الإنسان بين شِرعة الاستخلاف وشرعية الاختلاف؛ مقدمتان ونتيجتان


فئة :  مقالات

الإنسان بين شِرعة الاستخلاف وشرعية الاختلاف؛ مقدمتان ونتيجتان

ثمة شرخ إبيمستولوجي في المقاربة الأنطولوجية التي تنطوي عليها الرؤية الإسلامية العملاتية للنص القرآني، لناحية عالمية النص التي لا تفتأ تتردَّد على ألسنة المؤمنين من جهة، وتموضعاته في الزمن والمكان التي حصرته وحاصرته بأناس بعينهم من جهة ثانية.

بين طوبى النص الإلهي وبشارته التي أتى بها للإنسان الكُلِّي، وبين الشرائع الحصرية؛ شُرخت الرؤية الأنطولوجية للنص القرآني شرخاً إبيمستولوجياً، ساعة تمَّ التضييق على هذه الرؤية من زاويتين: الأولى داخلية (الحصار الداخلي للنص القرآني) والثانية خارجية (الحصار الخارجي للنص القرآني)، مما أدّى إلى نتيجة أولى؛ نتيجة حِدِّية وقاطعة وعازلة على مستوى التفاعلات الدنيوية، مما سيجعلني أبحث عن نتيجةٍ جديدة لمقدماتٍ إرهاصاتها ليست متموضعة في المقدمتين المشار إليهما هَهُنا، بقدر ما هي موجودة في النص القرآني ذاته، تأكيداً لأُسّ الاستخلاف وناموس الاختلاف، وهذا ما سأعمل على تفكيكه تباعاً، لكي تتضّح هذه المساهمة المعرفية وتتخذ لها طريقاً ناحية انفتاحات دنيوية تُفضي إلى تموضع ديني تواصلي غير انقطاعي، تفاعلي غير استئصالي، حضاري غير رهباني.

المقدمة الأولى

الحصار الداخلي للنص القرآني:

إنَّ لحظة وفاة النبي هي لحظة بتر لعمود النور الواصل بين الأرض والسماء، وبموجب هذا البتر انتهى (التدفّق العمودي) من الإله للإنسان، وآن أوان (الامتداد الأفقي) بين الإنسان والإنسان. لكنّ خلطاً كبيراً بين الكلام الإلهي واللحم البشري حوّل جزءاً من هذا اللحم إلى لحم مقدّس، مُبارك، وما عداه إلى لحم سام وضار. ولقد أدى هذا من ضمن ما أدى إليه إلى محاصرة النص القرآني محاصرة داخلية، عبر اقتصار قداسة تطبيقاته على تأويلات بعينها دون غيرها، واعتبار التأويلات الأخرى فاقدة لمرجعيتها القدسية.

وإذا كان من معنى لرفع القرآن على أسنّة الرماح من قبل أتباع معاوية بن أبي سفيان، فهو معنى رمزي بالدرجة الأولى، لناحية منح هذا الرفع أفقاً عمودياً وصولاً إلى السموات العلا، والتعبير الأخير والنهائي عن رؤى الإله المتموضع في النص القرآني عبر معاوية وأتباعه تحديداً، والتعقيب سلباً - ضمن السياق ذاته - على الرؤى الأخرى للنص القرآني والنظر إليها نظرةً مدنسة. والشيء ذاته حدث مع أتباع علي بن أبي طالب، إذ عقَّب علي على رفع القرآن على أسنّة الرماح بقوله: "كلمة حق يُراد بها باطل"، في تأشير واضح على ذمّ مسلكية معاوية وإنزالها منزلة دونية مقابل فوقية الرؤية الذاتية، وهذا شيء سيتكرر مع الخوارج والطرف المقابل لهم. على أنّ النسخة الأصلية منه كانت قد انبثقت إلى العلن في حادثة (الجَمَل) وتجلّت بشكلٍ أوضح في حادثة (صفين)، فالحقّ نصير الفئة الراشدة والباطل نصير الفئة الضالة، في تصنيف حِدِّي وقاطع وإلغائي وشطبي، ما زال يضغط على المخيال الإسلامي ويثمر إثماراً عكسياً في الواقع.

بالعودة إلى الخلف، كانت الدولة الإسلامية الفتية بقيادة أبي بكر الصديق تبحث عن تبرير لاهوتي عتيد لما اصطلح عليه بـ (حروب الردّة). أي أنّ الشرعية السياسية اصطبغت - في لحظة زمنية غير متناهية نظراً لتداعياتها المستمرة حتى هذه اللحظة - بصبغة دينية، فالقرار الرسمي هو قرار إلهي بالدرجة الأولى، وتأكيد جديد على أنّ عمود النور بين السماء والأرض لم ينقطع، وهذه (أعني حروب الردة والجُبَّة القدسية التي أسدلت على جسدها الدامي) واحدة من تموضعات هذا العمود، ولكن بامتداد أفقي هذه المرّة، لغاية ليس فقط السيطرة عليه دنيوياً، إنماً أيضاً إرشاده إلى طريق الحق ولو استلزم الأمر سفكاً وإراقة للدماء.

وبالتقدّم ناحية الأمام، ستعمل الدولة العباسية على إبادة إرث بني أمية، إذ اكتُشِفَ - في لحظة إلهام لاهوتي - أنّ تأويل بني أمية للنص الديني هو تأويل مُدنَّس، لذا يستوجب طهارةً من جنابته الكبرى عبر غسل بالدم.

في خضم هذه المعمعة الكبيرة ستنشأ بؤر تأويلية عديدة في الحضارة الإسلامية، وستعمل هذه البؤر على ضخّ نور رباني إلى مركزية انبعاثها لتؤكّد (فوقيتها) مقابل (دونية) سواها. وقد كان لهذه الجدالات العميقة التي جرت بين هذه البؤر أن تُؤتي أكلها دنيوياً - وقد أثمرت إلى حدّ ما لكن هذا الثمر بدأ يتساقط لاحقاً بسبب موسم الجفاف الكبير - في حال استمرت في امتداداتها الأفقية، بصفتها نِتاج شحنات كهربائية بين عقول بشرية ليس إلا، وإن تأوّلت كلاماً إلهياً. إلا أنها أخفقت زمانياً لأنها جاهدت جهاداً انتحارياً لكي تلصق قداسة بذاتها ودناسة بغيرها؛ وفي فترة لاحقة على هذه الجدالات رأينا أنّ الكثيرين من علماء المسلمين بعثوا بمخالفيهم في الرؤية إلى الجحيم الأخروي دون أن يرفّ لهم جفن، إذ تحوّلت آلة التفكير الدنيوي إلى آلة تكفير أخروي داخل الحقل المعرفي الإسلامي.

وقد عملت السلطة السياسية بالتقادم على الاستئثار بحصة الأسد من محاصرة النص القرآني، لناحية منح التفسير المنسجم مع مصالحها صكَّاً رحمانياً، في استعادة تلفيقية لعمود النور الذي توقّف تدفقه لحظة موت النبي، إذ اعتلت الرؤية الرسمية اعتلاءً لاهوتياً على غيرها من الرؤى، وصار التقيّد بها هو عين ما يرضاه العلي القدير على نحو مخصوص. ولقد كان لأجهزة الإفتاء التي أنشأتها الدولة المصطبغة بصبغة إسلامية، دوراً رئيسياً في محاصرة النص القرآني، إذ تمّ اعتبار كل ما هو خارج هذه الرؤية غير صالح على المستويين الديني والدنيوي، إلى حد الاحتراب والاقتتال. وهذا شيء ينطبق - خارج الإطار السلطوي - على كثير من الطوائف الإسلامية التي لا تملك عقلاً وثوقياً وثوقيةً تامة فحسب، إنما هي تملك عقلاً تلفيقياً أيضاً؛ الأول لـ (الصعود إلى أعلى) لحظة التأويل وإسباغ بعد نوراني على هذه اللحظة بصفتها لحظة مطلقة، والثاني لـ (الامتداد الأفقي) عبر سحق الرؤى الأخرى، حتى لو استلزم الأمر حروباً ومعارك طاحنة. المفارقة العنيفة أنّ الساحق والمسحوق ذهبوا إلى جنّات عدن، فالنور المنبثق لحظة التأويل بصفته امتداداً قدسياً للرؤية الإلهية، ينبغي عليه أن يسحق الظلام الذي تتمثّله الجماعات الأخرى، وفي النهاية الكل صح من وجهة نظره ومخطئ من وجهة نظر الجماعة الأخرى.

في زمننا الحاضر بلغ السيل الزُبى، لا سيما مع مطلع الألفية الجديدة، ولقد كان لما اصطلح عليه بالربيع العربي أن يُفجّر كوامن الخلافات الإسلامية الإسلامية ويمنحها طابعاً انتحارياً، إذ يتمّ التنازع - عبر طقس دم مرعب سيكولوجياً وفتّاك جسمانياً ومحطّم عقلياً وحاطّ من قيمة الإنسان روحياً - على قداسة الرؤى الذاتية للنص الديني ودناسة بقية الرؤى.

بموجب هذه الرؤى الحِدّية، الإلغائية عادت قضية (أعلى/ أسفل)؛ (عمودي/ أفقي)؛ (النور/ الظلام)، إلى البروز العلني في المسرح الإسلامي، إذ تمَّ التحايل على لحظة موت النبي وانقطاع الوحي من ثمَّ، بصفته حلقة الوصل الأخيرة بين الله والإنسان، بمنح لحظة التأويل قداسة عمودية لغاية تحقّق أكبر قدر ممكن من التمدّد الأفقي. فالمُؤّول إذ يتأوّل لاهوتياً - خلافاً لفكرة التأويل الأساسية والقائمة على التأريخ للحظة إبداع بشري يمكن ألا تكتمل إلا بنقودات الآخرين - فإنه يصعد بتأويله إلى السموات العلا، ومن ثمّ يعاود نزوله إلى الأرض، وبهذا فهو ينفصل عن الحالة الإنسانية ويتصل بالحالة الإلهية، لغاية إعادة الانتشار الأرضي وهذه المرّة تحت وطأة تهديد (أعلى/ أسفل) (النور/ الظلام). من هنا تمَّت محاصرة النص القرآني من الداخل، أي من داخل الذات الإسلامية في تشظياتها التأويلية المختلفة، ليس لأنها أقدمت أساساً على تأوّل النص القرآني وموضعة الكلام الإلهي موضع تطبيق عملي، بل لمنحها لحظة التأويل حضوراً نورانياً مقابل ظلامية اللحظات الأخرى. وفي هذا الحصار المبدئي بدأ النص القرآني يفقد عالميته شيئاً فشيئاً، فهو بالأساس فقد حضوره الكلي داخل الحقل المعرفي الإسلامي، فمن جهة حال القرآن إلى نصّ مُفتِّت (بكسر التاء) لوحدة العالم الإسلامي، ومن جهة أخرى حال إلى نصّ مُفتَّت (بفتح التاء)، فالقداسة أصلاً ليست للّحظة القرآنية بصفتها لحظة صالحة لكل زمان ومكان، بل هي للّحظة التأويلية بصفتها لحظة نور محض ينبغي نشره وتعميمه، وأية لحظة أخرى - تقارب النص القرآني - هي بالضرورة لحظة ظلام. وبالتدريج حالَ النص القرآني داخل الحاضرة الإسلامية إلى نص تصادمي لا إلى نص تصالحي أو توافقي، طالما هو خارج إطار التأويل البشري الأفقي لا التأويل العمودي النوراني[1].

إذاً - كخلاصة - ثمة محاصرة للنص القرآني من الداخل، جزء من الشرخ الإبيمستولوجي الناسوتي لأنطولوجيا اللاهوت الإلهي، وسأتحدث عن الشرخ الثاني لكي تكتمل معالم الصورة/ الهوّة، ويصار من ثمّ إلى ردمها برؤية جديدة (النتيجة الثانية)، دون أن تحمل في طياتها أية نظرة فوقية لغاية تحقيق امتدادات أفقية تحت وطأة القداسة لها والدناسة لغيرها.

المقدمة الثانية

الحصار الخارجي للنص القرآني

حتى أكون واضحاً منذ البداية، ولكي لا يذهب الخيال بعيداً، فالمقصود بالحصار الخارجي للقرآن ليس حصاراً من قبل الذات المغايرة غير الإسلامية، بل هو حصار تمارسه الذات الإسلامية بحق النص القرآني. فالذات الإسلامية أغلقت باب عالمية النص القرآني يوم أن اقتصرت مهمة الخلق الإلهي للإنسان على الأرض بأداء طقوسٍ عبادية استقتها من الآية القرآنية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات: 56)، إذ تحوّلت الرموز القرآنية إلى ممارسات طقوسية حدّدت شكل العلاقة ليس فقط النهائية بين الله والإنسان، إنما أيضاً الأقدس والأطهر.

السؤال المطروح هَهُنا: ما هي الأُسس التي اعتُمدَ عليها إسلامياً لغاية ربط مسألة الخلق بـ (العبادة) كما تجلّت في صياغاتها الطقسية؟. وما هو الجسر الذي اعتمده المُشرّع الإسلامي لكي يعبر من خلاله من لفظة (خلقت) الواردة في الآية 56 من سورة الذاريات إلى لفظة (ليعبدون) الواردة في الآية ذاتها؟

المفارقة العنيفة هَهُنا هي ارتهان النص القرآني إلى حديث ينسب إلى نبي الإسلام، إذ جاء في صحيح البخاري: "بني الإسلام على خمس...إلخ"[2]، مموضعاً الإسلام في قالب طقوسي صرف. وبموجب هذا الأسّ رُهنت آيتان قرآنيتان لصالح حديث نبوي؛ الأولى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (سورة آل عمران: 19) والثانية: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (سورة آل عمران: 85)، إذ تمّ حصر المعنى النهائي للإسلام، ومن ثمّ تمّ الذهاب إلى آية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (سورة الذاريات: 56) وأُطرّت لفظة (ليعبدون) تأطيراً طقسياً، إذ صار المسلم الحق الصحيح هو المسلم الذي يتأكّد قداسةً في العبادات الطقسية.

وعليه، فلم يتأسَّس الإسلام المُتداول على النص القرآني بقدر ما تأسّس على حديث يُنسب إلى نبي الإسلام، بل حال النص القرآني إلى (ساقية صغيرة) بإزاء النبع الكبير (الحديث النبوي) الذي رفد العقل الإسلامي بالماء وجعله يرتوي لاهوتياً عبر طقوس أُشرعت في وجه الإنسان واعتبرت الركن المائز له - بصفته صار مسلماً لحظة الشروع بأدائها - عن غيره من الناس. بالتقادم حالَ الإسلام المتمظهر عبر عبادات طقسية، إلى معبر قُدسي وحيد ناحية العالم الإلهي، فالإنسان إذ يُريد أن يتموضع في السياق الإلهي وهو على الأرض، عليه أن يمتثل إلى الصياغة المُتداولة عن الإسلام؛ أعني الصياغة الطقسية للعبادات التي حدّدت شكل الوصل والوصال الأخير والنهائي بين الله والإنسان.

بهذا تمّت محاصرة النص القرآني على المستوى الخارجي من زاويتين: الأولى ساعة أصبحَ القرآن هامشاً لا متناً في صياغة الأنساق التعبدية الإسلامية، فكما رأينا أعلاه تمَّ رَهن الآيات القرآنية لحديث نبوي، إذ تمّ قلب الآية فيما يتعلق بمصادر التشريع حتى بالنسبة للعقل السلفي الإسلامي الذي اعتمد القرآن كمصدر أول للتشريع والسنّة كمصدر ثانٍ. والثانية ساعة انتهت الصياغات الإسلامية لمفهوم العبادة بشكلها المتداول، فيما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان والله، إذ تمت محاصرة آيات قرآنية حصاراً تأويلياً، فاللحظة التأويلية لمفهوم العبادة القرآنية وموضعتها موضعةً أخيرة ونهائية في الطقوس، هي لحظة قُدسية ومُتعالية لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.

هاتان الزاويتان حاصرتا النص القرآني حصاراً كبيراً، وأطبقتا الخناق على رسالته التبشيرية. فالصياغة النهائية لمفهوم العبادة حَصَرَ الإسلام بالمسلمين لا بالناس أجمعين، مما أغلق باب التعدّدية والتنوّعية في الرؤية الإسلامية لله. وصارت أية دعوى لعلاقة تواشج وتواصل بين الله والإنسان خارج سياقات الطقس التعبدي الإسلامي المُتداول تقابل بالرفض والحرمان. وبهذا لم يعد النص القرآني معنياً بكل البشر بل أصبح خاصاً بأناس بعينهم، مما حدّ من رسالته العالمية التي لطالما تُغنّي بها.

إذن، نحن بإزاء مقدمتين: الأولى حاصرت النص القرآني من الداخل إذ اعتبرت اللحظة الجزئية داخل الذات الإسلامية الكليّة لحظة قدسية مقابل دناسة اللحظات الجزئية الأخرى. وقد قادت هذه المقدمة - لحظة ما بعد الحصار للقرآن - إلى تذابح ما زالت الرِقاب تنفصل عن الأجساد بموجب قوانينها حتى هذه اللحظة.

والثانية حاصرت النص القرآني من الخارج، إذ اعتبرت اللحظة الإسلامية الكليّة هي لحظة مُطلقة ونهائية في تمثّلات العلاقة مع الله، فالطقس العبادي هو الوشيجة الأقدس بين الإنسان والله. وهكذا اكتملت معالم الحصار الداخلي والخارجي للنص القرآني، بما سلبه عالميته، إذ جُعل بموجب لحظتين إسلاميتين؛ كلّية وجزئية، خاصاً بأناس بعينهم لا بالناس أجمعين.

وبالتأكيد ستفضي المقدمتان إلى نتيجة سلبية على مجمل الوجود الإسلامي، وهذا ما سأعمل على تفكيكه رأساً، عبر النتيجة الأولى، ثم سأنتقل إلى النتيجة الثانية التي أشرت إليها في بداية هذه المداخلة.

النتيجة الأولى: النكوص الديني والانكماش الدنيوي

بالتقادم انتهى المسلم إلى حالةٍ من الأحادية أنهته وجودياً، فلم يكن لحالتي الحصار للنص القرآني - سالفتي الذكر - أن تقودا إلا إلى إنهاء المسلم عالمياً وموضعته موضعةً قصوى في خصوصية لا تقبل التشارك والتعدّد. إنّ لحظة المسلم هي لحظة نهاية قصوى، فهو إذ تمثَّل غاية الخلق الإلهي بالعبادة الطقوسية، فإنه يندمج في نسق أحادي قائم على استئصال الأنساق الأخرى، فغاية الخلق تتأكّد مرة تلو الأخرى في العبادات الطقوسية كما أكدها المُشرّع الإسلامي، أمّا تموضعات الخلق الأخرى فلا معنى لها في مخيال وواقع المسلم، لذا هو يتشرنق داخل صدفته مانعاً على نفسه أية انفتاحات وجودية أخرى، ومغلقاً الباب على أية دخولات خارجية عليه. وعبر هذا الإنهاء اللاهوتي انتهى المسلم إلى أنّ فكرة الخير الدنيوي تنحصر فيه تحديداً وفي تمثّلاته لرؤى العلي القدير، أمّا ما تعارض مع هذه التمثلات فهو (شر) ينبغي مكافحته ومحاربته والقضاء عليه. وبهذا دخل المسلم في كراهيات مُتتالية لكل ما يتقاطع تقاطعاً توافقياً مع رؤيته، قاطعاً بذلك الطريق على أية (خيرية) يمكن أن تنفع الناس في شؤون دنياهم وتفيدهم في مشروعهم الكبير المتمثل بعمارة الكون وبناء الحضارة الإنسانية.

باختصار انكمش المسلم دينياً بفعل الحريق الكبير الذي التهم كل الأرض الخضراء التي كان من المفترض أن يستثمر فيها المسلم زرعاً صالحاً تستفيد منه كل البشرية، ممّا جعله يتحوصل داخل عبادات، لم تحدّ من عالمية كتابه المقدس فحسب، إنما جعلته ينعزل عزلة رهبانية عن سياقاته الدنيوية والاحتمالات الخيرية التي تنطوي عليها رؤى غيره من بني البشر. وهذا ما سأعمل على تخطيّه وتجاوز محنته في النتيجة الثانية.

النتيجة الثانية: عبادة الاستخلاف بالاختلاف

الإشكالية الكبرى التي تعاني منها المنظومة الإسلامية برمّتها، والدائرة المغلقة التي يدور المسلم في فلكها، هي تعارض آية {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) كما تأوّلها المُشرّع الإسلامي، مع الآيتين 118 و119 من سورة هود {وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتّمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين (119)}. إذ لم ينتبه المشرّع الإسلامي إلى ذلك، لأنه رهن النص القرآني بدءاً لحديث نبوي (أشرتُ إليه سابقاً)، مما أحدث خللاً في تأويل الغاية الإلهية لخلق الإنسان. فالتأويل الإسلامي الشائع والمُتداول حصر الغاية من الخلق في تأدية العبادات الطقسية التي اصطلح عليها لاحقاً بـ (أركان الإسلام)، فاعتبرت الآية 56 من سورة الذاريات تابعة لحديث أركان الإسلام، وهناك - عند لحظة التشريع - اعتبرت تلك اللحظة لحظة نورانية كل ما عداها ظلام، وبالتقادم تمّ تعميم هذه اللحظة إلى حد تجميد الغاية من الخلق بوسيلة العبادات الطقسية، ممّا انعكس سلباً على عالمية النص القرآني الذي يقول شيئاً مغايراً للمتعارف عليه. ففي الآية 118 من سورة هود يُقرّ النص القرآني أنَّ حالة الاختلاف ناموس وجودي كبير إلا في إطار التجمعات الصغرى؛ أمّا عن البشرية جمعاء فمحال كما أكمل في الآية 119 من السورة ذاتها، وبناء على ناموس الاختلاف خلقهم الله. وإذا كانت الآية القرآنية {إِنِّي جَاعِلٌ في الأرضِ خليفة} (سورة البقرة: 30) لم تحسم مسألة مَن هو الخليفة، فإن آية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} (سورة الأحزاب: 72). حسمت المسألة لصالح الإنسان على الإطلاق، وليس لصالح المسلم، وعليه فالعلاقة بين الله والإنسان ينبغي عليها أن تفوق ما تعورف عليه إسلامياً، وترتقي إلى ما يمكن أن يصار إليه إنسانياً من بناء وإعمار.

إذاً نحن أمام مصفوفة قرآنية حسمت قضية الوجود الإنساني على الأرض، فهو وجود (اختلافي) ضرورةً. فالاستخلاف للاختلاف كحقيقة كبرى في الزمن والمكان، لغاية تأكيد الفروقات بين البشري وخضوعهم لقانون 1- الصيرورة على المستوى الداخلي، عبر جدليات متضادة من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت، وقانون 2- السيرورة على المستوى الخارجي، عبر عمليات (هدم/ بناء) حضاري لا نهائي.

لكن هذه المصفوفة بحاجةٍ من ثمَّ إلى إطار أخلاقي، يجعل الإنسان مشاركاً مشاركة خيرية في العالم لا مشاركة سلبية من شأنها تدمير الحضارة وتدمير رؤى وأحلام الإنسان بعالم أفضل.

الإجابة ستأتي من الآية 46 من سورة الكهف؛ آية الباقيات الصالحات: {المالُ والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً}. ويقيناً أنا أطرح هذه الآية هنا بعيداً عن الأدبيات التأويلية التي تأولتها وجعلت منها آية ميتافيزيقية لا علاقة لها بالعمران البشري في الزمن والمكان. وعليه، فإني أعتبر الباقيات الصالحات جزءاً من السيرورة الإنسانية ودفقياتها الخارجية، بما يُعمّم فكرة (الخيرية) تعميماً مطلقاً على كل الذوات الإنسانية وعدم حصرها بالمسلمين. فالمشاركة الفاعلة في الوجود هي مواضعات لا نهائية لفكرة عبادة الله عبادة اختلافية، بما يخدم المجموع البشري، ويجعل من نِتاجات هذه المواضعات مدار خير للآخرين، وبهذا تنتظم الحلقة المفقودة في سلسلة الوجود الإنساني، ابتداءً من مرحلة الخلق مروراً بمرحلة الاستخلاف التكليفي؛ تموضعاً في الاختلاف الإنساني وصولاً إلى (الخيرية) اللانهائية، لغاية الاستمرار في بناء الحضارة الإنسانية ورفد أنساغها بمياهٍ لا تنضب من المنجزات الكثيرة.

إذاً نحن أمام سلسلة قرآنية تحتملُ إمكاناً تجاوزياً للمتعارف عليه إسلامياً، بحيث ينطوي الإنسان في وجوده الكثير والمتعدّد تحت راية الإسلام الحضاري لا تحت راية الإسلام الطقوسي، بعيداً عن أية ارتهانات لرؤى بشرية ترى في نفسها الأقرب إلى الله، مع ما يحتمله هذا التموضع القدسي من تدنيس لكلّ ما عداه بصفته الأبعد عن الله.

أولى حلقات هذه السلسلة حلقة الاستخلاف:

{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} (سورة الأحزاب: 72).

وثاني حلقاتها حلقة العبادة:

{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)

وثالث حلقاتها ثقافة الاختلاف:

{وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتّمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين (119)} (سورة هود).

ورابع حلقاتها التطبيق العملي للعبادة الحضارية:

{المالُ والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} (سورة الكهف: 46)

الحلقة الخامسة هي الانتقال من الحصر الديني إلى الانفتاح الدنيوي، كتجلٍّ حضاري للإمكان الديني، بما يحتمله هذا الانفتاح من احترام الذات الفردية ضمن سياقاتها الوجودية في العالَم، فهي إذ تُبدع سعياً وراء خير الإنسانية، فإنها تُساهم في عبادة الله عبادةً حضارية من السهل تعميم مخرجاتها على المجموع الكلي للبشرية أو على جزء كبير منها، تنتفع به في حياتها الزمكانية رافعةً بذلك من عيار الأمل الإنساني ومخفضّة من عيار الألم الإنساني، سعياً وراء عالم أجمل وأفضل.

وهكذا تكتمل حلقات السلسلة، مُتجاوزة المتداول في العالَم الإسلامي والمحصور في أناس بعينهم، إلى العبادة الحضارية المشرعة على البناء والإعمار الخيري بكافة أشكاله وتجلياته، بصفته تطبيقاً عملياً لشِرعة الاستخلاف الإلهي، بحيث تتحول - إثر تفعيل هذه العبادات الشاملة - العلاقة بين الله والإنسان من علاقة رهبنة عبر طقوس تحدّ من عالمية النص وتموضعه في أناس بعينهم دون سواهم، إلى علاقة (مُستخلِف) بـ (مُستخلَف) تشمل كلّ الذوات الإنسانية، بما يفتح المجال ناحية علاقة أرحب وأرحم بين الله والإنسان، فالإنسان مُسلم بالضرورة ساعة يسعى إلى عبادة الله بأداء فروضه الحضارية (الباقيات الصالحات) التي من شأنها بثّ الأمل بجدوى الوجود الإنساني، والحدّ - قدر الإمكان وبما يسمح به الظرف المعرفي - من الألم الإنساني.


[1] ثمة فكرة يتم تداولها في العالم الإسلامي بشغف كبير، مفادها: (الدعوة للناس بالصلاح والهداية) على اعتبار أنّ العلاقة بين (الداعي) و(المدعو له) هي علاقة (نور) بـ (ظلام)؛ فالدعوة في جوهرها يقين تام ليس فقط بأحقية الداعي وتمثّله للحق المبين، بل في نورانية دعوته. بما يشكّل خطورة كبيرة على مستويات التفاعل الوجودي بين (الداعي) و(المدعو له)، فهي تفاعلات بين (أعلى وأسفل) (فوق وتحت)، وليس بين إنسان وإنسان يتموضعان أفقياً في الزمن والمكان.

[2] يمكن العودة إلى صحيح البخاري، كتاب الإيمان، تخريج وتحقيق جواد عفانة، دار جواد للنشر، عمان، ج1، ط1، 2004، ص 11