الإسلاميون وقصّة السقوط المبكّر؛ قفزٌ على المفاهيم وانجراح في الهوية


فئة :  مقالات

الإسلاميون وقصّة السقوط المبكّر؛  قفزٌ على المفاهيم وانجراح في الهوية

مقدمة:

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على جانب من جوانب الإسلام السياسي، يختزلها استفهام جوهريّ لطالما تفوّه به عامّة الناس من أنصار هذا الاتجاه، أو تدارسته الكتب والحلقات العلميّة ضمن الملتقيات؛ مفادُ هذا الاستفهام حول علّة هذا الصُعود المفاجئ والأفول السريع، هو: ما الأسباب في ذلك؟ أهي خارجيّة كما يدّعي أنصار هذا الاتجاه، أم داخلية تتخلّل ثنايا الخطاب في حدّ ذاته؟

إشكالات نقف عندها، لنفكّك أبعاد هذه الحالة التي تنتاب اتجاه الإسلام السياسي من صعود وأفول سريعين، وليست الفكرة فكرتنا بقدر ما هي طرح لفتت إليه النّظر مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي فتحت المجال للباحثين في مناسبات سابقة، ليقاربوا فلسفة هذا الاتجاه وتاريخيته وأسباب صُعوده المفاجئ وأفوله السّريع الذي لا شكّ وراءه عوامل عدّة، تسعى هذه الورقة إلى التوقّف عند بعض منها، وتفكيك قضاياها. ولمّا كان هذا الاتجاه ضارباً في عمق التّاريخ ضمن مخاضات عدّة، فإنَّه من الضروري إيجاد لحظة تاريخيّة ما، ننطلق منها في تحديد ظاهرة الصعود والسقوط السريع. فليست هذه الحالة وليدة اللّحظة، وإنّما هي قصة قديمة تظهر في كلّ مرة بلون جديد. من هذا المنطلق، لن نعود في هذا المقال إلى حياة ظاهرة الإسلام السياسي ما قبل الدّولة الوطنيّة، وإنَّما سنركز النّظر على بدايات تمظهرها في واقع الدولة الوطنيّة منذ الاستقلال، وبداية بناء الذّات العربية في ظلّ واقع جديد، وسنرى كيف بدأ الإسلام السياسي يجد له مكاناً ضمن الحياة الجديدة التي بدأت تظهر فيها قضايا المواطنة والانفتاح عن الآخر، ومن صُلب هذه العتبات الأولى نقتفي آثار هذه الحالة وصولاً إلى زمن المكاشفة الحقيقيّة، وبالتحديد ضمن ثورات الربيع العربيّ.

1. إنّ في التاريخ لعبرة...لا تدخلوا من باب واحد

إنَّ مقاربة الإسلام السياسي، باعتباره حركة سياسية فاعلة في المشهد العربيّ تفرض على الباحث في البداية أنْ يُعاينها معاينة تاريخية، ويضع المجهر على عوامل تكوّنها ومساراتها التي اتخذتها في كلّ مرة، فليس الإسلام السياسيّ حالة مفارقة للواقع، وإنَّما هو تمظهر من بين تمظهرات الحالة السياسية عامّة، أضف إلى ذلك أنَّ هذا الخطّ يجد مشروعيته من البيئة العربيّة نفسها بكل ما فيه من رافد ثقافي واجتماعي...إلخ. وبناء على هذا، ستتعقّب ورقتنا اتجاه الإسلام السياسي تحت محطّات ثلاث على الأقل، بداية من الدولة الوطنية وما بعد النكسة؛ أي فترة الثمانينيات والتسعينيات، وصولاً إلى ثورات الربيع العربيّ. وسنعاين في كلّ تلك اللحظات "حالة الصعود والسقوط السريع" وأسبابها.

في البدء نقول، إنَّ من بين اللّحظات التّاريخيّة الحاسمة التي يمكن أن ندوّن فيها صعود حركة الإسلام السياسي وسقوطها هي بداية الخمسينيات، وتحديداً ضمن ثورة الضباط الأحرار (1952). فهؤلاء وبعد نجاح هذه الثورة، دخلوا في إملاءات مباشرة على الرئيس عبد الناصر آنذاك تحت دعوة الإصلاح على أساس ديني، وتقديم مقاربتهم التي تسعى إلى تغيير الإنسان حسب زعمهم، إضافة إلى سعيهم بلوغ السلطة بأقصى قوة، وهذا ما كان يسعى إليه الهضيبي في تحاوره آنذاك مع عبد الناصر[1]، وقد كشف هذا التّصوّر عن نية الجماعة في الحكم السياسي، وتجاوز المنطق الدّعوي الذي لطالما احتمت تحته مقولاتهم.

هذا الارتماء المبكّر في السياسة، جعلهم يندفعون نحو بلوغها بمنطق دعوي، ومن هنا جاءت مقاربتهم نوعاً من القفز على المفاهيم، فقد كان منطق الجماعة في أغلبه يدور خارج أسوار الحزب، ويدّعي انخراطه ضمن هيئة عامّة تتجاوز حدود المكان، ولهذا فهم دائماً ما تنفضح حياتهم السياسية عند الاصطدام بالمفاهيم الدستورية، وكل ما يحفّ بها من قضايا التّعددية الحزبية والديمقراطية والهوية، وهذا في اعتقادنا من أسباب سقوط هؤلاء وعدم تواصلهم في الحياة السياسية لمدّة طويلة، وقد كان هذا عاملاً أساسيًّا في التصادم مع التّجربة الناصرية التي كانت مقاربتها عربية بامتياز، تأبى الارتماء في أحضان تصوّرات عامّة تتجاوز حدود الوطن العربيّ إلى ما هو إسلامي ليس له علاقة مباشرة بالواقع المصريّ أو العربيّ.

وقد مثلت فترة ما بعد النكسة صعوداً سريعاً لهذا الخطاب، باعتباره خلاصا من وهْم الحداثة وما صاحب ذلك من إخفاقات قوميّة في فترة الستينيات، إلاّ أنَّ هذا الخطاب في حدّ ذاته تُوج بحالة سلام مع الكيان الصهيوني في مصر، مما أدى إلى حقبة جديدة وقع فيها اغتيال (اغتيال السادات). هذا خلافاً إلى تراجع التأييد الشعبي نتيجة معاهدة السلام، وقد وجد هؤلاء أنفسهم في التجربة التونسيّة 1987 في مواجهة نظام الحكم، رغم انتصارهم شعبياً أو فيما بعد وتحديداً سقوطهم الرهيب زمن التسعينيات 1992، ولم يكن حالهم في الشأن الجزائري في تلك الفترة في مأمن من هذا الإخفاق الجماعيّ، فقد دخلوا أيضا في صِدام مباشر مع الجيش.

إنَّ ما بذله الإسلام السياسي في الوطن العربيّ وضمن أطروحات مفكّريه من أفكار تسعى إلى التلاؤم مع الحداثة كان دائما ما يسيرُ تحت مظلّة الإيديولوجية الإسلامية

وتعتبرُ مرحلة ما بعد 2011 التجربة الحقيقيّة لأصحاب الاتجاه الإسلامي، حيث اعتبرت قيادات هذا الاتجاه أنَّ التجربة اليتيمة التي يمكن محاسبتهم فيها هي ثورات الربيع العربي، وليكن ذلك. ودعنا نذهب معهم في إطار هذه الفكرة، فسنرى أنَّه سُقوط مبكّر أيضا. لقد عوّلت حركة الاتجاه الإسلامي على الهبّة الشعبية التي تستبطن البعد الدينيّ، حيث صعدوا بسرعة وحقّقوا نجاحاً في كامل الأقطار تقريبا، إلاَّ أنَّه صعود يحمل عاهات في مستوى الفكر والمقاربات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة...إلخ، وهذا ما جعل المسار يرتدّ في مصر من قبل غريمهم التقليديّ (الجيش)، وهذا في اعتقادنا ما كان عاملاً أساسيًّا في مراجعات الحسابات ضمن التّجربة التونسية لتتوَج بتوافق مع من قمعهم سابقاً، فترى الجلاّد صحبة الضحية جنباً إلى جنب، وهو لعمري دليل على أفول سريع يعكس قصور هذا الخطاب في الواقع الراهن.

لقد كانت تجارب هؤلاء ضرباً من الاستنساخ يكرّر التاريخ لا أكثر. فهل اعتبروا من الماضي؟

نقول لا، لم يكنْ التّاريخ عبرة عند هؤلاء، فدخلوا من باب واحد رغم نصيحته "أنْ يدخلوا من أبواب متفرّقة". إنَّ بقاء هؤلاء تحت مسمّى أحادية الخطاب، جعلهم يسقطون بسرعة. فما الأسباب العميقة في ذلك؟

2. الإسلاميون والجنين الحداثيّ المشوّه: بين مطرقة الأنصار وسندان الحداثة.

ها قد جاءت الفرصة واعتلى الاتجاه الإسلامي سدّة الحكم تحت تأييد شعبي في تونس ومصر وبدرجة أقلّ في المغرب، وظنَّ البعض أنَّه انتصر في صياغة مفاهيم جديدة تتلاءم وروح الحداثة، وراح آخر يُغرّد قائلا، إنَّ خطاب هؤلاء يجدُ له في واقع الحال مكاناً بعد فترة طويلة من الزمن. إنَّه المخاض الصعب في نظر الأنصار، ولكنه جنين مشوّه. فالإسلام السياسي وإنْ كان انتصر، فإنَّها خطوة إلى أمام وخطوتان إلى الوراء. نقول هذا لأنّنا نراه حَكَمَ على نفسه بالإعدام حين قفز قفزة هوتْ به طريحاً. ما الذي حدث؟ الذي حدث أنّهم تكلموا بلغة غيرهم فنسوا لغتهم، كيف ذلك؟

لطالما رقص الإسلام السياسي على إيقاعات الشرعيّة الدينيّة التي يستنجد بها في كلّ مرة أمام جماهيره المصغيّة، فيصدّر لهم خطابات مليئة بالعواطف الهوجاء حول أقاصيص وبطولات وانتصارات مضتْ ليجد بها شرعيته في واقع الحال. ولطالما كانت هذه الجماهير تكتشف عند حلول فجر السياسة أنَّ هذا ضرْبٌ من أضغاث أحلام الليلة الفارطة، فتعود لتستكين من جديد. قولنا هذا ليس من باب الاستخفاف والتهكّم من هذه الجماهير، وإنَّما نريد القول إنَّ أداة الإسلام السياسي في ظلّ قصور جملة الخطابات الأخرى هي العواطف الهوجاء. وتعود هذه الخطابات إلى بواكير الصحوة الإسلامية مع الأفغاني ومحمّد عبده حين طُرح السؤال الأساسي في فكر النهضة، كيف ينهض المسلمون من عجزهم؟ وكانت الإجابة دائما بالعودة إلى الإسلام، وهذا الفكر هو الذي دفع بحسن البنّا إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين التي كانت "سليلة الفكر الإصلاحي السلفي[2]". وترى جلّ الكتابات في هذا الشأن، أنَّ ذلك عائد إلى ردّة فعل في أغلب الأحيان تحصر الممارسة في جانب انفعالي لا أكثر. ولدينا في التّاريخ عبرة، حيث تَيْنَع هذه المقاربات ضمن سياق الهزيمة أو الارتداد في الواقع العربي. فقد ظهرت موجة الاتجاه الإسلامي إجابة عن سؤال النهضة في فترة الخمسينيات، وتأسيساً لمنطق الإسلام هو الحلّ ضمن ما اقترحته النخب العربية من تصورات على اختلاف مشاربها في ذلك الوقت، وعادت لتبرز بعد نكسة 1967 وانهيار النّفسيّة العربية لتقول لنا إنَّ الدين هو الحلّ أمام تهافت البعد القومي، يقول محمّد العربي: «كان الإسلام السياسي ومازال مجرّد إجابة عن الأزمة الحضارية التي تعاني منها المجتمعات العربية الإسلامية»[3].

هذا التّأسيس للخطاب الديني هو أساس قيام اتجاه الإسلام السياسي غير أنَّه وعلى امتداد الزمن كان قاصراً على التلاؤم مع المفاهيم الجديدة، وهذا في اعتقادنا ما يجعل الإسلاميين يغادرون ساحات السياسة والحكم سريعاً. فقد كانوا قاصرين على التأسيس للمفاهيم بما يسمح لهم مواصلة المشوار أو على الأقلّ تكوين ترسانة مفاهيميّة تقع في نقطة تماسّ مع ما تطلبه الحداثة، ومع ما يشهده الواقع الحالي من تقدّم. فعلى سبيل المثال سارعت حركات الإسلام السياسي في ربوع الوطن العربي إلى تمثّل مفهوم الديمقراطية، وحاولت أن تستسيغه وتربطه بمفهوم الشورى في الإسلام؛ وذلك ضمن غاياتها "الوظيفية والفكريّة ومحاولة إدخاله في المنظومة الفكرية الإسلامية"[4]. وهذا ما يعكس أنّها كانت دائما تريد إسقاط مفاهيم قديمة على واقع سياسي حديث.

ولئن غامرت هذه التّوجهات -في حدود ما- بأن تقوم بمثل هذه المحاولات (الربط بين الشورى والديمقراطية) ضمن كتاباتها نذكر على سبيل الذكر (راشد الغنوشي، عبد السلام ياسين)، فإنّها دائما ما كانت تسقط في الواقع ضمن محطّات عديدة تكشف عن تناقض صارخ بين ما تقول وما تفعل، أضف أنَّ مقاربتهم كانت دائماً غامضة، وتتوخّى الحذر في التّعامل مع هذه المسائل، يقول عبد الرحيم العلاّم متحدثاً عن عبد السلام ياسين: «فالرجل تجده من خلال كتاباته غير رافض للديمقراطية، بل مرحّب بها وداع إليها، ومن ناحية أخرى يتوخى الحذر في الأخذ بها في دولته المنشودة»[5]. إنَّ هذا الحذر الذي عبّر عنه العلاّم في مقاربته لعبد السلام ياسين يكشف عن ازدواجية الخطاب، ويعكس كيف كان هؤلاء دائما بين مطرقة الحكم وسندان منتخبيهم الذين يطلبون ضمن فلسفة العقل الجمعيّ الإسلاميّ "مقولة الإسلام هو الحلّ". ولسنا بهذا القول محلّ افتراء على هؤلاء تحت منطق المعادة الذي قد يُفهم تأويلاً، وإنَّما هي معاينة تسيرُ تحت تفكيك موضوعيّ لما حدث ويحدث في واقعنا العربي.

صفوة القول، إنَّ ما بذله الإسلام السياسي في الوطن العربيّ وضمن أطروحات مفكّريه من أفكار تسعى إلى التلاؤم مع الحداثة كان دائما ما يسيرُ تحت مظلّة الإيديولوجية الإسلامية. ونلاحظ ذلك مثلاً فيما حدث في تونس أو مصر من تململ في صفوف هذه الحركات بين مطامح أنصارها وغايتهم وبين ما تتطلّبه الحياة السياسية الجديدة على رؤساء الأحزاب من مظاهر التّحديث، وهذا في اعتقادنا ما جعلهم في مستوى الممارسة الفعليّة يقعون في إحراجات سياسية مباشرة تحتّم عليهم خسارة أحد الاثنين: إمّا الأنصار، وإمّا مقاعد الحكم. ولنا في تونس ما بعد الثورة كثير من هذه الإحراجات من قبيل تجريم التّطبيع مع الكيان الصهيوني، أو من قبيل المساواة التّامة بين الرجل المرأة، أو ما فرضته الثورات خارج القطر من مسائل حول الإرهاب على غرار الثورة السورية.

وقد مثّلت ثورات الربيع العربيّ لحظة مكاشفة ولحظة تعرية ما كان مخفيًّا، حيث إنَّها كشفت المستور في خطاب هؤلاء. فلئن أظهروا عبر مدّة من الزمن -وضمن جملة من الكتابات- انفتاحاً عن المفاهيم الحديثة، فإنَّ في ثنايا خطاباتهم يعشّش خطاب قديم يرتدي ثوب الحداثة. حينئذ كانت المهمّة صعبة أمام هؤلاء الذي كانوا خارج حسابات الحداثة، فتراهم بعد اندلاع ثورات الربيع العربي يتصدّرون المشهد وعلى عاتقهم مهمّة التأسيس لعالم جديد يخالف أبجديات عملهم وأسس منطقهم السياسي، يقول عبد النبي الحرّي: «وهي مفارقة حقا، أن تكون مهمة تنزيل أسس الدولة الديمقراطية الحديثة في تونس، وفي مصر، وفي المغرب إلى حدّ ما، ملقاة على كاهل قوى طالما نعتها خصومها، بأنّها معادية لأبرز شعارات هذه الدولة الحديثة، من عقلانية وديمقراطية وعلمانية»[6].

وبناء على هذا، كان التصادم بين ما يحملون من أفكار وبين ما تتطلّبه الحياة السياسية الجديدة جاء السقوط مبكّرا لعدم قدرة هؤلاء على استساغة هذه المفاهيم، رغم جديّة المحاولات التي ظلتْ دائما في حدود التّنظير تسقط في أوّل تجربة واقعية تفرضها عوالم الجدل الحاصل في الداخل والخارج، ومن هذا المنطلق جاء الجنين الحداثي مشوها؛ إذن ماذا لدينا؟

نُجيب:

3. إسلاميون جُدد بثوب قديم؛ زلّات اللّسان وتعثّر خطاب الهويّة

دائما ما تكون الخطابات في صورتها العامّة ذات شجون تستهوي الآذان وتستميل القلوب، ودائما ما يكون السامع أسير هندسة الخطابة التي ما فتئ شيخ البيان "الجاحظ" ينصّ عليها. غير أنَّ صاحب الأذن الحكيمة قادرٌ على أنْ يلتقط زلات اللّسان "lapsus" الفاضحة التي يرتدّ فيها الخطاب إلى بنية إدراكيّة عميقة يستنجد بمفاهيمها ويتشبّع بمقولاتها التي مضتْ، لتتحوّل زلات اللّسان إلى سفير خير، يمضي بنا إلى بدايات الولع الأول بالسياسة. هكذا كان خطاب الإسلام السياسي وأنصاره ضمن حقبات تاريخية معيّنة، ولاسيما حقبة ما بعد 2011 التي ظهرت لنا جديدة بثوب قديم في مستوى اللّغة والآليات. كيف ذلك؟

إنَّ المتمعّن في ثنايا الخطاب عند أصحاب الاتجاه الإسلامي يلتقط زلاّت اللسان التي تكشف عن أبعاد خفيّة في الخطاب، وفي علاقته بالهويّة؛ فكثيرا ما كان معطى الخلافة حاضراً ضمن خُطبهم، وأحيانا تراه دفينا يتخلّل الكلام، والنّاظر في أبجديات تفكير الإسلام السياسي في مستوى تعامله مع قضايا الهوية يلحظ دون عناء إفلاساً واضحاً في هذا الجانب، حيث تأتي أطروحاتهم فضفاضة من عمقها المجتمعي، ويعود ذلك في نظرنا إلى أنَّ خطاب هؤلاء لا يراعي الجوانب الموضوعية للذات العربيّة، وإنّما يرتمي في أحضان تصوّرات ميتافيزيقية أحياناً أو تراه يطمح لبلورة أفكار طوباوية بعيدة عن منطق التأسيس الفعليّ، لتبقى مجرّد شعارات مفرغة. وليس هذا المنطق في خطاب هؤلاء وليد اليوم، وإنَّما هو سليل تصوّرات قديمة بنى عليها الإسلام السياسي أسسه.

وليس ببعيد عن تاريخ هذه السطور وتحديداً ضمن ثورة الربيع العربي 2011 التقطت آذاننا من الخطاب السياسي العربي مثل هذه الدعاوى، وليس هذا فقط بل تُوّجت بانتصارات سياسية في كامل أقطار الوطن العربي. وهذا كلّه يأتي في سياق ردّة الفعل في إخفاقات متتالية، فليست ثورات الربيع العربي في تصوّر الإسلاميين إلاَّ نسخة من ثورات مضتْ جاءت ردة فعل عن فشل ما قومياً كان أو يسارياً أو ليبراليا، وهذا ما يجعلها تأتي دائما في سياق تهشيم مقاربة أو إعلان أخرى شعارها الإسلام هو الحلّ.

إنَّ الإسلام السياسي ظلّ -ومنذ الخمسينيات- إلى حدود ثورات الربيع العربي أسير كثير من الأزمات في مستوى الفكر أوّلاً، وفي مستوى التّعامل مع طبيعة الأنظمة الحاكمة ثانيا

غير أنَّ ما تطرحه أدبيّات الإسلام السياسي من حلول للخروج من أزمة الواقع العربيّ المتخلّف لا يرتقي إلى مصاف الإصلاح الحقيقيّ نظراَ إلى أنَّ هؤلاء وإنْ كانوا كالبقية يعتبرون أنَّ الأمر يتعلّق بالهوية، فإنّهم يسقطون في هوية مقنّعة -إن صحّ التوصيف- فليس نداؤهم بالعودة إلى الهوية الإسلامية إلاّ ضرباً من التحليق فوق الواقع، وهذا ليس ادعاء وإنّما دعوتهم إلى توحيد الأمة الإسلامية بدل العربية خير دليل باعتبار أنَّ مقولة الوحدة الإسلامية السياسية التي مازالت تعشّش في ذهنية البعض مقولة مفارقة للواقع ليس لها عُمق نظريّ سياسي في واقع الحال، وهذا ما يعبّر عن أزمة العلاقة بين العروبة والإسلام في ذهنية هؤلاء، والخلط الذي أصاب نُخبهم بين الانتماء إلى الدين والانتماء إلى الوطن.

هذا الفهم للواقع يعكس أزمة هويّة في فكر الإسلام السياسي؛ فقد ذهب هؤلاء إلى اعتبار النداء بتوحيد أمة العرب نوعاً من أنواع محاربة الدّين، وضمن هذا السياق، كانت دعوتهم إلى وحدة إسلاميّة لا نعلم لها حضورا في الماضي أو في المستقبل. وقد عبّر عصمت سيف الدولة عن قصور هذا التّصور بالقول: «أمّا إذا كان المقصود بالوحدة الإسلامية دولة واحدة يكون لها وحدها الولاية والرعاية والحماية على كلّ المسلمين في الأرض، حتى تتسق وحدة الدولة مع وحدة الأمة، فتلك بدعة أخرى لا يعرفها الإسلام دينا، ولم يقف عندها تاريخ المسلمين قط».[7]

هذا الانجراح في الهوية عند تيّار الإسلام السياسي هو ما يجعله يتهاوى بسرعة، ويسقط في أوّل ممارسة فعلية، وإنْ كانت شعاراته في كلّ بداية تنسج أحلاماً مستحيلة تشدّ انتباه من يصغي إليها، وتضفي عليها نوعاً من القداسة التّاريخية تجعله مستساغا في عقول منتخبيهم، وهذا في اعتقادنا ما جعلهم يعتلون سدّة الحكم إبان ثورة 2011 أو ما أُطلق عليه الربيع العربي.

والذي يستدعي النّظر في حضور الإسلام السياسي في ثورات الربيع العربي هو طبيعة الخطاب ذاته. فلئن كانت جلّ الثورات منادية بالكرامة والتشغيل والحرية، فإنَّ خطاب هؤلاء كان دائما يركّز على الهوية، ونعلّل ذلك بكونهم كانوا لا يتبنّون مفاهيم اشتراكية اقتصادية، وينزعون إلى التّصورات الليبرالية، مما جعلهم يخفون التّصورات تحت لبوس الإسلام. وقد حتمت عليهم التّجربة في تونس بالفشل ثمّ الاحتماء والاستنجاد بكفاءات الحزب المنحلّ، وقد انكشفت إخفاقات خطابهم على المستوى السياسي والعدالة الاجتماعية ضمن توجّههم التّوافقي مع أشدّ أعدائهم، وهذا في اعتقادنا ما يجعل الإسلام السياسي يسقط بسرعة نظرا إلى تعويله على مرتكزات هاوية في أصلها.

وليس سقوطهم في مصر إلاَّ صورة من صور السقوط المبكّر الذي لم يدمْ طويلاً، وإن كانت لحركة الإسلام السياسي في مصر خصوصية نظراً لوجود المؤسسة العسكرية، أو ما يسمّى بصراع "المرشد والجنرال". لقد كانت تجربة الإسلام السياسي في مصر ضمن سياق الربيع العربي تجربة فاشلة، نظراً لأنَّ هؤلاء لم يستطيعوا طمأنة الشعب المصري خلافاً لارتمائهم ضمن ممارسات ماضوية تأتي في إطار ردّ الفعل على ممارسة الستينيات واصطدامهم بالجيش. أمّا في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فقد كان خطاب هؤلاء مفارقاً للواقع المصري وقاصراً على التبليغ، وكان في أغلبه يخاطب الجماعة عوض الشعب، يقول محمّد العربي: «من الواضح أنّ خطاب الإسلاميين الشعاراتي التبشيري أصبح موجّها إليهم أنفسهم»[8]، وهذا في اعتقادنا عامل أساسيّ في السقوط السريع، رغم حالة الصعود المفاجئ.

إنْ شئنا الإجمال في شأن هؤلاء نقول:

إنَّ الإسلام السياسي ظلّ -ومنذ الخمسينيات- إلى حدود ثورات الربيع العربي أسير كثير من الأزمات في مستوى الفكر أوّلاً، وفي مستوى التّعامل مع طبيعة الأنظمة الحاكمة ثانيا، حيث كان خطاب هذا الاتجاه قاصراً على فهم الواقع الجديد، مما جعله يرتدي لبوس القديم ويحاول في كلّ مرة إسقاطه على ما هو جديد، ودائما ما كان السقوط مبكّرا. أما في مستوى الإجرائي، فإنَّ قفز هؤلاء على مفاهيم الحداثة والدولة وتغريدهم خارج سرب مقولات الوطن والدولة الحديثة جعلهم في صِدام دائم مع المؤسسة العسكرية، سواء كان ذلك في مصر أو في الجزائر أو سوريا...إلخ، ودائما ما كانت النهاية أفولاً سريعاً وغياباً دام لسنوات.

وقد مثّلت ثورات الربيع العربيّ امتحاناً حقيقيًّا لهذا الاتجاه حيث سلّمته الشعوب مفاتيح الحكم وقدّمته قربانا للحداثة، فسقط قتيلاً أمام مفاهيمها عاجزاً عن فهم تحوّلاتها، فلم تدم مدّة حكمه أكثر من سنة. ففي تونس أعلن فشله واستنجد بعدوّ الأمس إنْ صحّ التوصيف. أمّا في مصر فقد سقط الخطاب والحكم أمام مؤسسة عسكرية لها تقاليد في الحكم، ولها علاقة تاريخية بالوطن والأرض، فهل كان الجيش أكثر واقعية في استساغة مفاهيم الحداثة؟


 

[1] عبد الغني عماد، الإخوان المسلمون بين مرحلتين: الناصرية والساداتية، ضمن الحركات الإسلامية في الوطن العربي، إشراف عبد الغني عماد، المجلد الأوّل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ط1، 2013، ص 226

[2] انظر محمّد جمال باروت، الإخوان المسلمون: النشأة والتطور: مرحلة التأسيس، ضمن الحركات الإسلامية في الوطن العربي، إشراف عبد الغني عماد، المجلد الأوّل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ط1، 2013، ص 119

[3] محمّد العربي، الإسلاميون والهوية والدولة: إفلاس الإيديولوجية، ضمن مقاربات في إشكالية الدولة في خطاب الإسلام السياسي، سلسلة أبحاث مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2014، ص 75

[4] انظر في هذا الشأن، عبد الغني عماد، المفاهيم والأفكار والعقائد المحوريّة للحركات الإسلامية، ضمن الحركات الإسلامية في الوطن العربي، إشراف عبد الغني عماد، المجلد الأوّل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، ط1، 2013، ص 73

[5] عبد الرحيم العلام، الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر، المركز الثقافي العربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2014، ص 59

[6] عبد النبي الحري، مواقف إسلامية من المسألة العلمانية، ضمن مقاربات في إشكالية الدولة في خطاب الإسلام السياسي، سلسلة أبحاث مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ط1، 2014، ص 45

[7] عصمت سيف الدولة، عن العروبة والإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية ص 36

[8] محمّد العربي، الإسلاميون والهوية والدولة إفلاس الإيديولوجية، ضمن مقاربات في إشكالية الدولة في خطاب الإسلام السياسي، سلسلة أبحاث مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط1، 2014