاريخ الفكر الإسلامي اللاحق، وسوف أشير تباعاً وباختصار إلى كيفية توظيف متكلمي السُّنَّة والشيعة على السواء لهذا التمييز من أجل أغراضهم الخاصة وكيف عملوا على تَبْيِئَتِه داخل السياق الكلامي، لكن يجب عليَّ أولاً البدء بمصادر ابن سينا، كي أُظهِر بعد ذلك أن تمييزه المذكور كان أصيلاً للغاية. فعلى العكس من نظرية ابن سينا في النفس التي وقف إبداعه فيها عند مجرَّد وضع التجربة الفكرية الخاصة بالرجل الطائر، والتي لم يكن الهدف منها سوى إقناع طلَّابه المتقدمين بنتيجة سبق البرهنة عليها، وعلى العكس من تمييزه بين الماهيَّة والوجود، والذي استفاد فيه من نقاشات متكلِّمي المعتزلة وأهل السُّنَّة، ثم عمل على إعادة صياغتها في شيء يشبه نظرية متكاملة؛ فإن تمييزه بين «واجب الوجود بذاته» و«واجب الوجود بغيره»، و«ممكن الوجود بذاته» جاء من مصادر فكرية سابقة متواضعة للغاية كانت لا تزال بدائية في عصره. سوف أبدأ في هذا الجزء من الفصل في استعراض هذه المصادر، ثم أناقش الأسباب التي جعلت ابن سينا يشعر بالحاجة إلى إقامة ذلك التمييز الجديد، ثم أتناول التوجهَين الأساسيين لذلك التمييز، وأخيراً أستعرض أهم الطرائق التي استفاد منها المفكرون الإسلاميون اللاحقون في التمييز وكيفية تسكينه في مذاهبهم.

المصادر

تنحصر المادة الخام التي استعان بها ابن سينا في إقامة تمييزه المذكور في الترجمات العربية لأعمال أرسطو، خاصة مقالة «الدَّال» من كتاب «ما بعد الطبيعة»، حيث يتناول أرسطو «المضطر» to anankaion*، [أو الضروري] والفصل الثاني عشر من كتاب «العبارة»، حيث يتناول موجِّهات القضايا مثل «الواجب» anankaion، و«الممكن» dunaton و«الممتنع» adunaton. في الفصل الخامس من مقالة الدَّال، والتي اشْتُهِرت باسم «المعجم الفلسفي» Philosophical Lexicon، يقدم أرسطو تعريفات عديدة لـ«الضروري». التعريفان الأول والثاني متماثلان: 1) الضروري للحياة أو الوجود (مثل التنفس أو الغذاء)، و2) الضروري للحياة جيداً (مثل تناول الدواء)**. والتعريفان مترابطان لإشارتهما إلى ما قاله أرسطو في المقالة الثانية من كتاب «الطبيعة» عن «الضرورة بالوضع» [أو الفرضية]؛ أي: الضرورة التي تُوضع أو تُفتَرض عندما تكون غاية المرء هي الحياة أو الصحة***. وتحكُم هذه الضرورة وفق أرسطو الأشياء الطبيعية، عندما تكون مواد هذه الأشياء موضوعة لها من أجل الصورة؛ أي: من غاية ما تحقِّقها هذه الصورة. أما النوع الثالث من الضرورة، فهو الاضطرار: فالتاكسي الذي كنت أستقله تعطَّل، ولذلك لم ألحق بطائرتي مضطراً. وينطبق هذا النوع من الضرورة الاضطرارية على الأفعال الإرادية، وهي الأفعال التي تتعرَّض للإعاقة بسبب ظروف خارجية.

وأما النوع الرابع من الضرورة، فيشير إلى حزمة من الصفات -البساطة واللاتغيُّر والأزلية- وهي التي تحوز عليها الأشياء الإلهية. وهذا النوع هو الذي ينظر إليه أرسطو على أنه الأساسي، والذي تعود إليه كل الأنواع الأخرى. والنوع الخامس والأخير من الضرورة مُركَّب؛ فهو يمكن أن يشير (وفق الصيغة العربية لكتاب «ما بعد الطبيعة») إما إلى نوعين من الضرورة: الضرورة التي تحوز عليها مقدِّمة صادقة يقينيَّاً (5 أ)، وضرورة نتيجةٍ في قياس صادق (5 ب)؛ وكذلك ضرورة نتيجة تتبع مقدمتين صادقتين في قياس صادق (5 ج):

كل الداشهوندات* كلاب

كل الكلاب حيوانات

-------------------

كل الداشهوندات حيوانات

تكمن الضرورة (5 أ) في المقدمتين، وتكمن الضرورة (5 ب) في النتيجة، وتكمن الضرورة (5 ج) في فعل استدلال النتيجة من المقدمتين. وبعبارة أخرى: الضرورة (5 أ) تشير إلى صفة يمتلكها سببٌ ما (وفي القياس السابق، الأسباب هي المقدمات)، وتشير الضرورة (5 ب) إلى الأثر الذي يُحدِثه سبب في أثره (والأثر في القياس السابق هو النتيجة). أما الضرورة (5 ج)، فتشير إلى فعل السبب في إنتاج أثره (أي: فعل الاستدلال من المقدمات إلى النتائج). ومعنى هذا أن (5 أ) و(5 ب) تشيران إلى «الضرورة»، أما (5 ج) فهي تشير إلى فعل الضرورة [أي: الضرورة باعتبارها فاعلية ونشاط].

وبصرف النظر عن اختلاف المصطلحات، وعلى المستوى النظري وحده، وفَّرَت مقالة الدَّالِّ لابن سينا في تعريفاتها للضرورة المادة التي كان يحتاجها للتمييز بين «واجب الوجود بذاته» و«واجب الوجود بغيره». وقبل أن أُفَصِّل الكيفية التي استفاد بها ابن سينا من هذه المادة؛ سأصف المصادر التي اعتمد عليها في صياغته لهذين المفهومين؛ لأن الكلمة المستخدمة في الترجمة العربية لكتاب «ما بعد الطبيعة» ليست «الضرورة»، بل «المضطر» وليس «الواجب» كما يظهر في تمييز ابن سينا. وأقرب الاحتمالات لهذه المصادر هو المقالتان الثانية عشرة والثالثة عشرة من كتاب «العبارة» لأرسطو اللتان يتناول فيهما طبيعة موجهات القضايا؛ إذ أراد أرسطو تحديد ما نقصده عندما نقول عن قضية ما إنها ضرورية أو ممكنة أو محالة، أو بعبارة أخرى: ما معنى قولنا إن حَمْلَنا لمحمول («كلب» في القياس السابق)، على موضوع (الداشهوندات) ضروري أو ممكن أو محال. وما السبب الذي دفع أرسطو لهذا السؤال؟ يرجع السبب إلى أنه في الكتاب التالي على «العبارة» في الأورجانون، وهو «التحليلات الأولى» (القياس)؛ يهتم بما تتضمنه الضرورة في الأقيِسَة؛ إذ يبدأ أرسطو في هذا الكتاب بالبحث في بناء الأقيِسَة الحمليَّة [أو التقريرية]، لكنه سرعان ما يتحول إلى البحث في الأقيِسَة ذات الموجهات [أي: التي تتضمن الضرورة والاحتمال والاستحالة]*.

قام المترجم العربي القديم لكتاب «العبارة» [إسحق بن حنين]، باتخاذ قرارين مهمين فيما يخص ترجمته للمصطلحات؛ فقد بدأ باستخدام الجذر العربي «و ج د» (كما في «وجود») بدلاً من «ك ون» لترجمة الرابطة التي استخدمها أرسطو، والتي ترجع إلى الفعل اليوناني einai,«to be.». ثم استخدم «و ج د» بدلاً من «ض ر ر» لترجمة anankaion (ضروريNecessary (. وفي رأيي، فإن الانتقال من «ك ون» إلى «و ج د» دليل على أن المترجم كان قلقاً من عدم تحديد أرسطو لكلمة «ممكن» وما إذا كانت وحيدة المعنى (أي: ما إذا كان «الممكن» مناقضاً للمحال فقط)، أو كانت ذات معنى مزدوج (أي: مناقضة الممكن للمحال والضروري)، واستطاع المترجم باستخدام الجذر «و ج د» (في مقابل الرابطة «ك ون») تفضيل المعنى المزدوج لكلمة «ممكن»؛ وذلك لأن «و ج د» كانت مناسبة للاستخدام كرابطة في القضايا التي تحمل موجِّهات «الممكن» و«الممتنع»، وكذلك كدلالة على الحالة الوجودية في وصف الكيانات الواقعية، مثل حالة «الواجب» (واجب الوجود)؛ أي: الذي لا يفتقر لسبب، والتي تناقض حالة «الممكن» (أي: الوجود الذي يفتقر لسبب). وبعبارة أخرى: فضَّل المترجم العربي «و ج د»؛ لأن هذا الجذر العربي هو الذي يضمن أن تؤدي الكلمة العربية «ممكن» الوظيفة المزدوجة التي ألحقها أرسطو بكلمة dunaton، باعتبارها تعني «الممكن» في مقابل «المحال»، و«العارض» في مقابل «الضروري».

أما عن انتقال المترجم من «ض ر ر» إلى «و ج ب» في ترجمة anankaion؛ فإنني أعتقد أنه إذا كانت «ض ر ر» تؤدي معنيَي الضرورة (5 أ) و(5 ب)؛ أي: الضرورة التي تحوز عليها المقدمات ثم النتائج في قياس صادق؛ فإن «و ج ب» ستؤدي المعنى الثالث للضرورة (5 ج)؛ أي: فعل إحداث الضرورة [الإيجاب؛ أي: جعل الشيء واجباً]؛ ذلك لأن الفعل العربي «وجب/ يجب» كان هو الفعل المعتمد، عندما كان [المناطقة العرب] يقولون عن نتيجة ما إنها «وجبت» عن المقدمات.

وكانت نتيجة كل هذه التحوُّلات في الترجمة أن وجد ابن سينا في الترجمة العربية للأورجانون الأرسطي تعبيرات «واجب الوجود» و«ممكن الوجود»، حاضرة بوضوح ومُستخدَمة بكثرة. أما باقي المواد الاصطلاحية مثل «بذاته» و«بغيره»؛ فرغم ظهورهما في تلخيص الفارابي لكتاب «العبارة»، إلا أنهما وصلا لابن سينا من معالجة المتكلمين لإشكالية صفات الله، وهو الموضوع الذي سأتناوله في مناقشتي للمسألتين اللتين حاول ابن سينا التعامل معهما في إشكالية «الواجب بذاته» و«الواجب بغيره».

الأهداف

أول إشكالية واجهت ابن سينا في تمييزه الجديد [بين الواجب بذاته والواجب بغيره] هي: كيف يتجنَّب ظهور ثنائية في ذات الله (حتى ولو كانت ثنائية تصوُّرية لا فعلية). أصرَّ المعتزلة، مثلهم مثل الأفلاطونيين المحدثين، على وحدانية الله المطلقة؛ أي: الوحدانية التي تعني البساطة، لا مجرد التفرُّد. لكن أسفرت الجهود التأويلية لمدرسة أمونيوس في الجمع بين أفلاطون وأرسطو عن تصوُّر لسببيَّة لله تتَّصف بالثنائية بين الله، باعتباره سبباً فاعلاً والله باعتباره سبباً غائيَّاً. كان تصوُّر الله باعتباره سبباً فاعلاً يرجع إلى مفهوم «الصانع» عند أفلاطون في محاورة «تيماوس»، والذي خلق العالم من مادَّة أولى لكن من خلال الـمُثل الأزلية؛ كما أنه كان «الواحد» في الرؤية الأفلاطونية المحدثة، الذي هو المصدر الأول للسلسلة الصدورية للوجود، ومصدر فيض كل الموجودات التالية. أما الله باعتباره علَّة غائيَّة؛ فكان هو المحرك الأول عند أرسطو في كتابيه «الطبيعة» و«ما بعد الطبيعة»، والذي كان يقوم بدور الغاية التي تتحرَّك إليها الحركة الدائرية للأفلاك السماوية؛ كما كان كذلك «الخير» لدى الأفلاطونية المحدثة، الذي هو الغاية النهائية لسعي كل الموجودات صعوداً epistrophȇ نحو خيرها الأقصى to eu einai وكمالها المناسب لها في مراتب الوجود. ولم يكن كافياً لابن سينا مجرَّد تأكيد الأفلاطونية المحدثة على انتفاء الثنائية الفعلية عن الله بسبب كونه علَّة فاعلة وعلَّة غائيَّة، وأن الثنائية التي تظهر لنا هي فهمنا التَّصوُّري لعلِّيَّة الله، وأنها تعود لنقص الفهم البشري وقصوره عن استيعاب حقيقة الله وهويته ووحدانيَّته المطلقة، وأن الفعل والغاية شيء واحد في ذات الله. ويعود عدم رضا ابن سينا عن ذلك الحل الأفلاطوني المحدَث؛ إلى أن مدرسة أمونيوس قد كرَّست بالفعل لانقسام أساسي في الله؛ ذلك لأن تصور الله باعتباره علَّة فاعلة وعلَّة غائيَّة لم يقتصر على مهمة تفسير اختلاف أفعال الله في الكون، بل أدَّى إلى تصور عن انقسام في الله نفسه، باعتباره مفارقاً للعالم (وهي الصفة التي تليق به وحده، وخاصة باعتباره علَّة غائيَّة)، وباعتباره خالقاً ومنتجاً للعالم، على الرغم من مفارقته له (وهي صفة تليق به باعتباره علة فاعلة).

=

  وقد كان ابن سينا قادراً على البدء من جديد في تناول هذه الإشكالية؛ لأن الحلول التي قدمتها مدرسة أمونيوس كانت قد انزوَت في عصره. وأعني بذلك أن ابن سينا الذي وُلِد وعاش على أطراف العالم الإسلامي لم يجد معلِّمين محترفين يُطلعونه على التراث التأويلي لمدرسة أمونيوس. ولذلك لم يشعر ابن سينا بضرورة الالتزام بقواعد تأويل مدرسة أمونيوس في مشروعها للجمع بين أفلاطون وأرسطو -أو بالأدق، دمج مشروع الجمع بين أرسطو ومشروع التوليف بين آراء أرسطو ذاتها عبر مؤلَّفاته. وكانت تلك الالتزامات التأويلية لا تزال حاضرة لدى سابقي ابن سينا مثل الفارابي؛ الذي تلقَّى تعليمه في مدرسة بغداد الأرسطية([26]).

ولأن ابن سينا قد تلقَّى تعليمه [بعيداً عن بغداد]، وكان في الحقيقة هو الذي علَّمَ نفسَه، فقد ورث الإشكاليات التي خلقتها مدرسة أمونيوس دون أن يكون ملتزماً بالعمل في إطارها أو بالحلول التي قدَّمَتها، وبذلك لم يشعر بإلزام تجاوزها أو تجاهلها. والحقيقة أن بعض الإشكاليات التي ورثها ابن سينا قد تمَّ حلُّها في مدرسة أمونيوس، مثل إشكالية علاقة النفس بالبدن والتي سبق لي الإشارة إليها. أما الثنائية في تصور الله باعتباره علة غائيَّة وعلة فاعلة، فقد ظلَّت دون حل([27]).

وكانت نتيجة عدم التزام ابن سينا بالحل الذي قدمته مدرسة أمونيوس لإشكالية الثنائية في تصور فعل الله بين كونه علة غائيَّة وعلة فاعلة، هي أنه قدَّم صيغة جديدة للحل، وهي أن الله هو «واجب الوجود بذاته». وكانت أفضلية هذه الصيغة أنها كانت مزدوجة المعنى؛ أي: كان من الممكن فهمها على أنها تشير إلى موجود مفارق للعالم وفي الوقت نفسه خالق له. فمن حيث المفارقة للعالم؛ فإن «واجب الوجود بذاته» يحتفظ بكل صفات الله التي تليق بوحدانيته، مثل البساطة واللاتغير والأزلية، كما أنه يحتفظ بمفهوم الضرورة عند أرسطو، وهي الضرورة الآتية من الفاعل. ومن جهة أخرى، فإن «واجب الوجود بذاته» يحتفظ بمفهوم أرسطو عن الضرورة، باعتبارها متعدِّية لذاتها ومصدر كل ضرورة تالية عليها [مثل ضرورة المقدمات التي تظهر في النتائج وفي عملية الانتقال إلى النتائج في الوقت نفسه]. وفي هذه الحالة الأخيرة؛ فإن الضرورة المتعدية [التي يتصف بها واجب الوجود]، تظهر في أثر الله فيما يخلقه، مثلما تظهر ضرورة المقدمات في نتائجها. وهذا الأثر الضروري الناتج عن السبب الضروري في ذاته يظهر لدى ابن سينا في مفهومه عن «واجب الوجود بغيره».

أما الإشكالية الثانية التي حلَّها تمييز ابن سينا بين «الواجب ذاته» و«الواجب بغيره»، فهي: كيفية التمييز بين الله وغيره من الأشياء الأزلية. إن النظريات شديدة التنوُّع والتي أقامها الأفلاطونيون المحدثون -مثل النظريات الكوزمولوجية التي وصلت لقمَّتها (وعمقها) في أعمال بروقلس- كانت تتطلَّب طريقة سهلة ومباشرة للتمييز بين أزلية السبب الأول وأزلية الآلهة والعقول التي تليه هبوطاً. ظهرت هذه الإشكالية لدى متكلِّمي السُّنَّة عندما شعروا بضرورة التمييز بين ذات الله القديمة وصفاته القديمة، مثل العلم والقدرة والحياة*.

شدَّد متكلِّمو السُّنَّة على واقعية وأزلية وتمايز الصفات الإلهية. وكان هذا ضد رفض المعتزلة لتخصيص صفات الله بأي واقع منفصل [عن الله وعن بعضها البعض]، وحاججوا بأنه إذا كان من الممكن التمييز بين صفات الله وبعضها وبينها وبين ذات الله بالتصور وحده، فإنها في الحقيقة في هوية تامَّة مع ذات الله؛ ذلك لأن القول بصفات كثيرة أزلية يتناقض مع العقيدة الإسلامية في الوحدانية المطلقة لله. فلو كانت صفات الله قديمة ومتمايزة فيما بينها ومختلفة عن ذاته؛ فسوف يكون هناك تعدُّد في القدماء، وسوف يكون الله هو أحد القدماء ولن ينفرد بالقِدَم. أما إذا كانت صفات الله غير منفصلة عنه وواحدة مع ذاته؛ فسوف يكون لدينا تعدُّد للقدماء داخل ذات الله، وهذا مستحيل؛ لأنه يناقض بساطة الله وأنه بدون تركيب. وكان حل هذه الإشكالية الأخيرة هو ما وجَّه ابن سينا في أول عمل فلسفي له، والذي سوف أناقشه في الفقرة التالية.

تطور النظرية

كيف تطورت استخدامات ابن سينا لتمييزاته بين «الواجب بذاته» و«الواجب بغيره» و«الممكن بذاته» وتبريراته لها عبر مسيرته الفكرية؟ هل نجد لديه عدم اتِّساق وعدم حسم [في شأنها] مثلما نجد في تمييزه بين الماهيَّة والوجود؟ والإجابة عن السؤال الثاني هي: لا. فالطُّرق التي عَبَّرَ بها ابن سينا وحاجج في تمييزه بين الواجب بغيره وبذاته، والممكن بذاته كانت أكثر اتِّساقاً وأقل اضطراباً من تمييزه بين الماهية والوجود. ورغم ذلك، فإننا نلاحظ في الإجابة عن السؤال الأول توجهين لدى ابن سينا عبر أعماله في تمييزه بين الواجب بغيره وبذاته والممكن بذاته، كان الأول منهما واضحاً، وكان الثاني يتَّجه نحو المزيد من الخلط بين هذه الأفكار الثلاث كلَّما تقدَّم ابن سينا في العمر.

كان أول ظهور لتمييز ابن سينا بين «الواجب بذاته» و«الواجب بغيره» و«الممكن بذاته» في أول عمل فلسفي له، وهو «الحكمة العروضية»، الذي يرجع إلى سنة 391هـ/ 1001م، حينما كان ابن سينا في الحادية والعشرين من عمره، وكان بطلب من أحد جيرانه في بخارى. في هذا العمل الذي يظل حتى الآن دون تحرير علمي*، يُقدِّم ابن سينا طريقتين للتمييز بين الأنواع المختلفة من واجب الوجود: واجب الوجود بذاته في مقابل واجب الوجود بغيره؛ وواجب الوجود في كل زمان في مقابل واجب الوجود في زمان ما، غير واجب في زمان آخر. ويتمسَّك ابن سينا بالتمييز الأول؛ لاعتقاده أن مفهومَي «بذاته» و«بغيره» يعبِّران بدقة عن الاختلاف بين الواجب الذي بدون سبب (الواجب بذاته)، والواجب الذي بسبب (الواجب بغيره)، وأنهما أفضل من مفهومي «في كل زمان» و«في بعض الزمان» في التعبير عن المراد بالواجب.

=

  والسبب الذي جعل ابن سينا يقوم بهذا الاختيار، هو التحدي الذي واجهه وتناولناه تحت العنوان الفرعي السابق؛ أي: إيجاد طريقة للتمييز بين الله والأشياء الأزلية الأخرى، أو بعبارة أخرى، التمييز بين الأزلي الذي بغير سبب والأزلي الذي بسبب. وفي نظر ابن سينا، فإن الأزليات التي بسبب هي الأفلاك السماوية، والنفوس الفلكية التي تحركها، والعقول السماوية الثابتة التي تتحرك إليها تلك النفوس شوقاً. وبالنسبة إلى الأفلاطونيين المحدثين مثل بروقلس الذي ذكرناه سابقاً؛ فإن فئة الأزليات التي بسبب تشمل الآلهة والهينادات **henads، والمونادات monads، والعقول المفارقة. وبالنسبة لمتكلِّمي السُّنَّة؛ فإن «الأزلي الذي بسبب» سيكون هو صفات الله، المختلفة عن ذاته وعن بعضها البعض، وهو التصور الذي خلق إشكالية تعدُّد الأزليات [أو القدماء] بجانب الله، على الرغم من أنها غير قائمة بذاتها وتعتمد في وجودها على الله. وبما أن ابن سينا كان يريد التمييز بين نوعَي الأزلية؛ فإن مفهوم «الأزلية في زمانٍ ما» لم يكن ليُفيده في تمييز نوع الأزلية الذي يقصده [الواجب بغيره] عن الأزلية التي بلا سبب [الواجب بغيره]؛ ذلك لأن الأفلاك والنفوس والعقول السماوية هي كذلك «أزلية في كل زمان».

أما التمييز بين «بذاته» و«بغيره» في مفهوم واجب الوجود، فهو وحده الذي يُمَكِّن ابن سينا من ضمان تفرُّد الله وحده بكونه من دون سبب، في مقابل كل الكيانات الأخرى، سواء أكانت أزلية (مثل الأفلاك والنفوس والعقول السماوية)، أو محدثة في الزمان (مثل البشر). وفي كتابه «الحكمة العروضية» برَّر ابن سينا تعريفه لواجب الوجود بذاته بأنه «الذي لا سبب له» وتعريفه لواجب الوجود بغيره بأنه «الذي له سبب»، بتأكيده أن واجب الوجود بذاته ليس منقسماً إلى حالتين من الوجود. فقد حاجج بأن كلَّ منقسم إلى حالتين سيكون مركباً منهما، وبما أن كل مرَكَّب يحتاج إلى مرَكِّب وبالتالي يكون مُسَبَّباً، فإن كل موجود مركَّب يفتقر إلى سبب. وفي المقابل، فكل بسيط - بمعنى أنه لا يقبل القسمة حتى في التصور- هو بلا سبب. لكن إلى ماذا تشير الحالتين؟ هنا يبدو ابن سينا غير واضح. إذ يمكن أن تشير هاتان الحالتان إلى: 1) أن واجب الوجود بغيره هو في الوقت نفسه ممكن الوجود بذاته، وبذلك سيكون منقسماً إلى هاتين الحالتين (ما يعني تَكَوُّنه من ثلاث حالات لا حالتين: واجب، وواجب بغيره، وممكن بذاته). وهذا في مقابل واجب الوجود بذاته الذي لا يمكن تصوره إلا باعتباره واجباً فقط، وبذلك يكون غير منقسم. والمشكلة في هذا التفسير أن ابن سينا يؤكد أن كل متغيِّر لن يحوز على هاتين الحالتين بذاته [أي: لن يكون واجباً وممكناً في الوقت نفسه؛ فالممكن وحده هو المتغيِّر، والواجب غير متغيِّر، فكيف يحوز الواجب بغيره على هاتين الحالتين المتناقضتين؟]. لكن كل واجب بغيره هو في الوقت نفسه ممكن الوجود بذاته؛ أي: سوف يكون واجباً وممكناً في الوقت نفسه.

ومن جهة أخرى، فإن هاتين الحالتين [واجب وممكن]، تشير إلى: 2) حالة اللاوجود وحالة الوجود، فالممكن هو ممكن الوجود بعد اللاوجود، وهو كذلك الذي ليس وجوده دائماً؛ إذ يلحقه اللاوجود [أو العدم]، في حين أن الواجب بغيره وجوده دائم. ومشكلة هذا التفسير هو أنه لا يستوعب الأشياء التي بسبب والأزلية في الوقت نفسه؛ ذلك لأنها ولكونها أزلية، فهي موجودة دائماً، في حين أن إمكان وجودها يعني الإمكان بعد اللاوجود، وبذلك ستكون في حالتين، الوجود الدائم الأزلي والوجود الممكن بعد اللاوجود، وبالتالي ستكون مركَّبة من هاتين الحالتين المتناقضتين. والبديل الأخير هو أن واجب الوجود بغيره يشير إلى: 3) حالة القوة أو اللاكمال، وحالة الفعل أو الكمال، اللتين في الأشياء المتغيرة. فعلى سبيل المثال: تنقسم قطعة الخشب إلى حالتين من الوجود: الفعل، باعتباره خشباً بالفعل، والإمكان أو القوة، باعتبار الخشب ناراً بالقوة. ولهذا التفسير أفضلية على التفسير الثاني في معالجة الأشياء الأزلية التي بسبب؛ ذلك لأن الأفلاك السماوية، وعلى الرغم من أنها موجودة دائماً؛ فهي عرضة للتغير وبالتالي تحوز على الإمكان (فهي تتحرك حركة دائرية أزلية)، ورغم أن النفوس السماوية موجودة دائماً؛ فهي في حالة الاستكمال دوماً (إذ هي تسعى دوماً للتشبُّه بالعقول السماوية المتصلة بها). ورغم ذلك، فإن التفسير الثالث يفشل في معالجة العقول السماوية التي باعتراف ابن سينا في حالة فعل وكمال دائمين، ولا تختلط بأي إمكان أو نقص من أي نوع. والمحصلة النهائية هي أن التفسير الثالث يفشل في معالجة كل الأشياء الأزلية التي بسبب.

وربما بسبب الصعوبة التي واجهها ابن سينا في إيجاد طريقة كافية لتبرير تأكيده أن واجب الوجود بغيره سوف يكون منقسماً إلى حالين من الوجود، ويكون بذلك مُسَبَّباً؛ فقد قام بتغيير وجهته تماماً في عمله التالي، وهو «المبدأ والمعاد»، والذي كتبه حوالي سنة 403هـ/ 1013م، عندما كان في الثالثة والثلاثين. وفي مقابل كتابه «الحكمة العروضية» الذي بدأ فيه ابن سينا بالتمييز بين الواجب بذاته والواجب بغيره، منتقِّلاً منه إلى تعريف الواجب بغيره على أنه ممكن بذاته؛ يبدأ عرضه في «المبدأ والمعاد» بالتمييز بين الواجب والممكن، ثم ينتقل إلى تعريف الممكن بأنه الممكن بغيره، لكن: ما الأفضلية التي تتَّصف بها هذه المقاربة؟ وكيف تُمَكِّنه من تجاوز العقبة التي واجهته في «الحكمة العروضية»؟

عندما كان ابن سينا يكتب «المبدأ والمعاد» سنة 403هـ/ 1013م، شعر أن التمييز بين الواجب والممكن بديهي، حيث أمكنه التأكيد أن واجب الوجود بمجرد بتعريفه، هو الذي لا يمكن تصوُّر عدم وجوده، وأن ممكن الوجود هو الذي بتعريفه يمكن تصوُّر لا وجوده (أما المحال، وهو الذي لا أهمِّيَّة له في هذا السياق، فهو الذي بتعريفه مستحيل تصوُّر وجوده). وبمجرد ما أن وضع ابن سينا هذا الأساس في التمييز؛ ذهب إلى أننا بإمكاننا تَصَوُّر وجود الممكن في علاقته بسببه. وأكَّد ابن سينا أنه بفضل علاقة الشيء الممكن بسببه، فهو ضروري الوجود بهذا السبب، لكنَّه بذاته -أي: بتصوره بمعزل عن علاقته بسببه- فهو يظل ممكن الوجود.

وتتمثَّل أفضلية معالجة كتاب «المبدأ والمعاد» للتمييز في أن ابن سينا لم يكن في هذا الكتاب مرغَماً على الحِجاج بأن سببية الواجب بغيره ناتجة عن انقسامه إلى حالين، وهذا ما حرَّره من عبء تفسير طبيعة هذين الحالين. في هذا الكتاب تنبع سببيَّة ممكن الوجود من علاقته بسببه، وهي علاقة لا يمكن تصوُّر عدم وجودها إذا وضعنا الوجود الفعلي لشيء ممكن الوجود*. وعلى الجانب الآخر، يمكن أن نعيب على كتاب «المبدأ والمعاد» لمبالغته في الافتراضات -أي: افتراضه أن مقاربته الأنطولوجية أو التعريفية للتمييز [بين الواجب بذاته والواجب بغيره بديهية لدرجة تحمُّلها لكل البناء الكوزمولوجي الذي سيُقيمه ابن سينا بعد ذلك. فهذا التمييز كان المحور الذي التفَّت حوله تحليلات ابن سينا لكل أنواع الوجود في الكون.

وفي مرحلته الوسطى التي كتب فيها عمله الضَّخم «الشفاء»؛ استمر ابن سينا في الاعتماد على الأساس التعريفي الذي وضعه في «المبدأ والمعاد» في التمييز بين الواجب والممكن، لكن يبدو أنه في «الإلهيات» من «الشفاء» قد وقع على فكرة حاسمة. فكما شرحنا سابقاً؛ يحاجج ابن سينا في الفصل الخامس من المقالة الأولى من «الإلهيات» بأن الشيء والموجود -وبالتبعية الماهيَّة والوجود- واحدان بالماصِدق، لكن يختلفان بالمعنى؛ فكل شيء سيكون موجوداً وكل موجود سيكون شيئاً، لكن سيختلف معنى الشيء ومعنى الموجود. وفي الفصل التالي مباشرة وهو السادس من المقالة الأولى؛ يميِّز ابن سينا بين واجب الوجود وممكن الوجود والمحال، متَّبعاً المقاربة التعريفية التي ذكرها في «المبدأ والمعاد»، على الرغم من اختلاف عباراته قليلاً. وبعد ذلك بقليل وفي نفس الفصل؛ يبدأ ابن سينا في تناول مصطلح «الماهيَّة»: فكل الذي لا تكون ماهيَّته كافية لذاته سيكون مُسَبَّباً، في حين أن كل الذي ماهيَّته كافية له سيكون بلا سبب. ولا تكمن أهمية هذا التمييز في العناصر التي يميِّز بينها بقدر أهميته فيما يدل عليه، فما يظهر لي أنه في هذه الفقرة بالذات أن ابن سينا يوظِّف تمييزه بين الماهيَّة والوجود في تحديده لطبيعة الواجب بغيره، من حيث انقسامه التصوري إلى ماهيَّة ووجود، وبالتالي؛ يكون مركَّباً منهما، وعليه يكون مُسَبَّباً، حيث يكون الواجب بغيره ممكناً بذاته، وهو التمييز التعريفي الذي كافح من أجل الوصول إليه دون نجاح في الخمس والعشرين سنة السابقة في كتابه «الحكمة العروضية».

والحقيقة أن ابن سينا لا يلجأ إلى ذلك التمييز بين الماهية والوجود إلا في نهاية «إلهيات الشفاء»؛ إذ يُخصِّص الفصل الرابع من المقالة الثامنة لإثبات وجود الله ووحدانيته*، ويحاجج بأن الله هو وحده واجب الوجود بذاته؛ لأنه هو وحدَه غير منقسم إلى ماهية ووجود، بعكس كل الأشياء الأخرى المركَّبة من ماهيَّة ووجود ذلك التركيب الذي يجعلها مُسبَّبَة، وبالتالي يجعلها واجبة بغيرها، ممكنة بذاتها. وهو يشدِّد على أن الماهيَّة والوجود في الله هما الشيء نفسه، في الماصِدق وفي المعنى: فماهيَّة الله لا تشير إلا إلى وجوده. ورغم ما يبدو في هذه الفكرة من حَسْمٍ، وأن المفكرين الإسلاميين اللاحقين كانوا منشغلين في تحديد المدى الذي تكون فيه الماهية والوجود في هوية في الله، إلا أن برهان ابن سينا على هويتهما في ذلك السياق من «إلهيات الشفاء» ليس جزءاً ضرورياً من معالجته العامَّة للتمييز بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره. ذلك لأن هذا التمييز لا يزال مؤسَّساً في «إلهيات الشفاء» على نفس التمييز التعريفي الذي وضعه في «المبدأ والمعاد».

وفي عمله الأخير «الإشارات والتنبيهات»؛ يأتي ابن سينا بكل أوجه تمييزاته السابقة [بين الواجب بذاته والواجب بغيره] في حجَّة شديدة التركيب. وكما فعل في «إلهيات الشفاء»، يناقش ابن سينا التمييز بين الواجب والممكن مباشرة بعد تناوله للتمييز بين الماهيَّة والوجود، لكنه في «إلهيات الشفاء» يناقش الماهيَّة والوجود (الفصل الخامس من المقالة الأولى) والواجب والممكن والمحال (الفصل السادس من المقالة لأولى)، ثم بعد سبع مقالات، يبدأ في مناقشة تفرُّد الله، باعتباره واجب الوجود بذاته (الفصل الرابع من المقالة الثامنة). أما في «الإشارات والتنبيهات» فعلى العكس مما سبق، ينتقل ابن سينا مباشرة من التمييز بين الماهيَّة والوجود ومن الفرق بين الواجب والممكن والمحال (مع فاصل بينهما يُعلِّق فيه على الأنواع المختلفة من مقولات السبب)، إلى براهينه على وجود الله ووحدانيته. وبالتالي يدخل تمييزه بين الماهيَّة والوجود مباشرة في برهانه على وجود الله، مُشكِّلاً جزءاً أساسيَّاً من برهانه على وحدانيَّته باعتباره الموجود الوحيد الواجب بذاته.

تراث ابن سينا

=

  وكما ذكرت سابقاً؛ فإن تمييز ابن سينا بين الماهيَّة والوجود غير مُحدَّد وعُرضة لتأويلات مختلفة؛ بالمقارنة بتمييزه بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره - ممكن الوجود بذاته. ولا يعني هذا أن التمييز الأخير قد انتقل بوضوح إلى المفكِّرين اللاحقين. فعلى العكس، إذ خلق عدداً من الإشكاليات والفرص والتحديات الفلسفية للمتكلِّمين اللاحقين على ابن سينا. وكانت إحدى هذه الإشكاليات أن الله باعتباره واجب الوجود بذاته يمكن أن يتضمَّن ثنائيَّة بين جنس ونوع؛ فالواجب يمكن أن يكون جنساً، يندرج تحته نوعان هما «الواجب بذاته» و«الواجب بغيره». وكما أن «الإنسان» نوع مُركَّب من الجنس وهو «حيوان» والفصل النوعي وهو «عاقل»، فإن «واجب الوجود» باعتباره نوعاً سيكون مُنقسماً إلى -وبالتالي مركَّباً من- جنس «الموجود» (أو «الجوهر») والفصل النوعي «واجب»([28])، لكن بمجرد ما أن نفهم الله على أنه موجود مركَّب؛ فسوف يفقد بذلك كل أساس يجعله غير مُسَبَّب [لأن كلَّ مُرَكَّب مُسَبَّب]، وسيفقد كل تعريف له بأنه الوحيد الذي يشغل مقولة «الموجود الذي بلا سبب». وتتمثَّل إشكالية أخرى هي أننا إذا فهمنا وجود الله على أنه صفة مضافة لذاته أو ماهيَّته؛ فسوف نقع في إشكالية علم الكلام السُّنِّي الذي نظر إلى صفات الله مثل العِلم والقدرة والحياة على أنها مُضافَة أو زائدة على ذاته [ما يعني الكثرة في ذات الله وتعدُّد القدماء]. هل علينا النظر إلى وجود الله على أنه عَرَض لماهيَّته وبالتالي سبباً لها؟ أم إن علينا النظر إلى ماهيَّة الله ووجوده على أنهما في هوية واحدة([29]

وتتمثَّل نقطة إشكالية أخرى في أن ابن سينا يصادر على أن «واجب الوجود بغيره» هو في الوقت نفسه «ممكن بذاته»، والعكس صحيح. والمؤكَّد أن هذه المصادَرة وجيهة، بل وبديهية في حالة الموجودات خارج الذهن (الموجودات في الأعيان)، لكن ماذا عن الموجودات في الأذهان؟ والإجابة التي سأقدِّمها تعتمد على التزامات تفسيرية وضعتُها بنفسي. فإذا كان اهتمامي هو المحافظة على موقف ابن سينا الأول في أن الماهيَّة والوجود واحدان بالماصِدق ومختلفان بالمعنى؛ فهذا يعني أن الماهيَّة التي في الذهن تستحق أن نُطلق عليها صفة «الوجود» تماماً مثل ماهيَّة الأشياء العينيَّة في العالم الخارجي. (وهذا بسبب رغبتي في تجنُّب فكرة المعتزلة القائلة إن الماهيَّات التي في العقل يمكن أن تكون غير موجودة بالمعنى المادي). وسوف يقودني هذا الموقف إلى افتراض أن تمييز ابن سينا بين «الواجب بذاته» من جهة، و«الواجب بغيره» «الممكن بذاته» من جهة أخرى؛ ينطبق على الكيانات الذهنية كما على الكيانات المادية. لكن ينشأ هنا سؤال هام: ما هو السبب الذي يجعل كياناً ذهنياً «واجب الوجود بغيره»؟ إذا كان الكيان الذهني تصوُّراً كليَّاً مثل «حصان» أو «قطة»؛ فإن العقل الفعَّال هو أنسب مُرَشَّح ليكون هو السبب [في تَحَقُّق التصور الكلِّي عينيَّاً]؛ لأنه هو مصدر كل الصور العقلية في عالم ما تحت فلك القمر: فهو مصدر الصور الجوهرية للكيانات المادية العينية مثل أفراد الأحصنة والقطط التي نراها، وهو أيضاً مصدر الصور العقلية للكيانات الذهنية المجرَّدة مثل «الفرس» و«القطة». لكن ماذا عن «وحيد القرن» و«العنقاء»؛ التي هي تصوُّرات كليَّة ذهنية بمعنى إمكان تصوُّرها عقلاً، لكنها غير قابلة للتحقق عينيَّاً في صورة وحيد القرن الفعلي أو العنقاء الفعلية؟ وإذا خطونا خطوة أخرى في هذه الحجة؛ لاقينا احتمالاً آخر يضعه ابن سينا في سياقات مختلفة، وهو «البيت خماسي الأضلاع»؛ وهو تصوُّر كلِّي يمكن تصوره بالعقل، ويمكن أن يتحقَّق عينيَّاً في العالم الخارجي على الرغم من عدم وجوده (حتى عصر ابن سينا على الأقل).

في حالة الكيانات الذهنية غير القابلة للتحقق في العالم الخارجي (مثل وحيد القرن والعنقاء) أو غير المتحقِّقة بعد والممكن تحقُّقها في المستقبل (مثل البيت خماسي الأضلاع)؛ فمن الصعب للغاية تحديد السبب الذي يجعلها «واجبة الوجود بغيرها». ربما يكون سببها هو العقل الفعال، فسواء في حالة وحيد القرن والعنقاء، أو في حالة البيت خماسي الأضلاع؛ فإن وجود هذه الأشياء غير متحقِّق؛ لأن عالم ما تحت فلك القمر لا يحتوي على المواد المناسبة لاستقبال صورها من العقل الفعَّال، لكن بصرف النظر عن وجود المواد المناسبة لتحقق وحيد القرن أو العنقاء أو البيت خماسي الأضلاع؛ فعالم ما تحت فلك القمر يحتوي بالفعل على ما يستقبل صور هذه الأشياء، وهو العقول البشرية التي فكَّرَت في صور هذه الأشياء بالفعل، وهي العقول التي تستقبل من العقل الفعَّال كل الصور العقلية. كما يمكنني القول: إنَّ إحدى قوايَ العارفة الداخلية هي السبب في تكويني لصور تلك الأشياء، وأن هذه القوَّة هي ما يجعلها «واجبة الوجود [في العقل] بغيرها» - هذه القوة هي «ملَكة المخيِّلة» التي تفصل وتصل وتُركِّب أجزاء من بيانات الحواس([30]) [لإنشاء شيء جديد منها غير موجود في الواقع الخارجي]. وبالطبع؛ فلو كنتُ غير ملتزم بموقف ابن سينا الأول [في التمييز بين الماهيَّة والوجود من حيث المعنى، لا من حيث الماصِدق]؛ لَكنتُ قد تجاهلت كل الإشكاليات السابقة بتقييد التمييز بين الواجب بذاته من جهة، والواجب بغيره والممكن بذاته من جهة أخرى، بالموجودات العينية في العالم الخارجي([31]). لكنني في هذه الحالة لا أزال في الإشكالية الأصلية: فالواجب بغيره والممكن بذاته لن يكونا الشيء نفسه ولن يقبلا فهمَهما بالتبادل؛ لأننا سنجد كيانات مثل البيت خماسي الأضلاع، ممكنة الوجود بذاتها، لكنها ليست (حتَّى حينه) واجبة الوجود بغيرها.

وعلى الرغم من هذه الإشكالية؛ فقد شكلت نظرية ابن سينا في الله، باعتباره واجب الوجود بذاته فرصة ذهبية لمتكلِّمي السُّنَّة الذين كافحوا ضد عواقب نظريتهم القائلة: إن صفات الله هي بالفعل مختلفة عن ذات الله. قبل ظهور ابن سينا؛ عالج متكلِّمو السُّنَّة فكرة «القِدَم»، باعتبارها الصفة الأعلى؛ أي: الصفة التي تُقال على ذات الله وعلى صفاته معاً. (والذي جعل السُّنة ملتزمين بهذه النظرية هو مواجهتهم للمعتزلة وتمسُّكهم بالرؤية التقليدية للقرآن على أنه قديم، من حيث هو كلام الله، وكلام الله يجب أن يكون قديماً مثله وغير مخلوق، ومن حيث إن الكلام صفة قديمة لله)، لكن إذا كانت كل صفات الله، أو حتى بعضها، قديمة تنشأ خطورة هنا، وهي السَّماح بوجود كثرة من الأشياء غير المخلوقة والقديمة بجانب ذات الله؛ ما يشكِّل تعدِّياً على وحدانيته وتفرُّده بالقِدَم، وهو المعيار الأعلى للألوهية الذي يفصله عن كل الكائنات الأخرى المحدثة.

=

  أما متكلِّمو السُّنَّة بعد ابن سينا، فقد اكتشفوا أن مفهوم «واجب الوجود» يمكن أن يكون صفة عليا أولى، ولا يحمل الكثير من الإشكاليات التي يحملها مفهوم «القِدَم»؛ فقد ذهبوا إلى أن ذات الله واجبة الوجود، مثلها مثل صفاته، إلا أن صفاته ليست واجبة الوجود بذاتها؛ لأنها مجرَّد صفات، وبالتالي فهي ليست «ذواتاً»، بل مجرَّد محمولات على الذات. وصفات الله بالأحرى واجبة الوجود «بغيرها»؛ أي: واجبة الوجود بذات الله([32]). وتوصَّل متكلِّمون آخرون من السُّنَّة إلى أن واجب الوجود يمكن أن يَكُون حال الرابطة التي تربط الصفة (المفهومة على أنها محمول) بذات الله (المفهومة على أنها الموضوع)([33]).

وقد ظل كل متكلِّم سنِّي أو شيعي مهتم بتوظيف تمييز ابن سينا بين الواجب بذاته والواجب بغيره؛ مواجهاً بتحدٍّ كبير. فالقرآن يصف الله لا على أنه قادر وحسب، بل كذلك على أنه مُريد. وكانت إحدى السقطات التي أخذها الغزالي على ابن سينا في المسألة الأولى من «تهافت الفلاسفة»؛ أن تصوُّر ابن سينا للعلاقة بين الله والعالم - وهي علاقة بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره- سلبَت من الله كل فعل [التعطيل بالتعبير الإسلامي]. فليس كافياً في نظر الغزالي اعتبار الله مجرَّد سبب، إذ يجب أن نعتبره كذلك فاعلاً وبالتالي مُريداً. وقد أشار الغزالي إلى أن ابن سينا كان يطلب الكثير من علماء المسلمين؛ أي: إجبارهم على اختزال كل أسماء وصفات وأفعال الله المذكورة بوضوح في القرآن إلى اسم واحد مفرد - وهو «واجب الوجود بذاته» - وإلى فعل واحد مفرد - وهو التَّعقُّل الذاتي. فما الذي سيبقى من العقيدة الإسلامية بعد كل هذا الاختزال الراديكالي؟

إن تصوُّر ابن سينا عن العلاقة بين الله والعالم يتضمَّن إنكاراً لأهم فعل له، وهو خلقه للعالم في لحظة ما من الزمان؛ ذلك لأنه صاغ تمييزه بين واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بغيره بوضوح كي يتجنب تمييز المتكلِّمين بين القديم والـمُحْدَث [أي: المخلوق]. ولعلنا نتذكر أن أحد أهم أهداف ابن سينا من ذلك التمييز؛ هو التفريق بين الموجود اللامُسَبَّب - وهو الله- وكل موجود آخر، سواء كان قديماً أو محدثاً.

وتمثلت الحلول الوسطى التي قدَّمها المتكلمون بعد ابن سينا، سواء من السُّنَّة أو من الشيعة، في توظيف جيِّد لتحليل ابن سينا لله على أنه الواجب بذاته، لكن في الوقت نفسه؛ تجنب الالتزام بنظرية ابن سينا في أن العالم هو المعلول الأزلي لعلَّة الله الأزلية [ما يعني قِدَم العالم]؛ بمعنى أن المتكلمين لم يروا أيَّ حرج في الاحتفاظ بفكرة ابن سينا عن الله، باعتباره واجب الوجود بذاته، شرط أن يؤخذ هذا المفهوم على نحو حصري غير متعدٍّ؛ أي: ألا يؤدي تصور الله باعتباره فاعلاً قديماً إلى القول بمفعول قديم مصاحب له أزلاً وهو العالم. وكان المتكلمون على وعي بأن تمييز بين سينا بين الواجب بذاته والواجب بغيره مهم للغاية كجزء من البرهان على وجود الله، وكأساس لتمييز دقيق وحاسم بين وجود الله ووجود العالم. أما إذا أردنا تحليل كيفية خلق الله للعالم، فلن يصلح هذا التمييز بصيغته السينوية؛ لأنه يتضمن أن سببية الله للعالم تلقائية وضرورية، وليست سببية حرَّة بفعل إرادي.

وللوهلة الأولى، يبدو أهم تحدٍّ واجه متكلِّمي السُّنَّة والشيعة بعد ابن سينا متمثلاً في العثور على طريقة لتجنُّب إلقاء الطفل مع ماء التعميد -أي: التخلِّي عن فكرة أن الله هو الموجود الوحيد الواجب بذاته- مع ماء التعميد - وهو أن الله يُسبِّب وجود العالم أزلاً. لكن الحقيقة أن [المتكلمين استطاعوا مواجهة هذا التحدي] بسهولة نسبية. فعلى سبيل المثال: أدخل المتكلِّم السُّنِّي الماتريدي؛ أبو المعين النسفي (ت 508هـ/ 1114م - 1115) تمييز ابن سينا في جزء من كتابه «تبصرة الأدلَّة»، وكيَّفَه وفق مذهبه، وقال: إن كل الأشياء ما عدا الله مُركَّبة -سواء من الحركة والسكون، أو من الجوهر والأعراض- وأن تركيبها هذا يشير إلى أنها ليست واجبة الوجود بذاتها([34]). أما المتكلِّمون الشيعة مثل الحلِّي (ت 726هـ/ 1326م) واللاهيجي [عبد الرزاق بن علي بن الحسين] (ت 1072هـ/ 1661م) في شرحيهما على كتاب الطوسي «تجريد العقائد» (المعروف كذلك باسم «تجريد الكلام»)؛ فقد أصرُّوا على التأكيد أن كونَ الله واجب الوجود بذاته لا يتضمن إيجاب الله للعالم أزلاً([35]). وقد حاول الطوسي من قبلهما تفسير إله ابن سينا على أنه مجرَّد علَّة فاعلة وليس علَّة غائية، غالباً بسبب أن العلة الفاعلة تبدو أقرب علل أرسطو الأربع (الفاعلة والغائيَّة والصورية والمادية) من فكرة أن الله فاعل، وهي الفكرة [التي تبنَّاها المتكلِّمون لأنها] تُصَوِّر اللهَ على أنه فاعل بإرادة([36]).

=

  ستعالج الفصول اللاحقة من هذا الكتاب والمخصَّصة للميتافيزيقا وعلم النفس؛ المسائلَ التي عالجْتُها في هذا الفصل، لكن بطريقة مناسبة للذين يهتمون بالجانب الفلسفي من فكر ابن سينا حصراً. وكان هدفي في هذا الفصل وضع ابن سينا في مكانه اللائق به في تاريخ الفلسفة، عن طريق إبراز التحدِّيات التي واجهته، ووصف الإمكانات التي كانت متاحة له لمواجهة هذه التحدِّيات بالنظر إلى المادة التي كانت متاحة له في عصره؛ وشرح الأسباب التي جعلته يختار حلَّاً دون غيره. واتضح لنا أن ابن سينا يقع في نهاية مرحلة الجمع [بين أفلاطون وأرسطو، وبين أجزاء مذهب أرسطو نفسه] وهو مشروع مدرسة أمونيوس؛ وفي بداية مرحلة أخرى، وهي الجمع بين ميتافيزيقا ابن سينا والعقيدة الإسلامية [على يد المتكلِّمين اللاحقين له]. ويبقى أمام الباحثين الكثير من العمل الشاقِّ لدراسة جهود المتكلمين في القرون الثمانية اللاحقة على ابن سينا في استيعاب ميتافيزيقا ابن سينا داخل مذاهبهم الكلامية([37])، لكنني آمل أنني قدَّمت في هذا الفصل إشارة لغنى المصادر التي يجب الحفر فيها، وعرضت أوائل أطروحة تقول إن متكلِّمي السُّنَّة والشيعة بعد ابن سينا هم الذين حملوا لواء السينوية في التاريخ اللاحق للفلسفة في الإسلام.

[1]- من كتاب "دليل كمبريدج"، ترجمة أشرف منصور، دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2023

([2]) انظر مقدمة وملاحظات جولمان على نشرته وتجمته لحياة ابن سينا، Gohlman, W. E. The Life of Ibn Sina: A Critical Edition and Annotated Translation (Albany, NY: 1974)؛ جورج شحاتة قنواتي، مؤلفات ابن سينا. تصدير أحمد أمين، مقدمة إبراهيم مدكور، دار المعارف، القاهرة، 1950؛ Y. Mahdavı, Fihrist-i Musannafat-i Ibn-i Sına (Tehran: 1954). كما يجد القارئ قوائم بأعمال ابن سينا في، Janssens [95] andDaiber [1]; واقترح غوتاس تسلسلاً زمنياً لأعماله: Gutas [93]. تشمل أعمال ابن سينا، موسوعة الشفاء، التي تغطِّي موضوعات العلوم الدقيقة والمنطق والعلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة، و«النجاة» الذي هو تلخيص للشفاء ولبعض أعمال ابن سينا المبكرة، و«الإشارات والتنبيهات»، وهو عمل متأخِّر كتبه لتلاميذه المتقدمين في العلم، وهو عمل مركَّز في حاجة لتبسيط، وكان هدفاً لشروح كثيرة قدَّمها العديد من المفكرين بعد عصر ابن سينا.

([3]) وظل هذا الوضع قائماً حتى عمل عدد من المفكرين العرب في القرن العشرين على تحويل ابن رشد إلى بطل للعقلانية (العربية أساساً، والإسلامية كذلك)؛ انظر في ذلك، Kügelgen, Anke von, Averroes und die arabische Moderne: Ansätze zu einer Neubegründung des Rationalismus im Islam (Leiden: 1994).

([4]) حول انتقال نصوص ابن سينا إلى الغرب اللاتيني؛ انظر، d’Alverny [248]; وحول كيفية انتقال نظريات ابن سينا في النفس وكيفية استقبال اللاتين لها، انظر Hasse [251].

[وفي العربية انظر: زينب الخضيري، ابن سينا وتلاميذه اللاتين. مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986. المترجم].

([5]) لقد اخترتُ هذه القضايا الثلاث بالذات لا بسبب أهمِّيَّتها وحسب، بل كذلك بسبب اشتغالي عليها بتوسع، وبالتالي أثق في تحليلاتي حولها. ولمزيد من المعالجة التفصيلية المدعَّمة بشواهد نصية؛ يمكن للقارئ العودة إلى Wisnovsky, R. (ed.) Avicenna’s Metaphysics in Context (London: 2003).

([6]) Avicenna, Autobiography, 18.4 (English trans. at Gohlman [91], 19).

[ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، سبق ذكره، ص437. المترجم].

([7]) D. Gutas, “Avicenna’s Madhhab with an Appendix on the Question of the Date of his Birth,” Quaderni di studi arabi 5–6 (1987–8), 323–36

* أخطأ المؤلف في اسم الرجل وكتب Natili، والصحيح هو ما أثبتناه في المتن.

([8]) Avicenna, Autobiography 22.6–7 and 24.6–7 (English trans. at Gohlman [91], 23 and 25); see also

ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق محمود عبد الحميد، 6 مجلدات (القاهرة، 1946)، المجلد الأول، (فقرة 182)، ص420.

[ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص438؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1970، المجلد الثاني، ص157 – 162. (المترجم)].

([9]) Avicenna, Autobiography, in Gohlman [91], 36.8–38.2

[ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص439. المترجم].

([10]) Avicenna, al-Najat, ed. M. S. al-Kurdi (Cairo: 1913), 300.2–310.7(English trans. at Avicenna [205], 56–64); Avicenna, Kitab al-shifa: ṭabī‘iyyāt (6): al-nafs, ed. F. Rahman (as Avicenna’s “De Anima”: Arabic Text) (Oxford: 1959), 5.3–5.5.4, 223.11–234.11; French trans. J. Bakoš (as Psychologie d’Ibn Sina – D’apres son oeuvre Ash-shifa’ (Prague: 1956), 158–66; Avicenna, Liber de Anima seu Sextus de Naturalibus (medieval Latin trans.), ed. S. van Riet, 2 vols. (Leiden: 1968 and 1972), 105.40–126.26.

[ابن سينا، كتاب النجاة في المنطق والحكمة الطبيعية والإلهية. نقَّحه وقدم له ماجد فخري. دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982، ص223 وما بعدها؛ ابن سينا، الكتاب السادس من الطبيعيات، كتاب النفس، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1988، ص224. المترجم].

([11]) Wisnovsky, R.Avicenna’s Metaphysics in Context (London: 2003).

([12]) حول يحيى النحوي في العربية، انظر R.Wisnovsky, “Yaḥyā al-Naḥwī (John Philoponus),” in Encyclopedia of Islam [16], vol. XI, 251–3.

([13]) حول العلاقة المعقدة بين «أثولوجيا أرسطوطاليس» وتاسوعات أفلوطين، انظر P. Adamson, The Arabic Plotinus: A Philosophical Study of the “Theology of Aristotle” (London: 2003).

* قام إسحق بن حنين بتعريب هذا المصطلح تحت اسم «أنطلاشيا» في ترجمته لكتاب النفس لأرسطو، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1954، ص29

** للمزيد حول هذا الموضوع، انظر، المصباحي، محمد عزيز، دور مفهوم الكمال في تعريف النفس بين أرسطو وابن سينا، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس - جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس – المغرب، العدد 4/5، 1981

([14]) نجد صياغة دقيقة لهذا التمييز لدى أسكيليبوس تلميذ أمونيوس في Asclepius, InMetaph. [= CAG VI 2] 5.1 (ad 1013a17), 305.2–17. ولمناقشة تاريخ هذا التوجه في تأويل [نظرية أرسطو في النفس] انظرWisnovsky, R “Towards a History of Avicenna’s Distinction between Immanent and Transcendent Causes,” in Reisman [103], 49–68.

* ينظر ويزنوفسكي لابن سينا على أنه ينتمي لمدرسة أمونيوس في تأويل نظرية النفس عند أرسطو، ولذلك يضمُّه إلى ما سمَّاه: الأمونيونيِّين.

([15]) E.g., Aristotle, De Anima, I.4, 408b18–19; De Anima, II.1, 413a3–9; De Anima, III.4, 429a22–5; Parts of Animals, I.1, 641a32–641b10; GA, II.3, 736b28–30; Metaphysics, VI.1, 1026a5–6; and Metaphysics, XII.3, 1070a24–6

([16]) Al-Shifa’: kitab al-nafs 1.1, 15.17–16.17 (medieval Latin trans., ed. Van Riet, 36.43–37.68; French trans. by Bakoš, 12–13).

[ابن سينا، الكتاب السادس من الطبيعيات، كتاب النفس، ص18 – 19. المترجم].

([17]) حول علاقة حجة الرجل الطائر بالكوجيتو الديكارتي، انظر Marmura [214] and Druart [89],، ويشير دروارت إلى دراسات أقدم حول العلاقة نفسها. للمزيد انظر الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب.

([18]) كمثال على أهمية المقارنة بين ابن سينا وواحد من مدرسة أمونيوس وهو سيمبليكيوس، انظر A. Stone, “Simplicius and Avicenna on the essential corporeity of material substance,” in Wisnovsky [104], 73–130.

[انظر أيضاً، حسين الزهري، مدرسة الإسكندرية المتأخرة وأثرها في التراث الفلسفي الإسلامي، 2) سمبليكيوس وأثره في ميتافيزيقا ابن سينا، مركز المخطوطات، مكتبة الإسكندرية، 2018 (المترجم)].

([19]) Wisnovsky, R. “Notes on Avicenna’s Concept of Thingness (Shay’iyya),” Arabic Sciences and Philosophy 10 (2000), 181–221

([20]) "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"، النحل 40؛ "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"، يس 82

* ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (1). راجعه وقدم له إبراهيم مدكور، تحقيق جورج قنواتي وسعيد زايد. الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1960، المقالة الأولى، الفصل الخامس، ص29 وما بعدها. الماصدق هو الأشياء المادية التي يشير إليها التصور، أما المفهوم من التصور فهو معناه ودلالته.

* ابن سينا، الإلهيات، المقالة السابعة، الفصل الأول، ص303 وما بعدها.

* ابن سينا، الشفاء، المنطق، المدخل، تصدير طه حسين، مراجعة إبراهيم مدكور، تحقيق جورج قنواتي ومحمود الخضيري وفؤاد الأهواني، وزارة المعارف العمومية، القاهرة، 1952، ص ص15 – 16. أشار المؤلف للمدخل بكلمة «إيساغوجي» قاصداً الإشارة إلى كتاب إيساغوجي لفرفوريوس، باعتبار أن كل مدخل للمنطق هو على شاكلة كتاب فرفوريوس، لكن مدخل ابن سينا للمنطق أوسع من مجرد شرح على إيساغوجي.

  • «وماهيات الأشياء قد تكون في أعيان الأشياء، وقد تكون في التصور»، ص15

([21]) ابن سينا، الإشارات والتنبيهات. شرح نصير الدين الطوسي وقطب الدين الرازي. الجزء الثالث (في علم ما قبل علم الطبيعة). النشر البلاغة، قُم، 1383هـ، ص ص1 – 2

([22]) المرجع السابق، ص4

([23]) Saad al-Din al-Taftazani, Sharh. al-‘aqa’id al-nasafiyya (Cairo: 1916), 16.2–17.3 (top part of inside box); trans. E. Elder, A Commentary on the Creed of Islam (New York: 1950), 11–12

[سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية. تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليَّات الأزهرية، القاهرة، 1988، ص24 وما بعدها].

([24]) الأصفهاني، محمود، طوالع الأنوار من مطالع الأنظار (القاهرة، 1902)

English trans. by E. Calverley and J. Pollock, Nature, Man and God in Medieval Islam (Leiden: 2002), vol. I, 192–7

([25]) الحقيقة أن العديد من مؤرِّخي الفكر الأوربي الوسيط ينشغلون الآن في مراجعة التقسيم التقليدي للمعارف إلى فلسفة ولاهوت، انظر في ذلك، J. Aertsen and A. Speer, eds., Was ist Philosophie im Mittelalter? Akten des X. Internationalen Kongresses für mittelalterliche Philosophie (Berlin: 1998).

* انظر النص المنشور مع شرح ابن رشد في كتابه «تفسير ما بعد الطبيعة». تحقيق ونشر موريس بويج. دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1967، المجلد الثاني، ص515 وما بعدها.

** «والمضطر هو الذي ليس يمكن أن يكون الشيء إلا به، وهو كالعلة مثل التنفس أو الغذاء، فهو مضطر، فلا يمكن أن يكون الحيوان إلا بهما؛ وأيضاً المضطر هو الذي لا يمكن إلا به أن يكون أو لا يكون خير أو نفي الشر أو عدمه، مثل ما يقال إن شرب الدواء مضطر...»، النص منشور في ابن رشد «تفسير ما بعد الطبيعة»، ص515

*** أرسطوطاليس، الطبيعة. ترجمة إسحق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1965، الجزء الأول، ص158 وما بعدها.

* dachshunds نوع ألماني من الكلاب.

* عبد الرحمن بدوي، منطق أرسطو، الجزء الأول، ص166، 174

([26]) نظر الفارابي إلى نفسه على أنه جزء من المشروع التأويلي لمدرسة أمونيوس، وهو ما يتضح في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو»، إذ ذهب إلى أن برهان أمونيوس في أن الله هو علة فاعلة وعلة غاية معاً؛ كان مشهوراً لدرجة أنه لم يكن في حاجة إلى ذكره، الفارابي، الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس، F. Dieterici, Alfarabi’s philosophische Abhandlungen (Leiden: 1890), 24.24–25.1

[الفارابي، كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين. قدم له وعلق عليه ألبير نصري نادر. دار المشرق، بيروت 1968. «ولأمونيوس رسالة مفردة في ذكر أقاويل هذين الحكيمين في إثبات الصانع، استغنينا لشهرتها عن إحضارنا إياها في هذا الموضوع»، ص102

أثبت مروان راشد بطلان نسبة هذا الكتاب للفارابي، واقترح أن يكون من وضع أحد تلاميذه، ووضع احتمالاً في أن يكون إبراهيم بن عدي: RASHED, MARWAN. “ON THE AUTHORSHIP OF THE TREATISE ON THE HARMONIZATION OF THE OPINIONS OF THE TWO SAGES ATTRIBUTED TO AL-FĀRĀBĪ.” Arabic Sciences and Philosophy 19, no. 1 (2009): 43–82].

([27]) حول تاريخ هذه الإشكالية، انظر، Wisnovsky, R. “Final and Efficient Causality in Avicenna’s Cosmology and Theology,” Quaestio 2 (2002), 97–123.

* كانت الإشكالية التي واجهت المتكلمين هي أنه إذا نظرنا إلى صفات الله على أنها قديمة مثله، وهي صفات متعددة، فسوف يتعدد القدماء في ذات الله، حيث ستكون لديه صفة القدرة قديمة، وصفة العلم قديمة، وصفة الحياة قديمة، بجانب ذاته القديمة. تعدد القدماء هذا منافٍ للتوحيد المطلق، ولذلك حاولوا حل هذه الإشكالية كما سيوضح المؤلف في الفقرة التالية.

* ظهر لهذا الكتاب تحقيق علمي حديث: ابن سينا، كتاب المجموع، أو الحكمة العروضية، المنسوب إلى أبي علي ابن سينا. تحقيق وتقديم محسن صالح. دار الهادي، بيروت، 2007

** الهينادات هي مبادئ عقلية للوجود، وضعها وسيط بين الواحد والعقل الأول، وهي تمثّل المقياس الأعلى لكل الأشياء arche. يامبليخوس هو الذي أدخل هذا المفهوم بالاعتماد على ما قاله أفلاطون في محاورة «فيليبوس»، وهو محاولة لتمييز أنواع المثل الأفلاطونية حسب وظيفتها. أما المونادات؛ فهي أكثر قرباً من الأشياء وأكثر اختلاطاً بها. ويمكنني اقتراح تمثيل للهينادات والمونادات بمثال من الهندسة. الهينادات ستكون هي مفهوم «الشكل» بعامة، والمونادات ستكون هي نموذج المثلث. فالمثلث شكل من أشكال كثيرة، وفكرة الشكل نفسها هي هيناد، فكرة خالصة مجردة غير متعيِّنة، أما المثلث؛ فهو تخصيص لشكل معيَّن. والهينادات والمونادات كلها أزلية في رؤية الأفلاطونية المحدثة، ليست موجودة في الواحد لأنه بسيط وبدون كثرة أو تعدد، بل موجودة في العقل الأول الصادر عن الواحد عند يامبليوخوس، أو موجودة بعد العقل الأول عند بروقلس.

* بمعنى أن الشيء الممكن الوجود بمجرد ما أن يكون موجوداً أمامنا بالفعل؛ فهو يصير واجباً بسببه، فوجوده الفعلي القائم يعني أنه كان واجب الوجود بسببه.

* ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (2)، سبق ذكره، ص343 وما بعدها.

([28]) al-Shahrastani, Kitab al-musara‘a, ed. W. Madelung and trans. T. Mayer, Struggling with the Philosopher: A Refutation of Avicenna’s Metaphysics (London: 2001), 8.6–11.2; 24.3–31.2; and 43.3–46.10 (trans. 23–5, 33–7, and 44–6).

[الشهرستاني، كتاب مصارعة الفلاسفة. تحقيق وتقديم وتعليق سهير محمد مختار. مطبعة الجبلاوي، القاهرة، 1976، ص39 وما بعدها. المترجم].

([29]) E.g., al-Razi, Sharh al-isharat, 200.3–204.7.

[شرح قطب الدين الرازي على الإشارات والتنبيهات، في: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات. شرح نصير الدين الطوسي وقطب الدين الرازي. الجزء الثالث (في علم ما قبل علم الطبيعة). النشر البلاغة، قُم، 1383هـ، ص61 وما بعدها. المترجم].

([30]) كانت هذه المعضلة هي ما يميِّز موقف ابن سينا الغامض من دور العقل الإنساني في عملية المعرفة [أو دور فاعل ومنشئ أم دور متلقٍّ وسلبي]. انظر في ذلك، D. Hasse, “Avicenna on Abstraction,” in Wisnovsky [104], 39–72.

([31]) انظر في ذلك وصف البيضاوي (الذي يتبعه الأصفهاني) لمواقف الفلاسفة (ويقصد بهم ابن سينا تحديداً)، في كتابه

Matali‘ al-anzar: Sharh tawali‘ al-anwar 36 (English trans. By Calverley and Pollock, vol. I, 176–7).

[الأصفهاني، شمس الدين بن محمود بن عبد الرحمن، «مطالع الأنظار، على متن طوالع الأنوار – وهو الشرح لكتاب طوالع الأنوار للقاضي عبد الله بن عمر البيضاوي»، دار الكتبي، القاهرة 2008. (المترجم)].

([32]) al-Taftazani, Sharh al-‘aqa’id al-nasafiyya, 52.2–60.5 and 69.2– 72.10 (top part of the inside box; English trans. by Elder, 36–40 and 49–53).

[سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية. تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليَّات الأزهرية، القاهرة، 1988، ص40 - 45(المترجم)].

للحجة الشيعية المضادة، انظر: Haydar Amuli (d. after 1385), Jami‘ al-asrar, ed. H. Corbin and O. Yahia (Paris: 1969), 139.7–142.11

[السيد حيدر الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار. يليه رسالة نقد النقود في معرفة الوجود. تقديم هنري كوربان وعثمان إسماعيل يحيى. ترجمه عن الفارسية سيد جواد طباطبائي. مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ، ص70 – 77 وما بعدها. (المترجم)].

([33]) See Imam al-Haramayn al-Juwayni (d. 1085), al-‘Aqıda al-Nizamiyya,ed. M. Z. al-Kawtharı (Cairo: 1948), 16.19ff., 14.12ff., and 25.3ff.; and Kitab al-irshad, ed. and French trans. J.-D. Luciani (as El-Irchad par Imam el-Haramein) (Paris: 1938), 17.16ff. and 94.3ff.; al-Sanusı (d. 1490), al-‘Aqıda al-sanusiyya, in Ibrahım al-Bajurı (d. 1860),Hashiya ‘ala matn al-Sanusiyya (Cairo: 1856), 57.8–58.2 (marg.); Ibrahım al-Laqanı (d. ca. 1631), Jawhara al-tawhid (Cairo: n.d.), 28.1and 31.1; and al-Fadali (d. 1821), Kifaya al-‘awamm fi ‘ilm al-kalam,in Ibr ahım al-Bajurı, Hashiya ‘ala Kifaya al-‘awamm (Cairo: 1906), 31.1–33.1; 38.2–4 and 44.1 (all top section of page).

[إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية. تحقيق وتعليق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهية للتراث، القاهرة، 1992، ص15 – 17؛ كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2009، ص35 وما بعدها؛ السنوسي، الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف، أم البراهين، أو العقيدة السنوسية الصغرى، تحقيق خالد زهري، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009، ص28؛ حاشية الإمام البيجوري على جوهرة التوحيد، المسمى تحفة المريد على جوهرة التوحيد، تحقيق علي جمعة محمد الشافعي، دار السلام، القاهرة، 2002، ص72 وما بعدها؛ الباجوري، كفاية العوام في علم الكلام، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007، ص60، 76. (المترجم)].

([34]) النسفي، أبو المعين ميمون، تبصرة الأدلة في أصول الدين، تحقيق وتعليق محمد الأنور حامد عيسى، المكتبة الأزهرية للتراث/ الجزيرة للنشر والتوزيع، القاهرة 2011، الجزء الأول ص200 – 206 وما بعدها.

([35]) العلامة الحلي، كشف المراد، في شرح تجريد الاعتقاد. بيروت 1979، ص305 – 306. [نشرة حسن زادة الآملي. مؤسسة النشر الإسلامي، قَم، 1433هـ، ص405 وما بعدها. (المترجم)].

([36]) [ابن سينا، الإشارات والتنبيهات. شرح نصير الدين الطوسي وقطب الدين الرازي. الجزء الثالث (في علم ما قبل علم الطبيعة)، ص120 وما بعدها. (المترجم)]. انظر اعتراضي على تفسير الطوسي هذا في: Wisnovsky, R. “Final and Efficient Causality in Avicenna’s Cosmology and Theology,” Quaestio 2 (2002), 97–123.

([37]) انظر العرض المختصر الذي قدمه غوتاس: Gutas [94]، وكذلك Wisnovsky [261]. وظهرت دراسات في استيعاب فلسفة ابن سينا في علم الكلام الشيعي، على سبيل المثال Schmidtke [259], esp. 180–6, and Schmidtke [260], esp. 37–114, and A. al-Rahim, “The Twelver- Shı‘ı Reception of Avicenna in the Mongol Period,” in Reisman [103], 219–31. أما في الجانب السني فلم يدرس بما فيه الكفاية فيما عدا دراسة يوسف فان إس لكتاب عضد الدين الإيجي «المواقف» J. van Ess, Die Erkenntnislehre des ʿAḍudaddīn al-Ījī: Übersetzung und Kommentar des ersten Buches seiner Mawāqif (Wiesbaden: 1966)، وإن كانت هذه الدراسة تركز على الإبستيمولوجيا لا الميتافيزيقا. لكن انظر أيضاً: Y.Michot, “L’avicennisation de la sunna, du sabeisme au leurre de la H. anafiyya: `a propos du Livre des religions et des sectes, II d’al-Shahrastani,” Bulletin de Philosophie Médiévale 35 (1993), 113–20, Michot, Jean R. “La Pandémie Avicennienne au VIe/XIIe siècle: Presentation, edition princeps et traduction de l’introduction du Livre de l’advenue du monde (Kitāb ḥudūth al- ʿālam) d’Ibn Ghaylan al-Balkhī,” Arabica 40 (1993), 287–344.