الإسلام في القفص!


فئة :  مقالات

الإسلام في القفص!

تفجيرات العاصمة البلجيكية بروكسل التي نفذها إرهابيون مسلمون شباب، وتبناها "داعش"؛ التنظيمُ الأكثر توحشاً في التاريخ، زادت من أغلال "الإسلام" وأحكمت عليه القفص، ما يعني استمرار التحديات التي تعصف بالمسلمين الذين يزيدون عن الخمسين مليوناً في أوروبا (من دون تركيا)، فضلاً عن المسلمين الآخرين القاطنين بلادَ الله الواسعة.

ولا مندوحة من مجافاة الحقائق، والاعتراف بأنّ هؤلاء الضحايا، الذين سقطوا في بلجيكا ومن قبلها فرنسا، والسويد وألمانيا وإسبانيا، وسواها كثير، قد سقطوا بتحريضات دينية، جعلت من النادر أن تعثر على مكان في أوروبا لا تكتظ ذاكرته برائحة الموت.

"الإسلام في القفص" الآن وأكثر من أي وقت مضى، وسيدفع المسلمون الآمنون الثمن، وربما يكون فادحاً، لأنّ أمن القارة العجوز أضحى في قمة أولويات المشرّعين؛ فقد صارت الحياة على محك الموت، وراحت الطمأنينة تذبل، ما يعني، منطقياً، إعمال مشرط الجرّاح، حتى لو نزفت دماء كثيرة. المهم إنقاذ الجسم، وإعادته إلى سَكينته وسلامه.

وليس معزولاً عن هذا السياق، ما صرّح به رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف الذي أعلن، وفق "رويترز" استعداد بلاده "لإقامة سياج على حدودها مع اليونان لمنع وصول المهاجرين، وسط مخاوف من أن يتخذوا من بلغاريا طريقاً بعد إغلاق مسار غرب البلقان"

وفي الإطار نفسه، وافق البرلمان البلغاري الشهر الماضي على أن يساعد الجيشُ الشرطة في حراسة حدود الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، لمنع توافد اللاجئين (وغالبيتهم من السوريين المقذوفين خارج الزمان والمكان) الذين تدفقوا على بعض دول الجوار، حيث إن لبلغاريا حدوداً جنوبية مشتركة مع اليونان طولها 500 كيلومتر.

"الإسلام في القفص" لأنّ هؤلاء المسلمين الآمنين لم يحرّكوا ساكناً، ورضوا، ربما بتحريض من قادتهم، بأكذوبة أن الإرهاب هو صنيعة عدم الاندماج، وسوء المعاملة، والتمييز الذي يعاني منه المهاجرون، وهي ذرائع في مجملها مبالغ فيها، ولا تجوز، حتى لو كانت حقيقية، أن تكون سبباً لقتل الآمنين وتهديد الحياة والخير، وصبغ أيام البشر بالدم والخوف.

صمْتُ هؤلاء وتقاعسهم تجاه أبنائهم، وأقربائهم وأقرانهم ومعارفهم وبيئاتهم، فرّخ هذه الظواهرَ الإرهابية، وربى شباباً على كراهية الآخر، وغذّى ذلك، من دون أدنى شك، الخطابُ الدينيّ، الذي جعل الحياة ممراً تافهاً نحو حياة الآخرة الأبدية المليئة بالحِسان والحُور العين وأنهار الخمر والسعادة التي أين منها سعادة السويديين، ورفاه الدنماركيين، وديمقراطية البلجيكيين، ورهافة الإيطاليين، وذوق الفرنسيين، ومهارة الألمان، وخير الأوروبيين الآخرين الذين أخرجوا الكون من الظلمات إلى النّور، بعد أن غابت شمسُ الإسلام، وغرُب الفكرُ العقلانيّ الذي أشرقَ على الكون قبل أن يحدث الانقلابُ الفظيع الذي قاده الساسة والفقهاءُ والدهماءُ، فاعتقل بموجبه العقلُ والتفكيرُ النقديُّ، وسُجنا في زنزانة ضيّقة كريهة.. وإلى الأبد!

وأما علماء الدين من فقهاء ومشايخ وعلماء وقادة رأي وأكاديميين ومفكرين، فإنهم يتحمّلون الجزء الأكبر والأخطر من المسؤولية، ومن المستوى الحضيضيّ الذي آل إليه تصوّر الآخرين عن الإسلام والمسلمين، وربما الأديان بعامة. صار الدين في نظر كثيرين، وغالبيتهم مؤمنون، منصّة للكراهية وإشعال الحرائق، وإضرام الموت في ثوب الكون الذي استُخلف الإنسان، بحسب المنطوق الديني، من أجل إعماره وتأثيثه بالعدل والسلام.

فكيف يتأتى ذلك، أي كيف يتبلور مفهوم السلام، وكيف ينبثق من روح الإسلام، ما دام أن الجماعات الإرهابية، وفي طليعتها "داعش" تنهل في كل "غزواتها" من معين النصّ الديني، وتسير وفق هداه، وتسترشد في كل صغيرة وكبيرة بما ورد في القرآن والسنّة النبوية وكلام الصحابة والفقهاء، وكلها مكتظة بما لا يحار فيه الداعشيون، فقد ترك الفقهاء شروحاً وتوضيحات شملت كل شيء، وغمرت الماضي والحاضر والمستقبل، وما على هؤلاء الإرهابيين إلا أن يغرفوا من هذه البئر، ويسقوا العالمَ دماءً وبشاعة وآلاماً وموتاً زؤاماً.

ولن نأتي بجديد إن رحنا نذكّر، إن نفعت الذكرى، بملهمات الفكر الداعشي وتفكير الجماعات الإرهابية التي تعدّ النصوصُ الدينية، وبخاصة القرآن، مرجعيتها الأساسية، بل و"كتالوغها" الذي تتبّع تعليماته بكل حَرفيّة ودقة.

وليس من باب الصدفة، أو جفاف القرائن، أن يدشّن "داعش" بيانه الذي أعلن فيه مسؤوليته عن "غزوة باريس المباركة" العام الماضي بآية من سورة "الحشر": "وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار". مع أنّ الآية المذكورة، استطراداً، تتحدث عن جلاء يهود بني النضير من المدينة إلى خيبر والشام، على نحو مهين ومذلّ، كما تذكر بعض الروايات، على رغم التّحصينات المتقنة التي شيّدوها، وظنّوا أنها ستحميهم من الرّعب الذي ألقاه المقاتلون المسلمون في نفوسهم، حتى خارت عزائمهم، كما يرى أحد المفسّرين.

ويأمل "داعش"، محفوفاً بدعوات النص الديني، ومحاطاً بالواجبات الشرعية الني حضّ عليها الإسلام إلى "إقامة شرع الله في الأرض"، حيث "إن الدين عند الله الإسلام" كما ورد في سورة آل عمران، وبالتالي، تؤكد السورة نفسها "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".

ومثل هذا الخطاب الدينيّ المقدّس، الذي يعد بمثابة الوقود الأيديولوجي لـ "داعش، متفشّ، كما أشرنا غيرَ مرّة، في عروق الثقافة الدينية العربية الإسلامية في أماكن وبلدان لا حصر لها. إنه خطاب عابر للزمان والمكان، تراه في المنهاج المدرسي الذي يدعو المسلمين: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل". ثم يؤكد في الآية التي تليها من سورة البقرة: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله".

وترى ذلك، أيضاً، متمثلاً في آية السيف في سورة التوبة: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم". أو كما جاء في سورة المائدة: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم". أو وفق السورة نفسها: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".

وفي ضوء ذلك، فإن "الثورة الدينية" تغدو هي طوق النجاة، قبل أن يُغرق الظلام والجهل كلَّ شيء. ونقصد بتلك الثورة انبثاق فهم خلّاق للدين، يُعيد الأحكام الدينية إلى مقاصدها الخيّرة النبيلة، ويوقف التعديات المتواصلة على تأويل النصوص الدينية، كما تفعل ذلك الجماعات الإرهابية عبر استخدامها ما تقادم من النصوص، وإخراجها من حيّزها الزماني، وإسقاطها في شكل حَرفي على واقع تبدّل كثيراً، وما عاد منطق النصوص ذاته يستجيب لعملية الإسقاط. فما كان ممكناً قبل ألف عام لم يعد كذلك الآن، وهكذا يكون التأويل فعلَ إبداع ينتقي ما ينفع الناس، لا ما يجعل الحياة جحيماً.

"الثورة الدينية" تعني أيضاً إطلاق الجهود التنويرية التي تجابه قوى التزمت، وفقهاء الظلام، ويقودها فقهاء النّور ورجال دين يرغبون في انخراط الدين في فلك التحولات الحضارية، حيث يستجيب لسنن التطور، ويوفر شروط التعايش مع بني البشر، ويرسم خرائط طريق أمام الناس كي يعيشوا الحياة بما يليق بها، من دون أن يتنازلوا عن الشروط الأخلاقية، ومنظومة القيم الإنسانية، ومن دون أن يشعروا بأنهم غرباء في الدنيا التي يحلو لكثيرين من دعاة "السادية الدينية" أن يذكّروا الكائنات المثقلة بهموم الوجود أن "الدنيا جنة الكافر ونار المؤمن"!